تاريخ الفلسفة اليونانية
أفلاطون - حياته - مؤلفاته - فلسفته
الفيلسوف الأعظم أرسطوطاليس
الفلسفة بعد أرسطو
الأفلاطونية المستحدثة
خاتمة وخلاصة ما تقدم
الإنسانية والتقدم
مائدة أفلاطون
تاريخ الفلسفة اليونانية
أفلاطون - حياته - مؤلفاته - فلسفته
الفيلسوف الأعظم أرسطوطاليس
الفلسفة بعد أرسطو
الأفلاطونية المستحدثة
خاتمة وخلاصة ما تقدم
الإنسانية والتقدم
مائدة أفلاطون
مائدة أفلاطون
مائدة أفلاطون
كلام في الحب
تأليف
محمد لطفي جمعة
تاريخ الفلسفة اليونانية
(1) أصول الفلسفة اليونانية - مدينة يونان - الشعر يعد الطريق للفلسفة
لم تولد الفلسفة في بلاد يونان ذاتها، إنما ولدت بين ظهراني الإغريق الذين كانوا يعيشون على شواطئ آسيا الصغرى، وفي جزر بحر إيجه، وكان ظهورها في الوقت المناسب بعد أن مهدت لها الطريق الأشعار الطويلة، والأعياد الدينية، والحروب الداخلية، وبعد أن بدأ الشعراء الحكماء يدونون خواطرهم وتأملاتهم، وبعد أن ولد علم الكائنات، وترعرع في القرن السابع ق.م.
ملأ هؤلاء الإغريق البعيدون عن وطنهم البحار بسفنهم، وطافوا أنحاء الأرض في سبيل التجارة، وأسسوا مدنية، وهذه المدنية الراقية، وعلاقاتها بالأمم المختلفة، وسياحات أربابها في المحيط والتطورات التي اقتضتها أعدت الأفكار للفلسفة.
وكل المدن التي كانت منتثرة على الشواطئ، فضلت حريتها واستقلالها على الانضمام لبعضها البعض، لتكوين وحدة سياسية، ولم تتم تلك الوحدة إلا لمحاربة الفرس؛ إنما كانت علاقاتها ببعضها البعض مستمرة.
وكانت تنطلق في كل أربع سنين من كل المدن والجزائر السفن الكبرى مملوءة بالهدايا، والقربان، والرجال، والنساء، مزينين ومزينات للاحتفال بعيد أيونيا في جزيرة ديلوس، وقد امتزجت بهذا العيد الديني الألعاب الرياضية والرقص، وهذان أعدا فن النحت بإعداد الأبدان الحية، وفي ساحة كبرى كان الشعراء ينشدون قصائدهم، والمنشدون قصائد غيرهم، وفي الساحة العامة كانت تنصب سوق تتبادل فيها المتاجر؛ فيحضر الأثيني بفخاره، والميليزي بصوفه، وأهل أيونيا بزيوتهم الطيبة، وعطور جزيرة العرب، وتبر القوقاز (قولشيت)، والأحجار الكريمة، والأقمشة الغالية، كل من مصدره.
وكانت كل مدينة منشقة على ذاتها، وقد استبدلت الملكية البطريرقية (سيادة الوالد) التي كانت في زمن هوميروس بنظام أوليجاركي، ثم اختفى هذا النظام. وقد اقتضت هذه الأحوال وضع قوانين جديدة ؛ عامة وخاصة.
وكان التشريع صعبا في هذه المدن القوية لارتباك الحياة ونموها؛ لذا قام الشعراء الأقدمون وأوائل الفلاسفة بأعباء السياسة، واشتغلوا بها باعتبار أفضليتهم.
وفي شعر هوميروس لا يختلف التعليم الأدبي عن الحقائق ونتائجها، ثم بدأ التفكير ضعيفا عند هزيود؛ وذلك لعلاقته بعواطف الشعراء. يذكر هزيود خلافه مع أخيه بيرسيه عندما يكتب فيقول: «العراك نوعان؛ الأول مذموم ومخيف، وهو الخصام والدعوى، والثاني شريف وعظيم، وهو مباراة المتفننين وأرباب الصنائع.» وقد أوحى إليه ما قاساه من ظلم الملوك ديوان «البلبل والباشق»، ومما جاء فيه: «لتتحارب الحيوانات المتوحشة والأسماك والطيور، ولتفن بعضها بعضا؛ لأنه ليس بينها عدل؛ أما البشر فقد أعطاهم زفس العدل، وهو أحسن الأشياء.» وفي قصيدة «العمل والأيام»: السعادة في العمل والفضيلة، وبهما يحصل الإنسان على بركة الرب، ورضى «المشتري»، وبهما يتقي شر الكذب والظلم.
هذا أول أشكال الفلسفة العملية، وليس لدينا إلا نبذ من النثر والشعر الموضوعين في القرون الثلاثة 9-6 قبل المسيح، ثم ظهر الحزن (وهو علامة الأمم المتعبة المفكرة) في شعر ممزم الأزميري الذي ولد عام 632ق.م.، وهو يتغنى بذكر الشباب، ويتحسر على الشيخوخة. وتيونين دي ميجار الذي ولد عام 580 يقول: «أفضل شيء لأهل الدنيا ألا يولدوا، ولا يروا أشعة الشمس المشرقة، ولكن إذا ولدوا، فالأفضل الخروج إلى عالم الخفاء بأسرع فرصة، وأن يرقدوا تحت الأرض.»
ومن حكماء هذا العصر الحكماء السبعة الذين لم تعرف أسماؤهم، وحاولوا أن ينشروا الأفكار الأدبية في جمل قصيرة بدون تطويل، وجملهم عبارة عن حقائق مفرغة في قالب سهل؛ وهي إما ثابتة بذاتها، أو قائمة على سلطة دينية.
وكذلك الشعراء صولون وفوسيلت وتيوجينس، عبروا في شعرهم عن نتيجة الخبرة الإنسانية، وخطر العنف، وضرورة الاعتدال في الحياتين، الخاصة والعامة، وفي الوقت نفسه كانت السريرة الأدبية تتطهر، ثم ظهرت فكرة الله.
يناجي أرشيلوك الشاعر الرب زفس: «زفس أيها الأب الأعلى، يا من تحكم من أعلى السماء، وترى ما يفعله الناس من خير وشر، أنت تعلم ما هو عدل، وما هو ظلم في عالم الحيوان ، إذا كان زفس صاحب القدرة كلها، فكيف يسود الظلم؟!»
ومثله يقول تيوجتيس: «من ذا الذي يرى الظلم في العالم ثم يحترم الأرباب؟ زفس أيها الأب الأعلى انصر العدل.» هذه الثورة ضد الدين هي الفلسفة الأولى.
إن قصيدة الأعمال والأيام هي أقدم تعبير للفلسفة العملية، وقصيدة التيوجوين التي تنسب إلى هيزود هي أول شكل من أشكال الفلسفة النظرية، واسم هيزود أول الأسماء.
وفي القرن السادس ظهر نوع الأورفزم من الأناشيد؛ فإن أونوماقريط - أحد العلماء الذين كانوا محيطين ببسترات - نشر أغاني مقدسة باسم أورفيه 520-540ق.م.، وقد استنزل فيها الوحي من الأساطير القديمة، ومن الأفكار التي كانت ذائعة ومنسوبة إلى الشعراء الأقدمين، وكل ما نعرفه عن الأورفين وصل إلينا من «الإسكندريين» الذين شوهوا تلك الأغاني بأن جعلوها خليطا من سائر الأفكار، وأعطوها صبغة مقدسة بأن نسبوها إلى الحكماء الأول.
ومن الأغاني التي استمدت من الأساطير فكرتها، أغنية جميلة على الليل والزمان اللذين يلدان الحب ذا الجناحين المذهبين (إيروس)، فينمو ويكبر وينحني، فيكون ظهره السماء بنجومها، ومن نور عينه يخرج القمر والشمس، ومن دموعه يخرج الجنس الإنساني البائس، وابتسامته تخرج شعب الآلهة المقدس.
وفي القرن السادس أيضا كتب فيرسيد بالنثر عن الطبيعة والأرباب، وما دونه من الكوزمولوجيا لا يزال مرتبطا ارتباطا شديدا بالتيوجونا، ولكنه يفوق ما دونه هيسود.
ويمتاز فيرسيد بأمرين؛ الأول أنه ميز المواد اليابسة (الأرض) عن غيرها كالمواد الجوية، وفرق بين المادة والقوة التي تدبرها.
ويلاحظ المطلع على تلك الفترة من تاريخ الفلسفة أن فكرة واحدة كانت سائدة، وهي فكرة النظام والتناسب والانسجام؛ فهي الفكرة السائدة في ما يدونه الحكماء والمشترعون وغيرهم ممن يريدون أن يسود الانسجام. (2) تقسيم الفلسفة اليونانية - بيان عن الفلسفة السابقة لسقراط - تقسيم الفلاسفة السابقين
يمكن تقسيم الفلسفة اليونانية التي تتصل بها الفلسفة اللاتينية إلى ثلاثة أقسام أو فترات:
القسم الأول يبدأ بطاليس عام 600ق.م.، وينتهي مع سقراط، والفلسفة في هذا القسم هي عبارة عن علم الكائنات الشامل لسائر عناصر الوجود. وفي القسم الثاني فتح سقراط للفلسفة بابا جديدا؛ فرفع المنطق والأخلاق على الطبيعيات. والقسم الثالث يبدأ بآراء المحدثين من أتباع فيثاغورس واضعي «نيوفيثاغورزم»، ويمتد إلى نهاية الفلسفة القديمة، ويمتاز هذا القسم بامتزاج الفلسفة اليونانية بالروح الشرقي، وتفوق الحكمة الآلهية والتصوف.
كان الفلاسفة الأيونيون (اليونان الأقدمون) طاليس وأناكسيماندر وديوجين دابولوني، والفيثاغوريون، والآليات كلهم يبحثون عن مادة الأشياء.
وفي عهد هيراقليت أصبح السؤال المهم هو معرفة قواعد صيرورة الأشياء، وما يطرأ عليها من التطور، وطريقة النظر إلى المادة الأولى التي يتكون منها الشيء، وعليها يتوقف فهم قواعد الصيرورة والتغير، ثم إن إمبيدوكل والفلاسفة الأتوميست وأنا كساجور تأثروا بآراء بارمنيد ضد التحول والتعدد؛ فقالوا بأنه ليس هناك صيرورة، ولا هلاك بمعنى الكلمة، ويفسرون سائر المظاهر الطبيعية باتفاق واختلاف العناصر الأولى (التجاذب والتنافر).
رأينا في اليونان أن الشعراء يسبقون الفلاسفة؛ ولذا كانت المسائل التي حلها الشعراء الحكماء جمة مهمة؛ فهم يتساءلون عن معرفة تكوين الأرض، وظهور الإنسان، وقد قبل الفلاسفة ميراث الشعراء؛ أي إنهم اهتموا بما اهتم به أولئك، ولا يزال مجال بحثهم ماديا؛ أي أصل الأرض، وأصل الإنسان، ولكن طريقة البحث تغيرت، وتغير طريقة البحث أدى إلى صعوبة الاهتداء إلى حلول تلك المسائل غير المحدودة؛ فإنه لا يمكن تعليل الأشياء بتحول مادة أولية، كما أنه لم يكن ممكنا تعليلها بتاريخ الأرباب؛ ولذا عرضت صعوبات جمة؛ فتقوى العقل البشري بطول البحث، وساد المنطق شيئا فشيئا على علم الكون، وساد البحث في الانتقال من الواحد إلى المتعدد، وإمكان التحول والصيرورة، والذي يهم الباحث هو هذا الانتقال الفكري من الطبيعي إلى المنطقي، ومن النظر في الكون إلى النظر في ذاته. (3) آراء الفلاسفة الأول
طاليس أول الفلاسفة الأيونيون كان من أهل ميلت، ومن معاصري كريسوس وصولون، ويفرض ميلاده عام 640ق.م.، ويقول أرسطو في كتابه «ما وراء الطبيعة» جزء 1، قسم 3 / 983 ب20: إن طاليس لم يقل بشيء سوى استبدال المحيط، وما عبر عنه علماء التيولوجيا بالعنصر الرطب، وهذا التغيير قد أحدث ثورة في الأفكار. ويشير أرسطو إلى أن العلم الذي كان متعلقا بأهداب الشعر قد بدأ ينفصل عنه، وأصبح القول بالآراء الشخصية من أهم الأمور؛ كذلك الدفاع عنها بالجدل وطرق البحث العقلي، ولم يكن ذلك مبنيا على الأساطير المقدسة، إنما على مراقبة الطبيعة بالذات. قال طاليس: «إن كل الموجودات مملوءة بالأرباب.» ومن المرجح في رأي أرسطو أن طاليس تمثل المادة الأولى حية، وهذا رأي الأقدمين في الكاوس (الفوضى الأولى)، وأنها قادرة على توليد الأشياء بذاتها.
أناكسيماندر، وهو من أهل ميلت ولد 611ق.م.، أخذ أول مبدأ لذاته اللانهاية، وقد تخيل اللانهاية مادة غير محدودة مؤلفة من اختلاط عدة مواد موجودة في جثمان أو جرم لا يمكن تمييزه.
ثم تلاه أناكسمين من ميلت أيضا، وأصغر سنا من أناكسيماندر، وقد يكون تلميذه، اتخذ الهواء بداية لكل شيء، ويعتقد أنه لا نهاية له، وأنه حي، وأنه يعتنق العالم بأسره، وأنه بحركة مستمرة يولد الموجودات، وكل شيء ينتج عنه بالتكثيف والتخلخل.
ثم تلتهما فترة وقعت فيها حروب الفرس، وجاء ديوجين دابولوني، وهو أصغر من أناكساجور (وعاش 450-480)، ولا ريب أنه اجتمع به بأثينا التي صارت عاصمة الفلسفة، وقد قال بأن الكائن الأول ينبغي أن يكون مادة كسائر الأشياء، وينبغي أن يكون ممتعا بالفكر؛ فإنه إن لم تصدر الأشياء كلها عن مادة واحدة لا يمكن تعليل أثرها في بعضها البعض سلبا وإيجابا، وأن قياس الكون وترتيبه، حيث كل شيء سائر في طريق الخير، يظهران بوضوح ذكاء المبدأ الأول، وهذا المبدأ هو الهواء المفكر الذي يحكم الأشياء ويسودها جميعا؛ لأنه يخترقها جميعا؛ لأنه مادتها.
إن المعروف عن فيثاغورس وتلاميذه قليل، والتعويل في القول عنهم هو على كتب أرسطو، وعلى بعض نبذ نادرة من مؤلفات فينولاوس.
ولد فيثاغورس في ساموس نحو 588، وكتب زينوفان وهيراقليت كلاما عنه، ومن الراجح أنه ظهر أولا في وطنه، ثم انتشر اسمه في إغريقية الأيونية، وتصعب معرفة حقيقة الأساطير التي نسبت إليه السياحة في مصر، وأشوريا، وكلدانيا، وبلاد الفرس، والهند، والمؤكد أنه سافر حوالي عام 540 إلى إيطاليا، واستوطن كروتون، وتوفي عام 500 بمتابونته، ولا يعلم إن كان موته قبل ثورة مدن الإغريق الكبرى ضد النظام الذي وضعه، والجمعية التي ألفها أو بعدها، ولم يكن فيثاغورس فيلسوفا فقط، بل كان مصلحا سياسيا ودينيا.
وقد ألف فيثاغورس جمعية دينية سياسية علمية انتشرت من كروتون إلى سائر مدن إغريقية الكبرى، وكان يشترط للدخول فيها مدة يقضيها العضو من قبيل التجربة قبل الانضمام النهائي، وكان الأعضاء يتعارفون بإشارات سرية، وكان مفروضا عليهم التعاون، ومساعدة بعضهم بعضا، وواجبهم نحو الرئيس الطاعة المطلقة، وأشهر فلاسفة هذه المدرسة الفيثاغورية: فيلولاوس أحد معاصري سقراط وديموقريط، وقد جاء إلى طيبة، وتعلم عليه سيبيس وسمياس وتيميه دي لوفر، والشاعر الهزلي أبيسام وأرخنياس دمارنت، ونورد رأي أرسطو في أتباع فيثاغورس نقلا عن كتاب «ما وراء الطبيعة» قسم 501، قال إنهم تغذوا بلبان الرياضيات، وتأثروا بشدة الشبه بين الأرقام والموجودات، فظنوا أن عناصر الأعداد هي عناصر سائر الموجودات، وأن السماء كلها انسجام واحد ورقم واحد؛ فكان العدد هو المادة والشكل، بل إن الأعداد هي الأشياء بعينها، وينتقد عليهم أرسطو أنهم يخلطون إلى هذا الحد بين الأجسام الطبيعية وبين الأرقام الحسابية؛ أي بين الأشياء ذات الثقل والخفة، وبين الأشياء التي لا ثقل لها ولا خفة.
يقول الفيثاغوريون إن العدد الذي هو مادة الأشياء له في ذاته عناصر (عنصران) هما الزوج والفرد؛ فالزوج هو اللانهاية، والفرد هو النهاية، وكل شيء مركب من النهاية ومن اللانهاية؛ كل شيء هو عدد وانسجام، وما العدد إلا انسجام الزوج؛ والفرد انسجام النهاية واللانهاية؛ فالانسجام لا ينفصل عن العدد، بل هو العدد ذاته. فإذا كان النظام سائدا في العالم؛ فهذا لأن عناصر الأشياء - أي الأعداد - هي القاعدة والنظام، بل هي موسيقى ذلك الانسجام، وهنا ترى فكرة الترتيب والقياس والانسجام سائدة على سائر آراء فيثاغورس وأتباعه.
وغاية تعليم فيثاغورس هي البحث عن الكائن، والحقيقة في العدد، وليس هناك غاية للتمييز بين ما هو محسوس وما هو معقول؛ بل امتزج عندهم التعقل والخيال والشعر والدين والعلم والسياسة، وكل حالات النفس، وأوضاع الفؤاد، وصور الفكر ممتزجة عندهم في وحدة محسوسة مرتبكة.
أشهر فلاسفة مدرسة إيليات هم: زينوفان وبارمنيد وزيفون الإيلي.
ولد زينوفان دي كلفون عام 569، وساح من بلد إلى بلد يكسب قوته بنشيد شعره، ولجأ أخيرا إلى إيلية، وهي مستعمرة أسسها الآبقون من الفرس عام 544، وبدأ زينوفان تعليمه بهجمات شعواء على أرباب العامة؛ ففي النبذتين 6 و7 من مؤلفاته ما يأتي: «لو كان للثيران والأسود أياد لصنعت لنفسها آلهة على شكل أبدانها؛ إن هوميروس وهزيود نسبا للأرباب كل ما يشين البشر، ويقلل من أقدارهم.» ثم ختم قوله بتوحيد الله وهو يقول في وصفه: إنه رب لا يتعب، ويدبر الموجودات كلها بقوة فكره. يقول أرسطو: ولم يفصل زينوفان الله عن العالم، إنما نظر في السماء بمجموعها، ثم قال إن الواحد هو الله، وقد خلط الكون بالله، وقرر أن الواحد لا يتحول ولا يتغير، ثم كان ينبغي لزينوفان أن ينفي التغير والتحول عن العالم كما نفاهما عن الله، ولكنه لم يصل إلى ذلك، بل قال بأن العالم لا يتحول في مادته، وقد يتحول في شكله. (3-1) بارمنيد
أما بارمنيد الذي يدعوه أفلاطون بالعظيم، فقد كان أكثر شجاعة وإقداما؛ فإنه تغالى في تقرير مبدأ زينوفان فأنكر بتاتا التغير والصيرورة والتعدد، ولا يعترف بسوى الحقيقة الواحدة أو الكائن الواحد الأبدي الذي لا يتغير. (3-2) زينون
كان زينون صديق بارمنيد وتلميذه، وقد ولد بإيلية في أوائل القرن الخامس، حوالي 490، ولعب دورا سياسيا مهما كما فعل أستاذه، ونسب إليه أرسطو فضل وضع المنطق، ثم إنه قام بتأييد مذهب بارمنيد. (3-3) شأن مدرسة إيلية
وكان لمدرسة إيلية أثر مهم في تكوين الفلسفة السابقة لسقراط؛ فوافق إمبيدوكل والأتومست وأناكساجور بارمنيد على القول بأن الكائن الحقيقي هو أبدي غير هالك. وقد نشأ عن القول بهذا الفكر رأي جديد في الحياة والطبيعة. (4) الطبيعيون المحدثون: أولهم هيراقليط ولد عام 504
إن هيراقليط أخذ بعلم الهيلوزويسم
Hylozoisme ،
1
ولكنه كان يهتم بتحول الأشياء وتغيرها أكثر من اهتمامه بمادتها؛ فلذا هو يخالف بارمنيد الذي كان معاصرا له، وهكذا يمكن فصل هيراقليط عن الفلاسفة الأقدمين الذين كانوا يهتمون بالمادة، ووضعه في طليعة الحركة الفلسفية التي كان هو من أوائل رجالها ، ومن أهم تلاميذه كراتيل الذي كان من أساتذة أفلاطون، وقد اشتغل هيراقليط بالسياسة، وحارب الديموقراطية، وكان غامض العبارة حتى إنهم لقبوه بهيراقليط الغامض.
وكان هيراقليط هذا يقول بأن الكل يتحرك، والكل يسيل، والكل يصير الكل، والكل هو الكل. ومن قوله: النهار والليل والنوم واليقظة والشباب والشيخوخة كلها أشياء واحدة، والطين الذي تصنع منه سائر الموجودات هو مادة واحدة تتشكل بأشكال مختلفة. إن العالم محتاج إلى التحريك لئلا يعتريه الفساد. لا شيء موجود؛ الكل هو الوجود. الكل يشمل المتناقضات، وقانون الصيرورة يعود إلى قانون اتفاق الأضداد؛ أي كون الأضداد هي الأشياء بذاتها، وكل الأشياء تولد من هذا العراك.
وهيراقليط يبحث في هذه الفوضى عن الانسجام؛ لأنه لا يقول بالمصادفات وبحدوث الأشياء اتفاقا وعرضا. ومن قوله أن النفوس الجافية لا تعرف أن الخير والشر يجتمعان في أثر واحد كما يجتمع في الانسجام العود والقيثار، وكل له أنغام مخالفة لأنغام الآخر؛ وهذا الانسجام هو القانون الإلهي. (4-1) إمبيدوكل
إمبيدوكل من أغرب وأعجب هؤلاء الفلاسفة الأقدمين؛ فهو شاعر وخطيب سياسي ونبي مطهر؛ فيقوم بالمعجزات ويحيي الموتى ويوقف الأوبئة، ويطوف شوارع أجريجتيه محزما ومتوجا بتيجان خضراء، ومعبودا كأنه بعض الأرباب، وقد انتحل من الفيثاغوريين تعاليمهم الدينية والأدبية؛ وعلم الكائنات الذي قال به هو توفيق بين بارمنيد وهيراقليط؛ فهو يعترف بوجود بعض المواد التي لا تخلق ولا تهلك، وينسب كل تغير وتحول إلى انفصال وارتباط تلك المواد؛ لا شيء يعدم ولا شيء يخلق؛ فليس هناك إلا انفصال وارتباط العناصر. والعناصر أربعة: الأرض والماء والهواء والنار. والقوى المحركة هي الحب وهو مبدأ الاختلاط والاتحاد، والبغض وهو مبدأ الانفصال والانحلال. (4-2) ليوسيب
لا يعرف عنه شيء تقريبا، ولا يمكن تمييزه عن تلميذه وصديقه ديموقريط (460)، وكان غنيا جدا، ووقف أمواله على السياحة والأبحاث العلمية، وقضى خمس سنين يجاور علماء الهندسة المصريين، ولا يعلم عن تاريخ سفره إلى أثينا شيء، وهو كإمبيدوكل يريد التوفيق بين التعدد والصيرورة؛ أي التجربة. والحل الذي لجأ إليه ديموقريط هو القول بالجوهر الفرد (أتوميزم)؛ فقال: إن الكائن ليس هو الواحد كما ظن بارمنيد، إنما هو مكون من عدد غير محدود من الذرات والوحدات الأبدية غير المنقسمة متشابهة، متحركة على الدوام في الفراغ غير المحدود؛ فبقاء الكائن أمر يمكن التوفيق بينه وبين التحول. لا شيء يأتي من العدم، ولا يمكن هلاك شيء من الموجودات، إنما الميلاد والنمو والموت يمكن تفسيرها بارتباط وانفصال الذرات الأولية المتحركة في الفراغ؛ وتغيير الصفة يرجع إلى تغيير الوضع في الفراغ. ويعلل ديموقريط هذه الحركة بحركة سابقة لها، وهكذا ينسب الحركة السابقة إلى حركة أسبق من الأولى.
وقد انتقد أرسطو هذا الرأي، وقال كان الأولى به أن يقول بأن هذا السؤال لا جواب عليه؛ لأن الأشياء كانت على ما هي عليه أبدا؛ وأنه لا مجال للبحث عن قاعدة أو قانون. (4-3) أناكساجور
من أهل كلازومنيس، ولد عام 500، وتوفي عام 428، أحد الفلاسفة الأيونيين، جاء أثينا وأقام بها ثلاثين عاما، وبها تلقى عليه العلم أيربيد، وشاهد تشييد البارتينون، وعرف فيدياس، وصادق بريكليس، وحظي بحديث أسبازيا.
وقد حاول مثل إمبيدوكل وديموقريط أن يوفق بين رأي بارمنيد، وبين التجربة فقال: إن اليونانيين يسيئون القول عندما يتكلمون عن الميلاد والهلاك؛ لأنه لا شيء يولد، ولا شيء يهلك، إنما الأشياء موجودة، تتألف وتتحد ثم تنفصل، وإن التغيير في الأشياء ناشئ عن تحول موضعها في الفراغ. وهو يقول بأن عناصر الأشياء وجدت منذ الأزل، وأن كل شيء يمكن تقسيمه إلى اللانهاية، إلى أجزاء متشابهة ذات صفات مختلفة؛ والعشب الذي يأكله الثور يتحول إلى دم وعظم وعضل؛ لأنه يشمل الدم والعظم والعضل. وبعبارة أخرى كان رأي أناكساجور هو الذي قال به بعد ذلك جوردنانو، وباسكال، وليبنتز. (أ) رأيه في أصل العالم
في أول الوجود كان الخلق مضطربا مرتبكا؛ فلأجل خروج العالم من تلك الفوضى اقتضى ذلك تداخل قوة محركة مدبرة آمرة مرتبة؛ وهذه القوة هي العقل، والذي يمتاز به العقل هو البساطة والقوة والعلم. ولكن لم يكن لأناكساجور رأي واضح في الفرق بين الروح والمادة؛ فهو يتكلم عن العقل بعض الأحيان، كما يتكلم ديوجين دابولوني عن الهواء المفكر، ويقول عنه إنه أخف وأنقى الأشياء، وإن كل الكائنات المفردة تحتوي على أجزاء منه، وإن أرواحها تقرب إلى الكمال بقدر ما تحتوي من مادته. ويرى من ذلك أن أناكساجور هو أول من أدخل في الفلسفة فكرة قانون روحاني يرتب العالم وينظمه. إن أناكساجور لفت نظر العقل الإنساني نحو ذاته، وبذا أعد فلسفة جديدة، وهي فلسفة السفسطة التي اشتغلت بالفكر عن الموجودات. (5) أصول السفسطائية - السفسطائيون المشهورون، وآثارهم في تكوين الفلسفة
كانت الفلسفة اليونانية في أول أمرها غزيرة بالآراء، وأنظمة الفكر، وطرق البحث؛ فقد وضع هيراقليط أكبر قواعد علم الخوارق عندما قال إن كل شيء يتغير إلا قانون التغير ذاته، كذلك بارمنيد ينكر الصيرورة (التجربة)، ولا يعترف بغير حقيقة واحدة، وهي حقيقة الواحد المتحد بذاته الأبدي. وقد اكتشف ديموقريط في المادة سيادة الروح على الموجودات، ولكن كل قاعدة كان يقول عنها صاحبها إنها عبارة عن الحقيقة ذاتها؛ فإذا كان العالم باقيا كما هو، والمعضلة المطلوب حلها لا تتغير، فلماذا تتعدد الحلول؟ هذا هو الذي دعا الفكر إلى التنبه والحذر من خطئه، وكانت حال بلاد اليونان السياسية والاجتماعية تقتضي وجود خطباء حاذقين يلعبون بالأفكار، ويهمهم الفوز على الجموع أكثر مما يهمهم قول الحق؛ لذا نشأ فريق السفسطائيين، ولم يؤلف السفسطائيون مدرسة فلسفية بالمعنى الصحيح، وكانوا ينكرون الحق والخير المطلقين، ولم يكن لهم غاية سوى الانتفاع بالأشياء، وسنأتي على آراء أشهرهم.
أشهرهم بروتاجوراس وجورجياس وبروديكوس وتراسيماك وأيونيديم.
أما بروتاجوراس فقد اتخذ نظام هيراقليط بداية لتعليمه، ولكنه أغفل ذكر العقل العام الذي قال عنه هيراقليط إنه سبب الانسجام، ووحدة الذات في المتناقضات، إذا لا يبقى سوى حوادث خارقة للعادة وحركة مستمرة.
وليس يوجد باب للمعرفة إلا الحواس الخمس؛ فالإنسان أصبح مقياس الأشياء، وكل معرفة نسبية بالنسبة للروح التي تعرف؛ فلا يخرج الإنسان من ذاته، والحكيم كطبيب النفس لا يمكنه أن يخلق فيها أفكارا أصح وأصدق من الأفكار الموجودة بها، ولكنه يمكنه أن يوجد بها أفكارا أنفع وأجمل؛ فالحكمة هي صنعة الإسعاد.
وجورجياس ولد عام 427، وجاء إلى أثينا سفيرا لمدينة ليونتيم، وهي وطنه بصقلية، وقد اتخذ تعريف بارمنيد للكائن، وطبق هذا التعريف على الكائنات الحساسة، ويستنتج أن الكائن ليس في مكان ما؛ لأنه لا شيء يوافق تعريف الوجود. وجملة تعليمه في ثلاثة آراء؛ الأول أن لا شيء موجود، وأنه لو وجد شيء فلا يمكن معرفته، ولو فرضنا وجود الكائن، وأمكن معرفته فلا يمكن له أن يعرفه لغيره. قال بروتاجوراس إن كل حكم يصدره الإنسان حق. وقال جورجياس إن لا حكم حق، يقول لو كان كل حكم حقا فهو قاصر على التعبير عن الظاهر، وإذا كان كل حكم غير حق، فمعنى هذا أننا لا نستطيع إلا فهم الظواهر.
يقول السفسطائيون الذين انتقدهم أفلاطون وسقراط انتقادا مرا إنه ليس هناك علم، إنما هناك آراء، وليس هناك حقيقة، إنما هناك ما يشبهها، وإن الخير نسبي كالحق، وروح الأدب هي فن الفوز. ومن أقوالهم أن الأرباب اخترعها واضعو القوانين ليرهبوا البشر، وأنه ليس هناك عدل، ولا ظلم، ولا حق، ولا باطل، وأن القوانين ما وضعت إلا للضعاف الذين لا يستطيعون مخالفتها، وأن الخير هو القوة، وهو فرح السيادة على الأشياء والفوز على الموجودات، وكون القانون الوحيد الذي يقيد الرجل هو إرادته.
وظهور السفسطة دليل على اضمحلال الفلسفة اليونانية القديمة، وبداية تقدم في الفكر، وأول عهد للبحث في مسائل معضلة لم تخطر للأقدمين على بال. (6) سقراط العظيم والفلسفة السقراطية
لم يكن سقراط فيلسوفا فقط، بل كان فيه من صفات الرسل والأنبياء، وكان يعتقد أنه تسلم من الأرباب رسالته، فتفرغ لتلك الرسالة، وكانت نفسه تحدثه بإصلاح وطنه إصلاحا أدبيا ودينيا، وأنه ما كان يستطيع أن يرد لبلاد الإغريق مجدها بدون أن يستردوا فضيلتهم؛ فنشر طريقة جديدة للاهتداء إلى الحقيقة، وإخراجها واحدة ثابتة من كل المظاهر المتعددة قليلة الثبات. وكل ما يحبه في الحق هو الخير الذي هو الشرط الأول للحق؛ والمنطق مرتبط في نظره بالآداب؛ لأنه أداتها.
ولد سقراط في أثينا عام 470، واشتغل بصنع التماثيل كأبيه، ثم تركه واشتغل بالحكمة والوعظ، وكان قوي البدن، شجاعا يقابل الأخطار بصدر رحب، وكان يعتقد أنه يوحى إليه بما يقول، وكان يعادي سائر الطبقات؛ فاتهم الشعراء بأنهم يقولون ما لا يعلمون، واتهم رجال السياسة بأنهم ضيعوا مجد الوطن، واتهم السفسطائيين بفساد الأخلاق. وقد ذهبت به شجاعته إلى هلاكه، فاتهموه بالثورة، ونسبوا إليه السخط على نظام حكومة وطنه. وقد اتهمه ملتيوس وليكون وأنيتوس، وأرادوا عقابه بالموت ليكون مثلا فيتقوى الدين الوطني، ويظهر مبدأ الديموقراطية على غيره من المذاهب؛ وليراجع دفاعه عن نفسه أمام القضاة في محادثات أفلاطون (أبولوجي - كريتون - فيدون) فإنه من أجمل وأبلغ ما نطق به الإنسان.
ولم يكتب سقراط شيئا، إنما نعرف تعاليمه بالنقل عن تلاميذه ومن قرءوا عليه؛ على أننا نجد في محادثات أفلاطون نظريات أفلاطون ذاته وضعها على لسان معلمه. أما زينوفون في «الباقيات» و«المائدة» فهو يشرح بدقة أتم آراء سقراط، ويهتم بما يهمه ويلذ له من علم الأخلاق وقواعده العلمية. فأفلاطون فيلسوف متغال، وزينوفون ليس كذلك، فينبغي لنا، والحال هذه، المقارنة بينهما، والرجوع إلى ما كتبه أرسطو في هذا المعنى. إن الفلاسفة الأول أرادوا أن يعرفوا كل شيء فلم يقدروا، وأعطوا الناس حلولا متناقضة؛ أما سقراط فقد كان أكثر منهم تواضعا، وبديلا من أن يلفت الإنسان إلى الأشياء يكفيه أن يلفته إلى ذاته. فأول قاعدة من الطريقة السقراطية هي أن يعرف الإنسان نفسه؛ لأن الحقيقة ليست بعيدة عنا، إنما هي فينا ومنا. وعلى كل فإنه في نفوسنا يمكن وجود الطريق المنطقية الكافية للوصول إلى الحقيقة. كان السفسطائيون ينكرون العلم، ومع ذلك كانوا يجدون لكل مسألة جوابا؛ أما سقراط فكان يقول: كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئا. ومعرفة جهل الإنسان صفة كبيرة؛ لأنها عبارة عن الإلمام بالعلم، وعرفان حدوده، والاقتدار على التمييز بين الحق والباطل. وقد اكتشف سقراط طريقتين للوصول إلى الحقيقة: الأولى سلبية، وهي الهزء، وهي تنجي من الخطأ، وتطهر وتسهل لنا التمكن من الحقيقة. والأخرى إيجابية ، وهي الميوطيقي أو التوليد، وهي تمكننا من الحقيقة التي لا يمكن أن نكتشفها إلا فينا، والخلاص من الغلط، واكتشاف الحقيقة شكلان من عرفان النفس.
ولم يكن سقراط يقصد تثبيط همم الناس بالهزل، إنما يريد تخليصهم من الغلط، ويعدهم للوصول إلى الحقيقة؛ فإن اكتشاف الإنسان جهله هو بداية عرفانه ذاته؛ إنما المعلم لا يسلم زمام الحقيقة لتلميذه، ولكنه يساعده على استخراجها. قال سقراط: «إن صنعتي كصنعة المولدة، ولكني أولد الرجال لا النساء، وأعتني بالنفوس لا بالأجسام.» فالعلم لا يسلم قياده، ولا يوهب إنما هو حاضر في النفس البشرية التي لا تملكه إلا إذا تركته يفيض منها، والعلم يكمل المعرفة التي يصل إليها الإنسان إذا عرف ذاته؛ فعمل الأستاذ هو مزاولة الموطيقي أو التوليد؛ أي صنعة معاونة النفوس على «وضع الحقائق» التي لا تحتاج إلا لأن تولد؛ فما هي إذا الطرق المنطقية التي تسهل توليد الحقيقة؟ أجاب أرسطو على هذا السؤال أن هناك أمرين ينسبان إلى سقراط؛ الأول المقالات القياسية (الاستدلالية)، والثاني التعريفات العامة؛ فكان سقراط بطريقته يظهر غرور الفصاحة السفسطائية بتعيين معاني الألفاظ تعيينا دقيقا، وبوضع تعريفات تعبر عن طبائع الأشياء، وتمكن النفس من الحقيقة التي تستخرجها بعمليات منطقية تشبه الأعضاء الطبيعية للذكاء الإنساني؛ ولأجل الوقوف على حقيقة فكر سقراط نرجع إلى ما جاء في محادثة فيدون التي وضعها أفلاطون؛ قال سقراط في هذه المحادثة (ن96): «وأخيرا سمعت واحدا يقرأ في كتاب قال عنه إنه كتاب أناكساجور: «إن الذكاء هو قاعدة وقانون سائر الأشياء؛ فانشرح صدري لأنني فطنت إلى حسن تلك القضية، فقلت في نفسي إذا كان الأمر كذلك فإن الذكاء سيحول الأشياء إلى الخير العام؛ فإذا أراد الإنسان أن يجد سبب كل شيء، وكيف يولد، وكيف يهلك، وكيف يوجد، فما عليه إلا أن يبحث عن أحسن حال يكون عليها الشيء».» (6-1) آداب سقراط - القوانين الإلهية - علم الفضيلة
نظريات دينية
يقول سقراط: إن القانون هو العقل، وإن العقل هو الطبيعة ذاتها، وإن القوانين الحقيقية هي غير المكتوبة، بل التي سطرتها الأرباب في قلوب البشر. إن من لا يطيع القوانين الإنسانية قد يسلم من العقاب، ولكن من يستخف بالقوانين الإلهية لا يسلم من العقاب، والعقاب يتلو الزلة، فتنتظم الحال، ويعود الترتيب بالتكفير عن الذنب. إذا كان الخير هو الحقيقة ذاتها، وإذا كان من الخطأ يخرج العقاب بضرورة طبيعته، فمن المستحيل أن الإنسان يعمل الشر بإرادته؛ لأن الإنسان يريد الخير لذاته على الدوام، فإذا كان الخير هو الحقيقة بعينها، فخير الفرد لا يمكن فصله عن خير المجموع. إذا فالإنسان عندما يخطئ إنما هو يخطئ لذاته، أو يجني على نفسه، وحيث إنه لا يريد إلا الخير، فهو كلما يفعل الشر يكون مخطئا، وكل خطيئة أدبية هي غلطة، ولا يمكن إنقاذ البشر من الخطايا إلا بتعليمهم، ولا لزوم للتمييز بين النظرية والعمل؛ لأن من يملك علم الخير يرى وحدة ذاته مع السعادة، ولا يمكنه إلا أن يعمل الخير، فالإنسان يعمل كما يفتكر. فالفضيلة هي إذا علم، فالحكيم هو الذي يفتكر في الخير، ويعمل الخير، فإذا كانت الفضيلة علما فيمكن تعلمها. والحق أنه لا يوجد إلا حقيقة واحدة هي الحكمة، إنما تعددت أسماؤها بحسبما تكون علاقة الإنسان مع ذاته، ومع أمثاله أو مع الله. وإذا نظرنا إلى الحكمة وعلاقتها بالإرادة تصير هي الشجاعة، والشجاعة هي علم الأشياء التي تخشى، والاعتدال علم السرور، والعدل هو علم ما يستحقه كل إنسان، والصلاح هو علم واجباتنا نحو الأرباب.
وهنا نشير إلى آراء سقراط في الصداقة، وآرائه في العمل، وقوله في المرأة التي يريد جعلها رفيقة الرجل، ومساوية له (راجع كتاب أيكونوميكوس، تأليف زينوفون 1 و3 و7 و9).
أما آراؤه في السياسة فهو يميل إلى الأرستوقراطية، ويريد حكومة أصلح الرجال وأحكمهم؛ وحاجة المدينة إلى العلم كحاجة الفرد، فلا تحصل على الخير المطلق إلا من طريق العلم.
وقد أعطى سقراط دليلين على وجود الإله؛ الأول بالعلل الفعالة، والثاني بالعلل النهائية. والدليل الأول هو القول بأن ما فينا ينبغي أن يوجد في العلة التي خلقت العالم؛ قال سقراط: «أحط العلم كله بفكرك تستطع، ولكن بدنك ليس إلا جزءا ضئيلا من الأرض. وأقول كذلك عن الرطوبة وغيرها من العناصر التي تتكون منها الأرض، كلها عظيمة مهولة، ولكن من كل عنصر منها يدخل بدنك جزء يسير، وأنت تظن أنك وحدك امتزت بالعقل.» وسقراط يظهر إعجابه بترتيب العالم والنظام السائد، وهو معجب بإعداد كل عضو في بدن الإنسان لما خلق له، ثم ينتقل من المصنوع إلى الصانع؛ أي من المخلوق إلى الخالق؛ أي من العالم إلى الله، ويرتفع إلى فكرة إله أكبر من سائر الآلهة، ويقول إن الآلهة الأخرى التي تعطينا الخيرات إنما تعطينا إياها دون أن نراها، أما الذي يرتب العالم بما فيه من أشياء جميلة وخيرة، ويحكمه بأسرع من الفكر يعمل أمامنا أعظم الأشياء، ولكن بدون أن يمكننا من رؤيته؛ فرب سقراط هو العين التي ترى كل شيء، وتسمع كل شيء، وهو حاضر في كل مكان، وساهر على كل ما في الوجود؛ ألم يكن هذا دليلا على وجود الله في نفس الفيلسوف؟! كما كان يقول إنه يسمع في نفسه صوت الله. وقد قال سقراط بخلود النفس تبعا للعدل الإلهي؛ فإن النفس خالدة؛ لأنها منفصلة عن البدن وسائدة عليه؛ ولأن لها حياة خاصة بها. وإن الإنسان يرى البدن ينحل ويفسد، والروح لا يراها أحد بعد الموت، ولا في الحياة؛ ولأنها أقدس ما فينا، ولذا ترجع إلى الله. كن ذا أمل في الموت، ولا تفكر إلا في حقيقة واحدة وهي أن الشر لا يلحق برجل الخير أثناء حياته، ولا بعد مماته؛ لأن الأرباب لا تتخلى عنه مطلقا. (6-2) ما كتبه العرب عن سقراط (أ) اسمه
معنى سقراط باليونانية المعتصم بالعدل، وهو ابن سفرونسقس، ومولده ومنشؤه وميتته بأثينا. (ب) وصفه الطبيعي
كان سقراط رجلا أبيض، أشقر، أزرق، جيد العظام، قبيح الوجه، ضيق ما بين المنكبين، بطيء الحركة، سريع الجواب، شعث اللحية غير طويل، إذا سئل أطرق حينا، ثم يجيب بألفاظ مقنعة، كثير التوحيد، قليل الأكل والشرب، شديد التعبد، يكثر ذكر الموت، قليل الأسفار، مجدا لرياضة بدنه، خسيس الملبس، مهيبا ، حسن المنطق، لا يوجد فيه خلل، مات بالسم وله مائة سنة وبضع سنين. (ج) عائلته
خلف من الولد ثلاثة ذكور، ولما ألزم التزويج على عادتهم الجارية في إلزام الأفاضل بالتزويج ليبقى نسله بينهم، طلب تزويج المرأة السفيهة التي لم يكن في بلده أسلط منها ليعتاد جهلها، والصبر على سوء خلقها؛ ليقدر أن يحتمل جهل العامة والخاصة. (د) ملخص تاريخه
قال القاضي صاعد في كتاب طبقات الأمم: إن سقراط كان من تلاميذ فيثاغورس، اقتصر من الفلسفة على العلوم الإلهية، وأعرض عن ملاذ الدنيا، ورفضها، وأعلن بمخالفة اليونانيين في عبادتهم الأصنام، وقابل رؤساءهم بالحجاج والأدلة فثوروا العامة عليه، واضطروا ملكهم إلى قتله، فأودعه الملك الحبس تحمدا إليهم، ثم سقاه السم تفاديا من شرهم، وله مناظرات جرت مع الملك محفوظة. (ه) طريقة تعليمه
بلغ سقراط من تعظيمه الحكمة مبلغا أضر بمن بعده من محبي الحكمة؛ لأنه كان من رأيه ألا يستودع الحكمة الصحف والقراطيس تنزيها لها عن ذلك، ويقول: إن الحكمة طاهرة مقدسة، غير فاسدة، ولا دنسة، فلا ينبغي لنا أن نستودعها إلا الأنفس الحية، وننزهها عن الجلود الميتة، ونصونها عن القلوب المتمردة. ولم يصنف كتابا ولا أملى على أحد من تلاميذه ما أثبته في قرطاس، وإنما كان يلقنهم علمه تلقينا لا غير، وتعلم ذلك عن أستاذه طيماتاوس؛ فإنه قال في صباه لم لا تدعني أدون ما أسمع منك من الحكمة؟ فقال له: ما أوثقك بجلود البهائم الميتة، وأزهدك في الخواطر الحية! هب أن إنسانا لقيك في طريق فسألك عن شيء من العلم، هل كان يحسن أن تحيله على الرجوع إلى منزلك، والنظر في كتبك؟! فإن كان لا يحسن فالزم الحفظ. فلزمه سقراط. (و) سبب محاكمته
ولما أكثر سقراط على أهل بلده الموعظة، وردهم إلى الالتزام بما تقضيه الحكمة السياسية، ونهاهم عن الخيالات الشعرية، وحثهم على الامتناع عن اتباع الشعراء، عز ذلك على أكابرهم، وذوي الرئاسة منهم، واجتمع على أذاه عند الملك والإغراء به أحد عشر من القضاة في ذلك الزمن، فتكلموا فيه بما أفسد عليه قلب الملك، وزينوا له قتله، والراحة منه، وخيلوا له أنه إن بقي في دولته أفسدها، وربما يخرج الملك بأقواله عن يده، فقال الملك: إن قتلته ظاهرا ساءت سمعتي، واستجهلني أهل مملكتي، والمجاورون لي؛ فإن قدر الرجل لديهم كبير، وذكره في الآفاق سائر. فقالوا نتحيل له في سم نسقيه، فاسجنه أياما. فأمر بسجنه. (ز) مدة حبسه
لما حبس الملك سقراط بقي في الحبس أشهرا بعد فتيا قضاة مدينة أثينا بقتله، وسبب ذلك أن المركب الذي كان يبعث به في كل سنة إلى الهيكل المرسوم بهيكل أبولون، وهو الذي تحمل فيه الهدايا في كل سنة إلى ذلك الهيكل لا تتلف نفس علانية بإراقة دم ولا غيره حتى يرجع إلى أثينا، وأنه عرض للمركب في البحر عارض منعه من المسير، فأبطئ قتله تلك الشهور، فلم يقتل حتى انصرف المركب. (ح) اجتماع أصحابه به في سجنه عن رواية خفراطيس «كنا جماعة من أصحابه نختلف إليه، نتوانى في كل يوم في الغلس، فإذا فتح باب السجن دخلنا إليه، فأقمنا عنده أكثر نهارنا؛ فلما أن كان قبل قدوم المركب بيوم أو يومين وافيت في الغلس فأصبت أقريطون، وقد سبقني، فلما فتح الباب دخلنا معا فصرنا إليه؛ فقال له أقريطون إن المركب داخل غدا أو بعد غد، وقد أزف الأمر، وقد سعينا في أن ندفع عنك مالا إلى هؤلاء القوم، وتخرج خفيا فتصير إلى رومية فتقيم بها حيث لا سبيل لهم عليك.» (ط) رفضه الفرار «فقال سقراط: يا قريطون، قد تعلم أنه لا يبلغ ملكي أربعمائة درهم، وأيضا فإنه يمنع من هذا الفعل ما لا يجوز أن يخرج عنه. فقال له أقريطون: لم أقل هذا القول على أنك تغرم شيئا، وإنا لنعلم أنه ليس لك ولا في وسعك ما سأل القوم، ولكن أموالنا متسعة لك بذلك، وبمثله أضعافا كثيرة، وأنفسنا طيبة بأدائه لنجاتك، وألا نفجع بك. فقال: يا قريطون، هذا البلد الذي فعل بي فيه ما فعل هو بلدي وبلد جنسي، وقد نالني فيه من حبسي ما قد رأيت، وأوجب علي فيه القتل، ولم يوجب علي لشيء أستحقه، بل لمخالفتي الجور، وطعني على الأفعال الجائرة وأهلها، والحال التي وجب علي بها عندهم القتل هي معي حيث توجهت، وإني لا أدع نصرة الحق، والطعن على أهل الباطل والمبطلين، وأهل رومية أبعد مني رحما من أهل مدينتي؛ فهذا الأمر إذا كان باعثه نصرة الحق، فهي حيث توجهت واجبة علي؛ فغير مأمون هناك علي مثل ما أنا فيه، ثم لا يعطف واحد منهم على رحم يفديني بها. فقال له أقريطون: فتذكر ولدك وعيالك، وما تخاف عليهم من الضيعة، وارحمهم إن لم تشفق على نفسك. فقال: الذي يلحقهم من الضيعة برومية كذلك، ولكنهم ها هنا أحرى بألا يضيعوا معكم. خبرني يا أقريطون: لو أن الناموس مثل رجلا، فقال لي يا سقراط، أليس بي اجتمع أبواك وبي كان تأديبك، وبي تدبير حياتك؛ أكنت أقول لا، أم أقول الحق الذي هو الإقرار بذلك؟ فقال له: بل الحق. قال سقراط: أفرأيت إن قال لي أفي العدل أن يظلمك ظالم فتظلم آخر؛ أفكان يجوز لي أن أقول نعم؟ قال له أقريطون: لا يجوز ذلك. قال له سقراط: فإن قال أفخروجك من الصبر على ما حكم به الحاكم خروج عن الناموس ونقص له أم لا؛ أيجوز أن أقول ليس بنقص وخروج عن الناموس؟ فقال له أقريطون: لا يجوز ذلك. فقال له سقراط: فإذا لا يجب إن ظلمني هؤلاء القضاة أن أظلم الناموس.» (ي) اعتقاده في الأحلام
ودار بينهما في ذلك كلام كثير، فقال له أقريطون: إن كنت تريد أن تأمر بشيء فتقدم فيه؛ فإن الأمر قد أزف. فقال: يشبه أن يكون كذلك؛ لأني قد رأيت في منامي قبل أن تدخل علي ما يدل على ذلك. (ك) يوم إعدامه
فلما كان ذلك اليوم الذي عزموا فيه على قتله بكرنا كالعادة، فلما جاء قيم السجن فرآنا فتح الباب، وجاء القضاة الأحد عشر، فدخلوا ونحن مقيمون على الباب، فلبثوا مليا فخرجوا من عنده، وقد قطعوا حديده ، ثم جاءنا السجان، فقال: ادخلوا، فدخلنا وهو على سرير كان يكون عليه، فسلمنا وقعدنا، فلما استقر بنا المجلس نزل عن السرير، ونزل معنا أسفل منه، وكشف عن ساقيه فمسحهما وحكهما. (ل) أقواله قبل موته
ثم قال ما أعجب فعل السياسة الإلهية! كيف قرنت الأضداد بعضها ببعض؟! فإنه لا يكون لذة إلا وتبعها ألم، ولا ألم إلا وتبعته لذة؛ فإنه قد عرض لنا بعد الألم الذي كنا نجده من ثقل الحديد في موضعه لذة. وكان هذا القول سببا للقول في الأفعال النفسانية. ثم اطرد القول بينهم في النفس حتى أتى على جميع ما سئل عنه من أمرها بالقول المتقن المستقصي، ووافى ذلك منه على مثل الحال التي كان يعهد عليها في حال سروره من البهج والمزح في بعض المواضع، وكلنا نتعجب منه أشد التعجب من صرامة نفسه، وشدة استهانته بالنازلة التي قد نهكتنا له لفراقه، وبلغت منا، وشغلتنا كل الشغل، ولم يشغله عن تقصي الحق في موضعه، ولم يزل شيء من أخلاقه وأحوال نفسه التي كان عليها في زمن أمنه الموت، وقال له سيماس في بعض ما يقول له، وأمسك بعض الإمساك عن السؤال، إن التقصي في السؤال عليك مع هذه الحال لثقل علينا شديد، وسماجة فاحشة، وإن الإمساك عن التقصي في البحث لحسرة علينا غدا عظيمة لما نعدم في الأرض من وجود الفاتح لما نريد. فقال له: يا سيماس، لا تدعن التقصي لشيء أردته؛ فإن تقصيك لذلك هو الذي أسر به، وليس بين هذه الحال عندي وبين الحال الأخرى فرق في الحرص على تقصي الحق. (م) أقواله قبل موته
ثم قال: إنا وإن كنا نعدم أصحابا ورفقاء أشرافا محمودين فاضلين، فإنا أيضا إذ كنا معتقدين متيقنين بالأقاويل التي لم تزل تسمع منا، فإنا نصير إلى إخوان أخر فاضلين، أشراف محمودين، منهم أسلاؤس وأيارس وأرقيليس وجميع من سلف من ذوي الفضائل النفسانية. وعدد أقواما غير من ذكرنا. فلما تصرم القول في النفس، وبلغوا من سؤالهم الغرض الذي أرادوا سألوه عن هيئة العالم، وما عنده من الخبر في ذلك. (ن) رأيه في الأرض
فقال: أما ما اعتقدناه وبيناه فهو أن الأرض كرية، وأن الأفلاك محيطة بها، ومحيط بعضها ببعض، الأعظم بالذي يليه في العظم، وأن لها من الحركات ما قد جرت العادة بالقول به، وسمعتموه منا كثيرا، فأما ما وصف أناس آخرون فإنهم وصفوا شيئا كثيرا. ثم قص قصصا طويلة في ذلك مما ذكره الشعراء اليونانيون القائلون في الأشياء الإلهية كهوميروس وأرفاؤس وأسيدوس وأبيدقليس. (س) خطبة الموت
فلما فرغ من ذلك، قال: أما الآن فأظنه قد حضرت الساعة التي ينبغي أن نستحم فيها فلا نكلف النساء إحمام الموتى في صيوان الحكم؛ فإن الأرماماني - يعني السياسة - قد دعتنا، ونحن ماضون إلى زاوس.
وأما أنتم فتنصرفون إلى أهاليكم، ثم نهض ودخل بيتا يستحم فيه، فأطال اللبث فيه، ونحن نتذاكر ما نزل بنا من فقده، وإنا نعدم أبا شفيقا، ونبقى بعده كاليتامى، ثم خرج إلينا وقد استحم؛ فجلس ودعا بولده ونسائه، فأتي بهم، وكان له ابنان صغيران وابن كبير فودعهم، وأوصاهم بالذي أراد، وأمر بصرفهم. فقال له قريطون: ما الذي تأمرنا به أن نفعله في ولدك وأهلك وغير ذلك من أمرك؟ (ع) وصيته بنفسه
فقال: لست آمركم بشيء جديد، بل هو الذي لم أزل آمركم به من الاجتهاد في إصلاح أنفسكم؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك سررتموني، وسررتم كل من هو مني بسبيل. فقال له أقريطون: فما الذي تأمرنا به أن نعمل إذا مت؟ فضحك، ثم التفت إلى جماعتنا، فقال: إن قريطون لا يصدق بجميع ما سمع مني، ولا أن الذي يخطب ويخاطبه منذ اليوم هو سقراط، ولا يظن أن الذي يفعل ذلك به ليس إلا جسد سقراط، وأنا أظن الآن أنني سأفر منكم بعد ساعة، فإن وجدتني يا قريطون افعل بي ما تشاء.
جلاد فيلسوف
فأقبل خادم الأحد عشر قاضيا فوقف بين يدي سقراط، فقال له: يا سقراط إنك حري مع ما أرى وما عرفته منك قديما ألا تسخط علي عندما آمرك به من أخذ الدواء اللازم باضطرار؛ لأنك تعلم أني لست علة موتك، وأن علة موتك قضاء الأحد عشر، وأني مأمور بذلك، مضطر إليه، وأنك أفضل من جميع من صار إلى هذا الموضع، فاشرب الدواء بطيبة نفس، واصبر على الاضطرار اللازم؛ ثم ذرفت عيناه وانصرف عن الموضع الذي كان واقفا فيه بين يدي سقراط. فقال سقراط: تفعل ذلك. ثم التفت إلينا، فقال: ما أهيأ هذا الرجل! قد كان يدخل إلي كثيرا، فأراه فاضلا في مذهبه. ثم التفت إلى أقريطون، فقال له: مر الرجل أن يأتي بشربة موتي إن كان قد سحقها، وإن كان لم يسحقها فليجد سحقها، وليأت بها. فقال أقريطون: الشمس بعد على الجدار، وعليك من النهار بقية. فقال له سقراط: قل للرجل حتى يأتي بالشربة. فدعا أقريطون غلاما له فأفضى إليه بشيء، فخرج الغلام مسرعا، فلم يلبث أن دخل ومعه الرجل، وفي يده الشربة.
تجلده وصبره لدى الموت
فنظر إليه كما ينظر الثور الفحل إلى ما يهابه، ثم مد يده لتناولها منه، والتفت إليه، وقال له: يمكن أن تخفف من هذه الشربة شربة لإنسان آخر. فقال: إنما يدق منها ما يكفي الرجل الواحد. فقال له: أنت عالم بما ينبغي أن يعمل إذا شربت، فأمر بذلك. قال: ليس هو إلا أن تتردد بعد شربها، فإذا وجدت ثقلا في رجليك استلقيت. فشربها؛ فلما رأيناه قد شربها رهقنا من البكاء والأسف ما لم نملك معه أنفسنا، وعلت أصواتنا بالبكاء، فأقبل علينا يلومنا ويعظنا، ثم قال: إنما صرفنا النساء لئلا يكون مثل هذا، فأما الآن فقد كان منكم أعظم. فأما أنا فسترت وجهي، وكنت أبكي بكاء شديدا على نفسي؛ إذ عدمت صديقا مثله. ثم سكتنا استحياء منه، وأخذ في التردد هنيهة، ثم قال للرجل: قد ثقلت رجلاي. فأمره بالاستلقاء، وجعل يمس قدميه، ثم غمزها، فقال له: هل تحس غمزي؟ قال: لا. ثم غمزه غمزا شديدا، فقال له: هل تحس غمزي؟ قال: لا. ثم غمز ساقيه، وجعل يسأله ساعة بعد ساعة هل تحس؛ فيقول لا. ورأيناه يجمد أولا فأولا، ويشتد برده حتى انتهى إلى حقويه، ثم غمزه فلم يحس بذلك، فكشف عنه، وقال لنا: إذا انتهى هذا البرد إلى قلبه قضي عليه. ثم قال سقراط لقريطون: لسقلابيوس عندنا ديك، فأعطوه إياه، وعجلوه. فقال له قريطون: نفعل ذلك، وإن كنت تريد شيئا آخر فقل. فلم يجبه وشخص ببصره. فأطبق أقريطون عينيه وشد لحييه. (7) الفلاسفة السابقون لأفلاطون من تلاميذ سقراط ويسمون مجازا أنصاف سقراط
كان تعليم سقراط متينا ومركبا بحيث لا يمكن أن تتشعب عنه عدة تعاليم، ولم يهتم كل من تلاميذه إلا بما ينفعه بالذات؛ فاكتفى الميجاريك من أتباعه
Megarique
بالمنطق، واهتم السيرانيك
Cyrènaique
والسينيك
2
بالأخلاق، وقد أظهرا وحدة الحق والخير والعلم والفضيلة، ولكن لم يستبن هؤلاء الحكماء حاجة الأخلاق إلى المنطق، وحاجة المنطق إلى الأخلاق، ولكن أفلاطون وحده تمكن من فهم مجموع آراء الأستاذ؛ فأضاف إلى تعاليمه آراء الفلاسفة السابقين، وكون من التعاليم كلها تعليما جديدا محبوك الأطراف، وسع المبادئ المتناقضة. (7-1) أريستيب مؤسس مذهب برقة الفلسفي (سيرانيك)
ولد في سيرين عام 435، وعاش أمدا في بلاط دينيس عاتية سرقصة، وقد قابل بالبلاط أفلاطون، ولكن لم ينل أفلاطون رضى الملك لما كان عليه من الحرية وكرامة النفس مثلما نالها أريستيب بتذلله وخنوعه. ومبدأ أريستيب أن الإنسان لا يعلم إلا ما تشعر به الحواس، وأن ما يسبب شعورنا هو خارج عنا، كما أننا لا نعرف كنه ما يشعر به غيرنا من الناس، وأنه ليس هناك فكر، ولا حكم، ولا علم.
كان سقراط يرى أن الفضيلة شرط السعادة، وأن العلم شرط الفضيلة، وأن السعادة ليست بعيدة عنا؛ لأنها في السرور الحالي الوقتي؛ أي في حركة الشعور الحاضر، فلا نهتمن بالمستقبل؛ لأنه ليس لنا، وليس شيء أفضل من السرور، وليست الفضيلة إلا في التماس السرور. والحرية الحقيقية كائنة في تحرير الشخص من رغباته.
ومن تلاميذه أفيمير الذي قال بأن الأرباب ما كانوا سوى رجال ممتازين، وقد مجدهم الناس بعد موتهم. ومن تلاميذه هجسياس قال بأن اللذة غاية الحياة، ولكنها ليست تابعة لإرادتنا، ولكن الألم يحيط بنا، ويصيبنا بأشكال مختلفة؛ فأفضل الأشياء للإنسان أن يموت. وكان هجسياس هذا يعيش في الإسكندرية لعهد البطالسة، وقد سموه خطيب الردى. (7-2) مدرسة السينيك (مذهب المستخفين بزخرف الدنيا)
رئيسها أنتيستين ولد في أثينا عام 444ق.م.، أثرت فيه بساطة سقراط، وتواضعه، واستغناؤه عن سائر الأشياء الفائضة، وكان قبل أن يتلقى عن سقراط تلميذا لجورجياس، وكان منطقه سفسطائيا؛ فأنكر الفكر العام، وسائر الحقائق العلمية، ويقول بأن الفضيلة هي الخير الأعلى، وكل ما عداها لا شيء، وأنه لا ينبغي الفرار من العمل والألم، إنما ينبغي بالعكس أن يبحث عنهما، وكان هيرقل نموذج الفضيلة.
وكان أنتستين يلتقي بتلاميذه بمكان اسمه سينوسارج، ومن هذه الكلمة كان أول اسمهم (سينك)، وتنسب تلك التسمية أيضا إلى لفظ الكلب في اليونانية، وكان يقول إن أعقل الرجال هو أقلهم رغبات، وأقدرهم على احتقار الطيبات التي يحبها غيره، والحرية هي الخلاص من الشهوات، وإن من يملك الفضيلة لا يفقدها بعد ذلك، وإن الحكيم يكتفي بذاته؛ لأنه يملك كل شيء. وقد أدى هذا التفريط في العناية بالأشياء إلى تشويه مبدأ أتباع أنتستين، وصار علما على ديوجين الكلبي أعظم المستخفين بالدنيا. (7-3) مذهب الميجاريك
أما إيقليد دي ميجار فقد آوى تلاميذ سقراط وأتباعه بعد موته، واشتهر بالمنطق، وتعليمه الفلسفي مزيج من تعليم سقراط وبرمنيد، وقد تكلم عنه وفند آراءه أفلاطون في محاورته (السفسطائي)، وكان يقول: ليس في العالم إلا الخير، توحد في الجوهر، وتعدد في الأشكال (الأعراض)؛ فالواحد هو الخير، والعناية هي الخير، والله هو الخير، والعقل هو الخير، وما ليس خيرا فليس له وجود مطلقا، وهو ينكر التعدد والصيرورة، ويقول بأن العالم ليس فيه إلا ما نراه من الظواهر، وأن الآراء باطلة، وتعلمها لا يؤدي بالقائلين به أن يسيروا بعيدا.
أفلاطون - حياته - مؤلفاته - فلسفته
ولد أفلاطون بأثينا، وقال بعضهم بأجينا عام 428، وكان جده لأمه من أولاد صولون، وجده لأبيه من نسل كودروس آخر ملوك أثينا، وبدأ يتلقى العلم على سقراط عام 408.
وبعد أن مات أستاذه آواه إيقليدس بميجاره، ثم سافر بعد ذلك سفرة طويلة حملته إلى سيرين؛ حيث درس الرياضيات على تيودور المطماطيقي ، ثم قصد مصر فآسيا الصغرى، وسافر في الأربعين من عمره إلى إيطاليا، فتعرف إلى أتباع فيثاغورس، ثم ذهب إلى صقلية وسرقصة، وتقرب إلى ديون صهر دنيس العاتية، ولكن حرية فكره لم ترض دنيس فباعه عبدا رقيقا، وشراه صديق له ورده إلى أثينا، ففتح مدرسة للفلسفة في حدائق أكاديموس (أكاديمية). وبعد أن مات دنيس العتيق بقليل عاد أفلاطون إلى سرقصة طمعا بمودة دنيس الصغير؛ لأنه كان في وطنه وحيدا مرتابا في أمره بلا تأثير؛ لذا هاجر ظنا منه أنه يلقى بصقلية مجالا للعمل؛ لأنه كان يريد صنع الخير، وكان ذا ثقة بنفسه، وخيل له أنه سيعيد إلى سرقصة مجدها إذا حقق فيها مبادئه السياسية، وقد استقبله دنيس استقبالا حسنا، ثم ما لبث أن مل أفكار الإصلاح التي شرحها له أفلاطون، وبعد قليل نفي ديون صديق أفلاطون، واضطر أفلاطون للفرار. ثم سافر عام 361 مرة ثالثة إلى صقلية، وأراد أن يوفق بين ديون المنفي، ودنيس الصغير، ولكنه لم ينجح في مسعاه، وكان في خطر الموت لولا تداخل أرخيتاس دي تارنت أحد أتباع فيثاغورس، فعاد أفلاطون من سفرته، وقد انقشعت عنه غيوم الخيالات والآمال في البشر، فتفرغ إلى الحكمة، وذهب إلى الفلسفة بكليته، ومات عام 347. (1) محاورات أفلاطون
توجد باسم أفلاطون خمس وثلاثون محاورة، بعضها مشكوك في صدق نسبته إليه، والبعض ترجح نسبته، وبعض كتب ورسائل سابعها أحقها بالنسبة إليه، ويمكن ترتيب محاورات أفلاطون بحسب ترقيه الفكري؛ فقد كان في أول الأمر تحت تأثير سقراط، فاشتغل بمسائل الآداب، وكتب خلال تلك الفترة أتريفون ومينون، واحتجاج سقراط على أهل أثينا وكريتون وبروتاغوراس وجورجياس.
وفي الفترة الثانية بدأ يكون تعليمه، وكذلك أخذ يكتب محاورات نصيبها من النظريات الفكرية أكثر من نصيب الأولى، وهي تيتونس والسفسطي وفيلبوس وبارميد وكراتيل ومدبر المدينة.
وفي الفترة الثالثة تمكن من أفكاره تمام التمكن، وأخذ يكتب النوع الثالث من محاوراته، وهي التي جمعت بين دقة المنطق وجمال الشعر، وهي المائدة وفيدون وتيماوس والنواميس والجمهورية أو السياسة المدنية. (2) نظرية المعرفة - درجاتها الأربع - المنطق الصاعد - التذكر - المنطق الهابط - التقسيم
اشتغل أفلاطون قبل كل شيء بالعلم، وغاية العلم في نظره - أي الشيء المدرك - هو الوجود بعينه؛ أما المنطق وما وراء الطبيعة فلا يمكن فصلهما. والمعرفة هي العمل، ومن يعرف الخير يفعله، ولا توجد إلا فضيلة واحدة وهي الحكمة، ومنطق الأفعال لا ينفصل عن منطق الأفكار؛ فتعليم أفلاطون كله قائم على نظرية المعرفة.
قال هيراقليط إن الموجودات تسيل، وإن معنى الميلاد هو الموت؛ فمن المستحيل على العقل في تلك الحركة الدائمة أن يحيط بمعجزة أو ظاهرة من ظواهر الطبيعة؛ لأنه لا يوشك أن يحيط بها حتى تفر؛ قد يكون هذا حقا فيما يشمل ظواهر الحياة؛ أي الحياة الحسية، ولكن هل يصبح كل علم مستحيلا، وكل معرفة حلما؟ كلا، إن كل ما يمكن أن نوافق عليه السفسطائي هو القول بعدم العلم بالموجودات الحسية، ومن يتعلق بالحواس لا يمكن له إلا الحصول على ظن؛ أي عادة انتظار حدوث ظاهرة بعد أخرى. والظن يشمل نوعين من المعرفة: الإيمان، وهو يقع على المحسوسات الظاهرة؛ فتعرف به الأشجار والأحجار والحيوانات والأشخاص. الثاني هو التخمين، وهو يقع على صور الأشياء المحسوسة. والظن حكم غير مسبوق بالتأمل، والذي يعول عليه يكون علمه محدودا به، ولكنه لا يرى، ومثله كمثل المنجمين الذين يقولون بالغيب ولا يعلمون عما يقولون شيئا. وقد يفيد الظن من وجهة عملية، ولكنه غير موثوق به، وهو في تحول مستمر؛ لأن موضوعه هو ما يولد وما يهلك.
ولكن فوق العالم الحسي يوجد العالم الفكري، وفوق ما يمر يوجد ما يبقى، وفوق الظواهر الأصول الثابتة التي لا تتحول والحقائق الأزلية؛ فالعالم العقلي هو موضوع العلم الحقيقي، والعلم الحقيقي يشمل نوعين من المعرفة: الأولى قوة التعليل أو الفكر، وهي تبتدئ بمعنى وتنظر في سائر نتائجه، وغايتها الانتقال انتقالا منطقيا من معنى إلى معنى بدون اهتمام بقيمة المعنى الأول، وهذه القوة تعد وتحقق الذكاء الخالص أو البصيرة الذي هو فعل بسيط مباشر، والمشاهدة الفعلية تصل إلى المبادئ والقواعد، وتستعين بالفروض التي تقدمها قوة الفكر والفهم للوصول إلى المعاني الفعلية، وغايتها القاعدة العليا، والمبدأ الأول المستغنى بذاته غير المحتاج للفروض.
فتعليم أفلاطون يشمل أمرين هما غاية المعرفة: الأول العالم الحسي، والثاني العالم المعقول؛ الأول يدرك بالظن، والثاني يدرك بالعلم، وكل من الظن والعلم له نوعان من المعرفة.
وعمل الإنسان هو أن ينتقل من المنتقل إلى الثابت، ومن الظواهر إلى الكائنات، ومن الظن إلى العلم، وهذا مشكل يظهر أنه مستحيل الحل ما دمنا في عالم الحس، ولا نحيط فيما حولنا إلا بالظواهر، وكيف ونحن مساجين في الزمان نستطيع الارتفاع إلى الأزل؟
على أن طريقة أفلاطون في الوصول عن طريق المعلومات العادية من الظاهر إلى الكائن طريقة معقولة، وليست طريقة صوفية، ولكنها لا تتم لنا إلا بانتقال بطيء منطقي. وبين الظواهر والحقائق المعقولة عدة وسائط ترشدنا من الواحدة إلى الأخرى، ولكن بين المحسوسات والمعقولات هوة لا يمكن أن يملأها المنطق. وملاحظة الظواهر يمكن أن تعلمنا قوانين الظاهر، ولكن لا يمكنها أن تعطينا الوجود المعقول.
يقول أفلاطون إن المعنى غير مستنتج، إنما هو مشاهد، وعمليات المنطق الانتقالية لا عمل لها إلا إعداد الإدراك الذي يكشف لنا عن المعنى؛ ولكن كيف يمكننا، ونحن مغموسون في الظاهر، إدراك الحقائق الأزلية؟ قال سقراط من قبل إن العلم لا يأتي من الخارج، وإن الإنسان يجد حقيقة ذاته من ذاته وفي نفسه، وإن الأستاذ لا يستطيع إلا توليد الحقائق التي تحملها نفس تلميذه بواسطة الأسئلة الدقيقة. وأفلاطون يفسر الميوطيقي (التوليد) بالتذكر، فيقول: إن النفس عاشت قديما في السماء بقرب الأرباب متفرغة إلى التأمل في الأرواح؛ فالعالم العقلي هو بيئتها، ولكن في القوانين السائدة أن النفوس التي تغيب عنها الأرواح تفقد أجنحتها، وتسقط في جثة أرضية؛ فالحياة الأرضية هي سقطة، وانحطاط. وذكرى الوطن السماوي غامضة فينا، ولكنها غير ميتة؛ فعندما نرى في الأرض في نظام الطبيعة صورة النظام العقلي الذي سبق للنفس التأمل فيه تتبدد الظلمات، ونجد حالا في نفوسنا الأفكار التي كانت حية كامنة ولم تمت.
البصيرة أو الذكاء الخالص (المدرك) يعده الفكر المنتقل ، وهذا الفكر المنتقل يتبع قاعدة مطروحة كفرض (الواحد - المتعدد الوجود - العدم) إلى آخر نتائجه، وكذلك العقل المدرك يتبعه العقل المنتقل الذي يمعن النظر في المعنى لينيره، ويكشف عن علاقاتها بغيرها، وأسلوبه أن يضع أصلا يفترضه، ويستنتج منه نتائجها إلى آخرها، واكتشاف علاقات الأفكار ببعضها البعض أهم أعمال المتكلم. وبعد أن يعبر عن وحدة المعنى بالتعريف ينبغي بالتقسيم تبيين أجزائها؛ فحياة الفكر هي في الانتقال من وحدة المبدأ إلى تعدد النتائج، ومن وحدة النوع إلى تعدد الأجناس، وفي تبيين علاقات الأفكار ببعضها البعض؛ فالوحدة المطلقة التي قال بها بارمنيد هي السكوت والموت. والتعدد المطلق الذي قال به تلاميذ هيراقليط هو الفوضى والاضطراب، وفي الحالين يستحيل الفكر والقول، والحكم يقتضي الجمع بين الأنواع. لا ريب في أن المعنى لا يستطيع أن يصير مناقضا لذاته، ولكن هذا لا يقصد به أن صفتين؛ أي نوعين مختلفين متناقضين، لا يمكنهما أن يتحدا في موضوع واحد، بحيث يصير هذا الشيء الواحد في حين واحد متشابها وغير متشابه، واحدا ومتعددا، ولا مانع من أن جوهرا يكتسب من علاقته بالجواهر معنى أو صفات أخرى، ما دامت هذه الصفات الأخرى لا تلاشي الجوهر الذاتي؛ فإذا كان الإنسان إنسانا فما الذي يمنعه أن يكون في الوقت نفسه خيرا؟ إن اكتشاف العلاقات التي تربط المعاني، وتتبع المشاركة المتبادلة بين الجواهر هذا هو العلم بعينه. (3) الكلام وما وراء الطبيعة - المعاني - علاقتها ببعضها وبالعالم الحسي
المنطق وما وراء الطبيعة لا ينفك أحدهما عن الآخر، وأفلاطون يعتقد أن هذين العلمين غير متعددين، بل هما علم واحد؛ والأمر الحقيقي المعقول هو أنهما ممتزجان، والحركة المنطقية التي ترفعنا إلى المعاني تمكننا من إدراك الوجود الحقيقي. والفكرة في نظر أفلاطون ليست هي الفكرة العامة؛ وذلك لأنهما لا تتكونان بعمليات متشابهة، ولأجل التعميم ينبغي مقارنة عدة أفراد فيجرد كل من صفاته الشخصية، ثم يعبر عن صورتها العقلية بعبارة واحدة؛ فالتعميم هو فكرة انتقالية، والفكرة في نظر أفلاطون تعطى لنا بإدراك مباشر تعده العمليات المنطقية، ولا يمكن لها أن تحل محله. وفي المحل الثاني الفكرة العامة تعبر عن وسط، فلا تستطيع أن تتجاوز الحقيقة؛ لأنها مستنبطة منها، وأضيق منها؛ أما الصفة المميزة للفكرة في نظر أفلاطون فهي الكمال والنقاء المطلق بدون اختلاط، بخلاف الأشخاص المتعددة المتغيرة؛ فإن الصفات فيها لا تكون صافية وكاملة، والمساواة الحقيقية هي التي لا تقبل غير المساواة، والوحدة الحقيقية لا تقبل التعدد، والتعميم يقودنا من تجربة إلى تجربة إلى معنى الكائن غير المحدد، وهو أفقر وأفرغ المعاني. والأمر على عكس ذلك فيما يتعلق بالكلام؛ فإنه يصل بنا إلى أصدق أنواع الحقيقة، وإلى الكائن الذي هو مبدأ سائر الوجود، وإلى الخير الأعلى الذي يشمل في ثروته سائر أنواع الكمالات. ثم إن الفكرة العامة هي إدراك أي فعل من أفعال العقل لا وجود له خارج العقل. أما أفلاطون فيقول: إن المعنى موجود حقيقي، موجود في ذاته لا في شيء لا يكون هو إلا صفة له، ووجود المعنى على هذه الصورة هو وجود أزلي لا يتحول؛ فالظواهر تمضي وهو باق، ويوجد على الدوام شيء يجعل في حيز الممكنات وجود الإنسان الذي يولد ويموت، وهذه الحقيقة التي يمكن فهمها، والتي كمالها سبب سائر الكمالات التي يظهرها الإنسان، هي فكرة الإنسان، بل هي الإنسانية بذاتها.
إن الأفكار تكون جملة أو تعددا، ولكن الوحدة هي قانون العقل الذي لا يقف إلا عند المعقول الأعلى؛ أي فكرة الفكر، وعند المبدأ الذي يجمع بين سائر الكمالات.
يقول أفلاطون: إن سائر الكائنات المعقولة تستمد من الخير وجودها وجوهرها، وفي أواخر حدود العالم المعقول توجد فكرة الخير التي تدرك بصعوبة، ولكن متى أدركت يستنتج مدركها أنها سبب كل جميل، وكل خير؛ فإذا كانت فكرة الخير هي علة سائر الأشياء الجميلة الخيرة، فهي إذا المبدأ الذي يضم سائر الفكر وأنواع الكمالات.
فلفظ الكلام هو قاعدة أو مبدأ الوجود، والمعنى هو الخير، هو هذا الشيء المستغني الذي لا يفرض شيئا آخر، بل هو الله.
وإن إله أفلاطون وإن كان فكرة فإنه في عرفه حي وحقيقي؛ يقول أفلاطون : هل يمكن أن يقنعونا بسهولة بأن الحركة والحياة والنفس والمعنى لا تلائم الوجود المطلق، وأن الكائن لا يعيش، ولا يفكر، وأنه باق بلا حركة، وبلا نصيب في الذكاء العظيم المقدس.
ويعطي أفلاطون دليلا على وجود الإله، وهو دليل المحرك الأول؛ أي بالعلة الفعالة، فيقول: كيف يظن أن ما يحركه الغير يكون هو مبدأ التحول والحركة؟ والله هو مبدأ الحركة في العالم، ولكن الذي يثبت وجود الخير الأعلى هو وجود الخير في الطبيعة وجودا ظاهرا. والدليل الثاني هو بواسطة العلل النهائية إذا كان من الحقيقي أن الحركات والثورات في السماء وفي سائر الأجرام السماوية تشبه حركة الذكاء، وتشبه عملياته وتعليلاته، فينبغي أن نستنتج أن روحا مملوءا بالخير يحكم هذا الكون، وأنه يقوده كما يريد.
ولكن لماذا خلق الله العلم؟ الجواب أن الله خير، والخير لا يبخل بخير ما؛ لذا خلق العالم على أحسن حال؛ ولذا جعله على شكله، وهذا الإله الخالق هو في الوقت نفسه عناية. ثم يقول أفلاطون بمبادئ المستبشرين، وينكر الشر المطلق، والعالم هو أفضل العوالم الممكنة الخلق، ويكفي أن نرد ما يبدو لنا كأنه بغير نظام في مكانه لنفهم سببه وعلته، والذي يعتني بالأشياء كلها قد وضعها بحيث تؤدي إلى خير المجموع وحفظه، وكل جزء لا يلقى ولا يفعل إلا ما يلائمه؛ فأنت أيها الزائل الضئيل مهما كان صغرك فإنك - لا شك - داخل ضمن النظام العام، وتضيف إليه بدون انقطاع؛ فإذا ضجرت فهذا من جهلك أن الخير الخاص بك لا يعود عليك وعلى المجموع حسبما تقتضيه قوانين الوجود العام. (4) الأخلاق السياسية
إن النظريات وتطبيقها مرتبطة ببعضها ارتباطا تاما في نظر أفلاطون؛ فإنكار الحقيقة هو إنكار الخير، فإذا لم يكن سوى الظواهر والخوارق فليس هناك إذا إلا شعور حسي، فيكون السرور نهاية الإنسان. وقد واصل أفلاطون تفنيد آراء السفسطائيين الذي بدأ به سقراط، وهو يمهد السبيل لتعليمه في الأخلاق والمعرفة والوجود بنقض الأغلاط التي شوشت العقل، وكان تراسيماك وكاليكليس من تلاميذ السفسطائيين يقولون بأنه لا توجد قوانين طبيعية، وإنما توجد نظامات اجتماعية، وأن الرجل الماهر القوي يمكنه أن يتحرر من سائر القيود، وينطلق في طريق شهواته؛ فحاربهم أفلاطون، وقال بوجود قانون للأخلاق غير معتمد على رغبات المقننين، ويمكن للعقل أن يكتشفه بالتعمق، وينبغي أن تتجه أنظارنا نحو فكرة الخير، وأن نوفق بين الخير وبين أعمالنا؛ لأن فكرة الخير هي الله ذاته، وفضيلة الإنسان هي في كونه يشبه الله، ومشابهة الله تكون بإدخال الانسجام في سائر عناصر الطبيعة الإنسانية، وبهذا يحدث تقليد النظام المعقول الذي يكشفه لنا علم الكلام؛ فينبغي إذا أن نعرف الإنسان لنعرف كيف ينبغي أن يكون.
النفس مكونة من ثلاثة أجزاء؛ الشهوة، وهي تشمل سائر الرغبات، وسائر الانفعالات الدنيئة، ثم شهوة الغضب التي تؤدي إلى الشجاعة، وهي قاعدة بين الحس والفكر، ثم العقل. ولكل جزء من النفس جزء في الجسم يقابله؛ فالشهوة مكانها في أسفل البطن، والشجاعة في الصدر، والعقل في الرأس. ويشبه أفلاطون النفس بعجلة يسحبها جوادان؛ الواحد أسود جموح مستعد على الدوام للثورة، والثاني أبيض كريم يهدي رفيقه إذا حسنت قيادته، ولكنه يجمح معه إذا لم تحسن قيادته يد قوية يقظة؛ فالجواد الأسود العاصي هو الشهوة، والأبيض الكريم هو الشجاعة، والقائد هو العقل، فينبغي للعقل أن ينتفع بالشجاعة، ويستعين بها على الشهوة. يقول أفلاطون: إن لكل جزء من النفس فضيلة تقابله؛ فالفضيلة المقابلة للشهوة هي الاعتدال، ووظيفتها هي رد الشهوات إلى حد الاعتدال، والفرار من الإفراط، وتجهيز النفس بفصلها من الجسم لفهم الحق. وفضيلة شهوة الغضب هي الشجاعة، ووظيفتها التمييز بين ما يخشى وما لا يخشى، وهي تولد عند تحويل شهوتها، وهي خادمة العقل ضد الانفعالات التي تقلق الذكاء. والاعتدال والشجاعة هما شرطا الحكمة، والحكمة هي فضيلة العقل، ولأجل الارتفاع لدرجة الحقيقة ينبغي الخلاص من أوهام احترام الذات، ومن العواطف غير المنظمة التي يولدها فساد الجسم. والعدل هو الفضيلة التي تولد من امتلاك الفضائل الأخرى؛ فهو الانسجام الداخلي واتفاق النفس وذاتها؛ أي عندما يقوم كل جزء من النفس بوظيفته؛ فتطيع الشهوات الشجاعة، وتطيع الشجاعة العقل ، حينئذ يولد العدل.
وكثيرا ما يدخلون إلى فكرة الفضيلة عنصرين آخرين هما: الحرية والعادة؛ فالحرية تبتكر الفضيلة؛ أي تبدأ بممارستها، والعادة تمكننا من الفضيلة. وأفلاطون يحتقر الفضيلة التي لا ترتكز إلا على العادة؛ لأنها غير محققة كالظن، وهي توافق النمل أو النحل، ولا تلائم الإنسان. والفضيلة غير تابعة لحريتنا، إنما هي علم، ومن يعرف الخير يفعله؛ فكون الإنسان فاضلا يرجع إلى امتلاك علم الخير. ويعترف أفلاطون بأنه يمكن للإنسان أن يكون رأيا دقيقا عما ينبغي فعله، ومع ذلك لا يفعله؛ ولذا يوجد الخلاف بين النظرية والعمل، وإذا فسد العمل فلا بد من كون النظرية فاسدة. وكل من يفهم الخير حق الفهم فهو لا شك خير. إن أشقى الناس حظا، وأجدرهم بالإشفاق هو الظالم الذي يتمتع بدون عقاب بثمار جرائمه. المريض لا يرفض الألم الذي يشفيه، بل يلتمسه، ويطلب النار والحديد، والظلم أشد الآلام، ولا يشفي النفس منه إلا العقاب؛ فلا ينبغي للظالم أن يستر داءه، كل ينبغي له أن يقدم نفسه للقاضي كما يقدم المريض ذاته للطبيب. إن التكفير عن السيئات باحتمال العقاب هو أفضل الأشياء بعد براءة الذيل؛ أي إن أفضل الناس بعد البريء يكون الجاني الذي احتمل العقاب.
وهذا يدل على اعتقاد أفلاطون بحياة مستقبلة، وقد ذكر في فيدون سائر الأدلة التي استعملها من جاءوا بعده في إثبات خلود النفس؛ فقال: إن الموت هو انحلال العناصر المكونة للبدن، وإن النفس لا تنحل؛ لأنها نقية بسيطة، ولو قالوا إن النفس ليست سوى انسجام البدن، يقول: إننا ما رأينا الانسجام يجاهد ضد الأداة التي أخرجته، على أننا كثيرا ما رأينا النفس تجاهد ضد البدن لتخلص من كثير من شهواته.
ثم إن غاية العقل البشري هي المعقولات والخالدات؛ فلها إذا ميل، وارتباط بالله. والنفس تشبه ما هو مقدس وخالد ومعقول وبسيط ومتحد بذاته؛ فإذا كانت هكذا وطبيعتها كما ذكرت، فإذا خرجت من البدن بدون أن تسحب معها منه شيئا تحولت نحو ما لا علاقة له بالمادة مثلها، فإذا بلغت هذه الغاية ملكت السعادة الحقيقية. وأخيرا ينبغي مكافأة الأخيار، ومعاقبة الأشرار. ولا يمكن فصل الأخلاق عن السياسة؛ فواجب الحكومة تكوين وطنيين فضلاء؛ إن الحكومة لم توجد لأجل الفرد، والفرد ليس إلا عنصرا من عناصر الحكومة، فينبغي أن يخضع لها. وفي المدينة كما في الكون يسود قانون واحد، وهو بذل الفرد في سبيل المجموع، والجمهورية الكمالية هي شخص شركي، ووحدة حية، أعضاؤها الأفراد. ويوجد للحكومة نظام أخلاقي، وحال نفسية كما للأفراد، ولا يخالفانهما. وكما أن للنفس ثلاثة أجزاء كذلك في المدينة ثلاثة أصناف من الناس؛ الأول صنف العمال الذين يشتغلون ليشبعوا الشهوات، ثم فريق المحاربين، وعملهم حماية المدينة من الخارج والداخل، ثم فريق الحكماء، وهم أصحاب حق الحكومة. وهذه الأصناف تشبه الشهوات والإرادة والعقل، ولكل صنف من أهل البلد فضيلة؛ فللعمال فضيلة الاعتدال التي تبقيهم في حالهم، فلا يحاولون الخروج منها، وللمحاربين فضيلة الشجاعة، وللقضاة فضيلة الحكمة، وإذا أطاع كل فريق الفريق الذي هو أعلى منه، والمعترف له بالسيادة ينتج الانسجام، والانسجام يخرج فضيلة العدل. ولأجل أن يأتي أفلاطون على عواطف حب الذات ليجعل المدينة كائنا واحدا ضحى أفلاطون بكل ما يقوي في الفرد عاطفة الفردية، ويعطيه حياة مستقلة داخل حياة الحكومة.
وأراضي الجمهورية ملك مشاع لسائر السكان، وليس هناك حق الملك ولا الأسرة، والأملاك والنساء شائعة؛ والأطفال هم أبناء المدينة، وينشئون معا، وحيث أن لا أسرة تصير الجمهورية أسرة كبرى، ولكل وطني حق الأبوة على سائر الأطفال عندما يبلغون سنا معلوما؛ هذا ما شرحه أفلاطون في جمهوريته، ولكنه في القوانين خفف وطأة تلك الآراء، ورضي بعدم إشاعة النساء والملك، وقبل وضع قوانين مكتوبة، ولكن الحكومة تحتفظ بسائر قواها، ولها حق ضمان طاعة القوانين الأدبية، وسيادة الفضيلة، واستعمال القوة في ذلك إن فشلت في استعمال الترغيب باللين؛ وليس للفرد حق سوى القيام بواجباته، واستعمال فضيلته في تقوية المدينة التي هو أحد عناصرها، وأداة من أدوات وجودها، وقد ينشأ عن خلط الآداب بالسياسة نوع من الظلم الفلسفي، وهو استبداد يبذل الخير الحقيقي الحر في سبيل خير ظاهر. •••
ويرى مما تقدم أن أفلاطون كان شريف النسب من وجهتين؛ فكان حفيد ملك ومشترع، ولولا بغضه للديموقراطية ولولا التقاؤه بسقراط لكان من رجال السياسة أمثال بيركليس. وإن عنده تنتهي الحكمة المحكية، وتبدأ الحكمة المكتوبة؛ فإنه رأى شيخه سقراط يستهين بالكتب، ولكنه لم يستهن بها، ودون خمسا وثلاثين محاورة ضمنها خلاصة آرائه، وآراء شيخه، وله الفضل الأعظم في تعليم أرسطو وتهذيبه، وإرشاد خطواته الأولى في الفلسفة، وقد تعاشرا عشرين عاما على ما كان بينهما من التباين العظيم في الفكر والخطط، ولكن أدب الحكمة وكرامة النسب كفتهما الشقاق، وعندنا أن فلسفة أفلاطون المدنية والأدبية مستمدة مما استفاده من مصر؛ فقد رأى فيها نظاما ثابتا منذ عشرة آلاف سنة بفضل تقسيم الأمة إلى طبقات معينة، واستئثار الطبقات العالية بالملك، وتذليل الطبقات النازلة للخدمة والصناعات؛ كذلك ساح في إيطاليا، وتأثر بآراء أتباع فيثاغورس وبارمنيد وإمبيدوكل، ولكنه لم يخضع لأحد منهم؛ لأن أثر سقراط كان في نفسه أقوى، ولما ألقى عصى التسيار، وعاد إلى وطنه، وشرع في التعليم أخذ يطبق الهندسة على السياسة، وفي هذا أثر من فيثاغورس. وكان أفلاطون أول الفلاسفة النفعيين، وقال بأن اللذة والألم هما اللذان يحركان الإنسان في كل سبيل، وهو موجد التصوف في أوروبا بكتاباته، وكان يعتقد أن حب الفلسفة كحب النساء قوة، وقال بالبعث بعد الموت والثواب والعقاب؛ ولا شك عندنا في أن هذه الآراء استأذنت عليه من سياحته في مصر. أما نظامه المدني في الجمهورية فمستمد من حياة مصر وأسبرطة، ومن آراء أناكساجور، وله كلمة عالية وهي قوله: لن تصلح الدنيا حتى تصير ملوكها فلاسفة أو فلاسفتها ملوكا، وقد تحققت رغبته فصار إسكندر تلميذ تلميذه ملكا فيلسوفا، ولكن الدنيا لم تصلح. وجاء بعده الرواقي ماركوس أوريليوس الروماني، ولكن الدنيا لم تصلح، وجاء المأمون العباسي، ولكن الدنيا لم تصلح! لأتباع أفلاطون الحق أن يردوا علينا بأن هؤلاء ملوك صاروا فلاسفة، ولم يصلحوا ولا يظهر فساد رأي أفلاطون إلا إذا رأينا فلاسفة تولوا الملك، ولم يصلحوا، وهيهات أن يتحقق هذا الحلم!
وكان ينتقد نظام الحكومة في أثينا، ويطعن في الديموقراطية، ويأمر بعقاب الملحدين، ويأمر بالاعتقاد بوجود الله، وكان قليل الثقة بالكتب، وفي أواخر أيامه عدل نظريته في المثل الأعلى تحت تأثير تلميذه أرسطو، ولو أن أفلاطون استطاع عقاب الملحدين بقانون نظامي لكان أول ضحايا هذا القانون تلميذه الأعظم أرسطوطاليس. (5) ما كتبه العرب عن أفلاطون
هو ابن أرسطون أحد أساطين الحكمة الخمسة من يونان، كبير القدر فيهم، مقبول القول، بليغ في مقاصده، أخذ عن فيثاغورس
1
اليوناني، وشارك سقراط في الأخذ عنه، ولم يشتهر ذكره بين علماء يونان إلا بعد موت سقراط. وكان أفلاطون شريف النسب في بيوت يونان، من بيت علم، واحتوى على جميع فنون الطبيعة، وصنف كتبا كثيرة مشهورة في فنون الحكمة، وذهب فيها إلى الرمز والإغلاق، واشتهر جماعة من تلاميذه المتخرجين عليه، وسادوا بانتسابهم إليه، وكان يعلم الطالبين الفلسفة وهو ماش، وسمى الناس فرقته المشائين،
2
وفوض في آخر عمره المفاوضة والتعليم والتدريس إلى أرشد أصحابه،
3
وانقطع إلى العبادة
4
والاعتزال، وعاش ثمانين سنة. وكان أفلاطون من قديم يميل إلى الشعر، وأخذ منه بحظ متوفر، ثم حضر مجلس سقراط فرآه يذم الشعر وأهله، ويقول: هي خيالات تشعر بالخلائق لا على الحقيقة، وطلب الحقائق أولى؛ فتركه عند ذلك أفلاطون. ثم انتقل إلى قول فيثاغورس في الأشياء المعقولة، ويقال إنه عاش إحدى وثمانين سنة، وعنه أخذ أرسطوطاليس وخلفه بعد موته؛ وقال إسحاق إنه أخذ عن سقراط، وتوفي أفلاطون في السنة التي ولد فيها الإسكندر
5
وهي السنة الثالثة عشرة من ملك الأوخس، وكان ملك مقدونيا في ذلك الوقت فليبوس وهو أبو الإسكندر.
وقد ذكر ثاؤن ما صنفه أفلاطون من الكتب ورتبه، وهو كتاب السياسة فسره حنين بن إسحاق في كتاب النواميس، نقله حنين، ويحيى بن عدي، وكان يسمي كتبا بأسماء الرجال الطالبين لها، وهي في فنون متعددة؛ منها كتاب الجنس في الفلسفة، كتاب لاخس في الشجاعة، كتاب أرسطوطاليس في الفلسفة، كتاب خرميذس في العفة، كتابان سماهما الفيناذس في الجميل، كتاب أوتوذيمي في الحكمة، كتابان سماهما أقناه، كتاب جورجياس، كتاب أوتوفرن، كتاب أسين، كتاب فاذن، كتاب قريطن، كتاب ثالطلطس، كتاب قيلوطوفن، كتاب قراطولس، كتاب سوفسطن، كتاب طيماؤس (أصلحه يحيى بن عدي)، كتاب قرمانيذس، كتاب فدرس، كتاب مينس، كتاب أبرخيس، كتاب مانكسانس، كتاب أطليفرس، كتاب طبماؤس (ثلاث مقالات)، كتاب المناسبات، كتاب التوحيد، كتاب في العقل والنفس والجوهر والعرض، كتاب الحس واللذة، كتاب مسطسطس، كتاب تأديب الأحداث، كتاب أصول الهندسة، وله رسائل موجودة. وقال ثاؤن: أفلاطون يرتب كتبه في القراءة، وهو أن يجعل كل مرتبة أربعة كتب؛ يسمى ذلك رابوعا،
6
وعرف أفلاطون وشهر في زمن أرطخشاست من ملوك الفرس، وهو المعروف بالطويل اليد، وهو يشتاسف الملك الذي خرج إليه زرادشت، والله أعلم.
وقال ثاؤن: إن أفلاطون بن أرسطون بن أرسطوقليس من أهل أثينا، وكانت أمه فاريقطيوني ابنة غلوقون، وكان من كلا الوالدين شريف الآباء، وأمه هذه المذكورة من نسل سولن الذي وضع نواميس لأهل أثينا، ورد عليهم مدينة سلمينا التي انتزعها منهم أهل ماغارا، وكان لسولون أخ يقال له ذرونيذس يذكره أفلاطون كثيرا في شعره، وكان لذرونيذس ابن يقال له أقريطس، وقد ذكره أفلاطون في كتاب طيماؤس، وابن قريطس فلسخروس، وابن فلسخروس غلوقن، وابن غلوقن خرميذس، وأخت خرميذس
7
فاريقطيوني، وتسمى أيضا يقطوني، وأفلاطون ابنها، فأفلاطون سادس من سولن، وأما جنس أبيه أرسطون فإنه ينتهي في النسب إلى قودرس بن مالتوس المنتسب إلى فيسذون، وكان مالنتوس جده شجاعا مقداما ذا رأي وخديعة، ولما حارب أهل بواطيا أهل أثينا لفساد جرى بينهم، ودامت الحرب فيما بينهم، وقتل المقاتلة فيما بين الفريقين مل كل واحد منهم ما هو فيه، وكان المستولي يومئذ على ملك بواطيا أقسانتس، وعلى أثينا أوموطي؛ فطلب أقسانتس مبارزة أوموطي فذل ولم يبارزه، وجبن عن ذلك، فخرج مالنتوس جد أفلاطون من أثينا، وقال أنا أبارزه على شرط إن غلبته ملكت، فرضي أوموطي بذلك؛ فخرج أقسانتس ملك بواطيا وبارزه مالنتوس جد أفلاطون، فلما تقاربا قال له مالنتوس: انطلق، ثم عد إلي فلما حول أقسانتس وجهه ضربه مالنتوس من خلفه خدعة فقتله؛ ومن ذلك الوقت عمل ذلك اليوم عيدا عند أهل أثينا، وسمي عيد الخدعة، وكان يسمى في ذلك الوقت باليونانية أباطينوريا، والآن يسمى أباطوريا، وكان هذا الأمر سبب هذا العيد، وابنه قودرس سلم نفسه إلى العدو ليخلص أهل مدينته، ورضي بأن يلبس لباسا رثا، وأن يموت دونهم.
8
ويونان يبالغون في أفلاطون، ويعظمونه، ويقولون كان مولده إلهيا، وكان طالعه طالعا جليلا، ويحكون في ذلك حكايات هي بالأسمار أشبه، فأضربت عن ذكرها؛ وقالوا إنه لما عزم على ترك الشعر الذي يعانيه ويبالغ في تعلمه، عندما سمع عن سقراط ما سمعه في أمره، عزم على المضي إلى سقراط والأخذ عنه فلسفة فيثاغورس، وقد كان شاركه فيها على فيثاغورس إلا أنه لم يبالغ فيها لاشتغاله بالشعر، وإن سقراط رأى في المنام كأن رخا كركيا قاعد على حجره، وأنه زغب وطلع ريشه للوقت، فطار نحو السماء وهو يصوت بصوت إلهي مطرب جميع الناس، فلما جاءه أفلاطون للتعلم تأوله ذلك الطائر، وأن صوته وكلامه سيشغل الناس بهما عن غيرهما، وقد قيل إنه في أول أمره اشتغل بالشعر إلى أن بلغ فيه الغاية، وصنف وسمع كلام فيثاغورس، وهو ابن دون العشرين سنة، ووضع كتبا في الألحان، ثم بعد ذلك أراد الفلسفة فمشى إلى أصحاب أراقليطوس، وكانت لهم طريقة في الفلسفة، وهي اليوم مجهولة، فسمع منهم، وتحقق أن طريقتهم في الحكمة يتعين عليها الرد، وأراد أن يجاهد نفسه في طلب الفلسفة الحقيقية فقصد سقراط؛
9
لأن فيثاغورس كان قد مات، وتصدر بعده سقراط؛ فصادف سقراط وهو يخطب الجماعة المجتمعة إليه، وكان قد جمعهم إليه ذيونوسيوس، فلما سمع كلامه حرص كل الحرص على طلب الحكمة الفيثاغورية، وترك ما كان عليه، وأحرق كتب الشعر والأحاديث، وأنشأ يقول:
يا أيها النار ادني من أفلاطون
فإن به الآن إليك حاجة ما
وهذه طريقة الشعر اليوناني، وكان عمره إذ ذاك عشرين سنة، وسمع من سقراط بعد ذلك ، ولازمه مدة خمسين سنة حتى بلغ في الأمور العقلية إلى منزلة فيثاغورس ، وفي سياسة المدينة الفاضلة إلى مرتبة سقراط، وشهد له بذلك أهل العلم في زمانه.
وكان لرغبته في العلم شديد الطلب له، كثير الحث والبحث في تحصيل الكتب بما يمكنه، حتى إنه أمر ديون أن يبتاع له من فيلولاؤس ثلاثة كتب مخزونة عنده من كتب فيثاغورس فابتاعها له بمائة دينار؛ ولشدة طلبه في العلم وحرصه على جمع الكتب سافر إلى صقلية ثلاث دفعات ليحصل منها الكتب، ويطلع على أسرار حكمة الأمور الإلهية؛ فأول دفعة سافر فيها إليها كان لعزمه أن يرى النار التي تخرج هناك من الأرض دائما، تخف في الصيف، وتزيد في الشتاء،
10
وكان المستولي على صقلية في ذلك الوقت رجل يوناني قد تغلب عليها اسمه ذيونوسيوس، وكان جبارا قد ملك البلاد باليد لا بالأصالة، ولما سمع بقدوم أفلاطون أمر بإحصاره، فلما حضر إليه صادف عنده سقراط،
11
وقد جمع له علماء الجزيرة، وهو يخطبهم على ما تقدم ذكره وشرحه، ولما حضر أفلاطون المجلس طلب منه جبار صقلية هذا المذكور أن يتكلم بشيء من خطبه وشعره، فخطب خطبا كثيرة بحضرته، وكان فصيحا عذب الألفاظ، محكما لما يورده في طريقته التي هو عليها، وقال في بعض خطبه إن أجود السير وأفضلها التي تكون على الناموس والسنن؛ وظن الجبار ذيونوسيوس أنه قصده بهذا القول لأجل تغلبه بغير استحقاق لما وليه، فأسرها في نفسه، ولم يبدها، وكان هذا الجبار يعاني الشعر وشيئا من الحكمة غير المحققة، وله تلاميذ في ذلك وأصحاب، وإذا سمع بعالم تحيل في إحضاره ومناظرته وإقامة الحجة على صحة قصده الذي هو عليه، واتفق أن قال لأفلاطون: هل ترى في أصحابي سعيدا؟ وظن أن أفلاطون سيقول بحضور الجمع إنك سعيد، فيحصل له بهذا القول مرتبة توجب له الاستحقاق لما تغلب عليه؛ فقال له أفلاطون غير محاش له: ليس في أصحابك سعيد. فسأله بعد ذلك وقال: فهل ترى أنه كان من القدماء سعيد؟ فقال: كان فيهم سعداء غير مشهورين، وأشقياء اشتهروا، وعناه بذلك، فأسرها الجبار، ولم يبدها له. ثم قال له الجبار : فأراك على هذا القول لا ترى أن أرقليس من أهل السعادة أيضا - وأرقليس هذا كان شاعرا من شعراء يونان، وكان قد عمل أشعارا، وذكر فيها هذا الجبار، ووصفه ولحن تلك الأشعار، وجعلها في هياكل جزيرة صقلية يذكر بها في كل وقت، وكان هذا الجبار يعظم الشعر والشعراء؛ لأجل ذلك يثبت لمدحه أصلا؛ فقال له أفلاطون مجيبا عن سؤاله: إن كنا نرى أن أرقليس كان كالذي ينبغي أن يكون، من كان من نسل أذيا؛ يعني المشتري، فباضطرار ينبغي أن تظن به أنه سعيد، وأما كان كما وصفتموه، أنتم معاشر الشعراء، وكانت سيرته على ما تذكرون، فإنه عندي من الأشقياء، وذوي رداءة البخت. فلما سمع ذيونوسيوس الجبار من هذا القول لم يحتمل جرأته، وأمر به فدفع إلى بوليذس الذي كان من أهل الأقاذامونيا، وكان قد وفد على هذا الجبار ليهادنه على بلاده، وأمر الجبار بقتل أفلاطون فأخذه بوليذ، وذهب به إلى أغنيا مدينته، وأبقى عليه ولم يقتله، وباعه من رجل من أهل النهروان اسمه أنتاقرس، وكان هذا الرجل يحب أفلاطون، ويتشبه بأخلاقه وإن لم يره قبل ذلك، وإنما كان يسمع ما ينقل إليه من أخباره، وكان الثمن الذي ابتاعه به ثلاثين منا فضة.
وكان لذيونوسيوس الجبار نسيب اسمه
12
ذيون قد حضر مجالس أفلاطون بصقلية، وسمع كلامه ومال إليه كل ميل، ولما سمع ما جرى على أفلاطون عز عليه، ولم يمكنه مجاهرة الجبار، فسير في السر ثمن أفلاطون، وهو ثلاثون منا إلى النهرواني مبتاعه وسأله بيعه منه، فلم يفعل النهروانى ذلك، وقال هذا حكيم مطلق لنفسه، وإنما وزنت المال لأنقذه من أسره، وسيصير إلى بلاده في سلامة وخير، فلما سمع ذيون نسيب الجبار هذا القول استرجع الثمن، وسيره إلى أقذاميا، واشترى به بساتين هناك، ووهبها لأفلاطون، فمنها كانت معيشته مدة حياته، ولما تحقق ذيونوسيوس خلاص أفلاطون وسلامته ندم على فعله، وتحيل في استصلاحه، وكتب إليه يستميله وتعذر إليه من فعله، ويسأله ألا يذكره بشر في خطبه وأشعاره، فأجابه أفلاطون بأن قال: ليس عندي هذا الفراغ، ولا يمكنني أن أتفرغ له، ولا أجد زمانا خاليا أذكر فيه ذيونوسيوس.
وسار
13
أفلاطون إلى صقلية مرة ثانية ليأخذ من الجبار المقدم ذكره كتابا في النواميس كان وعده به، ولم يعطه إياه. وكان أفلاطون قد عزم على تصنيف كتاب في السير، وهذا الكتاب من موداه، فلما وصل إلى صقلية وجد ذيونوسيوس الجبار مضطرب الأمر، قد فسدت عليه البلاد والرجال، وهو في شغل عما قصده بسببه فتركه وعاد.
ثم سار إلى صقلية دفعة ثالثة، وسببه أن ذيون نسيب الجبار قام عليه، وتغلب على أكثر البلاد، وكاد أن يستولي، وعلم أفلاطون بذلك فسار مصلحا بين الجبار ذيونوسيوس ونسيبه ذيون؛ لعلمه بمحبة ذيون له، وقبوله من قوله. وكان أفلاطون يرى أن إصلاح المدن من الفساد الداخل عليها من المتكلمين لازم له من طريق الحكمة والسياسة المدنية، ويريد بذلك إيصال الراحة إلى الرعية، فلما وصل إلى صقلية أصلح بين الرجلين، ونزل كل واحد منهما منزلته، ووعظهما فاتعظا، وعاد إلى بلاده. وقد كان أهل بلاده أتينس على سيرة وسياسة لا يرضاها أفلاطون، فقيل له لم لم تغيرها، فقال هذه سياسة قديمة قد مرت عليها الدهور، ونقلهم عنها فيه عناء شديد، وربما أدى إلى قيل وقال أحتاج أن أستعين فيه على قومي بغيرهم فيكون ذلك سبب هلاكهم بوساطتي فلا أفعل. ثم جسهم فثاروا، فسكنهم وثبتهم وتركهم على ما هم عليه، وانبسط عذره عند من قال له ما قال، ولازم مدرسته، وارتزق من مغل البساتين وتزوج امرأتين؛ إحداهما يقال لها الستانيا من بلاد أرقاديا، والأخرى أقسوثيا من بلاد فليوس، وكانت نفسه في التعليم مباركة، تخرج عليه جماعة علماء اشتهروا من بعده؛ فمنهم أسبوسبوس من أهل أثينا، وهو ابن أخت أفلاطون، وأقسنوقراطيس من أهل خلقيدونا، وأرسطوطاليس من أهل أسطاغيره، وبرقلوس من أهل نيطس، واستياؤس من بارنتوس، وأرختس من أهل طارلطيني، وزيون من سوراقوسا، وأمقلاس من أهل اصطنادس، وأرسطوس وقورسقس من أهل أسكبسيس وطيمالاؤس من أهل قوزيقوس، وأؤن من لمساقوس ومناديموس من أهل أراثرس، وأراقيلدس من آبوس ، وتياثالس وقالبوس من أتنيس، وديماطريوس من أنتفيبوليس، وغير هؤلاء كثير. وكان أفلاطون إذا حضره أصحابه للتعلم قام على رجليه، وألقى عليهم الدروس من العلم، وهو يمشي حول البساتين التي وقفها عليه ذيون فيأخذون عنه ما يلقيه عليهم وهم على تلك الحالة، فسموا المشائين بذلك (هذا خطأ وقع فيه القفطي كغيره).
ولما استكمل إحدى وثمانين سنة من عمره مات ودفن بالبساتين في أقاذاميا، وتبع جنازته كل من كان بأثينا، والذي خلفه من التركة البساتين المذكورة، وخلف مملوكين وقدحا وجاما وقرطا من ذهب كان يلبسه وهو غلام، وهو لباس أشراف يونان في ذلك الزمان. وأما ما صار إليه من ذيونوسيوس جبار صقلية ومن غيره من الأصدقاء فإنه أنفقه في تزويج بنات أخته، وفي الإحسان إلى الأصدقاء؛ لأنه كان من أهل الرياضة والإيثار يعلم غيره السياسة، فكيف لا يستعملها، ولما قبر كتب على قبره بالرومي ما تفسيره بالعربية: «ها هنا موضع رجل وهو أرسطوقليس الإلهي، وقد تقدم الناس وعلاهم بالعفة وأخلاق العدل؛ فمن كان يمدح الحكمة أكثر من سائر جميع الأشياء فإنه يمدح هذا جدا؛ لأن فيه أكثر الحكمة، وليس في ذلك حسد.» هذا من الجهة الواحدة على القبر، ومن الجهة الأخرى: «أما الأرض فإنها تغطي جسد أفلاطون هذا، وأما نفسه فإنها في مرتبة من لا يموت.»
الفيلسوف الأعظم أرسطوطاليس
ولد أرسطو في بلدة ستاجيريا (أسطاغير) في مقدونيا في سنة 384 قبل المسيح، وكان أبوه نيكوماكوس عالما طبيعيا، وكان طبيبا لأمينتاس الثاني ملك مقدونيا، وقد تعرف أرسطو صغيرا بفيليب ابن أمينتاس في بلاط أبيه فتصادقا، ولما مات والداه وهو فتى تولى شأنه بروكسينوس، وبعث به في السابعة عشرة من عمره إلى أثينا ليتعلم على أفلاطون الذي كان قد جاوز حد الستين فلم يجده؛ لأن أفلاطون كان في صقلية في إحدى الرحلات التي سبق الكلام عليها؛ فبقي أرسطو في انتظاره ثلاث سنين قضاها في التعلم والدرس والاستعداد لتلقي الحكمة؛ فلما عاد أفلاطون والتقى بتلميذه كان أرسطو في العشرين من عمره، وأفلاطون في الخامسة والستين، وبقي أرسطو يتعلم على أفلاطون سبع عشرة سنة؛ فإن أفلاطون مات في الثانية والثمانين من عمره، وكان أرسطو أنبغ تلاميذ أفلاطون، وكان يسميه عقل المدرسة، ويسمي بيته بيت القارئ، وقيل عن حب أرسطو في الدرس إنه كان خشية النعاس ليلا يقبض بيده على كرة من نحاس، ويضع تحتها طستا من نحاس، فإذا أخذته سنة من النوم سقطت الكرة على الطست فنبهته فيعود إلى عمله، وقد بقي أرسطو في أثينا إلى أن مات أفلاطون في 347ق.م.، وقيل إنه مات وهو يكتب.
وكان أرسطو أثناء هذه المدة يزور وطنه، ويلقى الملك فيليب، وقد حفظ لنا التاريخ الكتاب الذي بعث به فيليب إلى أرسطو يذكر فيه مولد ولده إسكندر، ولما مات أفلاطون كان إسكندر في التاسعة من عمره، ومما يجدر بالذكر أن أرسطو أخذ يدرس البلاغة في أثينا في حياة أستاذه، ولما مات أفلاطون ترك أرسطو أثينا، وكان قد تزوج من بيثياس، وهي ابنة متبناة لأحد تلاميذه هرمياس، وكان يحب زوجته التي ماتت في عنفوان شبابها، وأوصى بأن يدفن رفاتها إلى جانب رفاته. ولما بلغ الثانية والأربعين من عمره دعاه فيليب إلى تعليم ولده إسكندر وهو في الرابعة عشرة من عمره، فقبل الدعوة، وسافر إلى بلاط فيليب حيث قوبل بالإجلال والإكرام، وقد شيدت لذلك مدرسة خاصة، وانضم إلى الإسكندر أولاد النبلاء، فصارت كمدرسة الأنجال التي أنشئت في مصر في القرن التاسع عشر، فأحب الإسكندر معلمه حبا جما، وتعلم عليه أربع سنين، ولما بلغ إسكندر الثامنة عشرة عينه أبوه خليفة ملكه أثناء غيبته في حملة على بيتنيا، واستمر أرسطو في بلاط فيليب إلى أن صار إسكندر ملكا، وقد أقام أرسطو في مقدونيا سبع سنين، ثم تركها في التاسعة والأربعين من عمره، وعاد إلى أثينا، فوجد مدرسة أفلاطون يديرها ابن أخته الذي قلبها «مهندسخانة»، فعينت حكومة أثينا لأرسطو مدرسة الليسيوم بجوار هيكل أبولون.
وكان أرسطو قصيرا ضئيلا حسن الهندام مصابا بإمساك مستعص، وكانت على وجهه النحيل نظرة استخفاف وسخرية لا تفارقه، وقد ألف كثيرا في خلال ثلاث عشرة سنة؛ أي من التاسعة والأربعين إلى الثانية والستين، وكان إسكندر يمده بالمال، فمنحه ثمانمائة تالنت
1 (وزنة من الذهب)، وكان يبعث إليه من الهند بعجائب المخلوقات ليستعين بدرسها على كتبه في التاريخ الطبيعي.
ولما مات إسكندر انقلب أهل أثينا على أرسطو بتهمتي الإلحاد وصداقته لأهل مقدونيا، وحاولوا قتله، فانسحب في 322ق.م وهو في الثانية والستين من عمره (وهو السن الذي سافر فيه أفلاطون من أثينا) إلى شالسيس بأيوبيا، وكان له بها أقارب وثروة ونفوذ، وهذا لم يمنع أهل أثينا من الحكم عليه بالإعدام غيابيا، وقد مات فعلا في السنة التالية بمرض العلماء، وهو ضعف المعدة في الثالثة والستين من عمره.
قبل أن يظهر أرسطو بثلاثة أو أربعة قرون نشأت الفلسفة اليونانية على شواطئ آسيا الصغرى كما أسلفنا في أول هذه النبذة؛ أي في وطن الشاعر هوميروس ناظم الإلياذة، وكان الفضل في ظهورها لطاليس دي ميليه أو الملطي وفيثاغورس دي ساموس وزينوفان دي كولوفون.
وأول من أطلق على الحكمة اسم الفلسفة فيثاغورس؛ فهو يدعى بحق أبا الفلسفة وواضع اسمها.
وإذا تكلمنا عن سقراط العظيم الذي لخصنا مبادئه وآراءه فلا يمكن فصله عن تلميذه وحبيبه أفلاطون؛ فأحدهما مكمل للآخر، وسقراط إن لم يكن والدا لأفلاطون فقد كان والد روحه، وموجد فكره؛ ولذا نجد في مؤلفات أفلاطون كل آراء سقراط وتعاليمه مشروحة وموضحة، ولا يخلو كتاب من كتب أفلاطون، حتى ولا محاورة صغيرة من محاوراته، من ذكر سقراط، والذي يقرأ مؤلفات أفلاطون يظن أنها كلها لمؤلف واحد، والحقيقة أن بعضها أفكار أفلاطون على لسان سقراط، وبعضها أفكار سقراط سبكها أفلاطون في أسلوب جميل عذب، آية في البلاغة والإبداع.
أما أرسطو أو أرسطوطاليس كما يسميه العرب، فهو الفيلسوف اليوناني بحق؛ لأنه مكمل أعمال أسلافه من الحكماء، وقد ارتبط بالفلاسفة القدماء عن طريق أفلاطون أستاذه، فكأنه تلقى فلسفة سقراط بعد أن مرت بعقل أفلاطون الروحاني الفكر، السامي الخيال، الشعري الحكمة .
إن الفلسفة اليونانية تمتاز بأمور كثيرة، منها أن خدمتها أعظم العقول التي عرفها التاريخ مثل عقول هيراقليط وأناكساجور وسقراط وأرسطوطاليس، ومنها أنها لنشأتها في أمة بغير عقيدة لم تكن خاضعة لأنظمة دينية أو لسلطة خفية تعمل على خنقها من وراء ستار، مثل ما وقع في أروبا في القرون الوسطى، ولابن رشد.
ولم يكن الفلاسفة اليونان في حاجة إلى النفاق والرياء للتوفيق بين الحكمة والدين كما هو شأن الحكماء في البيئات المتدينة؛ فإن الفيلسوف الصادق إذا نشأ في وسط متدين يكون حتما بين نارين؛ فإما يقول ما تمليه عليه حكمته وعلمه، وفيهما ما لا يتفق مع العقائد الدينية تمام الاتفاق. وإما يسعى في التوفيق بين الفلسفة والدين، وفي هذا ما فيه من الخروج على الحكمة والدين معا، وإغضاب أهل الدين وأهل الحكمة معا كما كانت حال جاليليه الذي ألقوه من حالق لقوله بدوران الأرض، وابن رشد الذي بصقوا في وجهه لحرية فكره.
أما الفلسفة اليونانية فكانت حرة طليقة، ولم تكن خاضعة لأي مؤثر خارجي، ولم يكن الفلاسفة اليونانيون مرغمين على قبول آراء أو معتقدات لم تمحصها عقولهم.
لقد شاءت الأقدار أن تنشأ الفلسفة اليونانية بعيدة عن عراك الدين والعقل؛ فليس في آرائهم نضال بين الفكر الحر الطليق والتقاليد الموضوعة المصطنعة، وشاءت الأقدار للفكر اليوناني أن يحلق في سماء الحكمة بغير قيد ولا شرط؛ لأنه لم يكن لدى الأمم اليونانية كتب مقدسة تنص على أمور معينة، وتحدد أصل الخلق، وتشرح تاريخ الإنسان والطبيعة على طريقة معينة.
قضت الفلسفة اليونانية اثني عشر قرنا متمتعة بالعقل الإنساني، وقضى العقل هذا الحين من الدهر متمتعا بالحرية، ولم يجرؤ أحد على إلحاق الأذى بالعقل بتقييده، ولم يجرؤ أحد على إرغام العقل على القول بآراء لا يؤمن بها.
ولكن بعد اثني عشر قرنا من الحرية العقلية جرؤ جوستنيان الروماني على مصادرة مدارس أثينا مهد الحكمة، ومصدر النور للإنسانية باسم الدين، ولعمري إن الحكمة بريئة من العداء والدين كذلك بريء من الاضطهاد، وإن لكل منهما طريقا يسلكها، ودربا يسير عليه، ولكن القائمين بالاثنين معا هم الذين فقدوا ميزان الاعتدال، فخلطوا بينهما باسم التوفيق، وألحقوا الأذى بهما باسم الحق، وما كانوا يعملون إلا باطلا.
أرسطوطاليس أعمق فلاسفة اليونان وأبعدهم غورا. قال شيشرون إن طالب حكمة أرسطو محتاج إلى بذل مجهود عقلي عظيم ليستطيع إدراك خفاياها، ولا غرابة إذا رأينا فلاسفة العرب أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد يقضون أعمارهم في تفهم تلك الحكمة الأرسطية وتفهيمها، على أن أعمارهم وجهودهم لم تذهب سدى؛ فقد صاروا بفضل هذا الفهم والتفهيم فلاسفة مع أنهم لم يعملوا أكثر من أنهم شرحوا بعض كتب أرسطو شروحا وجيزة ومتوسطة ومسهبة، وأخطأ بعضهم إذ حاول التوفيق بين الدين والفلسفة، ولست أدري لماذا كان ميل حكماء العرب للتوفيق شديدا، وقد حداهم مرارا إلى الوقوع في الخطأ؛ فقد ألف الفارابي رسالة في التوفيق بين الحكيمين أرسطو وأفلاطون، مع أنه لم يقل أحد من الذين درسوا كتبهما ومبادئهما بالتوفيق بينهما إلا الفارابي، وكأننا به قد عز عليه وجود خلاف بين التلميذ وأستاذه، فأبى أن يودع العالم دون أن يعقد بينهما معاهدة صلح دائم، ولكن هذا الحكيم الجليل نسي أن في التوفيق بينهما إضرارا بالفلسفة؛ لأن أفلاطون كان شاعرا ومفكرا أكثر منه فيلسوفا، أما أرسطو فكان فيلسوفا عالما بعيدا عن الشعر والخيال؛ لأجل هذا قال شيشرون بصعوبة الوقوف على أفكاره بدون بذل جهد عظيم.
كتب أرسطو في ما وراء الطبيعة، ولكنه لم ينجز البحث، وقضى نحبه قبل تمامه. ولا يمكن القول بأن ما تركه أرسطو يعد كتابا، إنما هو نبذ ومتفرقات وخواطر بدون ارتباط ظاهر بينها، ولكن المسائل التي يكتشفها العبقري، ويسعى في حلها لا تموت بموته، بل تحيى، خذ لذلك مثل المواضيع الجليلة التي عالج الفيلسوف بحثها؛ فقد نظر في تعريف الفلسفة، وفي نظرية الأعداد التي جعلها فيثاغورس أساسا لفلسفته الشهيرة باسمه، وقد حاول أرسطو أن يهدم آراء فيثاغورس، وتكلم في نظرية «المعنى»، وحاول فيها هدم آراء أستاذه أفلاطون، وفاز بغايته؛ لأجل هذا استغربنا كثيرا رسالة الفارابي في التوفيق بين الحكيمين، مع أن أرسطو جعل معظم همه موجها لتصحيح آراء أستاذه ونقدها ، ونقض ما كان منها مخالفا لطريقة فكره، ونظر أرسطو في فلسفة السفسطائيين، أهل التمويه والمغالطة، وعلى رأسهم بروتاجوراس الذي أسلفنا الكلام عليه في بابه، وهم القائلون بعدم استطاعة الإنسان الوصول إلى الحقيقة، وفند آراءهم بكل ما وصل إليه جهده من البحث.
وبعد أن فرغ أرسطو من تعريف الفلسفة، ودحض آراء أسلافه وتصحيح مبادئهم، أخذ في شرح آرائه الذاتية؛ فتكلم عن مبدأ التناقض، ومبدأ المادة، ونظرية الأسباب الأربعة، ونظرية النظام العام، ثم تكلم عن العدل الإلهي (تيوديقي).
فأي عقل إنساني قبل أرسطو أو بعده (بقطع النظر عن الحكماء الذين استعانوا بالعلوم الحديثة أمثال أوجست كومت) بلغ هذا الشأو في التفكير، وألم هذا الإلمام بحكمة الإنسان وعلومه؟ وأي سلف من أسلافه أحاط بالفلسفة إحاطته بها، وعرف طبيعتها، وعين مجالها؟ ونحن لا نفضل عليه أحدا قديما ولا حديثا.
إن أرسطو تناول الفلسفة بحذق وطمأنينة لم يذق لذتهما ديكارت، ولا من جاء بعده حتى، ولا فلاسفة القرن العشرين، أمثال ويليام جيمس بأمريكا وبرجسون بفرنسا، ويظهر من درس كتبه التي بلغتنا أن أرسطو كان متعلقا بالحقيقة الراهنة، ومنصرفا إلى درسها وتحديدها وتقديرها بقدر ما كان أستاذه أفلاطون متعلقا بالمثل الأعلى، ومنصرفا إلى تمييزه وتمجيده وتطبيقه على مطالب الحياة المادية والحياة الأدبية.
وبعبارة أخرى كان أفلاطون (أيدياليست)، وكان أرسطو (رياليست)، كان أفلاطون مشتغلا بالنظريات وأرسطو مهتما بالعمل والتطبيق، وهذا ظاهر من مؤلفات كل منهم؛ ولذا قال أحد مؤرخي الفلسفة اليونانية إن كل إنسان يولد إما أفلاطونيا أو أرسطويا؛ إشارة إلى التباين بين مبدأيهما. وسيرى القارئ أثناء هذه النبذة الوجيزة أن وصول أرسطو إلى ما وصل إليه كان أمرا طبيعيا وترتيبا محتما في تاريخ الفكر الإنساني لا بد من الوصول إليه. كان أفلاطون حكيما شعريا، وقد وصف في بعض محاوراته شخصية الفيلسوف الحقيقي التي تنطبق على المثل الأعلى في نظره، فشاءت الأقدار أن يكون هو أستاذ ذلك الفيلسوف وموجده؛ لأن الفيلسوف في نظر أفلاطون هو الذي يأخذ الأشياء كما هي؛ أي على حقيقتها ويفحصها بحالة وجودها التي هي عليه. وكان أرسطو كذلك؛ أي كان أرسطو فيلسوف الحقائق، وهو بلا ريب أول حكيم استفاد بالحقائق العلمية، واتبع التنظيم والتقسيم والترتيب في مؤلفاته، وسار على القواعد الملائمة للفلسفة الصحية التي هي علم العلوم وأم المباحث، والثمرة الناضجة لغرس العقل البشري أرسطو لا يفكر في شيء بغير تنظيم وترتيب؛ أي إنه السابق إلى وضع «طرق البحث الفلسفي»، وأول راسم لخطة الدرس العلمي.
إن كثيرين من الآخذين من الأمور بظاهرها يجرءون على تفضيل أرسطو على أفلاطون كما يفضلون أفلاطون على سقراط، وهذا حمق منهم وخرق؛ لأنه لولا سقراط ما كان أفلاطون الفيلسوف؛ فقد كان أفلاطون مندفعا بفطرته إلى الشعر، فربما صار سياسيا عظيما، أو شاعرا عبقريا، أو مؤلفا تمثيليا؛ لأن مواهبه العظمى كانت تؤدي به إلى إحدى هذه السبل الثلاث، ولكن تعليم سقراط وعشرته ومثاله هي التي شكلت تلك المواهب، وحولتها نحو الحكمة، وأنتجت ثماره الناضجة، وإن كان سقراط نجح في توليد أحد تلاميذه بالطريقة التي شرحناها في عرض الكلام عليه، فقد نجح في توليد أفلاطون، كذلك لولا أفلاطون الذي علم أرسطو أكثر من عشرين عاما لقضى أرسطو عمره في الأبحاث الطبيعية، أو في دراسة كتب الفلسفة والأدب؛ لأن مواهبه كانت تؤهله إلى ذلك، ولكن احتكاكه بعقل أفلاطون العظيم فتح أمامه أبواب الفكر العليا، وأرشده إلى طريقته التي جعلته صاحب العقل الأول.
وكان أفلاطون يسميه عقل المدرسة، ويسمي بيته «بيت القارئ»، وفي الوصف الأول مدح، وفي الثاني قدح؛ لأن أفلاطون كما أسلفنا لم يكن يجعل شأنا كبيرا للكتب، ولعلها خصلة كسبها من سقراط الذي لم يدون سطرا. لما صار أرسطو أستاذا للإسكندر المقدوني كان موضع الإكرام والإجلال، ولكن لدى موت الإسكندر تألب عليه المتعصبون من أبناء وطنه، واتهموه بالإلحاد، وحاولوا الحكم عليه بالقتل، فلم يجد بدا من الفرار، ففر من أثينا، وقد علل فراره تعليلا حسنا؛ إذ قال أشفقت على أهل أثينا أن يقترفوا جريمة ثانية على الفلسفة؛ مشيرا بذلك إلى ما وقع لسقراط. والحقيقة أن موت سقراط كان ضروريا لختام حياته الجميلة ليكون رمزا دائما في تاريخ البشر على جهل الجمهور، وغباوة الأغلبية، ودليلا على شجاعة الحكماء وقوة روح البذل والتضحية.
وقد لاحظ القارئ في الصحف السابقة أن أهل أثينا لم يتركوا حكيما يفر من أيديهم بغير عقاب، أو دون أن يحاولوا ذلك على الأقل؛ فكان هذا شأنهم مع أناكساجور لولا الصداقة التي كانت بينه وبين بركليس، وفعلوا ذلك في فيثاغورس، وأحرقوه ومن معه، وقتلوا سقراط، وحاولوا ذلك مع أفلاطون لولا فراره، وحاولوا ذلك مع أرسطو، والناس تظن بحسن نيتها أن المدينة التي ينشأ فيها مثل هؤلاء الفلاسفة لا بد أن تقدرهم وتجلهم وتعبدهم وتضعهم موضع الآلهة، ولكن الحقيقة على العكس؛ لأن الطبيعة الإنسانية هي هي في كل زمان ومكان، وكل عبقري أو نابغ يكون في الحقيقة غريبا في وطنه، ووحيدا بين أبناء عصره؛ لأنه يسبقهم بفكره مراحل وأجيالا. والذي يجعلنا نتخيل عدل أهل أثينا وكمال أدبهم إنما هو وجود هؤلاء الفلاسفة فيها، ولكن فكرة العدل وكمال الأدب جاءت إلى أذهاننا من آثار هؤلاء الحكماء، وشخصيتهم العظيمة، ومؤلفاتهم الممتعة، وأخبارهم الطلية، فعممناها بطريق القياس على جميع أهل البلد، وجميع أهل العصر. والحقيقة أن أهل أثينا في عهد سقراط أو أفلاطون أو أرسطو لم يكونوا إلا جماعة من الجهلاء السخفاء المتعصبين المبغضين للعظماء المحبين للانتقام، وإننا نستهجن الآن إحراق فيثاغورس، وقتل سقراط، ومحاولة اغتيال أفلاطون وأرسطو، وهذا الاستهجان ليس إلا غشا وخداعا منا لأنفسنا ولغيرنا؛ لأننا إذا رأينا الآن بين ظهرانينا نابغا أو ممتازا، فلا نلبث أن نكرهه ونحتقره، ثم نضايقه لنخمد أنفاسه، وإذا استطعنا قتله، فإننا لا نتردد؛ وإلا فكيف نفسر تعذيب العظماء والحكماء في القرون الوسطى والقرون الحديثة، واضطهاد رجال مثل جاليليه وميشيل سيرفيه، ونبي عظيم مثل السيد المسيح عليه التحية، إذا كانت الإنسانية حقيقة طيبة القلب، طاهرة الطبيعة، وأنها قد ندمت حقيقة على ما فرط منها في حق الحكماء الأقدمين الذين ذهبوا ضحية أفكارهم .
نقول إن أفلاطون كان يسمي أرسطو القارئ؛ لأنه كان كثير الانكباب على الدرس، كبير الثقة في الكتب، وكان لا يعول على ما يسمع من أفواه الناس؛ لأن عقله كان يقوده دائما إلى ضرورة التحليل والتمحيص، وهذا يتفق مع مباحث الكتب، ولا يتفق مع الأقوال المحكية، ويظهر أن أفلاطون في أواخر أيامه استفاد كثيرا من آراء تلميذه الذي نضج، ولكن أرسطو كان قد شعر بضرورة الانشقاق عليه، فلما مات أفلاطون خلفه في إدارة مدرسته ابن أخته، وكان صبيا من أتباع فيثاغورس في الفكر، فقلب أكاديمية أفلاطون إلى «مهندسخانة» تعلم الرياضيات على طريقة فيثاغورس التي حاول أرسطو تفنيدها في مؤلفاته. قلنا إنه لولا تعليم أفلاطون ما كان أرسطو فيلسوفا؛ لأن أرسطو استفاد طريقة التقسيم والتنسيق العلمي من أستاذه، ولكنه يخالفه في طريقة التفكير ونتائجه؛ فإن أفلاطون يقول بواجب الوجود، ويجعله مصدر الخير، ومدبر الكون والعلة الأولى، ولكن أرسطو ينكره وينكر إدارته للعالم، ويقول إن الكون يسير من تلقاء نفسه، وبغير عناية عليا. كان هم أفلاطون منصرفا إلى الأدبيات والإدارة المدنية، وتهذيب النفس عن طريق الموعظة الحسنة، ولكن أرسطو يعتبر الكون والطبيعة والحياة الإنسانية شيئا واحدا، وكتلة لا تتجزأ إلا من حيث كونها مؤلفة من دائرتين؛ الأولى عليا، وهي عالم الأجرام والأرواح السماوية، والثانية سفلى، وهي عالم الأجسام والمادة؛ فأفلاطون اختص بدرس الإنسان بصفته فردا، وبصفته جزءا من الجماعة، أما أرسطو فقد درسه بصفته جزءا من الكون، وهو الذي أطلق عليه اسم العالم الأصغر الذي أخذه عنه كتاب العرب.
يقول أرسطو: إن العالم حقيقي، ولكنه غير محكم التنظيم، وإن للمصادفات في إدارته نصيبا. تكلمنا في أول بحثنا عن أرسطو في كتابه فيما وراء الطبيعة الذي لم ينجزه، وقلنا إن الجزء الذي وصل إلينا يدلنا على عظم قدر الكتاب كله، وقد اتبع أرسطو في وضعه طريقة التقسيم والتنسيق التي كانت سائرة في كل مؤلفاته بحيث إن الذي يقرأها فكأنه يقرأ فهرستا مطولا، والشاغل الأكبر لذهنه في كتاب ما وراء المادة هو تقسيم الكون إلى دوائر عليا، ودوائر سفلى، وقد ظن بعضهم أنه تنبأ بنظرية النشوء والترقي التي أصبح لها أعظم شأن في العلوم والفلسفة، والحقيقة أن هذا يعد مبالغة، وإن كان بعض الفلاسفة السابقين قد اكتشفوا هذا المبدأ، وقالوا به وقد ذكرناهم، ولكن أرسطو لم يقل به؛ لأنه كان يعتقد بأن الحيوانات وجدت منذ الأزل على صورتها الحالية، وكذلك كان يقول بأن الأعضاء تؤدي الوظائف التي خلقت لها، وهذان الرأيان يخالفان كل المخالفة نظرية التطور، وكان أرسطو ماهرا في التشريح، وقليل العلم بوظائف الأعضاء، ولا يخفى أنه نشأ في أسرة طبية؛ فحذقه في التشريح موروث، أما تقصيره في الفيزيولوجيا فكان بالنظر لحالة العلم في عصره.
وقد ختم نظامه في ما وراء الطبيعة بإنكار الخالق، ولم ينكر الخالق عمدا، ولكن جاء الإنكار كنتيجة منطقية لنظامه الفلسفي، ومما يدهشنا أنه قال في ما وراء الطبيعة بوجود العلل النهائية، فكيف يوفق بين إنكار الخالق وبين القول بالعلل النهائية؛ لأنه لا يخفى بالطبع أن العلل النهائية لا تكون إلا حيث يكون الخالق الذي جعل كل شيء لحكمة، فإذا اختفت هذه الحكمة، وهي علة الخلق فلا حاجة حينئذ إلى وجود الخالق موجد الأسباب والعلل.
أما رأيه في المادة فهو يقول إنها موجودة أزلية، وتقابلها القوة الكامنة، وإنهما أصل كافة المخلوقات.
وقد اشتغل فلاسفة العرب بشرح فلسفة أرسطو، وشرحها ابن رشد ثلاثة شروح؛ وجيز، ووسط، ومسهب، ولكن شروحه مبهمة غامضة، وأسلوبه معقد، ولكن القارئ لا يلبث أن يتعود الألفاظ والتعبيرات فيستفيد بها، وأقوال أرسطو التي نقلها ابن رشد خصوصا فيما وراء الطبيعة، وهي القسم الرابع من كتبه هي التي أدت بالتنكيل بابن رشد في بلده قرطبة؛ فصلبوه وبصقوا في وجهه، وإن هذا في نظري أعظم من القتل، وقد عنى الإفرنج بنقل ما وراء الطبيعة لأرسطو عناية تامة، ولكنه لم ينقل برمته إلى اللغة العربية، ولا فائدة في نظرنا للنهضة التي لا تبدأ بنقل مؤلفات اليونان إلى اللغة العربية ودرسها وتمحيصها.
وأهم من الميتافيزيقى (ما وراء الطبيعة) في مؤلفات أرسطو مؤلفاته «الإنسانية»، وكان هذا الوصف يطلق لتمييزها عن الطبيعيات، وهي مؤلفاته في علم النفس والمنطق والشعر والبلاغة والأخلاق والسياسة المدنية، وبعبارة أخرى هي المؤلفات المستمدة مباشرة من روح أفلاطون، وإن كانت تخالفها في النتائج.
أما عن علم النفس فأرسطو يقول بوجود الروح، ويدعو النفس أو الروح شكلا؛ أي إن الجسم موضوع والروح شكله، أو الجسم مادة والروح قوته الكامنة، أو الجسم مسبب والروح علته النهائية، وهو ينكر التقمص الذي قال به أفلاطون، وينكر الثواب والعقاب في الآخرة، وينكر الافتطار أو العلم بطريق رجوع النفس إلى الماضي، أو إشرافها على المستقبل، وهي النظرية التي شرحناها عند الكلام على أفلاطون، وهو بذلك يكون خصما للمدرسة الحديثة القائمة على نظرية الافتطار
Intuition ، ومن أعظم أقطابها ويليام جيمس بأمريكا وبرجسون بفرنسا، وأعظم ممثل لآراء أرسطو في العهد الحديث يمكن أن يكون ألفرد فوييه المتوفى في 1914؛ فهو في الواقع أرسطو جديد، وليس هنا مجال الكلام عليه، ولكن أشرنا إليه ليدرس فلسفته من يشاء.
وتلوح على معظم فلسفة أرسطو النفسية مسحة من المادية؛ فهو يقول بأن الحواس هي وحدها مصدر العلم؛ ولذا مجد الحواس، ورفع شأنها بعكس أسلافه الذين كانوا يمجدون العقل والمعنى بغير تقدير لقيمة الحواس التي تنقل المعاني إلى العقل، وقال: إن القلب مركز الحواس، ومركز «الذوق المعنوي»، ومركز الذاكرة والمخيلة، ويظهر لي أن هذا التعظيم للقلب، ونسبة جميع هذه الصفات إليه هي التي جعلت العرب يتغنون به في كتبهم وأشعارهم، ويجعلونه مركز الشجاعة والحب والإخلاص أو ضدهما، وهذا أيضا شائع عند الإفرنج، ولكنه رأس فاسد، وقال بأن التذكر راجع إلى فكرة «اجتماع المعاني» التي قال بها أفلاطون، وهي أساس البسيكولوجيا الفرنسوية كما يظهر لنا من مؤلفات ريبو
Association d’idées .
ويقول أرسطو إن العقل هو أسمى قوى الإنسان، ولا يوجد في العقل شيء خارج عن الحواس؛ لأنه وصل إليه بطريقها، ويقول بأن العقل يهلك مع الجسم عند الموت؛ فلا سبيل إذا للقول بالخلود والبعث، وما يتبعهما من عقاب وثواب، وهي تلك العقائد الجميلة أو النظريات الأدبية التي قال بها أفلاطون نقلا عن المصريين القدماء، ونقلتها عنه بعض الأديان، ولسنا هنا في مجال تأييد أرسطو أو دحض آرائه، ولكننا في مجال فهم فلسفته وشرحها؛ لأن عمل الشارح غير عمل الناقد، وربما بحثنا في أهمية هذه الآراء على حدة.
أما كتاب أرسطو في المنطق فهو أهم كتبه، وقد شرح ابن رشد نظرية أجناس الموجودات، وهي البحث في الهوية والجوهر والعرض والكمية والكيفية والإضافة والذات والشيء والواحد والتام والناقص والكل والجزء والجميع والناقص، وقد استفاد بهذا التقسيم الفيلسوف كانط في تأليفه «نقد العقل القائم بذاته»، ولكن أرسطو في الواقع لم يهتم إلا بهوية الشيء. ولم يقصر العرب في نقل منطق أرسطو لحاجتهم إليه بصفته أداة للتفاهم والإقناع في المجادلات الفقهية، ولا نبالغ إذا قلنا إن علم الكلام مأخوذ معظمه من فلسفة أرسطو، أما كتابه في البلاغة أو الفصاحة، فقاصر على فصاحة الخطباء، وقال إن غاية الخطابة تنبيه الانفعالات الرديئة أو المغايرة للعقل، وقد دعاه هذا التعريف إلى الكلام على الأهواء، وعلى تقسيم الناس إلى طبقات وأنواع؛ لتبيين قوة التأثير في كل طبقة منها، ويظهر أنه هو لم يكن يتأثر بفعل الخطابة؛ فقد سمع أعظم خطيب في عصره، وربما كان أعظم خطيب في كل عصر، وهو ديموستين، ولم تهتز له أوتار قلبه، ولم يذكره إلا مرة أو مرتين عرضا.
وكتابه في الأخلاق «إيطيقا» هو أحسن كتبه شرحا وإفصاحا عن الغاية، ويقول فيه إن السعادة غاية الإنسان، وهو لا يختلف في شيء عن مذهب النفعيين في الفلسفة الحديثة، أمثال ستيوارت ميل وسبنسر، ولا غرابة في ذلك؛ فهو في اعتبارنا أبو الفلسفة المادية، وإن أسمى ما يرمي إليه الإنسان هو تحقيق إنسانيته الذاتية، وهذا أمر لا بد فيه من العقل. وقال إن الإنسان كائن اجتماعي بفطرته، وأكثر ميلا للاجتماع من النحل والنمل، وإنه هو العالم الأصغر، وتكلم عن الأهواء وضرورة الاعتدال فيها لتكوين الخلق الفردي، وهو يناقض سقراط وأفلاطون؛ إذ قالا بأن الفضيلة علم، وهو يقول إنها عمل وتعود على الأخلاق الفاضلة، وأن الوعظ والإرشاد والثناء على العدل لا يجعل السامع عادلا، ولكن تدريبه على العدل بالفعل يؤدي به إلى اكتساب تلك الفضيلة، ولكن إذا وافقنا أرسطو على بعض آرائه فإننا لا نوافقه على هذا؛ لأن سقراط وأرسطو كانا مصلحين، والإصلاح يتحتم فيه شرح طريقته بالنظريات، ولولا نظريات سقراط وأفلاطون ما كانت طريقة أرسطو العملية.
أما كتابه في السياسة المدنية فهو أثمن كتبه وأنفعها لأهل هذا الزمان، وقال إن أفضل الحكومات هي حكومة الفضلاء، وهو يفضل الأرستوقراطية على غيرها، وينصح بجعل العمال والصناع والزراع في درجة منحطة، وأن يسخروا لخدمة الطبقات العليا. ويقول بأن الحكم يقسم بين هيئتين: الأولى مكونة من الشباب، والثانية من الشيوخ (على هيئة مجلس النواب ومجلس السناتو أو الأعيان أو اللوردات لوقتنا هذا)، ونصح للطبقات العليا بعدم الاختلاط بالدنيا، وعدم المجاملة أو العطف بينهما، وقد رأينا في روما إلى أية النتائج أدى تطبيق هذه النظرية في عراك دائم بين الأشراف والشعب.
ونحن نخالف أرسطو في هذا الرأي وننقضه ونقول إنه يؤدي إلى أسوأ النتائج، وإنه لا يوجد نظام أفضل من العدل والمساواة في حكومة الأمم، وقد حاول أن يضع نظاما للمثل الأعلى في السياسة المدنية، فألف جزءا من كتاب قلد فيه أفلاطون في جمهوريته، ولم يتمه، ولا قيمة لآرائه في هذا الكتاب على الإطلاق.
وكتب في الشعر والفنون كتابه الشهير باسم «بوطيقا»، فقال إن العالم قطعة فنية، وإن أرقى الفنون تأليف التراجيديا، وإن الكون «تراجيديا رديئة الوضع»، وإن نجاح التراجيديا يرجع إلى «الحيلة» أو «اللغز» المترتبة عليه بقية الأجزاء، وإن عاملي الشفقة والخوف هما أهم عوامل الانفعال في التأليف الفني.
وهذا آخر كتبه.
وسنتكلم الآن عن أدباء العرب الذين اعتنوا بنقلها من اليونانية فنقول إن:
كتاب المقولات (أو قاطيغورياس أو كاتيجوري):
قد نقله من اليونانية إلى العربية حنين بن إسحق، واستنقله أبو زكريا يحيى بن عدي، وممن فسره من فلاسفة العرب الفارابي، وأبو بشر متى، والكندي، وإسحق بن حنين، وأحمد بن الطيب، والرازي.
باريرمينياس (أو باري ميلياس أو العبارة):
نقله القس حنين إلى السرياني، وإسحق إلى العربي، وتولى تفسيره يحيى النحوي وأبو بشر متى والفارابي، واختصره الكندي وحنين وإسحق وابن المقفع.
أنولوطيقا الأول (أو القياس):
نقله إلى العربي ثياذورس، ونقحه حنين، وفسر بعضه يحيى النحوي وأبو بشر متى، وفسره كله الكندي.
أنولوطيقا الثاني (البرهان):
نقله متى عن إسحق إلى العربية، وشرحه متى والفارابي والكندي.
طوبيقا (الجدل):
نقله إلى العربية يحيى بن عدي والدمشقي وإبراهيم بن عبد الله، وشرحه يحيى بن عدي في ألف ورقة، وفسره الفارابي واختصره.
سوفسطيقا (المغالطة أو الحكمة المموهة):
نقله ابن ناعمة وأبو بشر متى ويحيى بن عدي، وفسره الكندي وقويوي.
ريطوريقا (الخطابة):
نقله إلى العربي إسحق، وفسره الفارابي في مائة ورقة، ووجدت منه نسخة بخط أحمد بن الطيب السرخسي.
بوطيقا (الشعر):
نقله إلى العربي أبو بشر متى ويحيى بن عدي، واختصره الكندي.
كتاب السماع الطبيعي (أو سماع الكيان):
نقله إلى العربي يحيى بن عدي وعبد المسيح بن ناعمة، وفسره أبو أحمد بن كرنيب وثابت بن قرة وأبو فرج بن جعفر.
كتاب السماء والعالم:
نقله إلى العربية أبو بشر متى ويحيى بن عدي، وكان في زمنه يسمى رأس متكلمي الفرقة الفلسفية.
وشرحه كثيرون، منهم يحيى وأبو زيد البلخي.
وشرحه أبو هاشم الجبائي ورد عليه بكتاب طويل سماه «التصفح»، ولكن انتقاد أبي هاشم لآراء أرسطو إنما جاء بمقدار ما تخيل له فهمه؛ لأنه لم يكن عالما بالقواعد المنطقية.
ونقلت غير هذا كتب كثيرة، وشرحت مثل كتاب الكون والفساد، وكتاب الآثار العلوية، وكتاب الحس والمحسوس، وكتاب الحيوان والإلهيات والخلقيات.
وأهم من اشتغل بترجمة أرسطو وشرحه من علماء العرب هم من ذكرنا، ويضاف إليهم ابن سينا وابن رشد، وبالجملة فأعظمهم قدرا الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد ويحيى بن عدي. (1) ما كتبه العرب عن أرسطو
قال المسعودي أبو الحسن علي بن الحسين بن علي: إن معنى اسم أرسطو كامل الفضيلة، ومعنى اسم أبيه قاهر الخصوم، وكان أبوه فيثاغوري المذهب.
وأرسطو أول من خلص صناعة البرهان من سائر الصناعات المنطقية، وصورها بالأشكال الثلاثة، وجعلها آلة للعلوم النظرية.
وذكر له القاضي أبو القاسم صاعد بن أحمد الأندلسي المتوفى سنة 463 هجرية الكتب الآتية: المناظر - الخطوط - الحيل - سمع الكيان - السماء والعالم - الحيوان - النبات - النفس - الحس والمحسوس - الصحة والسقم - الشباب والهرم - ما بعد الطبيعة - أوذيميا - سوفسطيقا - السلوجسموس. ولا حاجة بنا إلى القول بأن هذا خلط لا معنى له، ولا يحتاج إلى تفنيد، ولكن ذكرناه؛ لأن القاضي صاعد من أكبر الثقات في تاريخ الفلسفة عند العرب، وادعى القفطي المتوفى 646 هجرية في أخبار العلماء بأن أرسطو خلف أفلاطون في التعليم في مدرستين، وهذا غير صحيح؛ فإنه لم يخلفه حتى ولا في مدرسة واحدة، ثم أخذ القفطي ينسخ أقوال صاعد الأندلسي بغير تمييز، ويضيف عليها مثلها، ثم روى عن محمد بن إسحق النديم أن سبب اهتمام المأمون بكتب اليونان رؤيا رأى فيها أرسطو وهو أبيض مشرب بالحمرة، واسع الجبين، مقرون الحاجبين، حسن الشمائل (ولا ينقص إلا أن يقول سكري المبسم!) وأن المأمون سأله ... إلى آخر ما جاء به في هذه الخرافة. وذكر ابن إسحق المذكور أن معنى أرسطوطاليس محب الحكمة! وأن أرسطو لم ينظر في الفلسفة إلا بعد أن جاوز الثلاثين من عمره! ثم سرد الكاتب العربي وصية أرسطو بشأن أولاده، وذكروا سنه عند موته «67 عاما، والله أعلم».
وأن مؤلفاته هي قاطغورياس (المقولات)، وباريميلياس (العبارة)، وأنولوطيقا (التحليل)، وأبوديقطيقا (البرهان)، وطوبيقا (الجدل)، وسوفسطيقا (المغالطون أو الحكماء المموهون)، وريطوريقا (الخطابة)، وبوطيقا (الشعر).
ونحن لا نريد الغض من قدر هؤلاء الكتاب، ولكن الذي يدهشنا منهم إلقاء القول على عواهنه، وعدم التحقيق من معنى الاسم، أو السن، أو تاريخ الميلاد والوفاة؛ فإن كانت هذه حالهم في بسائط الأمور، فكيف حالهم في جليلها؟!
ولم ينج أرسطو من التكفير في نظر بعض كتاب العرب؛ فقد قال الوزير جمال الدين في كتابه أخبار الحكماء: إن أرسطو رأى كلام أفلاطون وسقراط مدخول الحجج، متزلزل القواعد غير محكم البينة في الرد والمنع، فهذبه، ورتبه، وحققه، ونمقه، وأسقط ما ضعف منه، غير أنه لم يكن مستندا إلى كتاب منزل، ولا إلى قول نبي مرسل فضل الطريق ... وإن الفارابي وابن سينا وافقاه على شيء من أصوله، فكفرا بكفره، وإن أقدامهما زلت كما زلت قدم أرسطو، وقد كفر الثلاثة بقولهم في ثلاث مسائل خالفوا فيها كافة الإسلاميين، وهي أن الأجساد لا تحشر، وأن المثاب والمعاقب هي الأرواح المجردة، والعقوبات روحانية لا جسمانية، والثانية في صفة الله عز وجل بأنه يعلم الكليات دون الجزئيات، وقولهم بأزلية العالم وقدمه.
والذي يدهشنا بعد ما تقدم من ذكر الفروق المهولة بين أرسطو وشيخه، وهي فروق سحيقة لا يملأ فراغها، ولا يسبر غورها، أن حكيما عظيما، وفيلسوفا جليلا اشتهر بالوقوف على آراء الحكيمين ونقلهما وتفسيرهما، وهو أبو نصر الفارابي الذي يسميه كتاب العرب المعلم الثاني بعد أرسطوطاليس المعلم الأول، قد تعرض إلى عمل من أبعد الأعمال عن الحكمة، وأقلها نفعا، وأقصاها عن العقل، ألا وهو التوفيق بين الفلسفتين الروحانية والمادية.
وكتب في ذلك رسالة أسماها «الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس» قال في مقدمتها: «إن الذي دعاه إلى تأليفها أنه رأى أكثر أهل زمانه قد تنازعوا في حدوث العالم وقدمه، وادعوا أن بين الحكيمين المقدمين المبرزين اختلافا في إثبات المبدع الأول، وفي وجود الأسباب، وفي أمر النفس والعقل، وفي المجازاة على الأفعال خيرها وشرها، وفي كثير من الأمور المدنية والخلقية والمنطقية.»
نقول إن أهل زمان الفارابي قد صدق نظرهم في مشاهدة هذه الاختلافات؛ فإنها حقيقية، وغريب أنهم يرونها، وهو حكيم ولا يراها، ولكن عز عليه أن يكون الأستاذان مبدعي الفلسفة ومنشئيها، وألا يكونا على وفاق تام.
الفلسفة بعد أرسطو
لما كانت الفلسفة محتاجة إلى قوة العقل وقوة الخلق؛ فإنه لم يظهر بعد أرسطو من هم جديرون بالذكر في تاريخ الفلسفة إلا الرواقيين والمشككين والأبيقوريين. (1) الرواقيون
زعيم الرواقيين أو المستخفين بالآلام زينو 264-336ق.م وهو قبرصي الأصل سامي الجنس، جاء إلى أثينا، ودرس على كراتيس تلميذ ديوجين الكلبي، وقد ذكرنا أن مؤسس مذهب الكلبيين أو السنيك هو أنتيستين تلميذ سقراط، وتلقى العلم أيضا على هيبياس وبروديكوس اللذين أذاعا فكرة العود إلى الطبيعة، وقالا بأن الإنسان يعد ابن العالم لا ابن بلد واحد، وحاربا الأكاذيب المتواطأ عليها في المدنية والاجتماع، وأرشدا الناس إلى الحياة البسيطة، ويمكن القول بالجملة، بغير تقليل من فضل أستاذي وحبيبي جان جاك روسو، إن الفضل في مذهبه يرجع إلى هذين الحكيمين، وصدق من قال إن فضل فلاسفة اليونان على العالم لا يقدر؛ فإنه ما من فكرة وما من مذهب قديم أو حديث إلا وهم غارسو بذرته، وواضعو أساسه حتى مذهب نيتشه الألماني يرجع إلى قول زينو الرواقي إن التاريخ يعيد نفسه، ورأى هربرت سبنسر في الجزء «الذي لا يعلم»
Unknowable
راجع إلى قول بلوتينوس رئيس مذهب الأفلاطونية المستحدثة، وفلسفة ديكارت خليط من سقراط وفيثاغورس، ومذهب برجسون القائل برجوع النفس إلى الماضي، وإشرافها على المستقبل ليس إلا طرفا من رأي أفلاطون في الافتطار، وهو ترجمة كلمة
Intuition ، ونظرية التطور والترقي هي مما قال به طائفة من الحكماء الأقدمين مثل أناكساغور وهيراقليط وأرسطو وغيرهم، وفكرة الإلكترونات هي فكرة الذرات التي قال بها أبيقور نقلا عن ديموقريط مباشرة، وهذه الفكرة هي التي يقول بها العلم الحديث عن أصل المادة، ويزداد عجبنا وحسرتنا وأسفنا على جهلنا إذا علمنا أن الفلسفة اليونانية منذ أسسها تاليت دي مليت، أو طاليس الملطي كما يسميه مؤرخو العرب، ليست إلا شعاعا من النور الذي انبثق من مصر؛ فقد رحل إليها طاليس وفيثاغورس وأفلاطون، وكل عظيم من فلاسفتهم لم يخط حرفا لم يكن تلقى أصله عن مصر العظيمة. فانظر أيها المصري وقارن وتأمل.
بعد هذا الاستطراد نعود فنقول إن أنتستين وديوجين الكلبيين حاولا هداية الناس إلى الحياة البسيطة، ولكن أهل عصرهما سخروا منهما كما سخر معاصرو روسو منه.
ولكن زينو رئيس الرواقيين اقتدى بهما في النصح باتباع الطبيعة في كل شيء، ثم إنه قاوم المذهب الروحاني في فلسفة أفلاطون وأرسطو، وقال إنه لا يوجد في الإنسان إلا الجسم، وقد عاد بذلك إلى الفلسفة اليونانية المادية القديمة، وبعث آراء هيراقليط من أن النار أصل كل شيء.
وقال زينو بأن كل فترة من التاريخ هي عبارة عن صورة طبق الأصل من الفترة السابقة، وهذا المبدأ فيثاغوري في أصله، وهو رأي يقصي الاختيار عن أعمال البشر، ويؤيد أننا مسيرون، وأننا كائنات ضعيفة في أيدي القضاء والقدر، وهذا هو الرأي الذي انتحله فردريك نيتشه، وبنى عليه فلسفته، ولم يذكر منشأه، ولكننا لا نسمي هذا سرقة أدبية، ولكننا نفسره بتوارد الخواطر؛ لأنه شتان بين هذا الرأي في بساطته وبين البناء الشامخ الذي شاده نيتشه، وليس هنا مجال الكلام في هذا البحث الجليل اللذيذ.
وقال الرواقيون بأن الله مادة تملأ الكون والعالم، وأن خلقة العالم ثمرة مهارة فائقة، وقدرة لا حد لها، كان الكمال والخير رائديهما، وأن العالم إنما خلق لخير الإنسان، بل هذا هو المبدأ القائل بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان؛ المعروف بتليولوجيا، وقال به سقراط وأفلاطون وأرسطو، ويمكن تسميته بحسب الاصطلاحات الحديثة الاستبشار أو «أوبتمزم»، وأفضل من يمثل هذا المبدأ في المحدثين ليبنتز أحد تلاميذ ديكارت (راجع فلسفة ديكارت، تأليف بوليه، جزآن طبع ليون)، وألطف من هزأ هذا المبدأ، وسخر منه فولتير في قصته البديعة «كانديد»، فليقرأها من يشاء.
وقد استعان الرواقيون بكلمة قالها هيراقليط وهي «لوغوس»، ومعناها اللفظي كلمة، والمعنوي العقل المنتشر في الكون، وأطلقوها على معنى الخالق، فقالوا: إن الكلمة هي الخالق، وإن الخالق هو العقل الذي يوجد الأشياء، والمادة التي تخلق منها الأشياء، وقد نسب بعض المفكرين بعض مبادئ الدين المسيحي الجليل إلى هذه المدرسة الفكرية، وعينوا ألفاظا بالذات قالها بولس الرسول، وادعوا أنه اقتبسها من الشاعر أراتوس تلميذ زينون، وجار بولس الرسول في وطنه وهو طرسوس، وكانت مقرا لمدرسة رواقية (أعمال الرسل). وقد تأثر الرواقيون بآراء أفلاطون، فقبلوا القول ببقاء النفس بعد الموت، ولكن حياتها إذ ذاك لا تطول عن حياة العالم التابعة له، ثم تعود كغيرها من الكائنات فتمتزج بالمادة الإلهية لتخلق من جديد، وإن كل فترة من حياة العالم تكرر بحالتها؛ لأن الكمال لا يحتاج إلى تعديل، وهكذا تستمر الفترات تترى إلى أبد الآبدين.
وكان استبشار الرواقيين (أوبتمزم) في اعتقادهم أن العالم مخلوق بفكرة الخير ، ويقولون إن اللذة ليست خيرا، كما أن الألم ليس شرا. وقد أخطأ هربرت سبنسر إذ قال إن الاستبشار معناه الاعتقاد برجوح كفة اللذة على كفة الألم في العالم، فكأنه يوحد بين اللذة والخير، وبين الشر والألم، وهي مختلفة. ويقول الرواقيون إن الفضيلة هي الخير الوحيد، وكانوا يحاربون الرذيلة، ويعتقدون أن ما في العالم من خير أو ضده صادر عن إرادة الخالق وفعله.
وكان أفلاطون أحذق منهم؛ لأنه نسب الشر للمادة، وبذلك فر من نسبة صدوره إلى الخالق، كذلك أرسطو لم تعرف له هذه المشكلة؛ لأنه لم يقل بخالق، وكانوا ينكرون المعجزات، ويعتقدون بأن الحوادث متعاقبة متسلسلة غير منقطعة، ومتصلة بأول الدنيا، وأن الحرية الإلهية ليست مطلقة، وأنها مقيدة بمنطق الوجود الذي عين الأشياء وحددها، كبيرها وصغيرها، في سائر دوائر الخليقة؛ ولأجل هذا فإن التعبد والصلاة لا يغيران مجرى الحوادث، ولا يقلبان نظام الطبيعة لمصلحة المصلي، وأن الأقدار سائرة بقوة اندفاع اكتسبتها منذ الأزل، وتستمر عليها إلى آخر الدهر، وأن الله عز وجل لا يريد أن يتداخل بنفسه لينقذ رجلا عادلا مما كتب له في صحيفة القضاء.
فاعترض الناس على هذا القول، وقالوا كيف يرضى الله سبحانه وتعالى في هذا العالم الذي تقولون عنه إنه أفضل العوالم، وأعمها خيرا، أن يهلك الفاضل العادل، ويسعد الشرير؟! فقالوا: إنما قلنا إن هذا العالم أفضل العوالم إمكانا، وإن هناك ضرورات منطقية لا تدركها عقولنا تقتضي أن يظهر الشر بجانب الخير، وربما كان حدوث الخير متوقفا على وقوع الشر! وإن قانون التناسب الخلقي يقضي باجتماع الأضداد لتتميز الأشياء؛ فلا يعرف الخير إلا إذا عرف الشر، كما أنه لا يعرف النور بغير الظلام، ولا الحر بغير البرد، وإنه إن لم يكن في العالم باطل فلا محل للحق!
ولما كان الرواقيون قدريين فقد حدث أن رقيقا لزينون سرق، فلما مثل بين يديه قال له: العفو يا مولاي، فإنني سرقت؛ لأنه مقضي علي منذ الأزل أن أسرق، ولا أستطيع رد القضاء. فأجابه زينون: وأنا أيضا مقضي علي أن أجلدك عقابا لك، ولا أستطيع رد القضاء! وهذه الحادثة البسيطة تجعل حق العقاب على الذنوب مرتبطا بالمنفعة العامة، وهذا هو الرأي الذي قال به بعد ذلك بنتام بعشرين قرنا وأكثر (راجع ترجمة كتابه لفتحي زغلول).
ولكن الذي جعل تعليل زينون في جلد عبده مقبولا هو أن العقاب على الذنوب قاصر على الحياة الأرضية؛ لأنهم لا يعتقدون في نعيم، ولا جحيم، ولا خلود، ولا بعث، ولا حياة بعد الموت، والذي يحير العقول في مذهبهم أنهم لم يعرفوا الفضيلة، واكتفوا بالأمر باتباع الطبيعة.
لما توفي زينون خلفه كليانت 300-220 في زعامة الفرقة الفلسفية الرواقية، وهو إغريقي من ترود، وقد حل أثينا معدما فاستعان على مطالب الحياة بتوزيع المياه على النواطير المجاورة، وكان في أوقات فراغه يدرس الفلسفة، وإن صحت هذه الرواية أو كذبت فإنها تدل على أن العامل في بلاد الإغريق كان لا يعدم حب الفلسفة، ولا الفراغ للدرس. وقد روى المؤرخون أن فيلسوفنا الشهير أبا نصر الفارابي كان بستانيا، وكان كليانت السقاء حكيما، وشاعرا أيضا، وقد نظم نشيدا لتمجيد الإله زفس؛ معبودهم في ذلك الحين، جاء فيه:
أيها القوي! تعددت أسماؤك وعظم مجدك بين الخالدين، يا جوف، يا مصدر الطبيعة الأول، يا من ترشد الأشياء بالقانون، إن عبادتك فعل مقدس، نحن الناطقين أبناءك على الأرض قد فضلتنا على جميع المخلوقات. إن الكون المحيط بالعالم الأرضي يطيع إشارتك؛ لأن سيفك حاد وقوي ولا يغلب، إنك مالك الدنيا ومدبرها، وأنت الكلمة، وصاحب العقل المدبر (لوغوس)، لا قادر إلا أنت، ولا خالق إلا أنت. أنت الحكيم تقوم المعوج، وتنظم الفوضى، وتجمل الدميم، إن الذين لا ينظرون إليك، ولا يسمعون أمرك لا ينالون شيئا من هناء الدنيا وخيرها. إن الناس قد ضلت؛ فعبدت المال والحب والطمع، فأنقذهم يا جوف العظيم من وهدة الجهل، إنك بذلك جدير، وعليه قدير!
ويظهر أن هذا التعبد الحار كان صادرا عن قلب السقاء الفيلسوف بإخلاص، فأدى به إلى التعصب الذميم، فلما ظهر أريستارخوس العالم الذي قال بدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس (قبل جاليليه بخمسة عشر قرنا) أمر كليانت باتهامه بالإلحاد لمعاقبته أمام جميع أهل إغريقيا، ولا يذكر التاريخ مقدار ما وصل إليه من تهييج الرأي اليوناني ضد العالم الفلكي، ولكن نظرية النظام الشمسي قتلت في مهدها بفضل ذلك السقاء الفيلسوف المصلي.
وخلفه خرسيبوس، وسار على سنة أساتذته في سمو الفكر وبساطة العيش، وقد قوى المذهب ودعمه حتى استطاعت مبادئه المقاومة خمسة قرون إلى أن ظهر بلوتينوس، وحطم آراء الماديين وهو زعيم مذهب أفلاطون المستحدث، وسيأتي الكلام عليه.
وظهرت آثار الرواقيين في اهتمام الناس بجمال الطبيعة، وحب النساء، وفي السعي وراء الملاذ، وهذا أدى بهم إلى نظم الشعر التمثيلي، وتحولت ميول الناس نحو حب الأرض، والتمتع بزرعها وضرعها، وهذا أدى بهم إلى الاشتغال بسياسة الأراضي، فاتحد أحد فلاسفتهم سفاروس مع الملك كليمومينيس في الإصلاح الزراعي الذي تم في أسبرطة، وقام بلوسيوس بتهذيب الأخين الرومانيين جراكوس ودربهم على طرق الإصلاح الزراعي في روما، وقد أدى تشبعهما بهذه المبادئ لإحداث الثورة المعروفة باسمها في التاريخ الروماني، وقد انتشر المذهب الرواقي في روما، فعلم بعض أهلها المفكرين القناعة، وبساطة العيش، وبذل النفس في سبيل الجمهورية، وظهر من رجاله كاتون الصغير الذي ذهب ضحية مبادئه.
وقد أنتج هذا المذهب في روما ثلاثة من فحول الكتاب المصلحين وهم: سنيكا (مهذب نيرون)، وإبيكتيت (كاتب أخلاقي)، ومارك أوريل (إمبراطور فيلسوف)، ويرجع الفضل لهؤلاء الثلاثة في نشر المذهب وإعلاء شأنه في العالم المسيحي.
كان سنيكا إسباني المولد (3ق.م-65ب.م) جلبته أجربينا من منفاه، ووكلت إليه تهذيب ولدها نيرون الذي صار بعد ذلك عاتية روما، وأفظع الظالمين، فعينه وزيرا، ثم عزله فتآمر عليه، وكان يرجو من وراء المؤامرة أن يخلفه على العرش.
أما إبيكتت فكان معتوقا، وعاش في القرن الثاني للمسيح يرتزق بتعليم الحكمة، وهو صاحب المثل السائر «احتمل واصفح»، وفيه من تعاليم التسامح المسيحي ما فيه.
أما مارك أوريليوس (121-180) فيكفي في ذكره بالفضل أنه لم يشبهه في ملوك الإفرنج إلا اثنان: الملك أرتور المتصوف، والقديس لويس المجاهد الصليبي.
ومبادئ هؤلاء الفلاسفة الثلاثة يمكن التعبير عنها بثلاث كلمات: «الضمير والواجب والإنسانية».
فعبارة الضمير هي أرقى ما وصل إليه البحث العقلي والبحث الخلقي في فلسفة اليونان، وعبارة الواجب مرتكزة على قول الرواقيين بأن لوغوس خلق العالم، وفرض لكل ذرة وظيفة تؤديها؛ فالواجب هو أساس الوجود، فالإنسان مخلوق ومحاط بظروف معينة تجعله بذاته قادرا على القيام بأعمال معينة لا يستطيعها سواه. وقد أخذ جول سيمون فكرة الواجب وشرحها شرحا مطولا في كتاب معروف نقلنا بعضه إلى اللغة العربية، ونشر في إحدى المجلات في 1912، ثم نقله إلى العربية برمته غيرنا. والإنسانية معناها حب الناس بعضها بعضا، والامتناع عن إلحاق الأذى ببعضهم، وأن الرق مخالف للقانون الطبيعي، وينبغي محوه من الوجود، وقال سنيكا: إن الناس تولد بحقوق متماثلة، وقد بنى رجال القانون على هذا الرأي مبدأ تحرير الناس.
والذي ساعد على نشر هذا المبدأ الرواقي في روما، وفي المسيحية هو كونه فلسفة دينية غايتها القول بوحدة الوجود الطبيعي والمادي والروحاني. (2) السينيك المشككون أو «المرتابون»
بعد أن مات أفلاطون حل محله في الأكاذيمية رجال تعلقوا بدراسة محاوراته الأولى، وهم يمتون بحبل الفكر إلى بروتاغوراس وجورجياس أكثر منهم إلى سقراط، وأعظمهم قدرا أرسيسيالوس (315-240) وكارنياديس (128-213) وقد حولا قوة انتقادهما إلى خريسبوبوس مصلح الرواقية وزعيمها بعد زينون، ومما قالاه عبارات تشكك في كافة الحقائق المعلومة، سعيا وراء هدم نظرية المعرفة التي أساسها العلم بالحواس، والشعور بالعالم الخارجي.
والذي سوأ مركز الرواقيين هو أنهم كانوا يؤمنون بآلهة اليونان ذكورا وإناثا، ويصدقون بالوحي والتنبؤات؛ لأجل هذا هجم كارنياديس على الرواقيين، ونقد فلسفتهم، ووضع أساس فلسفة التشكيك، وكان مبدأهم الترجيح في خطط الحياة، وقد نجحوا في هدم غرور خصومهم، وأوصلونا إلى أوريل وسينكا وإييكتت. (3) الأبيقورية أو «فلسفة الملاذ»
مدرسة فلسفية مركزها وسط بين السابقتين، وهي أقرب إلى المشككين منها إلى الرواقيين.
أما أبيقور مؤسسها وزعيمها فكان جاهلا بمبادئ العلوم الطبيعية، وكان لا يعتقد بكروية الأرض، ولا بأن الشمس والقمر هما في الحقيقة أكبر مما نراهما ويظنهما بحجمهما الطبيعي! ولا ندري كيف هيئ له أن ينعش نظرية الذرات التي ظهر فضله فيها بعد موته بتسعة عشر قرنا، وكان من أهل ساموس (270-342)، وعاش في أثينا، وكان محدود العقل، ويرى رأي أفلاطون في أن غاية الحقيقة الوصول إلى السعادة، وهو يفضل أخف الضررين وأهون الشرين، ويكره العقائد الدينية؛ لأنها تشغل نفسه عن اللذة الناتجة عن «خلو البال». ويقول إنه لا يجوز للإنسان أن يخاف من المستقبل بعد الموت؛ لأنه لا حياة هناك. وأنكر تداخل الآلهة في شئون البشر، وأنكر الحياة بعد الموت، وكان لا يؤمن بها. ويذكر القارئ أن ديموقريط قال بمذهب الذرات، وهذا المذهب يؤدي بطبيعته إلى الإلحاد، فانتحله أبيقور لا تقديرا لقيمته العلمية، ولكن لأن انتحال هذا المذهب ينقذه من الاعتقاد الإلهي الذي يؤدي إلى الاعتقاد بتداخل الله في أحوال الدنيا، وهذا الذي لا يريده أبيقور لا من وجهة علمية، ولكن ليريح فكره. ولما كان أبيقور جاهلا جدا بمبادئ العلم الطبيعي، فقد حور في مذهب الذرات تحويرا ظنه يوفق بينه وبين تطور العلم الطبيعي منذ عهد ديموقريط صاحب هذا المذهب إلى عهد أبيقور بعد أن مرت الفلسفة والعلم بأرسطوطاليس العظيم.
وقوة الأبيقورية ليست مستمدة من المبادئ الطبيعية، ولكن من بحثها الأخلاقي، وجعلها اللذة غاية كل خير ومقصد كل حي في الوجود. ولكن هذا المذهب أيضا، وهو تمجيد اللذة، لم يكن حديثا، بل قال به من قبل ديموقريط نفسه صاحب مذهب الذرات، وإن كان لم يفه حقه من الشرح والتفسير فقد وفاه حقه أفلاطون نفسه في محاورته «بروتاغوراس» ونقحه وهذبه، وأيده في «كتاب النواميس». وخلاصة هذا المبدأ في رأيي أبيقور وأفلاطون أن الفضيلة في الإنسان نتيجة الحذر، وليس مقصدنا بالفضيلة إسعاد الناس أو إسعاد العالم، ولكن مقصدنا هو إبعاد الأذى عن ذواتنا، وضمانة خيرنا الذي هو في حدوث اللذة، وانتفاء الألم، وهذا المذهب الذي يسميه الإنجليز «هدونيزم»، وكان الأقدمون يزيفون هذا المذهب بتمثيل اللذة في الشهوات البدنية، ويطعنون على اللذة ويمقتونها من طريق الطعن على تلك الشهوات، ولكن شرح أفلاطون وتفسيره نظرية اللذة لم يبق مجالا لهذا الاعتراض، لا سيما وأن أبيقور نفسه بين أن اللذة ليست قاصرة على الإحساسات المادية، بدنية أو غير بدنية، بل إن للشعور المعنوي منها أوفر نصيب.
فذكر قبل موته بيوم واحد أن تذكر محادثة فلسفية جرت له مع صديق خففت ألمه في داء من أقسى الأدواء وأشدها وطأ؛ ولذا كان الأبيقوريون يمجدون الصداقة، ويعلون شأن الوفاء فيها، وربما قد استعاضوا بلطف العشرة عن قوة الإدراك والبحث العلمي؛ لأنهم كانوا بالفعل جهلاء، لدرجة أنهم لم يجرءوا على تعديل كلمة واحدة مما رسمه «الأستاذ الأكبر» أبيقور، وكانوا يعدون التحريف كفرا لا يغتفر؛ لأنهم كانوا قد ألهوا زعيمهم وعبدوه، وهذه المدرسة الفكرية تدل على الحالة العلمية والعقلية التي وصلت إليها الحكمة بعد زعمائها الأول، على أن لمذهب أبيقور أنصارا عظماء، منهم: جيو الشهير الذي مات في مقتبل العمر بفرنسا؛ فقد كتب عنها كتابا عظيما نال جائزة من جمعية العلوم المدنية والسياسية بباريس، وهو يذكر أن كثيرا من المذاهب الحديثة تمت إلى الأبيقورية بحبل النسب (راجع كتابه
La Morale d’Epicure et ses rapports avec Ies doctrines contemporaines ، طبع فليكس، الكان سنة 1910).
الأفلاطونية المستحدثة
لما تغلبت مقدونيا على بلاد الإغريق، وفازت القوة الغشوم ببطشها المادي على مبادئ الذكاء والعدل والعلم الصحيح، ولما استولت دولة الرومان بجيوشها الجرارة على ممالك العالم، خفت صوت الفلسفة، وانطفأ مصباح العقل تحت تأثير العاصفة، وذهبت من النفوس عاطفة الشجاعة المعنوية، والتفاني في سبيل الحق والعدل، واتجهت النفوس بعد استضعافها نحو العقائد الدينية التي من شأنها تعزية العاجز، وتعويده على الصبر والاستسلام. ولا يخفى أن تلك العقائد تجلب خلفها طائفة من الأوهام والخرافات، وتغري الشعوب بالعيش الرخيم في ظلال الجهل والكسل، والتوفر على الراحة، والنفور من بذل كل مجهود عقلي غايته رفع الغشاوة عن البصائر، كل هذا يجلبه الاستسلام للعقائد بغير فحص، ولا تمحيص، وأشد من هذا في نظر الفلاسفة اعتقاد العامة في الخلود الإنساني، ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن القول بخلود النفس ليس رأيا دينيا، وإنما هو رأي ابتدعه أفلاطون، وصاغه في قالب بلاغته، وكان استفاده من المصريين والفيثاغوريين. وإن الأمم الجاهلة الضعيفة التي تفقد أملها في هذه الدنيا، وتبحث عن النور فلا تجده في عقولها التي خيمت عليها الأوهام، تبحث عن عزاء خيالي فتلتمسه في فكرة الخلود. هذه هي الحال المعنوية التي بعثت فلسفة أفلاطون من مرقدها؛ لأنها فلسفة دينية بشكلها وموضوعها، وفيها كل ما تحتاج إليه النفس المتدينة من عقيدة التناسخ إلى عقيدة الخلود بما في ذلك مذهب التصوف، وفكرة الثواب والعقاب في عالم غير العالم الأرضي.
وكان أفلاطون ذاته شبه فيثاغوري، فلما بعثت فلسفته كان من نهضتها نصيب لفلسفة فيثاغورس، فنفضت عن أردانها غبار النسيان، ونشرت على العقول شباكا عتيقة، ولكنها قوية من الاعتقاد بالتقمص وسر الأعداد والتنجم (ولا يزال كثيرون من الشرقيين يعتقدون في سر الأعداد، ويستعملونها في السحر والرقى كما تدل على ذلك مقدمة ابن خلدون، وكتب التنجيم، وتخوت الرمل، وحساب الجمل، وهي أثر من الفلسفة الفيثاغورية انتحلها بعض المشعوذين، وتبعهم بعض الجهال من أبناء بلادنا).
لما طارد المقدونيون والرومان الفلاسفة من أروبا لجئوا إلى الإسكندرية وهي إذ ذاك عاصمة يونانية في مصر، ومدرستها المشهورة باسمها قد أطلقت علما على مبادئ كثيرة من الفلسفة والأدب، ومكتبتها الجليلة كانت حافلة بكل أنواع الكتب، وهي التي احترقت بفعل قنابر (لا يقال قنابل) يوليوس قيصر لدى حصاره الإسكندرية في عهد كلوبطره، هي تلك المكتبة التي أشاع بعض المتعصبين أن العرب بقيادة عمرو بن العاص أحرقوها بأمر من عمر بن الخطاب، وأصل هذه الإشاعة نبذة كتبها عبد اللطيف البغدادي، وكان رجلا عصبيا، ضعيف التحري، قليل العقل، وقد سماه أهل عصره بالتيس الملتحي، كان هو أول من نشر تلك التهمة المكذوبة، ونقلها عنه بعض المؤرخين الذين أعماهم سوء النية عن الحقيقة، ولكن جميع المؤرخين العقلاء من الإفرنج كذبوه في هذه الدعوى، ومنهم جيبون المؤرخ الإنجليزي الشهير؛ فقد أثبت أن الذي أحرق هذه المكتبة قنابر ومقذوفات يوليوس قيصر، وأن العرب لما فتحوا مصر كانت هذه المكتبة في عالم العدم منذ أكثر من ستة قرون.
في مدينة الإسكندرية ظهر مذهب الأفلاطونية المستحدثة على يد بلوتينوس 205-270ب.م.، وهو الذي يسميه الشهرستاني بالشيخ اليوناني، وفي هذه النقطة خلاف لم يحقق.
وكان بلوتينوس مصريا، وكان متشددا في المعتقدات الروحانية لدرجة أنه كان يخجل من كون روحه محاطا بجسد؛ لأجل هذا لم يقبل أن يدون عن تاريخه المادي شيئا؛ ولهذا لا نعرف عن تاريخ حياته الأرضية قليلا ولا كثيرا، ولكن الذي يعلمه معاصروه أنه درس جميع المذاهب الفلسفية التي كانت معروفة لعهده، وأنه تلقى دروسا في الحكمة على أمونيوس ساكاس الأفلاطوني الذي كان يعلم في الإسكندرية، وقد دام تلقيه عليه 11 سنة. ولما مات أستاذه سافر مع الرومان إلى بلاد الفرس مدفوعا برغبة الوقوف على الحكمة الشرقية، ولكن الرومان فشلوا في حملتهم على الفرس، فعاد أدراجه إلى روما، وهناك أخذ يلقي دروسا عامة، فاحتفى به الرومان، ومجدوه، وكانت أخلاقه الفاضلة القويمة تعادل علمه، وكان الناس في روما يحتكمون إليه، ويكلون إليه الوصاية المختارة على أولادهم القصر، ومات في السادسة بعد الستين من عمره وهو يقول: «إني أحاول مزج الجزء الإلهي الذي في نفسي بالقوة الإلهية السائدة على العالم.»
وقد قام تلميذه برفيري (فرفريوس صاحب مقدمة إيساغو لكتب أرسطو المنطقية) بتنظيم كتبه في ستة أجزاء، وفي كل جزء منها تسع مقالات اسمها أنياد، وقد ترك برفيري ما يدل على تاريخ تدوين هذه المقالات، ويستدل من تاريخ تدوينها أن بلوتينوس بدأ في تدوين مذهبه لما بلغ الخمسين من عمره، وأن مذهبه كان إذ ذاك قد كمل في ذهنه، ولم يعوزه إلا الكتابة فكتبه. وخلاصة مذهبه مزيج من أفلاطون وأرسطو والرواقيين، وغايته في فلسفته دحض الفلسفة المادية التي وضع أساسها الفلاسفة المرتابون (سبتيك) وأبيقور وخريسبوس، ورأيه في الشخصية الإنسانية أنها روحانية، ولما حاول نقض فلسفة أبيقور انتقدها من حيث عجز صاحبها عن تعليل وجود العقل المدبر الذي يحرك الذرات.
وبلوتينوس يتفق مع أبيقور في القول بأن الإنسان مخير ، وكلاهما يخالف رأي الرواقيين في أنه مسير، وقال بلوتينوس إن اختيار النفس نتيجة طبيعتها الروحانية. فلما أن قضى بولتينوس وطره بانتقاده على المرتابين والرواقيين والأبيقوريين أخذ في تأسيس فلسفته، فقرر أنه يتفق مع أرسطو في رأيه في المادة بصفة كونها «قدرة ممكنة»، ثم اتجه إلى فلسفة أفلاطون الأصلية، واستعار منها فكرة «الواحد الذي يدل على التعدد، والذي لا يوجد بغيره مع أنه مستقل عنه، وسابق له، ومرتفع عن سائر الوحدات التي يتكون منها التعدد».
وجعل بلوتينوس هذه الفكرة مفتاح فلسفته ودرة تاجها. وكان بلوتينوس ميالا بفطرته إلى البحث الفكري البحت، فنتج عن قدرته الفلسفية، وعن اختياره لفكرة أفلاطون التي تخلى عنها هذا الأخير، أنه صار أول واضع لأساس التصوف في الغرب بعد أفلاطون الذي ابتدع الفكرة!
ثم يقول بلوتينوس إن جميع الأرواح واحدة (وهذه نظرية وحدة النفوس التي قال بها الفارابي وابن باجه وابن رشد).
ثم يقول بلوتينوس إن «نوس» هو العقل المدبر، وإن «الواحد» الأفلاطوني «والأرواح المتحدة» المتعددة تكاد تكون ثالوثا مقدسا، أوجد أفلاطون فكرته قبل الثالوث المقدس المعروف، ولكن البحث في تحقيق هذه النظرية ليس من اختصاصنا في هذه الرسالة. ويقول بلوتينوس إن الإنسان مكون من روح عليا وهي العنصر الروحاني الذي سبق الكلام عليه، ومن روح سفلى وهي التي تدني الإنسان من عالم المادة. ويقول إن الروح هي التي أوجدت المادة، ويقول بلوتينوس إن النفس الإنسانية بالرغم من كونها محاطة بالمادة تتصل بالعالم الأعلى في حياتها الأرضية، وتتحد «بالواحد»، وقد بلغ هو هذه الدرجة من الاتصال والاختلاط عدة مرات، ولكن تلميذه بروفير لم يتمتع بهذا الاختلاط الروحاني إلا مرة واحدة، ومن هذا القبيل «انجذاب» الصوفيين والأولياء الذين يقولون إنهم صعدوا إلى السماء الأولى أو الثانية أو الثالثة كما قال سيدنا بولس الرسول، وهذه هي حالة «الأجزتاز» الجميل الذي لا يناله إلا السعداء، وهي حالة التجرد من الجسم، والارتقاء بالروح إلى أسمى درجات الوجود الروحاني، ومعنى القول أن الروح «تسري» بالإنسان إلى السماء، والعلم الحديث يفسر هذه الحالة بأنها نوع من الغيبوبة المغنطيسية (راجع ص148 من تاريخ الفلسفة القديمة، تأليف و. بن، طبع لندن 1912).
وقد استمرت هذه الفلسفة ذائعة لمدة 250 عاما بعد موت مؤسسها، وخلفه بروكلوس (412-485ب.م)، ومن آثارها نشر فضل أفلاطون ومناصرته، وتقديم مذهبه على مذهب أرسطو.
وفي سنة 529 أمر الإمبراطور جوستنيان (معناه العادل!) الروماني بإغلاق مدارس أثينا ومصادرة أوقافها التي أسسها ماركو أوريليوس، وبذلك قطع هذا الحاكم الروماني الغشوم لسان الفلسفة، وأخفت صوتها، وقد ذكرنا اسمه هنا لنستنزل عليه لعنة كل ذي عقل؛ لأنه من الأفراد الذين حاولوا خنق الفكر الإنساني، والتضييق عليه باسم الدين تارة، وباسم السياسة طورا، ولكن الفكر الإنساني كالنور الأزلي الأبدي، ويأبى الفكر أن يطفأ نوره!
خاتمة وخلاصة ما تقدم
يتلخص الفصل الذي عقدناه لتاريخ الفلسفة اليونانية ليكون مقدمة لمائدة أفلاطون، وليكون حلقة اتصال بين القارئ الخالي الذهن وبين هذا الكتاب الجليل الجميل، في أن الإغريق أخذوا عن اليونان مبادئ الفلسفة والعلوم الرياضية وعلم الفلك وسواها من العلوم، وأنهم توسعوا فيها، وزادوا عليها، واشتهروا بها، واستنار العالم بهديهم ونبراس حكمتهم إلى وقتنا هذا، وأنهم بدءوا بالاشتغال بالحكمة والعلوم في القرن السابع قبل المسيح؛ أي منذ 2600 سنة تقريبا، ويلاحظ أن مصر التي ترجع آثار مدنيتها إلى خمسة آلاف سنة (تاريخ نحت تمثال أبي الهول) كانت علومها زاهرة، وحكمتها ظاهرة، وأنظمتها سائدة، وعظمتها ثابتة موطدة قبل اشتغال اليونان بالفلسفة بثلاثين قرنا.
وأول من اشتغل بالفلسفة طاليس، وجاء في الأخبار الصادقة أنه قصد مصر، وساح فيها مدة؛ لأنها كانت مصدر العرفان الوحيد في العالم، وكسب منها فوائد جمة، ثم عاد إلى وطنه لينشر العلم بين أبنائه؛ فأسس مدرسة، وكان له الفضل في نقل علم الهيئة عن المصريين، وتوسيع دائرته؛ فقسم السنة إلى فصول، وهو أول من نزع من أفكار أهل وطنه خرافات كثيرة كانت سائدة عليها، كاعتقادهم أن الكواكب آلهة، فأثبت لهم بالبرهان أنها أجرام كأرضنا لا حياة لها، وقال إن للعالم مبدعا لا تدرك صفته العقول من جهة جوهريته، وإنما يدرك من جهة آثاره (الملل والنحل للشهرستاني، طبع لندن، صحيفة 255).
وجاء في القفطي عن طاليس (صحيفة 75) أن طاليس دي ميلت أو الملطي قال : إن الوجود لا موجد له (تعالى الله العظيم (القفطي))، واعتذر له أصحابه أن الذي حمله على ذلك ما شاهده في هذا العالم من الاختلاف، فتحقق أن الموصوف بالصفات الحسنى لا تصدر عنه هذه الأمور المختلفة، فقال بذلك.
ونقل عنه أن المبدع الأول هو الماء؛ لأنه قابل لكل صورة، ومنه أبدع الجواهر كلها، وهو علة كل مبدع، وأنه من جمود الماء تكونت الأرض، ومن انحلاله تكون الهواء، ومن صفوة الماء تكونت الذار (الذرات أو «أتوم»)، ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء، ومن الاشتعال الحاصل من الأثير تكونت الكواكب، فدارت حول المركز دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل فيها إليه، وميز بين الجسم والجرم، فقال: الجسم ما كان لطيفا ظاهرا، والجرم ما كان كثيفا داثرا. وكان يقول: إن فوق السماء عوالم مبدعة لا يقدر المنطق أن يصف تلك الأنوار، ولا يقدر العقل على إدراك ذلك الحسن والبهاء. وقال الشهرستاني عن تفسير الماء الذي قال طاليس عنه إنه المبدع الأول «وفي التورية في السفر الأول مبدأ الخلق هو جوهر خلقه الله تعالى، ثم نظر إليه نظر الهيبة، فذابت أجزاؤه فصارت ماء، ثم ثار من الماء بخار مثل الدخان فخلق منه السموات، وظهر على وجه الماء زبد مثل زبد البحر، فخلق منه الأرض، ثم أرساها بالجبال.» وأظن أن مؤلف الملل يقصد بقوله السفر الأول سفر التكوين في التوراة المقدسة؛ فقد جاء في الأصحاح الأول «وكانت الأرض خربة، وخالية، وعلى وجه القمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه» (آية 2).
وجاء بعد ذلك «وقال الله ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد، والمياه التي فوق الجلد (6 و7) وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء (9) ومجتمع المياه دعاه بحارا (10).» أظن هذه الآيات المقدسة هي التي حللها الشهرستاني، وأوجزها، ثم إنه استمر في استنتاجه فقال (ص256 من الطبعة السابقة الذكر): «والماء على القول الثاني شديد الشبه بالماء الذي عليه العرش،
وكان عرشه على الماء .»
وجعلنا من الماء كل شيء . ولا نعلم قصد الشهرستاني في قوله: إن طاليس الملطي إنما تلقى مذهبه من المشكاة النبوية، وأن الذي أثبته من العنصر الأول الذي هو منبع الصور شديد الشبه باللوح المحفوظ المذكور في الكتب الإلهية. ويدهشنا هذا القول من الشهرستاني؛ لأن طاليس من أهل القرن السابع قبل المسيح.
وجاء بعد طاليس أنكسيماندر، وسار على درب طاليس في الأبحاث الفلكية، فاخترع الساعة الشمسية، وقسم النهار إلى ساعات، وهو أول من بين سبب تزايد القمر من هلال إلى بدر، ونقصانه من بدر حتى يصير كالعرجون القديم، وله الفضل في التعليل العلمي على كل من عداه.
وجاء بعده أنكسمين، ويسميه العرب أنكسيمانس، وقال في أصل العالم قولا مثل سلفه طاليس أن أول الأوائل ليس الماء كما قال طاليس، وإنما هو الهواء، ومنه يكون جميع ما في العالم من الأجرام العلوية والسفلية، وقال: إن ما كون من صفو الهواء المحض لطيف روحاني لا يدثر، ولا يدخل عليه الفساد، ولا يقبل الدنس والخبث، وما كون من كدر الهواء كثيف جسماني يدثر، ويدخله الفساد، ويقبل الدنس والخبث، ولعله جعل الهواء أول الأوائل لموجودات العالم الجسماني كما جعل العنصر أول الأوائل لموجودات العالم الروحاني، وقلنا إن أنكسمين يرجح أن يكون تلميذ أنكسيماندر.
ثم ظهر فيثاغورس دي ساموس في أواخر القرن السادس قبل المسيح، وقيل عنه أيضا إنه قصد مصر، واستقى العلوم من منابعها العذبة بفضل الكهنة في المعابد، وقد اشتغل بالرياضيات والفلك، وكان للأعداد في نظره أعظم شأن حتى إنه بنى فلسفته عليها، ولأرسطو كلام طويل في تفنيد نظرية الأعداد، ولكن يلوح لأهل الفكر أن أرسطو لم يدرك تماما نظرية الأعداد أو تظاهر بذلك ليسهل عليه نقدها. أما فيثاغورس فقد قال بدوران الأرض حول الشمس، وأظهر في علم طبقات الأرض حقائق ثابتة لم تنقض إلى هذا الوقت، كقوله إن البحر كان يابسة، وإن اليابسة كانت ماء، وإن الوديان تكونت بفعل الأنهار، وعلل وجود الآثار البحرية كالمحار والأصداف وغيرها في أعالي الجبال، وهذا مفتاح طبقات الأرض (كما أثبت شارل ليل الإنجليزي في القرن التاسع عشر)، وهو أول من عرف الفلسفة، وأطلق عليها اسمها، وأول من سمي فيلسوفا، وكان بفضل علم الأعداد وعلم الفلك أول من شد أوتارا بحسب السلم الطبيعي في الموسيقى، وقد أسس مدرسة وفلسفة باسمه، وكان فيثاغورس يعتقد بالبعث والخلود، ويقول بأن فوق عالم الطبيعة عالما روحانيا نورانيا، لا يدرك العقل حسنه وبهاءه، وأن الأنفس الزكية تشتاق إليه، وأن كل إنسان أحسن تقويم نفسه يصير أهلا لهذا العالم الروحاني النوراني. وكان يعلم تقديس الحواس، ومذهبه أن يعلم الرجل الرجال، وأن تعلم النساء النساء. وكان معتدل المزاج، ولا يفرح بإفراط، ولا يحزن بإفراط، ولا يسمن، ولا يهزل، ولم يره أحد باكيا، ولا ضاحكا، وكان يعالج الأمراض بأنغام الموسيقى (وهذه طريقة أحياها بعض المحدثين في أوروبا لمعالجة الأمراض العصبية والعقلية)، وكان فيثاغورس تلميذ أنكسيماندر الذي سبق ذكره، وتعلم عليه الفلك والرياضة. ولما زار مصر تعلم الهيروغليفية على أساليبها الثلاثة، وبعد أن عاد إلى وطنه وأقام به وبغيره سنين طويلة حن إلى مصر وعلومها فوردها، وقصد كهنة عين شمس (مدرسة كانت بمصر الجديدة المعروفة لعهدنا هذا بهليوبوليس وبها نكتب هذا الكتاب)، فامتحنه كهنتها، ثم بعثوا به إلى منف، ثم إلى ديوسبولس ليمعن الكهنة في امتحانه، وأكرمه الملك أماسيس إلى أن عاد إلى وطنه. وكانت زوجته تعلم سائر النساء، وابنته البتول تعلم سائر العذارى. واضطهده أهل وطنه، وطاردوه، وقتلوا بعض تلاميذه، واضطروه للفرار، وتبعه الاضطهاد حيثما حل إلى أن لجأ إلى هيكل الموسن فتحصن فيه أربعين يوما، فضربوا الهيكل بالنار، فلما أحس أصحابه بذلك عمدوا إليه، فجعلوه في وسطهم، وأحدقوا به ليقوه النار بأجسامهم، فلما امتدت في الهيكل، واشتد لهيبها غشي على الحكيم من ألم حرارتها، ومن الجوع؛ لأنه قضى معظم أيام الحصار جائعا، فسقط ميتا، ثم اخترق جميع أنصاره (راجع [تاريخ الفلسفة اليونانية - سقراط العظيم والفلسفة السقراطية - ما كتبه العرب عن سقراط] وما بعدها من ابن أبي أصيبعة، وراجع كتاب مختار الحكم ومحاسن الكلم لمحمود الدولة أبي الوفاء المبشر بن فاتك ).
ونسبوا إليه ثمانين كتابا، وقالوا مائتين وثمانين كتابا (هذا إحصاء كتاب العرب)، ولا نخفي على القارئ أن معظم ما رواه العرب عن فيثاغورس هو من قبيل الأساطير الموضوعة كما أنهم لم يدركوا أو لم يشاءوا ذكر الحقيقة؛ فالثابت في التاريخ الصحيح أن فيثاغورس ألف حزبا علميا، واشتغل بالسياسة، وكان أتباعه من الخواص أو الأرستوقراطية، وأنهم لم يأنفوا من هضم حقوق الشعب، فتعقبتهم العامة، واضطهدتهم إلى أن أحرقتهم بوصف كونهم أعداء الشعب لا بصفة كونهم فلاسفة، ولم يدرك العرب حقيقة فيثاغورس، ونسبوا إليه علوم الدنيا والآخرة مع أنه كان رياضيا لا زيادة، وفضله راجع إلى مزجه الحساب بالهندسة كما فعل ديكارت بمزج الجبر بالحساب، وتفوق فيثاغورس في الرياضيات هو الذي جعله يعلق شأنا كبيرا على الأعداد وأسحارها. أما فلسفة فيثاغورس التي كانت دعامتها البعث، وتقمص الأرواح، وحلولها في أجسام غير أجسامها الأولى، فقد محيت من عالم الفكر الإنساني في القرن الرابع، وذهبت تقريبا بذهاب القائل بها إلا من أعمال المشعوذين من العرب الذين تمسكوا بأسرار الأعداد وسحرها إلى وقتنا هذا، ومن العجيب أن العرب ذكروا بالتفصيل مأكل فيثاغورس ومشربه، ولم يذكروا تاريخ مولده، ولا تاريخ وفاته، وقد ذكرناه معتمدين على مؤلفي الإفرنج، وفي هذا كفاية، ولولا ما كتبه أرسطو عن فيثاغورس في عرض نقده آراءه الفلسفية أو فلسفة الأعداد ما اهتدينا إلى شيء حقيقي عن حياة هذا الحكيم، ولا عبرة بما عدده العرب من كتبه؛ فقد نسبوا إليه 280 كتابا، ورووا عنه ألف مثل وحكمة، مع أننا لم يقع لنا سطر واحد من مؤلفات فيثاغورس وأتباعه، ويمكننا تعليل ذلك بأن معظم أبحاثهم كانت رياضية، وكفى أنه وضع كلمة ماطيماطيقي (رياضيات) وآثار الرياضي في الأرقام والأشكال والمعادلات وهي آثار زائلة، وسيأتي الكلام على الرد على نظريته في الأعداد في عرض الكلام على أرسطو، وهو أول من اهتم بها ونقدها.
وكنا نود أن نأتي على نظرية فيثاغورس في الأعداد بشيء من الإسهاب، ولكن ذلك يصعب؛ لأننا نكتب وجيزا لا مطولا، على أن تلك النظرية مهمة جدا؛ لأن لمذهب صاحبها شأنا كبيرا؛ فهو أول من فرق بين إدراك الإنسان والحيوان بعبارة وجيزة؛ إذ قال إن هداية الحيوان مقدرة على الآثار التي جبل الحيوان عليها، وهداية الإنسان مقدرة على الآثار التي فطر الإنسان عليها، فكأنه يقول إن الحيوان يعيش بالغريزة، والإنسان يعيش بالعقل؛ لأن الفطرة هي الحالة الفكرية التي تحصل للإنسان من التأمل والتعليل، ثم يتوارثها الأبناء عن الآباء، ولا يوجد فرق عظيم بين هذا الرأي وبين العلم الحديث. ولكن نظرية فيثاغورس في الأعداد هي التي جعلت له شأنه العلمي الحقيقي، وأهم ما فيها أنه جرد العدد عن المعدود تجريد الصورة عن المادة، وقال مبدأ الموجودات هو العدد، وهو أول مبدع. وقسم العدد إلى زوج وفرد، ثم قال إن المتحركات السماوية ذات حركات متناسبة لحنية هي أشرف الحركات وألطف التأليفات، ويدعي فيثاغورس أنه سمع حفيف الفلك، ووصل إلى مقام الملك، وقال ما سمعت شيئا ألذ قط من حركاتها، ولا رأيت شيئا أبهى من صورها وهيأتها، وعندي أن هذا التخيل البعيد المدى الذي جعله يشهد العالم بحسه وحدسه ويسمع حفيف الكواكب، إنما نوع من الانجذاب اللطيف الذي يعلله العلم الحديث بأنه غيبوبة مغنطيسية فيخيل إليه أثناءه أنه صعد إلى السماء وحادث الملائكة ... إلى آخر ما روي عن فيثاغورس وأمثاله. وهذه «الحال الانجذابية» هي التي تجعل لذويها أتباعا وأنصارا يفدونهم بحياتهم، ونحن لا نريد تكذيبها أو دحضها، إنما نحاول تعليلها تعليلا علميا لتفسيرها وإدراك حقيقتها؛ فقد حدث مثلها في عهدنا هذا لسويد نبورج الذي قال إنه رأى شبحا قال له: «أنا الله، الخالق، مخلص العالم، اخترتك لتنشر للناس معنى الكتب المقدسة، سأملي عليك بنفسي كل الذي تكتبه» (ص219، كتاب اعتلال العبقرية، تأليف نيسبت، طبع لندن)، وقد صار سويد نبورج بعد ذلك مصلحا دينيا عظيما، وكان يقول عن نفسه ويقول عنه أتباعه إنه نبي.
نعود إلى فيثاغورس فنقول إن أتباعه تغالوا في أهمية العدد؛ فأوقعوا الألف في مقابلة الواحد، والباء في مقابلة الاثنين إلى غير ذلك، وقالوا إن مبدأ الجسم هو الأبعاد الثلاثة، ومن أحكم أقوال فيثاغورس أن الإنسان بحكم الفطرة واقع في مقابلة العالم كله، وهو عالم صغير، والعالم إنسان كبير (انظر بعد ذلك فلسفة سبنسر الاجتماعية (سوسيولوجيا) فإنه أخذ فيها في شرح هذه النظرية، وتطبيق أحوال الكائن الحي على المجتمع)؛ ولذلك صار حظ الإنسان من النفس والعقل أوفر، فمن أحسن تقويم نفسه وتهذيب أخلاقه وتزكية أحواله أمكنه أن يصل إلى معرفة العالم، وكيفية تأليفه، ومن ضيع نفسه، ولم يقم بمصالحها من التهذيب والتقويم خرج من عداد العدد والمعدود، وانحل عن رباط القدر والمقدور، وصار ضياعا هملا. وقال فيثاغورس في سياق نظرية الأعداد: النفس الإنسانية تأليفات عددية أو لحنية، ولهذا ناسبت النفس مناسبات الألحان والتذت بسماعها.
وجاء بعد فيثاغورس فلاسفة مدرسة إيليه، وهم بارمنيد وزينون دي كولفون، وتلاهم الفلاسفة الطبيعيون المحدثون وأولهم هيراقليط، وهو في طليعة الحركة الفلسفية التي اهتمت بتحول الأشياء، وتغيرها أكثر من اهتمامها بمادتها.
واشتغل بالسياسة وحرب الديموقراطية، وكان يقول بوجود الانسجام في وسط الفوضى، وكان هيراقليط يخالف بارمنيد.
ثم تلاهما أناكساجور، وهو من نوابغ القرن الخامس قبل المسيح، واشتغل بالفلك، ورصد الكواكب، وهو أول من علل الخسوف، وفضله على فيثاغورس ظاهر؛ فقد تنبأ هذا الأخير بكسوف حصل في عهده، ولكنه لم يستطع تفسيره، ولكن أناكساجور علل الخسوف والكسوف معا، وأنكر ألوهية الشمس، واضطهده أهل عصره لأجل هذا، وقد سمي أناكساجور حكيم الذرات (الذار)؛ لأنه قال بأن المادة وجدت منذ الأزل على صورة ذرات غير مرتبطة، ثم تناولها العقل الأزلي، فنظمها ورتبها حتى أخذت أشكالها المرئية، وأشرنا إلى أن آراء أناكساجور بقيت صادقة إلى أن قال بها باسكال وليبنتز، ونقول إنه من عهدهما إلى الآن لم ينقض رأي أناكساجور؛ فقد ثبت للعالم الحديث أن المادة مكونة من ذرات، وأن جزئيات المادة لا تدركها العين المجردة لشدة صغرها، وأنها من نوع واحد لا فرق بينها. وقال علماء هذا العصر بنظرية الإلكترونات، وهي قريبة جدا من نظرية أناكساجور، ففضل أناكساجور على العلم عظيم، وكلامه في أصل الوجود ينطبق على العلم الحديث، وهو راجع إلى رغبته في تعليل مبدأ الموجودات، فقال إن مبدأها متشابه الأجزاء، وهي أجزاء لطيفة لا يدركها الحس، ولا ينالها العقل، منها: كون الكون كله العلوي منه والسفلي؛ لأن المركبات مسبوقة بالبسائط، والمختلفات أيضا مسبوقة بالمتشابهات، هذه النظرية التي انتحلها دروين، وأطلق عليها اسم
Differenciation .
وهو أول من قال بالكمون والظهور حيث قدر الأشياء كلها كامنة في الجسم الأول، وإنما الوجود ظهورها من ذلك الجسم نوعا وصنفا ومقدارا وشكلا وتكاثفا وتخلخلا كما تظهر السنبلة من الحبة الواحدة، والنخلة الباسقة من النواة الصغيرة، والإنسان الكامل الصورة من النطفة، والطير من البيض، وكل ذلك ظهور عن كمون، وفعل عن قوة، وصورة عن استعداد مادة، وإنما الإبداع واحد، ولم يكن لشيء آخر سوى ذلك الجسم الأول. ولأهمية هذه النظرية القديمة ألفت نظر القارئ إلى كيفية تجديدها، ونشرها كأنها مستحدثة في الفصول الخمسة الأول من كتاب «لغز الكون»، تأليف أرنست هيكل.
وقال أنكساجور إن الأشياء كانت ساكنة، ثم إن العقل رتبها، وقال إن المرتب هو الطبيعة. وظهر بعد أنكساجور الفلاسفة السفسطائيون (المغالطون)، وأشهرهم بروتاجوراس وجورجياس، ولهم آثار عظيمة في تكوين الفلسفة، وهم أول من قال بوجوب الشك، وعدم إمكان وصول الإنسان إلى معرفة الحقيقة، وقالوا بنسبية الأشياء، وعدم وجود المطلق في الحق والجمال والعدل وغيرها، وفضل هؤلاء الفلاسفة كائن في أن فلسفتهم كانت حدا فاصلا بين الفلسفة القديمة والحديثة، ولولاهم ما تمكن سقراط وأفلاطون وأرسطو من الظهور؛ لأن هؤلاء الثلاثة لم يقوموا إلا على أنقاض الفلاسفة المغالطين.
ثم ظهر سقراط وهو والد الفلسفة الحديثة اليونانية.
وكان عظيما بأخلاقه كما كان عظيما بفلسفته، وكان عظيما في موته كما كان عظيما في حياته، وقد أتينا على ملخص آرائه نقلا عن أعظم مؤلفي الإفرنج أمثال زيلر مؤلف كتاب «تاريخ أقطاب الفكر في بلاد اليونان»، واعتمدنا على ما تلقيناه عن أستاذنا جوبلو أستاذ تاريخ المذاهب الفلسفية في كلية الآداب بجامعة ليون (1909)، ولا ريب في أن اسم سقراط أعظم أسماء الفلاسفة السابقين لأرسطو، وهو أستاذ أساتذة هذا الأخير، ويوجد شبه بين سقراط وبين إبراهيم الخليل؛ فقد كان والد كل منهما صانعا للتماثيل، وقد ترك كل منهما عبادة الأصنام، وتعلق بأهداب الحكمة، وتوصل بها إلى الإيمان، وربما كانت قصة الخليل مأخوذة عن تاريخ سقراط، وكان سقراط يعتقد أنه تسلم رسالته من الأرباب، وكانت صفاته صفات المصلحين الثوريين؛ فقد عاش في حياته عيشة نقية، ولم يتردد في مخاصمة جميع الأحزاب والفرق في سبيل الحق ونشر مذهبه.
والفرق بينه وبين إبراهيم الخليل أن سقراط لم يقتن ثروة، ولم يقدم زوجته مرارا بصفة كونها أخته للملوك ليحصل على قطعان الغنم والإبل.
ولقد لخصنا مذهبه الفلسفي تلخيصا وجيزا، ونقول إن سقراط لم يؤثر في الناس بفلسفته ليس إلا، بل أثر فيهم بشخصيته، ومن العجيب أنه لم يؤلف كتابا، ولم يدون سطرا، ولكنه خلق رجالا ألفوا آلاف الكتب. كتب لندسي (ص9، ترجمة مؤلفات زينفون): «إن سقراط لم يترك أثرا مدونا، ولكن زينفون وأفلاطون خلداه بما كتباه عن حياته ومذهبه، كما أن أريستوفان المؤلف الهزلي الذي هزأه في رواية «الغيام» لم ينكر أنه أعظم رجل في أثينا، وناهيك ببطل إحدى روايات أرستوفان المر القلم واللسان.» وبالرغم من أن سقراط لم يكتب فإنه أوجد أربعة مذاهب فلسفية كان لها أعظم شأن في العالم، أولها مذهب الميجار (ميغاره)، ومذهب سيرانيك (القوريني)، ومذهب سنيك (الكلابية)، وإذا نظرنا إلى كل مذهب من تلك المذاهب الثلاثة نرى أثرا جليا من شخصية سقراط وفلسفته، وأهم منها رابعها وهو مذهب أفلاطون وما تشعب عنه، حتى فلسفة أرسطو نفسه، فإنها لم تكن إلا نقدا للمذاهب المذكورة، وشرحا لها، وتنقيحا لما جاء فيها، وتطبيقا لمبادئ العلم الصحيح على ما أنتجته قريحة سقراط، وتلاميذه الذين هم أساتذة أرسطو.
ثم نقلنا ملخص ما كتبه مؤرخو العرب عن سقراط وهم ابن أبي أصيبعة والقفطي والقاضي صاعد وغيرهم، وقد نقلنا هذا الملخص، ونسقناه على طريقة حديثة ليكون لذيذا في مطالعته، ولكن الناظر إليه يدرك الفرق بين طريقة العرب وطريقة الإفرنج، ونحن لا ننتقص هؤلاء، فهم أجدادنا وأساتذتنا وبلغتهم نكتب، ومن فضلهم نغذي عقولنا، وقد غذوا أوروبا ذاتها بلبان العلم والحكمة منذ آلاف السنين، ولكن انظر ماذا جاء في كلامهم عن سقراط: مجموعة حكم وأمثال، وقد بالغ ابن أبي أصيبعة في التقصي، فنسب إلى سقراط شعرا عربيا! وكل ما كتب عنه رواية عن حبسه وموته، وهو مشوه مختلط. ولم يفقه العرب معنى تهمة الثورة التي نسبت إلى سقراط، ولا طريقة المحاكمة، ولا تنفيذ الحكم، ولا دفاع سقراط مع أنهم بدون شك، وقفوا على كتاب احتجاج سقراط على أهل أثينا، تأليف زينوفون
Mem’orabilia
وفي آخره دفاع سقراط، وهو من أبلغ ما نطق به لسان، وفيه أن ملتيوس وأنيتوس وجها إلى سقراط تهمتين؛ «الأولى عدم الاعتقاد بآلهة المدينة، ومحاولته تقديس سواها وترويج عبادتها، والتهمة الثانية إفساد أخلاق الشبيبة.» وكان سقراط لا يريد الدفاع عن نفسه، ولكن هير موجونيس صديقه الحميم توسل إليه أن يدافع، فدافع بعد أن سمعت شهادة الشهود عليه، وكلهم شهدوا زورا بإيعاز من المدعي العام أنيتوس، وقد دحض سقراط التهمتين بطريقته القياسية البديعة، وكان في كل جملة يرغم أنيتوس على التسليم بصحة قوله، ولكن الحكم كان مدونا قبل سماع الدفاع، والنية كانت معقودة على إعدام هذا الحكيم قبل الجلوس على منصة الأحكام، فلم تفده حكمته وبلاغته، ولكن مؤرخي العرب ذكروا أنه كان لليونان ملك، وأن هذا الملك تآمر مع القضاة الأحد عشر على قتل سقراط خفية، وأنهم سجنوه لهذه الغاية، وأنهم اتفقوا على تقديم السم إليه ليتقوا قتله علانية إلى آخر ما جاء في كتبهم من تغيير الحقيقة لعدم إدراك الأنظمة الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في اليونان، ومن اهتمامهم بالقصص والأحاديث الطلية، وانصرافهم عن خلاصة الفكر الحقيقي، وعلى الخصوص لاكتفائهم بالرواية عن بعضهم، فإن ما تجده في كتاب تجده في عشرة غيره مع تحريف بسيط، بحيث لا يدري الإنسان أي المؤلفين نقل عن غيره؛ لأنهم - سامحهم الله - يأنفون ذكر المصادر، وهم هم الذين وضعوا علم مصطلح الحديث، وألفوا في صحة الإسناد، وأسسوا كتبهم على صدق الرواية، وملئوا كتبهم بأسماء الرواة مثل كتاب الأغاني، وكتاب العقد الفريد وغيرهما، والذي يدهش في بعض كتبهم عدم التحري؛ فإننا نقلنا عنهم أن سقراط مات بعد المائة، مع أن الثابت عن زينفون أنه مات حوالي السبعين من عمره.
هذا ما أردنا إيراده موجزا عن سقراط، وسنفيه حقه من التاريخ والتمجيد عند نشر «جمهورية أفلاطون» التي أخذنا في نقلها إلى العربية من مدة طويلة، وكلها على لسان سقراط، فسنفرد له فصلا قائما بذاته نذكر به ما تشتاق إليه النفوس من تاريخ أحكم الحكماء، وأعظم الرجال، وأسعدهم حظا.
على أننا لا نريد الانتقاص من قدر كتاب العرب؛ فإننا نجلهم، ونمجد ذكرهم؛ لأن لهم علينا وعلى الإنسانية فضلا لا يقدر، وكفانا اعترافا بذلك أن كاتب هذه الأسطر قضى أكثر من عشر سنين في درس تاريخ الفلسفة العربية، وتدوين تراجم حكماء العرب، وتفصيل مبادئهم، وقد نشر من ذلك الكتاب تاريخ الكندي والفارابي وفلسفتهما (راجع مقتطف يوليو 1920)، ولكن الذي يغيظ المنقطع للدرس ما يلحقه من خيبة الأمل بعد طول العناء؛ فها نحن نقرأ كتاب «عيون الأنباء»، ونبحث ساعتين أو ثلاثا، فنجد شعرا جميلا، ونثرا بليغا، وسجعا مرصعا، ولا نجد تاريخا، ولا واقعة معينة، ولا اسما علما يركن إليه، ونعثر بنبذ طويلة منقولة بحذافيرها من كتب أخرى بغير إشارة إلى مصدرها، فإذا انتقلنا إلى غيره وجدنا مثل ذلك، هذا الذي يحرج الصدر، ويهيج السخط، وقد ذكر لنا الأستاذ سانتيلانا، أستاذ تاريخ المذاهب الفلسفية في الجامعة المصرية في 1913، أنه يقلب عشرين كتابا، ويقرأ مائة صفحة، ولا يدون إلا سطرا أو سطرين. على أن هذا لا يمنع الاعتراف بفضل كاتب جليل قنع بذكر المبادئ الفلسفية، وترك تفصيل التراجم لغيره، وهو الخالد الذكر أبو الفتح محمد الشهرستاني (نقول وإن أتقن النسخ التي بين يدينا هي المطبوعة في لندن 1842) فيا حبذا!
لقد جئنا عن سقراط وفلسفته بالقدر الكافي ، ولخصنا مبادئه التي كان يقولها ويلقنها؛ لأنه كان يأنف الكتابة والتدوين، وقلنا إنه كان يعتقد بوجود الله، ويقول عنه: «إذا رجعنا إلى حقيقة الوصف والقول فيه وجدنا النطق والعقل قاصرين عن اكتناه وصفه وتحققه وتسميته وإدراكه؛ لأن الحقائق كلها من تلقاء جوهره.» ويقول عن علم الله وقدرته وجوده وحكمته إنها بلا نهاية، ولا يبلغ العقل أن يصفها، ولو وصفها لكانت متناهية، ويقول إنه حي وناطق من جوهره؛ أي من ذاته، وحياتنا ونطقنا ليسا من جوهرنا؛ ولهذا يتطرق إلى حياتنا، ونطقنا العدم والدثور والفساد، ولا يتطرق ذلك إلى حياته ونطقه.
ومذهبه في أصول الأشياء ثلاثة؛ العلة الفاعلة، والعنصر، والصورة. وعن النفس الإنسانية يقول سقراط كما أسلفنا: إن النفوس كانت موجودة قبل وجود الأبدان إما متصلة بكلها أو متمايزة بذواتها وخواصها، فاتصلت بالأبدان استكمالا واستدامة، والأبدان قوالبها وآلاتها فتبطل الأبدان، وترجع النفوس إلى كليتها. أما النفس الناطقة فجوهر بسيط ذو سبع قوى يتحرك بها حركة مفردة وحركات مختلفة، فحركتها المفردة نحو ذاتها، ونحو العقل، وحركتها المختلفة نحو الحواس الخمس.
وكانت له أقوال كثيرة في الحكمة بعضها ظاهر مفسر بلفظه كقوله الذي ينسب إلى الإمام علي «لا تكرهوا أولادكم على آثاركم؛ فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم» (الملل والنحل، ص282)، ولا ندري لماذا تلقينا هذه الحكمة في المدارس منسوبة إلى الإمام علي بتحريف بسيط، فهل قالها الإمام علي، وانتحلها لنفسه، أم رواها عنه معجب حسن النية، ولم ينسبها إلى مصدرها؟ أم هي كلمة من الحكم التي ينسبها كتاب العرب إلى سقراط ولقمان وأرسطو وإدريس والإمام علي؟ وكان لسقراط أقوال كثيرة من قبيل الألغاز كان يستر وراءها أغراضه، وقد روى منها ابن أبي أصيبعة والقفطي والشهرستاني، وصاعد مقادير كثيرة، فليرجع إليها من يشاء، وقال عنها الشهرستاني إن سقراط ألقاها إلى تلميذه أزخانس (يقصد زينوفون)، وإن زينوفون أو أزخانس حلها في كتاب فاذن (يقصد فيدون)، فنقول إن الذي بلغ إليه علمنا القاصر هو أن أزخانس أو زينوفون لم يدون كتابا باسم فاذن، وإن الذي كتبه هو أفلاطون، وهو إحدى المحاورات الخمس وثلاثين التي ذكرناها لدى الكلام على أفلاطون وأشخاصها أيشكراط وفيدون، ثم سقراط وأبولودوروس وسيبس وسيمياس وكريتون وهي محاورة محكمة، أما العبارات التي يرويها الشهرستاني فهي نبذ مفككة كقوله: «اسكت عن الضوضاء الذي في الهواء، وتكلم بالليالي حيث لا يكون أعشاش الخفافيش.»
نقول، وبعد أن فرغنا من سقراط العظيم، انتقلنا للكلام على المذاهب الفلسفية التي تشعبت عن تعليمه، وذكرنا أهل مغارة نسبة إلى بلدهم، وأولهم أريستيب أو أرسطيفن المنسوب إلى برقة، وهي إحدى المستعمرات الأفريقية في أفريقيا، وذكر اسم بلدة قورينا معربا مباشرة من الاسم اليوناني سيرانيك، وقيل إن قورينا في القديم هي رفنية بالشام عند حمص؛ ولذلك يسمونه أرسطيفن الرفني، وكان أتباعه يعرفون بالقورينائيين نسبة إلى البلد، ويعرف له العرب كتبا رياضية غير المبادئ التي ذكرناها، وفرقة أريستيب قد سميت من اسم البلد الذي كان فيه الفيلسوف الذي يكتب اسمه أريستيب وأرسطيفن وأرسطيس.
ومن أتباع سقراط أيضا فرقة ديوجين، وتعرف بالكلبية أو الكلابية، وسبب تسميتهم في الحقيقة نسبة إلى المكان الذي كانوا يجتمعون فيه، ولكن العرب قد شرحوا ذلك بأنهم كانوا يرون اطراح الفرائض المفترضة في المدن على الناس، ومحبة أقاربهم، وبغض غيرهم من سائر الناس، وقال القفطي بغير حياء ولا حرمة للحكمة: «وإنما يوجد هذا الخلق في الكلاب.» وكل هذا الخلط جاءه من التسمية، ومن جهله باللغة اليونانية؛ فإن مكان الاجتماع اسمه سيتوسارج، وكلمة سينو باليونانية معناها كلب، فصارت نسبة إلى كلمة سينو، فسموا «سينيك لا لأن أخلاقهم تشبه أخلاق الكلاب، فتأمل جهل القفطي، وسوء الاستدلال، وغرابة التعليل.» ولما شمر القفطي عن ساعديه ليدون فلسفة ديوجين وأتباعه وزعيمهم أنتستين، وكلهم تلاميذ سقراط قال: «كان أحدهم يتغوط غير مستتر عن الناس، وينكح في الطريق، ويقبل الحسناء من النساء قدام الجمع.» فأين هذه السخائم والسخافات التي اخترعها الذهن المريض لمناسبة تسمية أدى إليها الجهل من الحكمة العالية، والتواضع المعروف، والقناعة النادرة التي بثها ديوجين وأنتستين؟ أيقال هذا عن ديوجين، وقد كان حكيما فاضلا متقشفا لا يقتني شيئا، وهو الذي استدعاه الملك الإسكندر إلى مجلسه يوما، فقال للرسول قل له إن الذي منعك من المسير إلينا منعنا من المسير إليك منعك عني استغناؤك بسلطانك، ومنعني عنك استغنائي بقناعتي. أيقال هذا أيها القفطي عن ديوجين، وهو الذي سئل عن العشق فقال: سوء اختيار صادف نفسا فارغة (233 شهرستاني).
ثم انتقلنا إلى إقليدس المغاري، نسبة إلى بلده مغارة أو مجيار، وقلنا إن أفلاطون فند آراءه في «محاورة المغالط».
ثم تكلمنا على حياة أفلاطون بما ليس وراءه غاية على قدر ما يطيقه مقتضى الحال، وهو أفلاطون الإلهي، وآخر المتقدمين الأوائل الأساطين، وكان تلميذ سقراط، ورأيه القول بوجود محدث مبدع للعالم، واجب بذاته، عالم بجميع معلوماته.
وتكلمنا عن رأيه في العقليات والمعاني والصور، ولمحنا إلى نظريته في المثل؛ فقد أثبت لكل موجود مشخص في العالم الحسي مثالا موجودا غير مشخص في العالم العقلي، ويسمي ذلك المثل الأفلاطونية، وهي ترجمة لكلمة
الإفرنجية؛ فالمبادئ الأول بسائط، والمثل مبسوطات، والأشخاص مركبات؛ فالإنسان المركب المحسوس جزئي ذلك الإنسان المبسوط المعقول، وكذلك كل نوع من الحيوان والنبات والمعادن والموجودات في هذا العالم آثار الموجودات في ذلك العالم. وقال إن العالم عالمان؛ عالم العقل، وفيه المثل العقلية والصور الروحانية؛ وعالم الحس، وفيه الأشخاص الحسية، والصور الجسمانية كالمرآة المجلوة التي تنطبع فيها صور المحسوسات، فإن الصور فيها مثل الأشخاص، كذلك العنصر في ذلك العالم مرآة لجميع صور هذا العالم يتمثل فيه جميع الصور.
ويتفرع عن نظرية المثل الأفلاطونية أن النفوس الإنسانية متصلة بالأبدان اتصال تدبير وتصرف، وكانت موجودة قبل الأبدان. ومن أقواله المأثورة: «إن النفوس كانت في عالم الذكر مغتبطة مبتهجة بعالمها، وما فيه من الروح والبهجة والسرور فأهبطت إلى هذا العالم حتى تدرك الجزئيات، وتستفيد ما ليس بذاتها بواسطة القوى الحسية، فسقطت رياشها قبل الهبوط، وأهبطت حتى يستوي ريشها، وتطير إلى عالمها بأجنحة مستفادة من هذا العالم»،
1
ومما هو جدير بالذكر أن أفلاطون يقول بالبعث والنشور والخلود والثواب والعقاب، ويلحق هذا كله بأفكار شعرية جميلة بعيدة المدى، ولكنها غير منطبقة على المنطق؛ ولأجل هذا ضرب تلميذه أرسطو عرض الحائط بمعظم آرائه في المعنى والصور والمثل والبعث والنفس، ولكن فضل أفلاطون على الحكمة لا ينكر، ومن الغريب حرية فكره وتعصبه؛ فقد كان في جمهوريته يبيح أن يكون الملك والنساء شائعة، ولكنه يعاقب على الإلحاد بالسجن لمدة غير معينة، وقد نظم لمحاكمة الملحدين محكمة أفظع من محاكم التفتيش، ولكن «الله» سلم.
ثم انتقلنا إلى الكلام على أرسطو، وهو أكبر عقل رآه العالم في الأزمنة القديمة والحديثة بلا ريب، وبه ابتدأت الفلسفة العلمية، وإليه انتهت، ومن كانوا قبله قد مهدوا له السبيل، ومن جاءوا بعده إنما كانوا يأكلون من فتات مائدته، وقد سموه المعلم الأول؛ لأنه واضع التعاليم المنطقية، ومخرجها من القوة إلى الفعل، وحكمه حكم واضع النحو، وواضع العروض؛ فإن نسبة المنطق إلى المعاني التي في الذهن نسبة النحو إلى الكلام، والعروض إلى الشعر، والمنطق ميزان لأذهان المتعلمين يرجعون إليه عند اشتباه الصواب بالخطأ، والحق بالباطل. وقال عن النفس الإنسانية مخالفا أفلاطون إنها حدثت مع حدوث البدن لا قبله ولا بعده، وإنها تهلك بهلاك البدن، وإنه ليس هناك ثواب ولا عقاب، ولا بعث ولا خلود، وهذه الأقوال هي التي أدت إلى تكفير من قال بها من فلاسفة العرب الذين نقلوا حكمته مثل ابن رشد. ويمكن القول بحق إن باب الفلسفة الحقيقية قد أغلق بعد أرسطو؛ لأنه قال كل ما يمكن أن يقوله إنسان.
وقد طبع الشيخ السيد علي الطوبجي كتاب السعادة في الأخلاق لابن مسكويه، وفي آخره ملخص جليل لمؤلفات أرسطو آثرنا نقله برمته زيادة في النفع؛ قال ابن مسكويه: «إن الحكيم أرسطو هو الذي رتب الحكمة، وصنفها، وجعل لها نهجا يسلك من مبدأ وإلى نهاية كما ذكره بولس فيما كتبه إلى أنوشروان؛ فإنه قال: كانت الحكمة قبل هذا الحكيم متفرقة كتفرق سائر المنافع التي أبدعها الله تعالى، وجعل الانتفاع بها موكولا إلى جبلة الناس، وما أعطاهم من القوة على ذلك مثل الأدوية التي توجد متفرقة في البلاد والجبال، فإذا جمعت وألفت حصل منها دواء نافع، وكذلك جمع أرسطو ما تفرق من الحكمة، وألف كل شيء إلى شكله، ووضعه موضعه حتى استخرج منه شفاء تاما يداوي النفوس من أسقام الجهالة، وكان من ترتيبه ذلك أن نظر في جزأي الحكمة؛ أعني النظري والعملي، فوجد النظري فيها إما أن يكون في الأشياء التي في مواد، وإما في الأشياء التي ليست في مواد، وكل واحد من هذين القسمين ينقسم أيضا قسمين؛ لأن الأشياء التي في مواد، منها ما هو تحت الكون والفساد، ومنها ما ليس تحت الكون والفساد، والأشياء التي ليست في مواد منها ما هو منتزع في المواد، ووجوده في الوهم، ولا وجود له من خارج، ومنها ما ليس بمنتزع من المواد، بل له وجود في ذاته خارجا عن الوهم؛ فهذه الأربعة هي الأقسام الأول التي ينقسم إليها الجزء النظري؛ ثم إن الأمور التي في المواد منها ما هو مشترك لها كلها، ومنها ما هو خاص ببعضها؛ منها ما يخص الأشياء السرمدية، ومنها ما يخص الأشياء الكونية؛ وما يخص الكونية منها ما هو مشترك لها كلها، ومنها ما يخص بعضها؛ وما يخص بعضها منها ما يخص الأشياء التي فوق الأرض، ومنها ما يخص الأشياء التي في الأرض؛ وما يخص التي في الأرض منها ما يخص الأشياء التي لا نفوس بها، ومنها ما يخص الأشياء التي لها نفوس؛ وما يخص الأشياء التي لها نفوس منها ما يخص ذوات الحس، ومنها لا حس له؛
2
فصنف أرسطو في كل قسم من هذه الأقسام هذه الأشياء كتابا، فاشتملت كتبه على جميع ما سطر فيه حسا عقلا، ولم يفته شيء.
ولما كانت عنايته مصروفة إلى تصحيح الإرادة في هذه الأمور كلها، وإعطاء اليقين، والإقناعات الكافية فيها، وأن يسلم من الخطأ والغلط في المعقولات اضطر إلى أن يبحث عن مراتب الإقناعات، وينظر في الأشياء التي لا يمكن أن يغلط فيها، ولا يأمن أن يقع في باطل يظنه حقا، ويعتقد في حق أنه باطل ما هي مراتب هذه أيضا ، وجعل لها صناعة وقوانين يوقف بها على مراتب هذه الأمور، ومنازلها من اليقين وغيره ليسدد الإنسان طريق الصواب في كل مطلوب لئلا يجري في الحكمة جري أصحاب المذاهب في التخيل والأهواء؛ فإن هؤلاء غلطوا وهم لا يشعرون، وربما شعروا وانتقلوا عن رأي إلى رأي، ولا يأمنون أن يسخ لهم في الرأي الثاني ما كان سخ في الأول؛ فهم أبدا إما على غلط، وإما في شك وحيرة، فإذا عرف الإنسان الأشياء التي من شأنها أن يغلط فيها تحرز منها، وتيقن فيما أنه قد صادف فيه الحق، ولم يغلط، فإن تخيل له في شيء أنه يسهو فيه رجع إلى قوانين الصناعة، فعلم للوقت بموضع غلط إن كان فتلافاه بسهولة، ويمكنه مع ذلك أن يصحح ذلك الرأي لنفسه ولغيره، فإن بدله وتبينه له، وهذه صناعة المنطق، وأقرب مثال أجده لها في الصناعات العروض والنحو؛ فإن كل واحد منها يناسب المنطق بوجه، وذلك أن ها هنا أوزان من الشعر صحيحة، وربما غلط فيها، ولم يكن صاحب صناعة فظنها مكسورة، وربما ظن بالمكسور منها أنها صحيحة، وإذا رجع إلى القانون الصناعي عرف موضع الشك، وقدر على ما يجب وتيقن موضع الغلط إن كان، وأصلح ما سها فيه، ويناسبه أيضا صناعة النحو بوجه آخر؛ وذلك أن نسبة صناعة النحو إلى الألفاظ كنسبة صناعة المنطق إلى المعاني، وكما أن النحو يسدد اللسان نحو صواب القول، ويعطي القوانين التي يعرف بها الإعراب، فكذلك المنطق يسدد الذهن نحو صواب المعاني، ويعطي القوانين التي تعرف بها الحقائق، وكما أن النحوي، وإن كان غرضه إصلاح الألفاظ، فإنه ينظر أيضا في المعاني ليصحح بها المعاني، والنحوي ينظر في الألفاظ بالذات وبالقصد الأول، وينظر في المعاني بالعرض، وبالقصد الثاني؛ والمنطقي ينظر في المعاني بالذات وبالقصد الأول، وينظر في الألفاظ بالغرض وبالقصد الثاني؛ فقد تبين غرض الحكيم في صناعة المنطق، وإن من جهل هذه الصناعة عرض له بالضرورة أنه لا يقف على صواب من أصاب كيف أصاب، ومن أي جهة أصاب، ولا على سهو من سها أو غلط، كيف وفي أين سها أو غلط، وتحير في الآراء؛ فمنها ما يصححه من غير ثقة، ومنها ما يزيفه بغير بصيرة، ومنها ما يتوقف فيه لا يدري بماذا يحكم له، ثم لا يأمن فيما صححه اليوم أن يرد عليه في غد ما ينقضه عليه، وتشكك فيه، وفيما زيفه أن يصح عنده في وقت آخر، فينظر فيما هو عنده صحيح أنه يجوز أن يفسد، وفيما هو فاسد أنه يجوز أن يصح، وعسى أن يرجع إلى ضد ما هو عليه في الأمرين جميعا؛ إما لخاطر يرد عليه من نفسه عن اعتقاده الأول، وإما برأي غيره، فإذا غرض من يدعي الكمال في العلم والثقافة بالجدل، ويصيره ببراعته لم يكن عنده ما يمتحنه به، وإما أن يحسن الظن به فيقبله، وإما أن يتهمه فيرده.
وليس يخلو في حاليه من أشياء ترد على عقله فيوهمه في شيء أنه حق، وفي آخر أنه باطل، والمنطق يدله على هذه المواضع، ويصحح له الصحيح، ويعلمه لم صار صحيحا، ويزيف الباطل ويريه له لم صار باطلا؛ فنحن مضطرون إلى تصحيح المعاني في أنفسنا بقوانين صناعية تنفي بما يحوطنا من الغلط، وإلى تصحيح الألفاظ التي تدل بالمواطأة على تلك المعاني لئلا يعترض لغيرنا ما يغلطه فيها، فكلا هذين يسمى صناعة المنطق، إلا أن أحدهما ينظر فيه بالذات، والآخر بالعرض كما بينا. ولما تأمل أرسطو مراتب إقناعات النفس، وأراد أن يرتبها ويجعل لها قانونا صناعيا ليتوصل بها إلى حقائق الأشياء، قسم ذلك كما قسم العلوم التي تقدم شرحنا لها،
3
ونظر فإذا أنواع القياسات والأقاويل يلتمس بها تصحيح رأي، ويتوصل بها إلى حقيقة مطلوب، إما عند أنفسنا، وإما عند غيرنا تنقسم إلى ثلاثة أقسام؛ إما أن تكون صدقا كلها، ويقينا لا شبهة فيها، وإما أن تكون كذبا كلها وشكوكا، وإما أن تكون صادقة في البعض، وكاذبة في البعض الآخر، وهذا النوع الأخير ينقسم ثلاثة أقسام؛ إما أن يكون صدقه أكثر من كذبه، وإما أن يكون كذبه أكثر من صدقه ، وإما أن يتساوى فيه الأمران، فصار جميع أنواع القياسات خمسة يقينية وظنونية ومغلطة ومقنعة ومخيلة، فصنف لكل واحد من هذه الأقسام كتابا وعلم تناول هذه الطريقة بقوانين لا يمكن أحدا أن يؤدي إلا خلاف جوهر الشيء المطلوب، ولا يمكن أحدا أن يرجع عنه ولا يقع فيه تهمة ولا شك، وسماه كتاب البرهان.
وأما القياس الذي هو كذب كله فهو ما يخيل في الشيء أنه على صورة، وليس هو عليها بالحقيقة، ومثاله ما يعرض للعين عند النظر إلى المحسوس، وربما تخيل الإنسان في الشيء خيالا فاسدا، ثم يبادر إلى العمل بما يقتضيه ذلك الخيال، فتجيء الأفعال رديئة قبيحة، فصنف فيه كتابا دل على وجوه هذه التخيلات من أين يقع وكيف يقع، وسماه كتاب الشعراء والصناعة الشعرية؛ وأما الذي صدقه أكثر من كذبه فهو ما توجد قياساته من أشياء مشهورة ليست ذاتية ولا جوهرية للمطلوب، ولا بها قوامه فيلتمس الإنسان إبداع ظن قوي، إما عند نفسه، وإما عند غيره حتى يقع له وإن لم يكن يقينا، فصنف فيه كتابا ودل على وجوه هذه الظنون وأنى تصدق، ومن أين، وكيف، وأنى تكذب، ومن أين، وكيف، وسماه الجدل والصناعة الجدلية؛ وأما الذي كذبه أكثر من صدقه فهو الذي يغلط فيتوهم فيما ليس بحق أنه حق، وفيمن ليس بعالم أنه عالم، وهذا الغلظ يكون على وجوه وعلى ضروب، فصنف كتابا دل فيه على وجوه التلبيسات والتمويهات والأغاليط كيف تقع، ومن أين، وسماه صناعة السوفسطائية، وهي الحكمة في اللغة اليونانية، مشتقة من سوف وهو الحكمة، ومن أسطيس وهو التلبيس والتمويه؛ فكان معناه الحكمة المموهة، وكل من كان قادرا على التلبيس أو التمويه، إما في نفسه بأن يوهم أنه حكيم وليس بحكيم فهو سوفسطائي، وليس كما يظنه معلمو الإسلام أنه كان في الزمن القديم رجل يقال له سوفسطا، وكان يدفع حقائق الموجودات، وأنه له شيعة ينصرون مذهبه، ويسمونه به؛ فإن هذا ظن لا أصل له، ولم يكن قط رجل فيما سلف يقال له سوفسطا، ولا سمي به أحد، ولا نصر هذا الرأي قوم بأعيانهم، وإنما ينسب إلى صناعة الجدل، فيقال جدلي ليس أن هناك رجلا يقال له جدل.
وأما الذي كذبه مساو لصدقه فهو الذي يلتمس به إقناع ما في أي رأي كان، وأن يسكن السامع إلى ما يقال له ويصدق به تصديقا ما، وهو دون الظن القوي، فصنف فيه كتابا دل فيه على وجوه هذه الإقناعات، ومن أين، وكيف تقع، وسماه كتاب الخطابة، وهذه هي الكتب الخمسة المنطقية. لكن أرسطو لما نظر في القياس وجد منه ما هو مشترك بهذه الفنون، ومنه ما هو خاص بكل واحد منها، فعمل للقياس الأول العام المشترك لجميع الصناعات الخمس كتابا سماه كتاب القياس، وهذا الكتاب يوجد في النقل القديم أحدهما كتاب القياس، والآخر كتاب البرهان، وهو باليونانية أنولوطيقا الأولى، وأنولوطيقا الثانية، ثم نظر في القياس فإذا هو مركب من ألفاظ ومعان، وأقل الأقاويل القياسية ما كان مركبا من لفظتين لفظتين، وأقل المعاني القياسية ما كان من معقولين معقولين، وأكثرها غير محدود، وهذه الأقاويل المركبة من لفظتين أجزاؤها ألفاظ مفردة لا محالة؛ فبالضرورة انقسمت له الصناعة إلى ثمانية أقسام، ذلك على طريق التحليل، فلما سلكه على طريق التركيب بدأ بالألفاظ المفردة الدالة على أجناس المعاني المفردة، فعمل فيها كتابا، وحصر هذه الألفاظ في عشرة أجناس من المعاني، ثم قسم كل واحد فيها إلى أنواعها، وسماه كتاب المقولات، وهو المعروف بكتاب قاطيغورياس، ثم ثنى بكتاب ذكر فيه الأقاويل المركبة، وسماه كتاب بارمينياس؛ أي العبارة، وثلث بكتاب القياس الذي ذكرناه. فعلم فيه قوانين الأقاويل التي يبين بها القياسات المشتركة للصنائع الخمس، وسماه أنولوطيقا الثانية فعلم فيه قوانين القياسات التي لا تغلط، ولا يمكن فيها ذلك وهي اليقينية.
وخمس بكتاب ذكر فيه قوانين القياسات المأخوذة من الأمور المشهورة، وكيف يكون السؤال أو الجواب على هذه الطريقة، وعلم فيه القوانين التي تتم هذه الصناعة على أفضل وأكمل ما يمكن، وسماه طوبقا، وهو كتاب الجدل. وسدس بالكتاب الذي ذكر فيه قوانين هذه الأشياء التي يغلط عن الحق وغيره، وأحضر الأمور التي يقصدها المموه، وبين الأشياء التي تظهر فسادها، وكيف يتحرز منها، وسماه سوفسطيقا؛ أي الحكمة المموهة. وسبع بكتاب ذكر فيه قوانين الأشياء المقنعة بالخطاب، وأحصى جميع ما يتم به هذه الصناعة ليكون الإنسان فيها أكمل وأنفذ، وسماه ريطوريقا. وثمن بكتاب ذكر فيه قوانين الألفاظ المخيلة، وأحصى جميع ما يتم به هذه الصناعة، وقسمها إلى أنواعها وأصنافها، وسماه بويطيقا؛ أي الشعر لتتم هذه الصناعة على هذه الأقسام. وكان غرضه الأول فيها القياس البرهاني، ولكن أوجبت القسمة والترتيب ما ذكرناه، وأيضا فإن الأشياء التي تعرف بطريق البرهان يسيرة بالإضافة إلى ما يعرف بالقياسات الآخر، فواجب أن يرتبها، ويعلم طرقها، وأيضا فإن بعضها طرق البرهان، وبعضها تحميه وتذب عنه. أما الثلاثة التي في أوائل الصناعة فهي التي تؤدي إليه الأربعة الأخيرة هي التي يحامي عليه لئلا يشتبه به ما ليس منه، وأشرف هذه الكتب كتاب البرهان؛ لأنه المقصود الأول، فوقع في القسم الرابع بالضرورة كما ذكرنا فيما سلف، وباقي الكتب إنما عملت إما مداخل إليه وتوطئات له، وإما حامية عنه. أما الثلاثة التي تقدمه فهي المداخل، وأما الأربعة التي بعده فهي التي تحرزه وتميزه وتحميه من الطرق التي يوهم أنها تؤدي إلى ما يؤدي إليه هو، ومع ذلك إذا قصد الإنسان أن يكون مجادلا قويا، أو خطيبا مصقعا، أو شاعرا مفلقا نحا نحو ما يلتمسه، واقتنى من الكتب الذي صنف فيه قوانين الصناعة ليصير بها في أعلى درجة منه، وأرفع رتبة فيه، وإن اقتصر إنسان على الكتب الأربعة كفاه ذلك في تعلم الحكمة وقراءة الكتب بعدها، وهي الكتب التي عددناها، وشرحنا قسمة الحكيم لها، فبدأ منها بالكتب التي من ذوات المواد، وهي من الأمور الطبيعية. وآخر الكتب التي في الأمور المجردة في المواد؛ إذ الطبيعيات محسوسة لنا وهي إلينا أقرب، ونحن لها آلف، وبها أعرف، ومنها يمكننا الترقي إلى ما بعدها، فصنف فيه كتابا ذكر فيه الأمور المشتركة لجميع الأشياء الطبيعية ما كان منها تحت الكون، وما ليس تحت الكون، وسماه السماع الطبيعي، وصنف كتابا فيما يخص الأشياء التي ليست تحت الكون، وسماه كتاب السماء؛ ثم قسم الأشياء التي تحت الكون، فعمل كتابا فيما هو مشترك للأشياء ذوات الكون كلها، وسماه كتاب الكون والفساد، وعمل كتابا فيما يختص في الأرض مما له نفس، ولا حواس له، وسماه كتاب النبات، وكتابا فيما يختص بذوات النفوس، وله حواس، وسماه كتاب الحيوان، ولما أراد أن يرتقي في الطبيعيات، وهي الأمور ذوات المواد إلى الأمور التي لا مواد لها، وجد بين هاتين المنزلتين أمورا لها شركة في الطبيعية، وشركة فيما بعد الطبيعية، فعمل فيها كتابه في النفس، وكتابه في الحس والمحسوس، ثم عمل فيها بعد الطبيعة كتبه التي رسم عليها الحروف، وهي المعروفة بالألف ياء، وما بعدها؛ فمنها ما نقل إلى العربية، ومنها ما لم ينقل، إلا أن فيما نقل غنى كثيرا، وكفاية تامة.
ولما عمل في الجزء النظري هذه الأعمال العظام، ونظمها هذا النظام كمل أيضا في الجزء العملي هذا العمل بعينه، وذاك أنه قسم إلى ما هو خاص بالإنسان في نفسه، وإلى ما هو خاص بما كان خارجا عنه، وهذا الثاني ينقسم إلى قسمين: أحدهما تدبير المنزل، والآخر تدبير المدن، فعمل في كل واحد كتابا.
أما في ما يخص الإنسان بذاته فكتابه في الأخلاق، وهو كتاب عظيم جدا، كثير المنافع، يعلم كيف يكتسب الإنسان هبة فاضلة، وسجية محمودة يصدر عنها الأفعال الجميلة، والأعمال المرضية، وأما كتبه في تدبير المهن والمدن فلم ينقل إلى العربية إلا ما وجد من كتابه في تدبير المدن، وهو مقالنا، وقد ذكرت في فهرست كتبه، وله بعد هذه الكتب رسائل وكتب سماها التذاكير، وهي كثيرة على ما يذكر، ويحكى في فهرست مصنفاته، وله كتب في التعاليم، ولم ينقل منها شيء إلا أن في النظام الذي خرج إلى العربية والترتيب الذي رتبه غنى عظيما، وراحة تامة لمن أحب أن يكمل ذاته، ويتوجه إلى مقصده ليصل إليه بسرعة. فأما مقدار الزمان الذي يفرض لمن أراد تعلم الحكمة على ما رتبه هذا الحكيم المحسن إلينا، المنعم علينا، فعلى مقدار عنايته واهتمامه ومعونات الاتفاق إياه؛ أعني بها أن يكون ذكيا حفوظا واجدا للكتب، والأستاذ الفاتح ، والكفاية في المعيشة لئلا يشتغل بها عما يقصد؛ فزوال العائقات التي لا يحتسبها الإنسان في عوارض الدنيا وهمومها، وأمراض النفس والبدن واجتماعهما، وحذر العوام مرة، والسلطان أخرى، ومراقبة أهل البلد؛ فإن الناس كما يقول القائل أعداء ما جهلوا، ومن شأنهم الوقيعة في أهل الفضل، ومعاداة كل من خالفهم في مذاهبهم وأغراضهم، وقصد بكل مكروه وأذى،
4
فإذا سلم من هذه العوارض، وكانت القريحة والأسباب التي ذكرناها مجتمعة له، فما أقرب وصوله إلى بغيته، وراحته من تعب أبناء جنسه، وظفره بالكنوز التي زخرت، ومدة ذلك على التقريب ما بين عشر سنين إلى عشرين سنة.
وهذا إذا شغلته الدنيا بعض الشغل، فإنه لا يجوز أن يظن بإنسان أنه ينفرد وينكمش على العلم، ولا يجعل لبدنه راحة، ولنفسه حظا من اللذات فيما يحسن ويجمل، ولو تعاطى ذلك لخسره أو انقطع دون غايته، وقد رأى بعض أصحاب أرسطو ومدرسي كتبه أن يبتدئ المعلم لها بكتب الأخلاق
5
لتتهذب نفسه، وتصفو من كدر الشهوات، ويخف عنها انفعال عوارضها، فتتمكن من قبول الحكمة، ويعترف بعض الاعتراف بترك الانهماك في الشهوات، وهجران الملاذ الجسمية، ويعلم أن أكثرها خساسات ورذائل فيتنزه عنها، ثم ينظر في شيء من التعاليم ليعرف طريق البرهان، ويتدرب بها، ويأنس بطرقها، ويترك الإيغال فيها إلى وقت آخر؛ فإن بين يديه غرضا بعيدا، وشوطا بطيئا. ثم ينظر في المنطق الذي هو آلة في جميع ما يقصد، ثم ينظر في الطبيعيات وما بعدها على الترتيب الذي تقدم، فإذا وصل الإنسان إلى المرتبة الأخيرة اطلع على حقائق الموجودات، ونزلها منازلها، وتصورت نفسه بها، فإذا تصورت النفس بحقائق الأمور عقلها عقلا تاما، فإذا عقلها تصور بالصور العقلية، وزالت عنه رسوم الأعراض التي في الأمور الطبيعية؛ أعني الأشياء الدائرة، وحصلت صور الأشياء العقلية السرمدية، واتحد بها العقل، فصارت هي وهو شيئا واحدا، ومن شأن العقل أن يصير جزؤه كلا كما يتبين ذلك له إذا وصل إليه، فإذا فارقت نفسه بدنه انتقل إلى الوجود الثاني
6
الذي هو غايته الأخيرة، وكماله الأقصى، وهذه الحالة عسرة التصور جدا، بعيدة فيما نشاهده ونعتاده، ولا يمكن النطق بها، ولا يسعها إلا بالطريق الذي يصل إليه من سلكه على الجادة التي بيناها، وإذا مثلت بالأمثال المحكية لها مما اعتدناه وألفناه عرضت في الأمثلة مناقضات ومحالات؛ لأجل أن المثال ليس من الممثل في شيء؛ فلذلك عدل عن ذكره، وقد عملت فيه على كل حال كل ما اجتهدت فيه أن يلوح منه أجلى ما يمكن.» انتهى كلام ابن مسكويه في كتاب السعادة. •••
توفي أرسط أو أرسطو في 322ق.م.، وبوفاته انقطع حبل الفلسفة، وارتج باب الحكمة، ولدى موته كان زينون مؤسس الفلسفة الرواقية في الرابعة عشرة من عمره؛ لأنه ولد كما أسلفنا في 336.
وقد تلقى العلم على أتباع الكلابيين، واختار من مذهبهم حب الطبيعة، والدعوة إلى العودة إلى رحابها، والاقتداء بها، والاستسلام إلى أنظمتها، وكان زينون مفكرا عميقا، ولو أنه وجد قبل أرسطو وأفلاطون لكان له شأن يذكر، لكن ظهوره بعد هذين الحكيمين يقلل كثيرا من قدره.
ومن دلائل فطنته وعلو كعبه معارضته لآراء الحكيمين في الروحانيات، ودحضه ذلك، وقوله إن سائر الأشياء مكونة من عنصر واحد وهو الجسم أو الكيان المادي الظاهر، وهذا رجوع إلى المادية الأولى، وإحياء لطبيعيات هيراقليط. وقال إن العالم والسماء من حين إلى حين يهلكان، ثم يتجددان، واستعار من أتباع فيثاغورس القول بأن التاريخ يعيد نفسه، وهذه نظرية استعارها فردريك نيتشه، وسبكها في قالب جديد، ولم ينسبها إلى صاحبها، وينشأ عن القول بأن التاريخ يعيد نفسه التسليم بالقضاء والقدر بأكمل معنى؛ لأنه ما دام تكرير الحوادث على نسق واحد معين أمرا محتما، فكل حوادث الحياة إذا لا بد واقعة كما سبق تنظيمها بإرادة الأقدار، وفي هذا المبدأ ما انتحلته بعض الأديان، وسارت عليه مستسلمة «مسلمة أمرها لمن بيده الأمر»، وسنرى بعد برهة تأثير فلسفة الرواقيين في الأديان، فإن مذهبا أساسه الاعتراف بكون الإنسان مسيرا لا مخيرا لا بد أن يجد قبولا لدى أرباب الأديان وأنصارها والمتكلين عليها، أما رأي زينون في الإلهيات فظاهر أنه مادي ؛ لأنه يقول بأن الله «جسم» يملأ الكون كله، ويبعث فيه القوة والحياة، ومثل انتشار الدسم في وعاء اللبن الذي يضربه المتصوفون لتقريب معنى وجود الله في الكون أمر معلوم، ولم يكن ليخفف وقع هذا الاستسلام الفلسفي إلا القول بأن العالم مخلوق بمنتهى الكمال والخير، وأن غايته سعادة المخلوقات وخيرها، وقد انتحل هذا الرأي ليبنتز بعد الرواقيين بعشرين قرنا، وروى عنه الشهرستاني (ص292) أن العوالم تتجدد في كل حين ودهر، وما كان منها مشاكلا لنا أدركنا حدود وجوده ودثوره بالحواس والعقل، وما كان غير مشاكل لنا لم ندركه. وقال: إن الموجودات باقية دائرة، فأما بقاؤها فبتجدد صورها، وأما دثورها فبدثور الصورة الأولى عند تجدد الأخرى. ا.ه. كلام الشهرستاني.
أما نسبتهم إلى الرواق؛ فلأن زينون اتخذ مدرسته في رواق مدهون بالألوان اسمه باليونانية
Stoa Poikile
كما تسمى تلاميذ أفلاطون بالمشائين نسبة إلى مكان مدرستهم، وصار اسم الرواقيين علما على الاستخفاف بالآلام، وعدم الاكتراث للذة والأذى، وقد سارت هذه الكلمة وصفا في كل اللغات الإفرنجية على تحمل الألم، فيقال: «تحمل الشدائد بشجاعة رواقية.» ولا أعرف لهذا الوصف استعمالا في اللغة العربية. وقد رويت عن زينون أقوال تدل على تلك الحال النفسية التي مصدرها الاستسلام للقضاء والقدر؛ قيل له: إذا مت من يدفنك؟ قال: من يؤذيه نتن جيفتي، ونعي إليه ابنه فقال: ما ذهب ذلك علي إنما ولدت ولدا يموت، وما ولدت ولدا لا يموت، وقال: محبة المال وتد الشر (ويكاد هذا يكون رأيا مسيحيا).
وكانت مبادئ الرواقيين تعارض مذهب أبيقور عابد اللذائذ، قلت: إن فلسفة الرواقيين نالت حظوة الأديان، وضربنا مثلا بالتوكل والاستسلام، ولكن ذلك لم يكن الوجه الوحيد الذي جمع بين الرواقية والأديان، إنما هناك رابطة أخرى وهي أن زينو استعار من هيراقليط الاسم الذي وضعه علما على الله، وهي
Logos
أو لوغوس، ومعناها الكلمة، وكان زينو يقول إن المبدع الأول كان في علمه صورة إبداع كل جوهر وصورة دثور كل جوهر؛ فإن علمه غير متناه، والصور التي فيه من حد الإبداع غير متناهية، وكذلك صور الدثور غير متناهية، فكأن زينون يقول بازدواج المبدع الأول، وظهور ذلك في العقل الخالق أو الفعال، وفي المادة القابلة للتشكيل، أما كلمة
Logos
اليونانية فمعناها الكلمة؛ ولذا جاء في الأصحاح الأول من إنجيل يوحنا: «في البدء كانت الكلمة (لوغوس)، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس!» فتأمل كيف أن رأي هيراقليط ورأي زينو اتفقا بعد عدة قرون مع الكتب المنزلة المقدسة، وقد قرر هذا الرأي ووضحه المؤرخ العالم و. بن في كتابه: تاريخ الفلسفة القديمة، ص114.
نقول وبعد زينون جاء كليانت، وكان شديد التدين، ونظم صلاة نقلنا معظمها إلى العربية في عرض الكلام عليه، وقد أدى به تشدده في الدين إلى التعصب الأعمى، فأمر بقتل أريستارخوس العالم الطبيعي لقوله بدوران الأرض حول الشمس، وحدث مثل هذا بعد مئات السنين على أيدي رجال الدين لجاليليه وسيرفيه وبرونو وغيرهم كثيرون، وجاء بعده خريسبوس، وعاش عيشة الحكماء، وبسط الفكر الفلسفي جهد طاقته.
ثم إن المذهب الرواقي اشتهر وانتحله الرومان الذين تغلبوا على اليونان، وظهر ثلاثة فطاحل لهذا المذهب هم: سنيكا، ومارك أوريل، وأبيكتت.
أما سنيكا فقد درست تاريخ حياته ومبادئه مذ كنت أعد المواد لرواية نيرون التي مثلت في القاهرة في عام 1919، وأظن أن أبلغ وأوفى ما كتب عنه ما ورد في كتاب تاسيت وسويتون المؤرخين الرومانيين، والمعلوم من حياته أنه نفي من روما على عهد كلوديوس إلى أن ردته أجريبينا إلى وطنه بعد أن قتلت زوجها كلوديوس بالسم، ووكلت إليه أمر تربية ولدها نيرون، وكانت رزقت به (ورزئت به الدنيا) من زوجها الأول إينوباربوس، وكان سنيكا صديقا حميما للقائد بوروس الذي شاركه في تدريب العاتية الغشوم وهو في صباه، ويظهر أن سنيكا كان دساسا أكثر منه حكيما؛ فقد اشترك في كل المؤامرات التي تمت في قصر نيرون له وعليه، واتهمه نيرون أخيرا بالاشتراك في مؤامرة غايتها خلع نيرون، وتولية سنيكا مكانه، ولم يشأ نيرون أن يقتل سنيكا جهارا، فاكتفى بأن أمره بقتل نفسه؛ ففعل، وجاء في تاريخ تاسيت عن موته في الجزء الأول صحيفة 502 ما يأتي:
لما بعث إليه نيرون بالجند مزودين بأمر الانتحار، قال لأصحابه الذين كانوا حوله: ترون أيها الرفاق عجزي عن شكركم، إنني أترك تاريخ حياتي نموذجا تنسجون على منواله، وهو أثمن ما لدي فاعتزوا به، لقد حاولت أن أكون مثال الفضيلة والصداقة والإخلاص، فبكى الحاضرون وهموا بتقبيله، فقال لهم: أين مبادئ الفلسفة؟ وأين تعاليم الحكمة؟ ألم تتعلموا بعد كيف تلقون المصائب بصدر رحب، وعزم ثابت، ونفس مطمئنة؟! هل كانت قسوة نيرون مجهولة لديكم؟ لقد قتل أمه وأخاه (ونسي الحكيم أن نيرون اشترك مع أمه أجريبين وآخرين في قتل زوج أمه كلوديوس، وكانت هذه فاتحة عهد المذابح)، ولم يبق له إلا أن يقضي على أستاذه ومشيره، ثم ضم زوجته إلى صدره، وقبلها قبلة الوداع، ثم أمر ففتحت شرايينه، فلم تقطر دما، فأعدوا له جرعة من الساج (مثل التي شربها سقراط) فقال وهو في النزع: وا فرحتاه! إنني أموت بالكأس التي مات بها سقراط! وأمر خدمه فنقلوه إلى حمام البخار، فأخذ يرش أرقاءه بالماء، ويقول: ها أنا أتوضأ إكراما للمشتري إلهي ومنقذي من آلام الحياة. ا.ه. كلام تاسيت.
وهذه النبذة الجميلة البليغة التي نقلناها عن تاسيت (وهو في نظري أعظم مؤرخي الرومان، وأعظم مؤرخي الأقدمين ما عدا هيرودوت وبلوطارح وهما في صفه) تعطينا صورة ناطقة لموت سنيكا، ولكنها تدل على معنى المذهب الرواقي كقوله: «أين تعاليم الحكمة؟ ألم تتعلموا كيف تقلون المصائب بصدر رحب، وعزم ثابت، ونفس مطمئنة؟»
وكان سنيكا إسبانيا (أي من أبناء المستعمرات بالنسبة للرومان) ولد في العام الثالث للمسيح، ومات في سنة 65ب.م على دين آبائه وأجداده، ونحن لا نريد الانتقاص من قدره بقولنا إنه كان دساسا أكثر منه حكيما، ولكن يظهر أن حياته السياسية اقتضت إغفال الحكمة والتضحية بها في سبيل مظاهر الحياة، وحب النفوذ حتى إنه حاول في نهاية أمره أن يكون قيصرا رومانيا، وهذه الفكرة الجنونية لم تخطر ببال أحد من الحكماء.
أما إيبقت أو إيبكتت ومعناه «المشترى بالمال»، وليس هذا علما، ولكنه يشبه اسم «عبد الخير» في عرفنا لما كان الرقيق مباحا، هذا الحكيم المسكين الذي لم يستفد من الدنيا شيئا حتى ولا اسما يعرف به غير وصف الرق والابتياع، كان رقيقا لرجل من أخبث الناس، وأرذلهم، وأقبحهم ذكرا في التاريخ، وهو المعتوق إيبافروديت، وقد درسنا حاله أيضا في كتاب تاسيت، وكان إيبافروديت هذا رقيق نيرون، وصحبه طول حياته، وسهل له كل الجرائم حتى جريمة الانتحار التي قضى بها على نفسه، فتأمل أيها القارئ اللبيب كيف أن بلاط نيرون أعظم الظالمين، وأشد الطغاة بغيا، خرج فيلسوفين معروفين، هما سنيكا وإيبقت، وكان المسكين أعرج، ولعل عرجه نتيجة ضربة من إيبافروديت اللعين، وقد دفع به الظلم والأذى إلى أن يلتمس تفريجا لكروبه في درس الفلسفة الرواقية التي تعلم احتمال المصائب، ولقاءها بصدر رحب، وبلغ منها الغاية فصار شبه أستاذ إلى أن طرده دوميتيان الإمبراطور في سنة 90ب.م. مع جميع الفلاسفة؛ لأنهم ضايقوه بمبادئهم التي تقاوم ظلمه (العفو يا صاحب الجلالة) فلجأ إلى نيكوبوليس، وأخذ يعلم الحكمة، وهو في غاية الفقر، ولكنه بعد موته لم يعدم غنيا متهوسا محبا للظهور، اشترى مصباحه الذي كان مصنوعا من الفخار (مسرجة) بثلاثة آلاف دراخما (نحو ثلاثة آلاف فرنك) كما يصنع أغنياء الأمريكان لعهدنا في اقتناص آثار العظماء، وكان الحكيم الأعرج المريض الفقير أولى بها يقوم أوده في حياته، ولم يدون شيئا، ولكن تلميذه فلافيوس أريانوس كتب عنه كل مبادئه في كتابين رأينا لهما ترجمة إنجليزية في ستة أجزاء بقلم إليزابث كارتر، وخلاصة فلسفته استسلام الإنسان للألم، وتوطيد النفس عليه، وقوله بأن إرادة الإنسان فوق كل شيء، وهي التي تؤدي إلى سائر الأعمال، وأن جميع الناس أبناء الله، والمثل الأعلى للحكمة في نظره سقراط وديوجين الكلابي.
أقول: وأول ما علمت شيئا عن إيبقت ما قرأته من الحكم والمواعظ التي اقتبسها جون لوبوك وزين بها كتبه «سعادة الحياة» و«منافع الحياة» حتى يمكن القول بأن جون لوبوك كان تلميذا لإيبقت في العصر الحديث، وإيبقت واضع مثل «احتمل واصفح»، وفيه ما فيه من نصائح المسيحية المكرمة، وإذا صح ظني كان تولستوي من أتباع إيبقت، وبالجملة كانت فلسفته فلسفة استسلام وعدم مقابلة الشر بالشر، وتعميم الحب، ولم أر أحدا من حكماء العرب أو كتابه قد اعتنى بآراء هذا الحكيم الذي لا يشبهه في حكمته وشقائه إلا أيثوب الذي كان رقيقا وفيلسوفا، وكتابه العيون اليواقظ، الذي انتحل معظمه لافونتين، ونقله محمد عثمان جلال نظما، معروف ومتداول.
أما مارك أوريل الذي عاش ومات في القرن الثاني للمسيح، فكان قيصرا حكيما، وقد شبهناه بالقديس لويس والملك أرتور الإنجليزي، وفي التشبيهين مبالغة؛ لأن أرتور كان متدينا جدا، ولويس كان مجاهدا في سبيل دينه، أما مارك أوريل فقد كان حكيما بحق، وقد أنشأه أبوه على الحياة البسيطة، واحتقار زخارف الحياة، وعلمه تحمل الشدائد، واختار له أفضل الأساتذة.
ولما تعين قنصلا فإمبراطورا حارب للدفاع عن مملكته، وكان قائدا قديرا، ومكللا بالفوز، حسن الإدارة في ملكه، واتبع الحكمة في الابتعاد عن أنواع الفساد، ونشر العدل في بقاع الأرض، وسن القوانين لحماية الضعاف، وتخفيف مصائب الأرقاء، وعين ذاته وصيا على الأيتام، ومنع الظلم عن الولايات، ومات على دين أجداده.
وبين يدينا كتابه الموسوم بالكتاب الذهبي، وهو مقسم إلى اثني عشر كتابا، الأول خاص بذاته، وذكر من استفاد منهم، وبقيته تأملات ونصائح وخواطر سانحة في الخير والسعادة والحق وقواعد الحياة، وقد نقلت هذه الكتب إلى عدة لغات، وأفضل ما رأيت عنها ما دونه إرنست رينان في المجلد السابع من تاريخ المسيحية، وهو خاص بعهد مارك أوريل ومبادئه (طبع 1882).
ثم تكلمنا عن مذهب المشككين أو المرتابين
7
وزعيمهم كارنياديس الذي بالغ في التشكيك إلى درجة القول بعدم التأكد من العلم بشيء على الإطلاق، وهذا قول قديم سبقه إليه أرسطفن القوريني أو الرفني الذي قال إن العلم بالحوادث إنما يصلنا عن طريق الإحساس، وهو نتيجة التأثر بالأمور الخارجة عنا، ولما كان الإحساس لا يشبه تلك الأمور الخارجة حتما ، فلا يمكن أن نعلم الأمور الخارجة علم اليقين، وكان همهم محاربة فلسفة اللذائذ الأبيقورية، ويمكن القول بأنهم كانوا فلاسفة وسطا بين الرواقيين والأبيقوريين.
ثم بسطنا الكلام على أبيقور بقدر ما وسعه المجال، وقد اهتم به العرب، فقال القفطي: «إن شيعة أفيقووس ويسمون أصحاب اللذة؛ لأنهم كانوا يرون الغرض المقصود إليه في تعلم الفلسفة اللذة التابعة لمعرفتها.» وهذا خطأ فاضح لا يقترفه إلا جمال الدين. وقال الشهرستاني وهو أقرب إلى الحقيقة إن رأي أبيقورس خالف الأوائل في الأوائل (تورية لطيفة)، فقال: المبادئ اثنان؛ الخلاء والصورة، وأما الخلاء فمكان فارغ، وأما الصورة فهي فوق المكان والخلاء، ومنها أبدعت الموجودات، وكل ما كون منها فإنه ينحل إليها؛ فمنها المبدأ، وإليها المعاد، وربما يقول الكل يفسد، وليس بعد الفراق حساب ولا قضاء، ولا مكافأة وجزاء، بل كلها تضمحل وتدثر (ليس في الأمر «ربما» إنما هذا هو رأي أبيقور بالتأكيد).
والإنسان كالحيوان مرسل مهمل في هذا العالم، والحالات التي ترد على الأنفس في هذا العالم كلها من تلقائها على قدر حركاتها وأفاعيلها، فإن فعلت خيرا وحسنا فيرد عليها سرور وفرح، وإن فعلت شرا وقبيحا فيرد عليها حزن وترح، وإنما سرور كل نفس بالأنفس الأخرى، وكذا حزنها مع الأنفس الأخرى بقدر ما يظهر لها من أفاعيلها (شهرستاني ص297).
ولا حاجة بنا لتلخيص الأفلاطونية المستحدثة لقرب عهد القارئ بها.
وهذا ختام ما أردنا ذكره من فلسفة اليونان، وذكر علمائهم الذين علمونا كيف يفكر الإنسان، ولفتونا إلى أصل العالم، ونبهونا إلى غايتنا من الحياة، وفتحوا لنا نافذة تطل على فضاء الموت، وهذا منتهى الحكمة الإنسانية!
الإنسانية والتقدم
تأثير الفلسفة اليونانية في العالم
وجدت في أماكن متفرقة عظام مهولة، وهي عظام الفيلة الأولى التي انقرضت (ماموث)،
1
وعظام الحيوان الذي انقرض أيضا، وأطلق عليه كوفييه العالم الطبيعي الفرنسوي مؤلف كتاب «عالم الحيوان» وغيره اسم «مستودنت»؛ أي ذا الأسنان الحلمية.
وهذه العظام وغيرها من الآثار الحيوانية والنباتية التي أطلق عليها علماء أوروبا وصف
Fossile ، ويمكن تسميتها بالعربية أحافير كانت معروفة منذ خمسة وعشرين قرنا عند اليونان؛ فقد قال عنها زينوفون الحكيم الإغريقي مؤسس الفلسفة العقلية (التي ظهرت مبادئها في مدينة إيلية اليونانية القديمة، ونسبت إليها) إن هذه الآثار وتلك العظام هي بقايا حيوانات ونباتات كانت حية في الماضي، واستنتج من وجود أصداف بحرية في رءوس الجبال، ومن انطباع صور السمك والفقم في أحجار مقالع أزمير وسرقوصة، أن تلك الأماكن كانت مغمورة بالمياه.
فإذا وجب رد كل شيء إلى مصدره حق على العالم أن يعترف بأن زينوفون
2
الإغريقي هو واضع علم البالنتولوجيا أو الأحياء الأولى، وإذا كان الفضل يرجع إلى كوفيه في تنظيم مبادئ هذا العلم في القرن التاسع عشر بعد أن اتسع نطاق المعارف الإنسانية، فإن الفضل الأول راجع إلى العالم الذي عاش قبل كوفييه بأربعة وعشرين قرنا.
كان الناس في العصور الوسطى يحسبون هذه العظام المهولة أنها بقايا من طوائف الجبابرة البشرية الذين كانوا يعيشون على سطح الأرض قبل الإنسان، كما كانوا يحسبون أحجار السليس
Silex
التي وجدت في أنحاء أوروبا قطعا هابطة على رءوسهم من السماء، ويسمونها حجر الصاعقة، وقد ثبت من أبحاث العلماء أن تلك الأحجار المنظمة التي وجدت في مجاري الأنهار، وفي جوف المغاور بين طبقات متكدسة من الطمي والكلس وغيرهما من العناصر الحجرية لم تهبط من السماء كما هبطت الأرواح من المحل الأرفع، إنما هي أدوات كان الإنسان صنعها واستعملها في شئونه في العصر الحجري.
3
وإن في هذا الأمر لعبرة كبرى؛ فإن بعضنا يظن أن الحقائق العلمية التي تظهر في جيل من الأجيال تصبح ملكا عاما شائعا للإنسانية فتتلقفها الأجيال المتتالية، ويتوارثها الناس بالتعليم والتلقين فلا تضيع، بل تصبح جزءا من الثروة العقلية التي تنمو بالإنتاج والاقتصاد والتوافر.
وكان هذا الأمر واجبا، بل يدهشنا عدم ظهوره ظهور الشمس، ويذعرنا عدم انقطاع العلماء لتحقيقه؛ لأن إهماله يزيد الجهل تخييما على العقول؛ إن مصيبة الإنسانية ليست في عجزها عن إدراك الحقيقة، ولكنها في طمس معالم الحقيقة كلما ظهرت، ودفنها تحت أكوام مكدسة من تراب الجهل، إن كثيرا من الحقائق التي نكتشفها اليوم ونظن أنها حديثة، وأن لنا الفضل في إظهارها من عالم الخفاء إلى نور الظهور كانت معلومة لدى الأقدمين، وثابتة لديهم ثبوت الشمس في رابعة النهار، ولكن الجهل الإنساني طمس آثارها، وأخفى معالمها، وجعل نارها رمادا، ونورها ظلاما؛ خذ لذلك مثلين واضحين: الأول مثل اليونان؛ فقد بلغت بحكمتها وتدبيرها وعقول أبنائها وعلومهم وأنظمتها الاجتماعية والسياسية، ومظاهر حياتها الأدبية والفنية، مبلغا جعلها معلمة العالم، ومرشدة الأمم، ويمكن القول بغير مبالغة، إن ما وصل إليه أرسطو وأفلاطون وسقراط وأبيقور وزينوفون وسوفوكليس وفيدياس وبركليس وصولون وديموستين لم يصل إليه إنسان بعدهم في سائر فروع الحياة العقلية التي نبغوا فيها، فقل لي: أين آثار هؤلاء؟ وأين علومهم؟ وأين حكمتهم؟ وأين فنونهم؟ وأين ثمرة جهودهم التي جعلتهم آلهة يسيرون على الأرض، إن لدينا من كل ذلك نتفا ذات قيمة في ذاتها، ولكنها تافهة بالنسبة لمجموع ثمرات عقولهم التي لو جمعت ونظمت ودرست على حقيقتها لكانت كافية لتنوير الإنسانية، وتقدمها إلى آخر الدهر، ودليلي على ذلك أن هؤلاء الحكماء الأوائل لا يزالون، ولن يزالوا المصدر الأول لكل من يريد أن يستقي الحكمة من منبعها، ولا يزال كل من يجهل آثارهم لا يعد داخلا في زمرة العلماء أو المتأدبين.
المثل الثاني مصر، وهي أشهر من أن تذكر؛ فقد بلغت علومها وفنونها وآدابها منذ أربعين أو خمسين قرنا مبلغا لا تزال آثاره ظاهرة للعيان في آثارها ونقوشها وصحفها، وإذا حق لنا أن نذكر حكماء اليونان، وننسب إليهم الفضل في إخراج الإنسانية من غيابة الجهل، وإرشادها نحو المثل الأعلى في العلوم والفنون والآداب فيكفينا في التدليل على قدر مصر أن هياكلها المقدسة كانت مدارس لفلاسفة اليونان أمثال من ذكرنا، وفيثاغورس نفسه أقام عدة سنين يتلقى العلم على الكهنة في معابد ثيبة وهليوبوليس، فأين هذا كله الآن؟ وهل نرى في مصر، وقد زاد خصبها، وزكا زرعها، وفاض نيلها، وتضاعف عدد سكانها، جزءا من مليون من علوم مصر العظيمة التي فنيت؟ هل أشرق في سماء مصر شعاع واحد من تلك الأشعة التي انبعثت في فجر المدنية، فأضاءت اليونان أولا، والعالم كله ثانيا؟
إن كل فكرة وكل خاطر يمر بالنفس، وكل سطر يدونه كاتب، وكل صورة ينقشها طفل، وكل بيت من الشعر تنطق به سجية حساسة على لسان الفطرة، بل كل نظرة تدل على الفطنة كلها ملك الإنسانية، وجزء من ثروتها العقلية، وينبغي تدوينها وتسجيلها على حقيقتها ونشرها بين الناس، وتلقينهم إياها ليستفيدوا منها سعادة عقلية، أو لذة معنوية، أو خبرة تنفعهم في حياتهم، إن الطفل يرث من والديه كل المميزات البدنية والنفسية؛ يرث الفضائل والرذائل، يرث الميول والشهوات، يرث المحاسن والأضداد، وليس قانون الوراثة بواقف عند حد الوالدين، بل هو يتعداهما إلى الأجداد مهما علوا، وقد ثبت هذا الرأي وأصبحت الرجعى
Atavisme
من المسائل المسلم بها؛ فكيف يستبيح الناس أو القائمون بأمرهم من العلماء والمرشدين والمعلمين، أن يسلموا الطفل إلى العالم، وقد ورث كل العيوب الإنسانية، وهو مع هذا خلو من كل ما أدركته عقول أسلافه، ووصلت إليه جهود أجداده في سائر بقاع الأرض، وفي كل زمان سابق لمولده.
أليس من أعظم الجرائم أن تترك الإنسانية تائهة ضالة في مهامه الجهالة؟ أليس من العبث كل ما يحاوله العلماء في سبيل البحث عن الحقيقة إذا كان كل ما وصل إليه أسلافهم قد ضاع، واختفت آثاره، وإذا ذكر في كتاب على رأس قلم باحث جديد إنما يذكر من قبيل خطرات الأفكار أو غرائب الأقوال أو فكاهات تروح عن النفس وتقطع الوقت وتقتل الزمن؟
إن العلوم التي تلقن في المدارس هي أحقر وأضر معلومات البشر، وينبغي القضاء عليها، ومحوها من سجل التعليم الإنساني، إنها عبارة عن مجموعة سخافات تافهة مبهمة قد سبكها في قالب التدريس قوم جهلاء، وقد سارت الدنيا على هذه الأساليب العقيمة غير المثمرة أجيالا لا تحصى، وينبغي أن تزول تلك الأساليب وتلك المعلومات من عالم الوجود، ينبغي إحراق كل الكتب والكراسات التي تقدم للتلاميذ في كل أنحاء العالم، وينبغي أن يجتمع مؤتمر من علماء كل الأمم، وأن ينتقل في سائر بلاد الدنيا ، ويقضي بين الشعوب المختلفة مدة كافية للوقوف على أحوالها وأخلافها ومواهبها وبيئتها الطبيعية والمعنوية، وبعد ذلك يتفرغ هذا المؤتمر لوضع برنامج لتعميم التعليم في أنحاء الدنيا، لا فرق في ذلك بين الأجناس والملل؛ ينبغي توحيد التعليم، وتوحيد المدنية، وتوحيد الحياة العقلية في كل مكان؛ ينبغي أن يقف كل إنسان على أهم ما أنتجته العقول الإنسانية من المباحث، وما وقف عليه العلماء من الحقائق في كل فرع من فروع الحياة؛ إن الماضي من هذه الوجهة أكبر شأنا من المستقبل؛ لأنه مجموعة اختبارات جليلة عظيمة تفيدنا في خطواتنا إلى الأمام.
4
إن كثيرين من المفكرين ينسبون إلى الإنسانية غريزة البقاء على حالة واحدة، ويقولون إن الإنسان ميال بفطرته للمحافظة على كل قديم، لا لأنه صحيح أو موافق للحقيقة، إنما للتعود. إن الإنسانية أسيرة العادة، وهي كذلك شديدة الكسل؛ فهي تعودت أن تدرك الأشياء على حال معينة، ولا تريد التغيير في طريقة التفكير، وتعتقد في صحة أشياء معينة؛ لأنها تلقنت الاعتقاد بصحتها، فلا تريد أن تنزع عن عقلها هذا الاعتقاد حتى ولو ثبت أنه فاسد، وأنه قائم على ضلال قديم، حتى ولو قامت البراهين العلمية والعقلية على صحة غيره من الآراء، وأصبحت تلك الآراء ملكا مشاعا لكل الناس يمكن الوصول إليها بسهولة، فإنك تجدهم يعرضون عن الجديد الصحيح من العلم الموافق للعقل، ويتشبثون بالقديم الباطل من العقائد المخالف للعقل؛ لأن الإنسانية مكسال تريد أن تجلس لتستقبل شمس الصباح دون أن تعرف كنه الحرارة، تريد أن تنظر بخمول إلى الكواكب، ولا تريد أن تعرف ما وراءها، تريد أن تمتع نظرها بالمخلوقات دون أن تعكر صفوها لحظة في التفكير في أصلها، ومنشئها، ومصيرها، وموردها، الإنسانية أسيرة العادة وحليفة الكسل، وهي فوق ذلك محبة للتقهقر، ميالة للرجوع إلى حالها الأولى حال الحيوانية والتوحش دون أن تبذل جهدا في السير إلى الإمام، الإنسانية أبيقورية المذهب.
وإذا خرج من أحشاء تلك المكسال ربة الخمول أسيرة العادة، وحليفة كل قديم، مولود جديد، وحاول النظر إلى النور أو التنفس، فإنها فورا بما لها عليه من حقوق الأمومة، وبما اكتسبته من الغلظة وحب الأذى حتى في تأديب أطفالها، تبادر إلى ضربه وتعذيبه، وكم فمه وحجب عينيه، فلا يشم إلا نتنها وعفونتها، ولا يرى إلا سواد ليلها وظلام عقلها؛ فإن تشدد في المقاومة، وكان طفلا نجيبا شجاعا نابغا، تحاول إخفات صوته باللين والملاطفة، فإن لم يذعن فإنها لا تتردد بعد ذلك لحظة واحدة في القضاء عليه؛ إنها تضحي به على هيكل العادة والكسل والبهيمية فتوعز إلى أبنائها الذين ثبتت طبيعتها في أفئدتهم بقتله؛ فتارة يسجن حتى يموت، وطورا يلقى به من حالق، وطورا يصلب ومرة يحرق، وبعد أن تزهق روحه ويصير جسده ترابا تعود الأم فتأخذها الشفقة على ولدها، وتقول: وا حر قلباه على ولدي! كان ذكيا، وكان حاضره ينبئ بمستقبل سعيد، فتأمر بتمجيد ذكره وإقامة الأنصاب على شكله، وتأمر بجمع آثاره ولم شعث أفكاره، وتقيم له مأتما فخما، فيظن الرائي أن ولدها لو عاد إليها لأحلته محل الإنسان من العين، ولكن إذا وصل إلى علمها أثناء تمجيد ذكر ذلك الذي بذلته وقتلته أن أخا له حاله كحاله، فإنها لا تتردد لحظة في القضاء عليه لتعود بعد حين فتخلد ذكره، وهكذا تستمر تلك العجوز المكسال الماكرة الذميمة الخلق والخلق تقتل النجباء، وتستبقي الجهلاء والسخفاء؛ لأنها لا يطيب لها العيش إلا في ظلال الجهل والكذب والخداع، ولا تحب النور؛ لأنها من بنات الظلام.
مائدة أفلاطون
تأليف الحكيم اليوناني، فسرها باللغة العربية محمد لطفي جمعة، مصر 1908-جنيف 1912 (أشخاص الوليمة الذين دارت بينهم المحاورة: أبولودورس - صديق له - جلاكو - أريسطوديمس - سقراط - أجاثون - فيدروس - بوسانياس - أريكسماكوس - أريسطوفانيس - ديويتما - السيبياديس.)
أبولودروس:
أظن الموضوع الذي تسألني فيه لا يزال حاضرا في ذهني؛ لأنني بينما كنت أمس عائدا من فاليروس إلى داري، رآني صديق فدعاني، وقال ممازحا: «يا ابن فاليرورس ! ألا يمكنك أن تنتظر لحظة، حتى تقص علي ما سمعته من المحاورة التي دارت على الحب في مجلس ضم أجاثون، وسقراط، والسيبياديس، وغيرهم، وقد سمع بهذه المحاورة صديق رواها له فينيكس بن فيليبس، وذكر لي أنك تستطيع أن تعيدها بإسهاب وجلاء، فتكرم علي بإعادة تلك المحاورة؛ فإني أعلمك صادق الرواية لما تسمعه من أخبار أحبابك وأصدقائك، ولكن بحقي عليك هل سمعت المحاورة بأذنك أم رويتها عن سواك؟»
فأجبته: يلوح لي أن مخبرك لم يجل لك ما غمض عليك؛ فأنت تسألني إن كنت سمعت المحاورة بأذني، كأنها بنت أمس، وكأنني كنت من أشخاصها!
جلاكو:
لقد ظننت ذلك.
فأجبته: كيف يكون ذلك يا جلاكو وأنت تعلم أن أجاثون غائب عن المدينة منذ أمد بعيد، ولم يمض أكثر من ثلاث سنين على ملازمتي سقراط، ومحادثته وتقييد أقواله، ومراقبة أعماله؟ أما قبل ذلك فقد كنت هائما على وجهي، لا أستقر على حال، ولا أعرف لنفسي مكانا تسكن إليه، وكنت في ذلك العهد أشعر بشقاء وغم أعظم من شقائك وغمك اللذين تشعر بهما الآن، وكنت أود لو أنني عشقت غير الحكمة التي تشقي من يحبها ...
جلاكو (مقاطعا): لا تماحك، واذكر لي ما تعلم عن المحاورة!
أجبته: لما كنا في عهد الطفولة، ونال أجاثون جائزة لحذقه في وضع الروايات التمثيلية الفاجعة، وبعد ذلك الفوز العظيم بيوم احتفل أجاثون وجماعة الممثلين احتفالا فخما قدموا فيه الضحايا للآلهة ...
جلاكو:
يظهر لي أن ذلك الخبر يرجع إلى السنين الغابرة؛ فمن ذا الذي رواه لك، وقص عليك القصة بأكملها؟ وهل سمعت تفصيل الخبر من سقراط بذاته؟
فأجبته: لا وحق المشتري! بل سمعته من محدث فينيكس نفسه؛ رجل اسمه أريسطوديمس ينتمي إلى «سيداثبنا» وهو شخص قصير القامة، نحيل البدن، كان يسير في الطرق بلا نعال، وكان حاضرا بذاته الوليمة التي أولمها أجاثون إكراما لفوزه؛ لأن أريسطوديمس كان أعلق أهل زمانه بسقراط، وأكثرهم إعجابا به، وقد سألت سقراط عن بعض ما سمعته من مريده أريسطوديمس، فأكده لي.
جلاكو:
فلماذ إذا لا تقص علي هذا الحديث الحسن ونحن سائرون إلى المدينة، سيما والسبيل سهل لا تشوبه شائبة، ولا تعتوره وعورة، ولا شيء أدعى لتسهيل السير من المحاضرة؟!
فأخذت أقص عليه ما وعته الذاكرة من المحاورة التي دارت على الحب، وحاولت جهد طاقتي ألا يفوتني مما سمعت شيء، فإذا أردت أنت أيضا أن أعيد على سمعك هذه المحاورة، فلا أضن عليك بما تريد؛ فإنه لا يسرني شيء مثل الكلام في الحكمة، أو سماع ما يقال فيها، وهذا لسببين: الأول ما استنبطه من الفوائد، وما استوعبه من المنافع من أحاديث الفلسفة. والسبب الثاني إشباع ما ركز في نفسي من غريزة حب الحكمة، ولكني كلما أسمع أحاديثك عن عجول الذهب وعباد المال أشعر بحزن شديد، وأشفق عليك يا من لا تعمل شيئا، وتحسب نفسك تقوم بكل شيء! ربما تظنني مسكينا بائسا وأنت عند ظنك؛ أما أنا فلا أظن، بل أعتقد وأؤكد أنك كذلك.
الرفيق:
إنك لا تتغير أبدا يا أبولودروس؛ فأنت على الدوام تنتقص الناس وتبخس نفسك، ويلوح لي أنك تحسب سائر الناس أشقياء بائسين وأنت فيهم، وليس في الوجود شخص سعيد سوى سقراط، وهذا ثبات في الرأي يندر في المجانين، وقد ادعى الناس بأنك منهم!
أبولودروس:
حقيقة الأمر يا صاحبي هي أنني مجنون لأمر واحد، وهو تشبثي برأيي فيك وفي نفسي.
الرفيق:
ليس يجدينا أن نبحث في تلك الأمور نفعا يا أبولودروس! فتفضل علي بالحديث الذي وعدت.
أبولودروس:
سأشرع توا في الحديث، وأتلوه عليك بالترتيب الذي اتبعه أريسطوديمس.
روى أريسطوديمس أنه لقي سقراط يوما نظيف الوجه، حسن الهيئة، منتعلا على خلاف عادته، فسأله عن حاله ولأي شيء خرج عن حده في التزين والتجمل، فقال سقراط: دعاني أجاثون إلى وليمته، فلم أجبه أمس لاجتماع قوم من الغوغاء عنده أثناء بذل الضحايا للآلهة، واليوم قصدت أن أجيبه؛ أما عن تزيني فاعلم أنه ينبغي لك أن تتجمل إذا أردت أن تدنو من أرباب الجمال، وأنت يا أريسطوديمس ما قولك في أنك تصحبني غير مدعو إلى دار صاحبنا أجاثون ؟ فقال أريسطوديمس: إنني أفعل ما تريد، فقال سقراط: إذا هيا بنا! فقد جاء في الأمثال «لا كلفة ولا دعوة بين الأخيار.» وقد أخطأ هوميروس، ولم يحسن استعمال هذا المثل في الإلياذة ؛ إذ وصف أغاممنون بالشجاعة والبطش في ميدان الوغى، وذكر عن مينيلاوس أنه جبان عاجز، وهيأ له أن يتطفل على مائدة أغاممنون؛ عملا بالمثل السابق على ما بينهما من الفروق في الأخلاق.
قال أريسطوديمس: وإني أرى نفسي يا سقراط في مأزق حرج لا يقل ما يلحقني من اللوم والذم فيه عما لحق مينيلاوس؛ فأنى لي أن أضارع أجاثون فضلا، أو أدانيه فخرا! أفلا تنتحل لي يا سقراط عذرا أركن إليه؟ كأن تقول إنك أنت دعوتني.
قال سقراط: لعلنا في طريقنا نوفق إلى عذر ننتحله ... فانطلقا، وكان سقراط في أثناء الطريق قد فتح عليه، فأخذ يفكر فيما طرأ له فسار الهوينا، وتخلف عن رفيقه أريسطوديمس، فلما رأى أن رفيقه انتظره سأله أن يتقدمه فصدع بأمره.
ولما بلغ دار أجاثون وجد الباب مفتوحا، ورأى عبدا يستقبل الأضياف، فلما بصر العبد به دنا وسار بين يديه إلى أن بلغ مجلس الأضياف، فلما بصر أجاثون بأريسطوديمس قال:
أجاثون:
جئت في وقت حاجتنا إليك؛ فأنت ضيفنا الليلة على العشاء، فإن كانت لك حاجة فأرجئها إلى فرصة أخرى، كنت ألتمسك أمس لأدعوك، ولكنني لم أهتد إليك، ولكن كيف أنك لم تصطحب سقراط؟ (فتلفت أريسطوديمس لعله يرى سقراط فلم يره؛ لأنه لم يبلغ الدار.)
أريسطوديمس:
لقد جئت معه، وهو الذي دعاني إلى وليمتك.
أجاثون:
لقد أحسنت، ولكن أين سقراط؟
أريسطوديمس:
كان يصحبني في قدومنا، ولكن لا أدري أين هو.
أجاثون (لأحد غلمانه): اذهب يا غلام واستقدم سقراط؛ أما أنت يا أريسطوديمس فاتكئ هنا بجانب أريكسماكوس، ثم أمر عبدا أن يغسل قدميه ليستطيع الاتكاء، ثم جاء عبد غير الذي راح يبحث عن سقراط، وقال إنه لجأ إلى خلوة، ووقف وأبى أن يدخل غرفة الأضياف؛ فنهر أجاثون عبده، وأمره أن يذهب ولا يعود بدون سقراط.
أريسطوديمس:
دعوه ولا تقطعوا عليه تأملاته؛ فهذه عادته إذا أدركه التفكير يخلو بنفسه حتى يفرغ من النظر فيما عرض له، فإذا ترك وشأنه فإنه لا محالة يحضر.
أجاثون:
ليكن لك ما تريد! (لعبيده وخدمه) أعدوا لنا المائدة أيها الغلمان، وأحضروا لنا ما تريدون؛ لأنني لا أريد أن يكون لمائدتي رئيس، وكأنني وأضيافي ضيوف عليكم فلا تقصروا في حقنا!
ثم شرعوا في تناول الطعام ولما يخرج سقراط من خلوته، وكان أجاثون يشدد في استقدامه وأريسطوديمس يلح في تركه، وبعد الفراغ من نصف الطعام دخل سقراط ولم تطل خلوته كعادته، فلما بصر به أجاثون وكان متكئا على حدة في مؤخر المائدة قال له:
أجاثون:
إلي يا سقراط، واجلس بجانبي لعلي أستفيد بمجاورتك ثمرة ما أوتيته من الحكمة بعد أن خلوت بنفسك أمدا، ولا ريب في أنك استنبطت رأيا جديدا أو فكرا صائبا؛ فجلس بجواره وقال:
سقراط:
لو كانت الحكمة كالماء تفيض من وعاء مملوء إلى وعاء خلو منها حتى يستوي نصيبا الوعاءين، إذا لعددت نفسي أسعد الناس حالا بمجالستك؛ لأنك كنت تملأ وعائي حكمة وعلما؛ لأن حكمتي غامضة مبهمة، وهي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة؛ أما حكمتك فمتألقة وقد جزيت عنها بما تستحق من التكريم، وقد فقت وأنت لا تزال فتيا الشيوخ في الفضل والأدب، وانبعثت أنوارهما منك، فكنت منبثقا لنور لا تدركه ظلمة، وقد شهد بذلك أمس ثلاثون ألفا من الإغريق.
أجاثون:
أنت تسخر مني يا سقراط، وعما قليل سنحتكم في فض هذا النزاع الفلسفي إلى باكوس إله الخمر؛ أما الآن فبادر إلى تناول ما تسد به رمقك!
وبعد أن فرغ سقراط وصحبه من تناول الطعام واتكئوا على وسائدهم وذرابيهم المبثوثة، وصبت السكائب، وأنشدت الأغاني للإله، وأقيمت سائر الرسوم والشعائر المعروفة، أخذ الجماعة يشربون الخمور المعتقة، ويحيون شريعة باكوس، فتقدم بوسانياس بهذا الرأي.
بوسانياس:
أي الطرق أحب إلى قلوبنا في معاقرة الخمر؟ لا أخفي عليكم أنني لا أزال مريضا من أثر النبيذ الذي شربناه أمس، وأشعر من نفسي بحاجة إلى هدنة، وأحسبكم جميعا كذلك ؛ لأن هذا المجلس كان يضمنا جميعا، فانظروا في أمرنا كيف نشرب في ليلتنا هذه بحيث تبهجنا النشوة ولا يزعجنا الخمار.
أريسطوفانيس:
نعم الرأي رأيك يا بوسانياس! فخير لنا أن نمزج كميت الكئوس بماء الاعتدال؛ فإنني كنت ممن غلبهم باكوس على أمرهم، فأغرقني هذا الإله القاسي في جرعة لبهيمة!
أريكسماكوس:
إنني على رأيكما، وأريد أن أعلم هل ينوي أجاثون أن يعيد الكرة الليلة؟
أجاثون:
كلا! فإنني لا أستطيع أن أنال من الراح ما نلت أمس.
أريكسماكوس:
إن كان هذا رأيكم وأنتم أئمة الخمر، فأخلق به أن يكون رأيي ورأي غيري ممن لم يتعودوا عبادة باكوس حق عبادته، أمثال أريسطوديمس وفيدروس وغيرهما؛ على أنني أستثني سقراط؛ لأنه القادر على كل شيء؛ فلذا يسره ما يسرنا، ويرضيه ما يرضينا، وحيث إنه ليس فينا من ينوي الإكثار من النبيذ، فقد هيأتم لي بابا ألج منه إلى تبيين مضار السكر ونقائصه، فأقول إن الطب يدلنا أن السكر مضر؛ فلذا ترونني لا أفرط في الشراب، ولا أشير على أحد بالخمر ليلة بعد ليلة ...
فيدروس:
إنك مصيب في قولك، ولي ثقة في نصائحك الطبية، وسأسير الليلة على خطتك إذا سار سائر الأصحاب.
فاتفقوا جميعا على أن يشربوا ليطربوا لا ليسكروا.
أريكسماكوس:
حيث الأمر كذلك فلن يرغم أحد على أن يشرب أكثر مما يطيق، ولا حاجة لنا بالنافخة في المزمار، فإما نرسلها إلى خدر النساء تطربهن بأنغامها، وإما نتركها تنفخ لنفسها، وليكن مجلسنا قاصرا على ما يدور بيننا من المحاورات، وإن أذنتم لي اقترحت عليكم بحثا يدور عليه محور السمر.
فضج الجميع، وقالوا: «اقترح علينا ما تريد!»
أريكسماكوس:
إن ديباجة حديثي تشبه أسلوب مناليب ليوريبيد؛ لأن الحديث الذي سأرويه ليس صادرا عني؛ لأنني وسيط بينكم وبين صاحب الرأي وهو فيدروس؛ فأنا أنقل لكم ما يريد إبلاغكم إياه؛ ذلك أنه شكا لي مرة بعد أخرى قائلا: أليس من العجيب يا أريكسماكوس ألا يكون بين الأناشيد والأغاني التي يترنم بها الناس أغنية واحدة أو نشيد مفرد ينظمه شاعر من الشعراء لتمجيد الحب وهو من أعظم الأرباب؟! وكيف أن كبار المغالطين أمثال بروديكوس يسبحون في شعرهم باسم هرقل، وليس فيهم من أعطى الحب حقه من التسبيح والثناء! وأغرب من ذلك أنني عثرت بالأمس بكتاب أحد الفلاسفة، وقد ذكر فيه محاسن الملح ومنافعه وغير ذلك من السفاسف، فغضبت لضياع أمثال تلك الدرر الغوالي في تمجيدها، ودهشت لإحجام الشعراء والكتاب عن امتداح إله الحب وهو من أعظم الأرباب!
فوجدت قول فيدروس على جانب من العدل؛ فلذا أقترح الليلة عليكم اقتراحا يجدر بكم تنفيذه، ولا ريب أن فيدروس يغتبط به اغتباطا عظيما، وهو أن تطرحوا الحب على بساط البحث والمناقشة شريطة أن يمدحه كل منكم بأبلغ ما يستطيع، وليبدأ فيدروس؛ لأنه أول درة في عقدنا بحسب ترتيب الجلوس؛ ولأنه صاحب الاقتراح.
سقراط:
ليس هنا من يعترضك أو يخالف رأيك؛ أما أنا فلا أكترث لشيء سوى الحب، وكذلك أجاثون وبوسانياس وأريسطوفانيس؛ فقد قضوا حياتهم في تمجيد الزهرة إلهة الحب وباكوس إله الخمر، بل كل الجالسين هنا حالهم واحدة، ثم إن أماكن أصحابي في الجلوس تأذنهم بالبداية في الحديث، فلا تبلغني النوبة حتى يكونوا قد وفوا البحث حقه، واستقصوا محسنات البلاغة في ترصيعه وتجميله، فيكون قولنا بعدهم فضولا وتطفلا، فباسم السعد أدعو فيدروس إلى الكلام!
قال أبولودورس لرفيقه: «ولا يذكر أريسطوديمس سائر ما قاله كل بمفرده، إنما علق بذهنه أهم ما قيل، وهاك بعض ما أذكر مما رواه لي أريسطوديمس» شرع فيدروس في الكلام على الحب فقال:
فيدروس:
إن الحب رب عظيم قادر، وهو موضع إعجاب الأرباب والناس لدواع كثيرة، أهمها: منشئوه وأصله؛ فهو من أقدم الآلهة، وليس له والدان، ولم يذكر شاعر من الشعراء أن غيره من الأرباب يماثله في ذلك. وقال هصيود: «إن الفوضى سادت الكون، ثم خلقت الأرض، فكانت أساسا ثابتا لكل شيء، وتلاها الحب في الخليقة.» وقال بارمنيد عن أصل الخلق: «إن الحب كان قبل غيره من الآلهة.» وقد اتفق أكيوسيليس وهصيود في هذا الرأي؛ فالحب باتفاق جميع الحكماء من أقدم الأشياء ، دع عنك أنه منبع أعظم المنافع لبنى الإنسان، فليس في العالم سعادة ولا نفع أعظم مما يعود على إنسان في مقتبل العمر من محبه أو محبوبه؛ فلا شرف المولد، ولا عز الغنى، ولا علو الجاه توقظ في نفوس عشاق المجد من العواطف التي تضيء نفوسهم، وتنير بصائرهم ما يوقظه الحب منها؛ فمن تلك العواطف عاطفة الخجل من السقوط في هوة العار، وعاطفة التفاني في حب العلا التي تؤدي إلى القيام بكبار الأعمال وعظائم الأمور، وليست هذه القاعدة مقصورة على الأفراد، بل تتعداهم إلى الجماعات والشعوب؛ فإنه بدون هاتين العاطفتين لا يتهيأ لأحد إتيان الأعمال الجليلة الجميلة، ومما يثبت قولي أن العاشق إذا اقترف إثما أو استغضب ولم يغضب جبنا لا حلما، وكان ذلك في حضرة من يحب فإن ألمه من الخجل من محبوبه يكون أشد وأقسى مما لو كان سائر أهله وأقاربه وصحبه أو سواهم يشهدون مذلته، ويحدث مثل ذلك بين الأصدقاء فيصعب على الصديق أن يلقاه صديق في حال شائنة أو في فعل مهين.
وكذلك إذا ارتبطت قلوب فئة قليلة أو كثيرة برباط المودة وكونت حكومة أو جيشا محاربا، فلا ريب في أن ما بينهم من روابط الصداقة والود يدعوهم إلى أداء ما يجب عليهم حق أداء؛ فلا يسود بينهم شقاق، ولا تقوم للخلاف فيهم قائمة، كذلك لا يكون للحسد والأحقاد عليهم سلطان فيتنافسون في حب الشهرة، ويتسابقون في ميدان المطامع الشريفة، ويبتعدون عن الشهوات المؤدية إلى فساد أمورهم، وانحلال رابطتهم، وانفصام عروتهم، وكذلك إذا كانوا جيشا فهيهات أن يملكهم العدو أو ينال منهم إربا؛ لما بينهم من التضامن القوي؛ فلا يستطيع واحد أن يفر من الردى أو يستسلم للعدو؛ لأن خجله من صحبه أشد عليه وأقسى من ضرب السيوف، ورشق السهام، ولا يعذب الموت إلا في الحب، فيود أحدهم لو يموت ألف مرة، وذلك أفضل لديه من الفرار تاركا وراءه أحبابه يجرعون كئوس الموت الزؤام. وليس في الورى شخص مهما كان وضيعا لا يوحي إليه الحب أسرار الفضيلة ، وقد يسمو بهذا الوحي لدرجة من ركزت الفضيلة في طبيعته، وقد قال هوميروس إن الإله ينفخ في أرواح بعض الأبطال، ويهبهم من لدنه قوة، كذلك الحب ينفخ في قلوب المحبين من روحه، وليست تلك النعمة قاصرة على الرجال، بل تتعداهم إلى النساء اللائي يحببن؛ فقد تفدي المرأة المحبة محبوبها بنفسها، وخير مثال لتفاني المرأة التي نفخ الحب في قلبها من روحه السستيس بنت بلياس؛ فقد بذلت نفسها فداء زوجها، وقد بلغ حبها إياه مبلغا لم يبلغه حب الوالدين والأهل والأقارب، فكانوا حياله كالأجانب الغرباء، وكأن لا رابطة بينهم وبينه إلا الاسم والكنية، فأعجب الناس بذلك الحب العظيم، وأعجب به كذلك الآلهة أنفسهم فأنقذوا نفس السستيس من العذاب الأليم، فدل ذلك على تقدير الأرباب عواطف الحب والإخلاص قدرها.
أما أرفيوس بن إياجرس فقد عاد من الجحيم بصفقة المغبون؛ لأن الآلهة لم يظهروا له سوى شبح التي جاء من أجلها؛ لأنهم اعتبروه أقل إخلاصا من السستيس التي لم تحجم عن الموت، واستهانت بعذاب الجحيم في جنب اتصال نفسها بنفس زوجها؛ أما أرفيوس فقد جبن، وأحجم عن الموت، وطلب إلى الأرباب أن ينزلوه إلى الجحيم حيا، فكان عقابه على جبنه وضعف إخلاصه أن الآلهة قضوا عليه بأن يموت قتلا بأيدي النساء.
وأما ما حدث لآخيل فهو أن الآلهة أسكنوه دار النعيم جزاء شجاعته، وإخلاصه في صداقته؛ فقد نبأته أمه أن أجله معلق بأجل هيكتور، فإن قتل هيكتور تبعه آخيل، ولو أن آخيل لم يقتل هيكتور طال عمره، ومات شيخا، ومع علم آخيل بدنو أجله، وصدق ذلك النبأ العظيم، فقد راقه الموت بقتل هيكتور انتقاما لصديقه باتروكلس، وغيرة على شرفه، فمجد اليونان ذلك الإخلاص وتلك الصداقة في شخص آخيل؛ لأنه فضل صديقه على كل شيء، وقد جزى الآلهة آخيل جزاء أعظم من جزائهم السستيس؛ لأنهم أسكنوه دار النعيم.
لأجل هذا قلت إن الحب هو أقدم الأرباب وأفضلهم وأقدرهم على منح الفضيلة والسعادة لبني الإنسان، أحياء وأمواتا.
هذا ما رواه أريسطوديمس من حديث فيدروس، وقد تكلم بعده غيره حتى جاءت نوبة بوسانياس قال:
بوسانياس:
إننا لو قصرنا بحثنا على التسبيح بمجد الحب، وذكر محاسنه، لكان ميدان البحث محدودا، ومجال القول ضيقا، ولو كان الحب نوعا واحدا لكان لنا عذر في قصر بحثنا على مدحه، ولكن حيث إن الحب أنواع متعددة فسأقصر قولي على تمييز الحب الجدير بالمدح عن غيره، حتى إذا ميزته أثنيت عليه بما في وسعي، وامتدحته جهدي. نعلم جميعا أن الزهرة لا تعيش بغير حب، فلو كانت الزهرة واحدة لكان الحب واحدا غير متعدد، ولكن الزهرة زهرتان لا زهرة واحدة، والحب كذلك حبان لا حب مفرد؛ أما أولى الزهرتين وكبراهما فهي أورانيان، وهي بنت أورانوس البكر، ولم تلدها والدة، والأخرى صغرى الزهرتين وهي بنت المشتري وديون، واسمها باندميان؛ لأجل هذا كان لكل زهرة من تينك الزهرتين (أورانيان وباندميان) حب خاص بها؛ فحب الأولى لا يتخلى عنها، وحب الثانية يلازمها على الدوام؛ وغني عن البيان أن سائر الأرباب خليقة بالمدح والثناء، ولكن لكل رب صفات تميزه عن غيره، وقد يعلو قدر البعض على البعض؛ وتعلمون أن كل فعل من الأفعال على الإطلاق هو مجرد بطبيعته عن صفتي الخير والشر؛ فنحن الساعة في شرب وطرب وسمر، وليس في شيء مما ذكرت صفة تقصيه عن الخير، أو تدنيه إلى الشر، ولكن الحال التي نشرب عليها أو نطرب بها هي وحدها التي تصبغ الشراب والطرب بصبغة الخير أو ضده، فما نحسن صنعه بقطع النظر عن طبيعته يعد خيرا، وما نسيء فعله بقطع النظر عن طبعه يعد شرا؛ لذلك ليست سائر أنواع الحب كلها جميلة أو جديرة بالثناء.
إنما سيد أنواع الحب هو الذي لا نهون به، بل يزيدنا عزا وسؤددا؛ فالحب الملازم لزهرة بانديموس هو الحب الذي تعرفه العامة، وتهيم به كالبهم لما فيه من الشهوات الدنيئة، وهذا النوع خصيص بالطبقات النازلة من البشر، وعباد هذا الإله يعشقون الأبدان، ولا يأبهون للنفوس، ويفضلون الجهل على العلم، ويستهينون بالشرف والجمال، ولا يعملون إلا لإطفاء نيران شهوات الجسد، وهذا الحب مشتق من الآلهة الصغرى التي تجمع في طبيعتها بين الذكر والأنثى. أما الحب الملازم لزهرة أورانوس التي لا تجمع في طبيعتها بين النقيضين فهو الحب المذكر الذي يوحي الإخلاص والنقاء ، ويربأ بنا عن مواطن الاندفاع فيما تسوء عاقبته من الشهوات والفساد. وعباد هذه الآلهة يعشقون القوة والجمال في العقل والجسم، ويمكن تمييزهم عن غيرهم في إبان صباهم بتعشقهم أصحاب العقول الناضجة والنفوس الصحيحة، وأمثال هؤلاء مهما طرأ عليهم في حياتهم من التغير والتقلب في الخير والشر لا يزالون على سنن عهود المودة والإخاء لا يغيرونها، ولا يرضون بها بديلا، ولا ينبغي لأحد أن يتعشق الأحداث؛ لأنه يستحيل عليه أن يتكهن بما يكون لهم في مستقبل أيامهم من قوة العقل وضعفه، وسمو المدارك وانحطاطها، سيما وأن هذا الحب الطاهر أشرف وأرقى من أن يوضع في مواضع الشك والارتياب؛ والأخيار يضعون لأنفسهم حدودا لا يتعدونها في تلك الحال، أما الأشرار فلا بد من إخضاعهم لتلك القوانين التي يخضع لها الأخيار، أرادوا أم لم يريدوا؛ لأن من فعالهم المنكرة وطباعهم المذمومة ما يدعو البعض من الواقفين على عيوبهم وقبائحهم إلى القول بأن القيام على مسرات من نحب وخدمتهم هو من العار بمكان، مع أن من يقوم على مسرات محبوبه وخدمته حسبما تقتضيه القوانين المقبولة والعادات المستحسنة لا يكون عرضة للوم مطلقا.
إن الحكومات المستبدة الظالمة التي يعيش في ظلالها الوحشيون من البربر وغيرهم تحرم الصداقات بينهم، وتمنعهم تعليم الحكمة، وتعيب عليهم رياضة الأبدان؛ لأن كلا من تلك الخلال الثلاث يدعو إلى الألفة والمودة بين الرعية، وفي تينك النعمتين من اتحاد المحكومين وقوتهم ما يخشى عواقبه الحكام الظالمون. وحقيقة الأمر هي أن الحب وحده هو مسبب الألفة وموجد القوة، وقد انفصمت عروة الظلم، وانفرجت أزمة الاستبداد بفضل الحب الذي نبت ونما في قلبي هارموديوس وصاحبه أريستوجبتون، ولا ريب في أن الجمعية التي تعتبر فيها خدمة الأصدقاء، والسعي في نفع الأحباب عارا أو مذمة يستدل بتلك الحال فيها على فساد نية المقننين، واندفاع الحاكمين في تيار المظالم والمطامع الدنيئة، ولا يكون هذا إلا إذا كان المحكومون من الجبن والضعف والاستكانة بمكان عظيم. كذلك الجمعية التي تعتبر فيها خدمة الأصدقاء، والسعي في نفع الأحباب أمرا عاديا لا واجبا عظيما تحتمه مكارم الأخلاق، وتقتضيه الألفة يستدل بتلك الحال فيها على قربها من كمال الأخلاق، وإن كانت لا تزال بعيدة عنه، ويستدل كذلك بها على عجز الحكام والمتشرعين الذين وضعوا القوانين، وسنوا السنن عن بلوغ الغاية التي يستلزمها الود الصحيح والمحبة الصادقة.
وغني عن البيان أن أشرف الحب ما كان جهرا لا سرا، سيما لأصحاب النفوس القوية والعواطف المشتعلة، وأشرف أنواع الحب ما كان لأجل الفضيلة وكمال النفس، لا حسن الوجه وجمال الجسم. والحب الشريف يقتضي أن يحرص المحب على المحبوب ويرعاه ليبقى أبدا طاهر النفس، نقي القلب، مملوءا بالفضيلة. ومما يقتضيه شرف الحب أن نسعى جهدنا في نيل رضى المحبوب ومحبته، وقد عاب الفلاسفة من يحب ويغفل ذلك، ولتسهيل بلوغ هذه الغاية أباح العرف للعاشق أن يستعطف معشوقه بوسائل عجيبة لا تخطر بالبال، لو استخدمها الإنسان في غير استعطاف محبوبه عرض نفسه لأقسى تأنيب وأشد ذم؛ فلو أن شحيحا محبا للمال صرف عمره في جمعه وتكويمه، أو طموحا ميالا للحصول على القوة والنفوذ، سعى أحدهما إلى بلوغ غايته بالاستعطاف والتذلل والغلظ في القسم كما يغلظ المحبون، والرقاد على الأعتاب وتقديم ذاته للعبودية التي لا يطيقها أدنى الرقيق؛ فإنه لا شك يبعد ويحرم من نيل غايته بأعدائه وأصحابه؛ فإن أعداءه يذمونه لتمليقه، وأحبابه يلومونه ويتحملون عنه ما يلصق به من العيب، ولكن إذا كان عاشق يفعل كل تلك الفعال فإنه يكون منه مقبولا، ولا يخشى على كرامته وشرفه، ويقال إن الأرباب تصفح عن العاشق إذا حنث في يمينه، ولو أنه أقسم بالزهرة، وذلك كما صرحت قوانيننا؛ فإن الأرباب والبشر تمنح العاشق أعظم ما يمكن من العفو والرحمة.
إن المسألة على ظني هي كما قلت سابقا؛ فالحب لا يمكن أن يعتبر بذاته شريفا أو غير شريف؛ فإذا كانت طريقه شريفة فهو شريف، وإن كانت الطريق غير شريفة كان الحب كذلك؛ لأنه مما يحط من القدر خدمة الأدنياء، كما أن خدمة الشرفاء تعلي القدر؛ فالعاشق البنديمي الذي يحب البدن ويفضله على النفس لا قدر له، ولا ثبات له، ولا بقاء لحبه؛ لأنه وقف حبه على الشيء الزائل؛ لأنه إذا ذوت زهرة الشكل التي كانت غاية حبه، فإنه ينصرف ولا يعود غير مربوط بعهد ولا ميثاق غير خجل من الخلف في وعوده. أما محب الخلال الفاضلة فإنه يثبت مدى الحياة؛ لأنه وضع نفسه بانسجام ورغبة في الشيء الثابت الذي لا يتحول. هذان النوعان من الأشخاص ينبغي التمييز بينهما باحتراس؛ فنعاشر الواحد ونخدمه، ونبتعد عن الآخر ونذمه.
وكذلك يعدون من قلة الشرف الوقوع في الحب مباشرة؛ لئلا يكون الوقت كافيا للتحقق من حقيقة المحبوب، والتأكد من خلقه، كذلك من المخل بالشرف أن يجذب الشخص بالمال والقوة، أو أن يخشى السب فيترك الحب.
إن لنا رأيا متعلقا بالعشاق، مؤداه أنه لا يكون من الذل أو المخجل أن يقوم العاشق بأنواع الخدمة، وأن يذل لأجل المعشوق، ورأينا في ذلك كرأي من يقاسي الألم والهوان لأجل الفضيلة، كذلك نحن لا نعتبر ذلا أو هوانا خضوع الرجل ليتعلم العلم، أو ليتصف بالفضائل، كذلك نحن نعتبر مذلة العاشق مفخرة؛ لأن غايتها كغاية الذل في سبيل الفضيلة إذا كان العشق يعتبر شيئا جميلا؛ لأنه عندما يبلغ العاشق والمعشوق نقطة واحدة تتميز حال كل واحد منهما؛ فالأول يقدر أن ينمي عقل صاحبه ويساعده على كسب الفضائل، والثاني لا يزال طالبا للعلم والنور، فباجتماع هذه الشروط دون سواها ينبغي للمعشوق أن يعطي حبه للعاشق؛ ففي هذه المذلة لا يوجد عار حتى إذا خدعنا وهزمنا في الحصول على غايتنا، مع أن كل هزيمة في غير ذلك تعد عارا، سواء كنا مخدوعين أو غير مخدوعين.
وعلى هذه القاعدة إذا تطلب أحدنا صداقة آخر اعتقادا منه أنه فاضل؛ رغبة منه أن يصير بقربه كذلك فاضلا مثله، ثم يكشف له أنه كان مخدوعا ؛ لأن صاحبه لا قدر له، ومجرد عن الفضيلة فإن مثل هذه الخديعة يعد من الشرف؛ لأن هذا الطالب قد وضع نفسه موضع الذل؛ فهو يتحمل أي ألم ليكون فاضلا وحكيما، وهذه حال من حالات النفس الجميلة السامية.
هذا هو الحب الذي يعبد إله أرانيا وهو أوراني النوع، وهو أصل أنواع الخيرات للحكومة وللأفراد، وبتأثيره يصير العشاق فضلاء، وعدا هذا من أنواع الحب الأخرى فهي من عباد فينوس بانديموس، هذا هو ما أردت أن أقوله عن الحب دون استعداد يا فدريوس، ثم سكت بوسانياس.
أريسطوديمس (لرفيقه): ثم جاء دور أريستوفانوس، ولكن يظهر أنه كان مصابا بسعال يعوقه عن الكلام، فالتفت إلى أريكسماكوس الطبيب الذي كان مضطجعا بجانبه، وقال له: يا أريكسماكوس، من العدل أن تعالج سعالي، أو تتكلم مكاني إلى أن يزول. فقال أريكسماكوس: سأفعل الأمرين جميعا؛ فأتكلم في دورك حتى إذا خف سعالك وجاء دوري أتكلم، وطريق العلاج هي أن تكتم التنفس قليلا، فإذا لم يزل فتمضمض بقليل ماء، فإذا لم يزل فخذ منبها للخياشيم فتعطس، وافعل هذا مرة أو مرتين فيزول السعال مهما كان قويا. فقال أريسطوفانوس: سأتبع نصيحتك أثناء كلامك، ثم بدأ.
أريكسماكوس:
حيث إن بوسانياس بدأ خطابه ببراعة، ولكنه لم يفه حقه، ولم يحسن ختامه، فسأكمله وأملأ الفراغ الذي تركه. لقد أحسن في تعريف الحب بقوله إنه ذو طبيعتين؛ فقد علمني علم الطب الذي انقطعت له أن الحب الذي يدفعنا نحو ذوي الجمال ليس موجودا في نفوس الناس فقط، بل في سائر المخلوقات؛ فما أقوى وأعجب هذا الإله السائد على الأرباب والبشر! ولتشريف حرفتي سأبدأ بسرد أدلة من الطب؛ إن طبيعة البدن تحتوي على هذين النوعين من الحب؛ لأن السليم والمريض من أعضاء البدن لا يستويان، وحب البدن السليم غير حب السقيم، ومن الشرف تمجيد الأجزاء الطيبة السليمة في الجسم، وفي هذا مهارة الطبيب؛ وعلم الطب قائم على معرفة أماكن علاقات الحب في الجسم الإنساني، والحكيم الحاذق هو الذي يستطيع وضع الحب حيث لا يوجد، وطرده من حيث يوجد دون حاجة إليه، وعليه كذلك أن يبدل تنافر العناصر في البدن بشوق؛ فإن أشد العناصر معاداة لبعضه البعض هو ما كان مختلفا على خط مستقيم مقل الحرارة والبرد والمرارة والحلاوة واليبوسة والرطوبة. وقد روى لنا الشعراء أن إيسكاليبوس والد الأطباء الأعلى قد كون علم الطب بعد أن عرف سر التوفيق بين العناصر المختلفة.
إن الرياضة البدنية والزراعة والطب كلها سائرة تحت نفوذ الحب وبفضله، وكذلك الموسيقى، وهذا الذي أراده هيراقليطس بقوله: «واحد مخالف لذاته في الظاهر إلا أنه متفق مع ذاته كانسجام العود والوتر.» إنه من الخطأ المحض القول بأن الانسجام يختلف أو أنه يوجد بين أجسام مختلفة، ولكن ربما أراد هيراقليطس أن الأصوات التي كانت تختلف في أول الأمر مثل الحاد والثقيل، ثم اتفقت بعد ذلك فنتج الانسجام طبقا لفن الموسيقى؛ لأنه لا يمكن صدور الانسجام عن الحاد والثقيل إذا اختلفا؛ والانسجام هو التوافق، والتوافق هو الالتئام والاتحاد، والاتحاد لا يمكن أن يوجد بين الأمور المختلفة ما دامت مختلفة، فلا يوجد إذا انسجام بين الأشياء غير الملتئمة. إن الأوزان في التوقيع تنتج عن السريع والبطيء فإنهما يفترقان أولا، ثم يعارضان بعضهما، ثم يتم الاتحاد بينهما، وهكذا علم الطب والموسيقى، فإنهما يوجدان وفاقا بين الأشياء فينتج عنهما الحب والاتحاد بين الأشياء المتخالفة.
فغاية الموسيقى إذا معرفة ما يتعلق بالحب في الانسجام والنظام، وفي نظام الانسجام والوزن يسهل تمييز الحب، والحب المزدوج لا يمكن تمييزه في الموسيقى، ولكن ينبغي استعماله في خدمة البشر بواسطة النظام والانسجام، وهذا ما يسمى بالشعر وتأليف الأنغام، أو باستعمال الأغاني والأوزان والأصوات الموجودة استعمالا صحيحا، وهذا ما يسمى بالترتيب؛ فيمكن تمييز كل واحد من هذه بفضل حذق المتفنن. والحب الفاضل ينبغي تكريمه وحفظه مراعاة لجانب أهل الفضيلة، ولأجل أن تتحسن طبيعة الأشرار بروحه. هذا هو الحب الأراني الجميل العابد لوحي أران؛ أما الحب البنديمي فهو عابد بوليهمينا الذي يجوز أن نخضع له للحصول على اللذة دون الانغماس فيه، كما يجوز بناء على حرفة الطب أن نتمتع بملاذ المائدة دون أن نعرض أنفسنا للعلل؛ ففي الموسيقى والطب وفي غيرهما من شئون البشر والأرباب ينبغي تمييز هذين النوعين من الحب؛ فإن فصول السنة كذلك مؤلفة طبقا لهذه القاعدة؛ لأنه كلما امتزجت الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة بالحب الطاهر، واختلطت بانسجام بالفصول، فإنها تجلب النضج والصحة للبشر، ولسائر أنواع الحيوان والنبات، فإذا ساد الحب الخبيث على فصول السنة ساد الخراب، وعم التلف فينتشر الوباء، وتصاب الكائنات بأنواع الأمراض والسقام، ويتلف القمح، وتسقط الندوة، وتهلك الثمار، وهذا ناشئ عن الحب المضطرب الذي يجذب فصول السنة بعضها نحو بعض، وحركات هذه الفصول، وعلم الكواكب اسمها علم الهيئة. إن كل التضحيات والأشياء التي يوجد فيها التخمين (لأن هذه الأشياء هي الرابطة بين الله والناس) ليست إلا علم الاحتفاظ بالحب وتنظيمه؛ لأن الكفر يظهر إذا لم يعبد الناس الحب الطاهر، ولم يخدموه بالأعمال الصالحة؛ فغاية التخمين هي التمييز بين هذين النوعين من الحب وإصلاح آثار كل منهما؛ فالتخمين هو سبب الصداقة بين الأرباب والناس، وهكذا كل نوع من الحب يملك قوة عظيمة واسعة لا حد لها، ولكن الحب الذي يحث على اكتساب غايته بالفضيلة والحكمة يملك الملك الأوسع، ويعد لعابديه أعظم السعادات من طريق الشفقة المتبادلة بينهم، ومن طريق الخمر الذي تستمطره عليهم من الأرباب.
يجوز أنني نسيت أشياء كثيرة في ثنائي على الحب، ولكن هذا شأنك يا أريسطوفانوس، وعليك أن تملأ الفراغ الذي تركته، أو تقول قولا آخر لتكريم الرب؛ لأن سعالك قد زال.
أريسطوفانوس (بعد ممازحة وجيزة): أردت أن يكون مقالي مخالفا لما قال بوسيانوس وأريكسماكوس، يظهر لي أن البشر لم يفقهوا إلى الآن معنى قوة الحب؛ فلو فقهوا لملئوا الأرض معابد وهياكل يقدسون ذكره فيها، ويقدمون له الضحايا، ويقيمون له أجل وأفخم الرسوم والشعائر؛ لأن الحب هو أحق الأرباب بالعبادة ولما يعبد، وهو أصدق الأرباب للبشر، وهو آسي الجراح التي يكون علاجها أعظم سعادة لبني الإنسان. وسأحاول أن أشرح لكم قوة الحب الحقيقية، ويمكنكم أن تنقلوا هذا القول عني لغيركم.
ينبغي لكم أولا أن تعرفوا طبيعة الإنسان والحوادث التي مرت عليه؛ لأن طبيعته كانت في قديم الزمان مخالفة لما هي عليه الآن؛ ففي بداية الأمر لم يكن النوع مقسما إلى جنسي الذكر والأنثى، بل كان جنس ثالث مشتركا بينهما، ولا يزال اسمه موجودا، وإن كان الجنس ذاته قد فني، وكان هذا الجنس المشترك أو الخنثى يشبه في شكله المرأة والرجل معا، وفي العهد الذي أشير إليه كان شكل الإنسان مستديرا، وكان الظهر والجانبان ملتصقين باستدارة، ولكل جزء أربعة أذرع، وأربعة أرجل ووجهان مركبان على عنق مستدير، وأربعة آذان مع كل ما يمكن قياسه على هذا النظام. وكان هذا الجنس البشري يسير مستقيما في أية جهة شاء، وكان إذا أراد الإسراع يستعمل أيديه وأرجله، ويتحرك حركة دورية سريعة؛ أما سبب وجود هذه الأجناس الثلاثة فراجع إلى أن الذكر جاء من الشمس، والأنثى من الأرض، وهذا الجنس الثالث من القمر، والقمر جرم له طبيعة مخنثة؛ لذا كان مستديرا مشابهة للقمر، وكان هذا النوع قويا مملوءا بالأفكار السامية، وأفراده أول من حارب الأرباب، وما رواه هوميورس عن أفيلاتوس وأوتس من أنها حاولت الصعود إلى السماء لخلع الأرباب وإنزالها عن عروشها كان، لا شك، متعلقا بهذا النوع. وقد تشاور جوبيتر ومن معه من الأرباب فيما ينبغي عمله في مثل هذه الأزمة؛ لأن الأرباب لم تكن تريد إهلاك هذا النوع؛ لئلا تحرم من الضحايا التي كان يقدمها، ولم تكن كذلك لتصبر على وقاحتهم وتعنتهم وكفرهم، فطلب المشتري أن يسود السكون ليتكلم.
ثم قال: أظنني وجدت طريقة لإضعاف الجنس البشري، وتقليل وقاحته دون أن نشرع في هلاكهم، فسأشق كل واحد منهم نصفين، وبذا يضعفون جميعا، ولكن يبقى نفعهم لكثرة عددهم، وسيسير كل واحد منهم على قدميه مستقيما، فإذا أظهروا وقاحة بعد ذلك فسأشق كل واحد نصفين، فيسير كل على رجل واحدة؛ وقد ألحق القول بالفعل، وشق كل إنسان شقين كما يشق بعض الناس البيضة بشعرة. ثم طلب إلى أبولون أن يأخذ كل واحد ويديره أثناء عملية الشق نحوها ليراها، ويعتبر ويخضع ثم يعالجه؛ فكان أبولون يدير الوجه، ويسحب الجلد على ما نسميه الآن بطنا، ثم يربطه من الوسط، وهذا ما يسمى بالسرة، ثم إنه أخذ في معالجة الصدر بأداة تشبه الأداة التي يصلح بها صناع الأحذية الجلد، ثم ترك بعض الثنايا في البطن لتدل على ذلك التاريخ القديم، وبعد تلك العملية كان كل نصف يريد الاتصال بنصفه الآخر، فيلقي أحدهم بذراعيه حول النصف الآخر مؤملا أن يعودا إلى ما كانا عليه. ثم إنهم عزموا على أن تعتصب الأنصاف فلا تقوم بفعل ما دون النصف الآخر، فماتوا جوعا وضعفا، فكان الذي يبقى بعد نصفه الآخر يضمه إلى صدره إن كان امرأة أو رجلا، ويبقى هكذا إلى أن يلحق به، فلما رأى المشتري ذلك أشفق عليهم، وفكر في حيلة أخرى، وهي التي ينتج منها النسل بعد انضمام الرجل للمرأة. ومن هذا التاريخ وجد الحب المتبادل بين أفراد النوع، وهو الموفق بين طبائعهم الأصلية الذي غايته جعل الاثنين واحدا، وتخفيف هول المصاب على الأنصاف المنشقة؛ فكل واحد منا هو نصف ناقص لواحد كامل، وغاية كل منا هي البحث عن نصفنا الآخر؛
1
فالشخص الذي وصفته يكون على الدوام محبا صادقا وصديقا مخلصا فرحا بما يوافق طبيعته؛ فعندما يلتقي هذان النصفان فيرتبطان برابطة الحب السابق، وبرابطة الحب والرغبة وحاجة الاجتماع، لا يريد أن ينفصل أحدهما عن الآخر ولو لحظة. هؤلاء هم الذين يعطي كل واحد منهم حياته للآخر بشوق ولوعة لا طائل تحتها للحصول على شيء لا يفهمونه؛ لأنه ليس فقط حرصهم الحسي باختلاطهم الذي من أجله يهب كل واحد منهم ذاته للآخر، إنما نفس كل واحد منهما تظمأ لشيء في الآخر لا يمكن التعبير عنه، وتبقى النفس في حيرة بما تطلب، وتسود الدنيا في وجهها من شدة ألمها، فإذا قال فولكان لهؤلاء الأشخاص المحبين: يا أيها الناس، ماذا يطلب أحدكم من الآخر؟ فإذا ارتج عليهم، فقال لهم: ألا تطلبون أشد اتحاد وانفراد بينكم حتى لا يمكن فصلكم بعد ذلك مطلقا؟ إذا كان الأمر كذلك فسأذيبكم جميعا، وأعيدكم أفرادا لا يفصلكم فاصل، فهل هذا يرضيكم ونحن نعلم أنه لا يأبى عليه ذلك أحد؟ بل يعتقد كل أن هذا هو ما كان يتطلب، وهو أن يمتزج الواحد بالآخر، ويذوب معه ليعودا إلى ما كانا عليه. وسبب هذه الرغبة أننا كنا في بداية الأمر واحدا؛ فنحن نحب العودة إلى الاتحاد؛ لأن انشقاقنا قد أضعفنا فعرانا الاضمحلال كما حدث للأرقاديان بواسطة اللاسيدومينان؛ على أننا لا نزال نخشى عاقبة تمردنا من جديد، فنشق نصفين، ونبقى كالصور المرسومة على العمدان، فينبغي لنا أن نخلص في عبادة الأرباب والتوسل إليها لننجو من عقابها، وتحصل على الأشياء التي يحثنا الحب أميرنا وسيدنا على الرغبة فيها، فإن إغضاب الآلهة يعد عصيانا لأوامره؛ لأننا إذا حسن سلوكنا نحوها، فقد يكشف لنا عن أنصافنا التي نلتمسها ولا نجدها، وهذا حظ يقع الآن للنادرين منا.
فأنا أؤكد أن سعادة الجميع، رجالا وإناثا، كائنة في إتمام غاية الحب، وفي امتلاك كل منا محبوبه، وبذا يمكن أن نعود نوعا لطبيعتنا القديمة؛ فإذا كان في هذا غاية السعادة فأقرب شيء للسعادة امتلاك الذين توافق طبائعهم وغرائزهم طبائعنا أكثر موافقة والاجتماع بهم.
وإذا أردنا أن نمجد إلها بصفته خالق هذه السعادة فلا بد من تمجيد الحب بأغاني الفرح؛ لأنه في حالنا الحاضرة يعضدنا ويساعدنا لدى الضيق، ويعطينا آمالا كبرى في أن يعيدنا سيرتنا الأولى إذا استمررنا على التقى نحو الآلهة، ويمنينا بأن يهبنا السعادة التامة التي لا يلائم طبائعنا سواها.
هذا يا أريكسماكوس ختام خطابي على الحب.
ثم تلت مجادلة فكاهية بين سقراط وأجاثون وفيدروس، ثم تكلم الثاني بحسب دوره قال:
أجاثون:
إن الذين سبقوني قد أثنوا على الحب ثناء عظيما، هنئوا البشر على ما منحهم إياه هذا الرب من أنواع العطايا والسعادات، ولكن لم يقل لنا أحد شيئا عن حقيقة هذا الرب الذي سبب كل تلك النعم. فينبغي أن نعلم أولا ما هي المنح والعطايا التي أعطاها ذاك الإله، ثم نعرف حقيقة الرب ذاته ... ينبغي أولا حمد الحب، ثم ذكر عطاياه، فأقول إنه ولو أن الآلهة كلها سعيدة سعادة أبدية إلا أن الحب، إذا ساعدني صوتي على التصريح بتلك الحقيقة الكبرى، أسعد الأرباب وأفخرها وأجملها . أما كونه أجملها؛ فلأنه أصباها وأسرعها زوالا، وأنفرها من كل عتيق، وقد قال المثل القديم: «شبيه الشيء منجذب إليه.» وهو ينطبق على ارتباط الحب بالشباب، وأقول إن الحب ليس أصبى الأرباب فقط، بل إن صباه أبدي.
أما الحوادث التي وقعت بين الأرباب ورواها هصيود وبارمنيد إن صحت، فلم يكن الحب داعيا إليها، إنما الضرورة؛ لأنه لو كان الحب حينئذ في السماء لما حدثت تلك الجرائم الفظيعة الدموية، بل لساد العطف والسلام اللذان يعيش فيهما الآلهة الآن تحت تأثير الحب؛ إذ إن الحب صبي فهو لين رقيق، وكنا نحتاج إلى شاعر مثل هوميروس ليصف لنا رقة الحب ولطفه؛ فقد قال ذلك الشاعر: إن آلهة النكبات رقيقة، وأقدامها كذلك لينة هينة؛ لأنها لا تسير على الأرض، بل على رءوس الرجال، ويدلل على لين أقدامها بقوله إنها تسير على ما هو لين، ومثل هذا البرهان كاف لإثبات لين الحب ورقته؛ لأن الحب لا يسير على الأرض، ولا على رءوس الرجال، وما هي باللينة، ولكن يسكن ثنايا الأحشاء، ويسير على ألين الأشياء، وقد جعل مقر ملكه نفوس الأرباب وقلوب البشر، وهو لا يأوي إلى كل النفوس؛ لأنه إذا رأى طبيعة جافة، أو نفسا خشنة فإنه ينفر منها، ويبتعد عنها، ولا يألف إلا النفوس اللينة الرقيقة؛ فلهذا كان أرق الأشياء؛ لأنه يلمس بخفة بأقدامه الرخصة ألطف جزء من أرق الأشياء وألطفها.
فهو إذا أصبى الأرباب وألطفها وأكثرها لينا وسيولة، ولو كان غير ذلك ما أمكنه أن يلتف حول كل شيء، ويفيض في كل نفس؛ فالسيولة والفيضان من طبيعته المنتظمة؛ لأنه يعادي كل ما كان مشوها، ويقضي حياته بين الزهور، وهذا سبب لين جلده وجماله؛ لأنه لا يطوف إلا بالنفوس التي لا يزال عطر زهورها عابقا، هذا فيما يتعلق بجمال الحب؛ فلنتكلم الآن عن قوته وفضيلته: إن أحسن صفاته أنه لا يسبب الأذى، ولا يحتمله في علاقته بالأرباب والناس، وإذا تألم من شيء فليس سبب ألمه الشدة أو القسوة، كذلك هو لا يفعل شيئا فيه قسوة أو شدة؛ لأن كل إنسان يفعل ما يأمره الحب بمحض إرادته ورغبته، وكل ما يمنحه الحبيب محبوبه يكون بمحض إرادته، وهذا تبيحه القوانين التي هي ملوك الجمهورية.
وفضلا عن العدل فإن الحب في غاية الاعتدال؛ لأنه إذا كان الاعتدال كون المتصف به يترفع عن الملاذ والشهوات، ويقدر على الضغط عليها؛ فالحب الذي لا يوجد سرور أشد منه يعد أحلى وأمتع الملاذ؛ ولذا لا بد أن يكون أكثر الأشياء اعتدالا. إن المريخ لا يمكنه أن يفاخر الحب في الشجاعة والقوة؛ لأن المالك أقوى على الدوام من المملوك، والذي يغلب أقوى الأرباب لا بد أن يكون أقوى منها جميعا، ولا يخفى أن حب الزهرة يمتلك المريخ.
وبعد الكلام على عدل الحب واعتداله وقوته بقي الكلام على حكمته، فأقول: إن هذا الرب شاعر عاقل، حتى إنه يستطيع أن يخلق شاعرا من رجل لم يكن كذلك؛ لأن كل إنسان مهما كانت حال نفسه مضطربة قبل الحب، فإنه بفضل الحب يصير شاعرا، وهذا دليل على أن الحب شاعر وماهر في هذا الفن حسب قواعد الموسيقى؛ لأن ما لا يملكه الإنسان أو يجهله لا يستطيع أن يعطيه أو يعلمه سواه، ومن ذا الذي ينكر أن الشعر الإلهي الذي يخرج سائر الأشياء الحية الموجودة على ظهر الأرض ليس منسجما بحكمة الرب؟ أليس من الثابت أن الحب واضع فنون الحياة التي نعرفها؟ ومن كان الحب معلمه يصير عظيما وكبيرا، كما أن من يجهل الحب يبق طول حياته غير ملتفت إليه خاملا. لقد اخترع أبولون الطب والتخمين والرماية مقودا إلى ذلك بالرغبة والحب؛ فكان أبولون تلميذ الحب، وبواسطته اكتشفت «عرائس الشعر» فنون الأدب، كذلك تعلم فولكان معالجة المعادن، ومنرفا فن النسيج، والمشتري سير السيادة التي يمارسها الآن على الأرباب والناس. وهكذا تعلمت الأرباب كل فن بفضل «حب الجميل »؛ لأنه لا يوجد حب نحو الأشياء المشوهة.
في أصل الأشياء حدثت بين الأرباب فظائع دعت إليها الضرورة، ولكن عندما ظهر هذا الرب بفضل الرغبة التي تجذب العالم دواما نحو كل جميل نزلت البركة على كل من كان في الوجود من الآلهة والبشر. يظهر لي أن الحب أجمل وأفضل الأرباب، وسبب كل المفاخر المركبة في طبيعته. إن الحب هو الرب الذي يخلق السلام بين الرجال، والهدوء في البحر، وسكون العواصف، والراحة والنوم لدى الحزن. الحب يجردنا من البغض، ويملأ قلوبنا الخالية بالعطف، وهو الذي يجمعنا في الأعياد والأفراح والمراقص والولائم. إن الحب يمطر الخير، والوداعة على الأرض، وتفر من وجهه سائر الميول الخشنة وتهلك، وهو موجد سائر أنواع المودة، ومهلك الأفكار الرديئة، وهو الرحيم الوديع موضع إعجاب العقلاء، ومسرة الأرباب يملكه السعداء، ويشتهيه الأشقياء الذين شقوا؛ لأنهم لا يملكونه، والد الأمان واللطف والرقة واللين والفرح والرغبة، وبه يعتز كل ما كان خيرا، ويهلك كل أمر سيئ، وهو أفخر مرشد لنا، وأحسن مدافع عنا، والمحافظ علينا في تعبنا، وخوفنا في شهواتنا، وفي تعقلنا، زينة كل شيء، وحاكم كل شيء رباني وإنساني، وينبغي لكل إنسان أن يقتفي أثره مرتلا ثناءه، آخذا بنصيبه في الانسجام الإلهي الذي ينشده الحب طربا بالأشياء الحية الموجودة، ومهدئا العقول المتعبة لدى الأرباب والناس.
هذا ما أردت أن أقول في الثناء على الرب.
وبعد مناقشة قصيرة بين سقراط وأريكسماكوس وفيدروس بدأ سقراط العظيم خطابه فقال:
سقراط:
إنني أثني يا أجاثون الحبيب على بداية مقالك؛ حيث ذكرت أنه يجب أن نعرف أولا طبيعة الحب، ثم نعرف أعماله، وهذا نظام أوافق عليه. وحيث إنك أسمعتنا مقالا جميلا بليغا عن الحب، فإنك - لا ريب - قادر على أن تجيبنا على هذا السؤال، وهو: هل الحب هو حب شيء أو حب لا شيء؟ فقال أجاثون: إنه طبعا حب شيء ... قال سقراط: اذكر لي هل الحب يشتهي الشيء الذي هو موضعه؟ قال أجاثون: لا شك أنه يشتهيه. سأل سقراط فإذا كان يملك الذي يشتهيه فهل يحبه؟ قال أجاثون: أظن يشتهيه ويحبه إذا كان لا يملكه. قال سقراط: لاحظ إذا أن الرغبة تشتهي ما تطلب، ولا تملك، ولا تشتهي إلا ما تطلب، فهل يريد من صار شهيرا أن يصير شهيرا من جديد؟ وهل يريد القوي أن يكون قويا؟ فإذا شاء الصحيح أن يكون صحيحا، والقوي أن يكون قويا ينتج من هذا أنهما لا يزالان يشتهيان منافع أمور يمتلكانها، فلو فرضنا أن شخصا يملك تلك المنافع، فهل يمكن أن تكون هي غاية رغبته؟ ولو أن شخصا غنيا يقول: أريد أن أكون غنيا. فلتقل له: إنك غني، ولا معنى لطلب ما هو لك، وإنما يمكنك أن تطلب استمرار تلك الحال؛ وينتج من هذا أنك عندما تشتهي شيئا تملكه إنما تريد بذلك دوام الامتلاك، أليس الحب حينئذ هو حب ما ليس في وسعنا الحصول عليه، كذلك حب ما لا يمكن استبقاؤه في المستقبل، وإن كنا حاصلين عليه في الحال؛ فالحب وكل شيء يشتهي شيئا آخر، إنما يشتهي ما هو غائب وبعيد عنه أي الشيء الذي ليس له، ولا يخفى أن الشيء الذي يشتهي شيئا آخر لا بد أن يكون مغايرا له. هذه هي الأشياء التي تحب وتشتهى. إن الحب يحب ما يشتهي، ولكن لا يمتلكه؛ فالحب يطلب ولا يمتلك الجمال، فهل يسمى جميلا ما يتطلب الجمال ولا يمتلكه؟
قال أجاثون: كلا. قال سقراط: إذا هل تؤكد أن الحب جميل بعد أن سلمت بكل ما سبق؟ لقد قلت بأن كل خير يعد جميلا. فقال أجاثون: نعم. قال سقراط: فإذا كان الحب في حاجة إلى الجمال والأشياء الجميلة فهو - لا شك - كذلك في حاجة إلى الخير. قال أجاثون: إنني لا أستطيع أن أنقضك يا سقراط. قال سقراط: إنك لا تستطيع نقض الحق، أما سقراط فإنك تستطيع نقضه.
ثم ترك سقراط السؤال على طريقته المنطقية، وقال:
سقراط:
كما قلت يا أجاثون، ينبغي لنا أولا أن نتكلم عن طبيعة الحب، ثم عن أعماله. قالت لي ديوتيما النبية: إن الحب ليس جميلا، وليس خيرا ، إنما هو بين الاثنين، إنه شيطان، والشيطان وسط بين الرباني والإنساني. فسألتها عن قوته وطبيعته فقالت: إنه يفسر الأشياء الربانية، والأشياء الإنسانية، ويصل بينها، وينقل الصلوات والتضحيات من البشر للأرباب، ويوصل أوامر الصلاة والعبادة من الآلهة إلى البشر، وهو يملأ الفراغ بين هذين النوعين فيربط بقوته سائر الكون، وبفضله بقي التخمين والوحي والعلم المقدس والتكفير والتنبؤ والسحر. والطبيعة الربانية لا يمكن أن تتصل مباشرة بالطبيعة البشرية؛ فكل ما يعطيه الأرباب للناس بفضل الاختلاط والمواصلة في نومهم وفي صحوهم هو نتيجة تداخل الحب، والعارف بعلم الاتصال يعد سعيدا للغاية، وله نصيب وحصة من طبيعة الشيطان، ولكن من يعرف فنا أو علما آخر يبقى طول حياته أسيرا عاديا، وهؤلاء الشياطين كثيرون ومتعددون، والحب أحدهم.
فسألتها: من ولد الحب؟ فقالت ديوتيما: إن هذا تاريخ طويل، ومع ذلك فسأشرحه لك، عندما ولدت فينوس أقام الأرباب عيدا، وبين من حضروه «الوفور» ابن متيس؛ فبعد العشاء رأت «الحاجة» تلك الغزارة العميمة، فجاءت تسأل ووقفت بجانب الباب، وكان «الوفور» قد سكر من شرب الرحيق؛ لأن النبيذ لم يكن قد اخترع بعد، فخرج إلى حديقة المشتري، ونام نوما عميقا، فأرادت الحاجة أن ترزق من الوفور بغلام لضعف حالها، فرقدت بجانبه، وأغرته فضاجعها فولدت الحب ...
فالحب هو خادم فينوس؛ لأنه حمل فيه في عيد مولدها؛ ولأنه بطبيعته محب لكل جميل، وكانت الزهرة جميلة، ولما كان الحب هو ثمرة وصال الوفور والحاجة، فحظه مثل حظ والديه؛ فهو فقير على الدوام، وبعيد عن الرقة والجمال على عكس ما يتخيله البشر، بل هو قذر، وممزق الثياب، ويطير على مقربة من، الأرض ولا مأوى له، ولا حذاء ينتعله، وينام بلا غطاء أمام الأبواب وفي الطرق التي لا يحميها ستار، وهو في تلك الأمور كلها تابع لطبيعة أمه، وهو على الدوام رفيق الفقر، أما نصيبه من طبيعة أبيه، فظاهر في أنه على الدوام يفكر في الحصول على الأشياء الجميلة الصالحة، لا يخاف، وهو شديد وقوي، وفي الصيد ماهر، وعلى الدوام يدبر حيلة جديدة، وهو في غاية الحذر والاحتراس، وغني بالأفكار والوسائل، وهو طول حياته حكيم وساحر وسفسطائي، وحيث إن طبيعته ليست خالدة، وليست فانية فهو في اليوم الذي يفوز فيه، ويساعده الحظ يزهر ويزهو، ثم يموت، ثم يعود إلى الوجود كما هي طبيعة أبيه، وكل ما يكسبه يفيض عنه؛ فالحب ليس غنيا ولا فقيرا، وهو في برزخ بين العلم والجهل. إن الأرباب لا تتفلسف لأنها حكيمة، والحكيم لا يتفلسف لأنه مكتف بحكمته، كذلك الجاهل لا يتفلسف لأنه لا يتطلب الحكمة لحسن ظنه بنفسه، إنما أوساط الناس هم المتفلسفون، كذلك الحب يتفلسف لأنه بين العلم والجهل؛ ولأن الحكمة من أجمل الأشياء. والحب يظمأ لكل جميل؛ لذا هو محب للحكمة؛ ولأن الحكمة في موضع وسط بين الجهل والعلم، وسبب ذلك ظاهر في نسبه؛ فهو ابن والد غني عاقل، وأم فقيرة جاهلة.
قالت ديوتيما: هذه هي طبيعة الحب الشيطانية يا سقراط، وقد خلطت الحب بالمحبوب الذي هو وحده الجميل الرقيق اللطيف، وأطلقت صفات المحبوب على الحب. قلت لها: أيتها النبية الغريبة، إن في كلامك روح الإقناع، فإذا كانت هذه هي طبيعة الحب، فماذا يستفيد منه البشر؟ فقالت: إن الحب هو حب الأشياء الجميلة، فإذا سألنا أحد: لماذا كان الحب هو حب الأشياء الجميلة؟ (وبعبارة أخرى ماذا يحب العاشق في الشيء الجميل الذي يعشقه، فما الجواب؟) فقلت لها: إنه يحب امتلاكه. فقالت: وماذا يملك الذي يمتلك الشيء الجميل؟ فقلت لها: لا يمكنني أن أجيب لساعتي. فقالت: ولو بدلت الجميل بالخير، فماذا يحب العاشق في الشيء المحبوب ذلك الذي يحب الخير؟ فقلت: يحب امتلاكه. فقالت: وماذا يملك إذا امتلك الشيء الخير؟ فقلت لها: إن الجواب سهل، وهو أنه يمتلك الشيء الصالح، فيكون سعيدا. فقالت: إذا الناس تسعد بالامتلاك، ومن العبث أن أسألك عما يطلب ذاك الذي يطلب السعادة؛ لأن الجواب في السؤال، ولكن هل تظن أن هذه الرغبة عامة لدى كل الناس، وأن كلهم يطلبون أن يكون الشيء الخير ملكا لهم، وحاضرا لديهم دواما؟ فقلت لها: نعم، إن هذه الرغبة عامة. قالت: إذا لماذا لا نقول يا سقراط إن كل الناس يحبون إذا كان الجميع يحبون شيئا واحدا، ولكننا نقول إن البعض يحبون، والبعض لا يحبون؟ فقلت لها: نعم، إنني أعجب لهذا ولا أحير جوابا!
فقالت ديوتيما: لا تعجب؛ لأننا اخترنا نوعا واحدا من الحب، وأطلقنا عليه الاسم العام الشامل لكافة الأنواع. فقلت لها: اضربي لي مثل تعميم اسم شيء خاص. قالت الشعر، إنه اسم عام يدل على كل سبب يخرج بواسطته شيء من لا شيء؛ فممارسة أية صنعة اختراعية يعد نوعا من الشعر، وكل أرباب هذه الصنائع والفنون هم شعراء، ولكن لا يطلق عليهم اسم شعراء، إنما يعرف كل واحد منهم باسم خاص به، وقد فصل عن هذه الأنواع النوع المتعلق بالموسيقى والوزن، وأطلق عليه الاسم العام للجميع، ولا يطلق اسم الشعر على غيره، ولا يسمى شعراء إلا من يمارسونه. كذلك الأمر في الحب؛ فإن الحب معناه العام هو الرغبة الصادقة في امتلاك السعادة، وامتلاك ما كانت صفته الخير، وهذا هو أعظم وأرقى حب يسكن قلب الأحياء. أما الذين يلتمسون هذه الغاية بواسطة اكتساب الغنى أو بممارسة فن الجمنسطيقي
2
أو الفلسفة؛ فإن كلا منهم لا يعشقون ولا يسمون عشاقا، إنما هناك نوع واحد من العشق يطلق عليه هذا الاسم، ومن يمارسون هذا النوع يسمون عشاقا، وهم الذين يلتمسون الوصول إلى الرغبة العامة بواسطة نوع واحد من الحب، وهو النوع الذي يعرف بالاسم الذي يطلق على الأنواع كلها، فيؤكد البعض أن العاشقين إنما يلتمسون النصف المفقود، إنما أنا أؤكد أن الحب ليس حب النصف أو الكل إذا لم يلتق الحب بالخير، وحيث إن الناس يقطعون أيديهم وأرجلهم برغبتهم إذا كانوا يظنون أنها مجلبة الشر عليهم، كذلك البشر لا يعززون ذاك الذي في حوزتهم لمجرد كونه في حوزتهم إلا إذا أراد البعض أن يقول إن الشيء الخير ملتصق بطبيعته، وهو ملك له، وإن الشيء السيئ الرديء هو غريب عنه، وطارئ عليه، وإنه لا يحب إلا الشيء الخير، فإذا تقرر ذلك فهل نستطيع أن نؤكد أن الناس لا يحبون إلا الخير؟ قلت: بلا ريب. قالت: ويحبون أن يكون هذا الشيء ملكا لهم، وأن يكون دواما حاضرا لديهم؟ قلت: نعم. قالت ديوتيما: إذا كان هذا هو التعريف العام للحب، فهل يمكنك أن تقول لي ما هي أفعال الحب؟ وما هي الطرق التي يصل بها للحصول على غرضه؟ فقلت لها: لو علمت الإجابة على هذا السؤال يا ديوتيما ما احتجت إليك، ولا عجبت لحكمتك، ولا طلبت سؤالك للاستفادة. فقالت: إن الحب هو رغبة التناسل والتسلسل في الشيء الجميل فيما يتعلق بالنفس والجسم معا؛ فإن كلا من النفس والجسم للإنسان يحمل في ثناياه بذور التناسل، فإذا بلغ الإنسان سنا معلومة تدفعه الطبيعة لوضع هذه البذور، والطبيعة لا يمكنها تلقيح المشوه، ولكنها تستطيع التلقيح في الجميل؛ فعلاقة الذكر بالأنثى في التناسل عمل مقدس إلهي مع أن الحمل والوضع عملان خالدان في الفناء؛ فالجمال هو القضاء الذي يقضي بالتناسل. لأجل هذا كان الشيء المملوء بمادة التلقيح إذا دنا من الشيء الجميل يطير فرحا، ويفيض لذة، ثم يأخذ في التلقيح والتناسل، ولكنه إذا دنا من الشيء المشوه انقبض من الحزن، ثم يقبض مادة اللقاح عن الشيء القبيح، ولا ينتج، أما الشخص المملوء بمادة اللقاح، ويكاد يفيض من شدة الرغبة فيكون اندفاعه نحو الجميل قويا جدا بسبب الألم الذي يحصل له من الامتناع عن إخراج مادة اللقاح التي يحملها.
فالحب يا سقراط ليس إذا هو حب الجميل. قلت لها: إذا ما هو؟ قالت: هو حب التناسل والإنتاج في الجميل. قلت لها: لماذا التناسل؟ قالت: لأنه شيء خالد في الفناء. لا ينتج بالضرورة عما قلنا أننا لا نطلب الخير فقط، إنما نطلب بقاءه ملكا لنا إلى الأبد؛ فالحب هو إذا رغبة الأبدية. ثم قالت لي ديوتيما: ماذا تظن يا سقراط سبب هذا الحب، وهذه الرغبة؟ ألا ترى كيف أن أنواع حيوانات الأرض والهواء إذا أصابتها رغبة التناسل تصاب بشبه داء يدفعها أولا إلى الاختلاط الجنسي، فإذا اختلطت استمرت في جهاد عنيف للحصول على غذاء لذاتها ولنسلها؛ فيحارب ضعيفها قويها، بل تفضل الفناء على ترك نسلها فريسة للجوع؛ فإذا قلنا إن البشر يفعلون هذا بعامل العقل، فهل تعرف بأي دافع يفعل الحيوان هذا إذا أصابه الحب؟ قلت: لا. قالت: إن الطبيعة الفانية تلتمس الخلود بكل الوسائل، ولا يمكن إتمام هذا إلا بالتناسل الذي يوجد فردا جديدا مكان القديم؛ لأن الإنسان وإن كان يظن أنه هو ذاته لا يتغير إلا أنه يتغير عدة مرات في حياته بالتغير الذي يصيب الشعر واللحم والجسم كله، وليس هذا التبديل قاصرا على جسم الإنسان، بل هو أيضا يمس الروح؛ فإن خلاله وآراءه ورغباته وأحزانه ومخاوفه كلها تتبدل، وبعضها يموت ولا يبقى له أثر، ويتلوها غيرها، والأغرب من هذا أن معرفة الإنسان ذاتها تتجدد، كذلك كل شيء من أفكارنا تحدث له الثورة ذاتها، وإن ما يسمى بالتأمل أو تمرين الذاكرة إنما هو علم فرار الذاكرة أو رحيلها؛ لأن النسيان هو خروج المعرفة، والتأمل يدعو إلى الذهن ذاكرة جديدة غير التي ذهبت، فيحتفظ بالمعرفة ويستبقيها؛ فالمعرفة مهما تغير مكانها وتحولت فهي هي على الدوام، وبهذه الطريقة يحتفظ بكل شيء، وليس معنى هذا أنه ثابت وخالد مثل الشيء الرباني، إنما هو يترك في مكان الشيء القديم الفاني شيئا جديدا يشبهه، وبهذه الوسيلة يا سقراط يكون للجسم والأشياء الأخرى نصيب في الخلود، أما الشيء الخالد فخالد بمعنى آخر، فلا تندهش إذا رأيت كل شيء بطبيعته يعتز بما ينتج عنه؛ لأن هذا الحب الصادق هو تعلق بأذيال الأبدية. فقلت لها: يا أيتها الحكيمة، هل هذا الذي قلت صدق؟ قالت: كأنها فيلسوف مغالط، إذا نظرت إلى حب المجد، وتفاني الرجال في سبيل العلا أدركت كل ما قلت لك، وعلمت السر في حب الخلود، وبقاء الذكر. إن من كانت أبدانهم وحدها محملة بعنصر الخلود يجذبون نحو النساء، ويبحثون بواسطة إنتاج الأولاد عما يتخيلون فيه السعادة والبقاء والذكر الخالد، ولكن الذين تحمل نفوسهم أكثر من أجسامهم تراهم يلدون ويضعون ما هو أكثر ملاءمة للنفس. وما هو الملائم للنفس؟ هو الذكاء وكل قوة أخرى من قوى العقل. وكل لذة يوجدها الشعراء والمتفننون المتعلقون بفنون الاختراع والخلق.
وأعظم أنواع الحكمة هي التي تنظم الحكومة وحياة الأسر ، وهي المسماة بالعدل والاعتدال؛ فمن يشعر منذ صباه بأن نفسه حامل بهذه المفاخر، فهو رباني النفس، فلما يحين الوقت يريد أن ينتج، فيهم ليبحث عن الجميل الذي يمكنه أن يضع فيه ما هو حامل؛ لأنه ليس هناك تناسل في المشوه؛ فهو يضم الأجسام الجميلة طائعا للمبدأ الذي في نفسه، والذي يريد على الدوام الخلود والبقاء، فإذا لقي مع جمال الشكل نفسا جميلة كريمة لطيفة فهو يضم الاثنين معا، ويبدأ بتهذيب موضع حبه، ثم توحي إليه رغبة شديدة في أن يصرح بما هي الفضيلة، وماذا ينبغي أن يكون عليه ذاك الذي يريد امتلاكها، وما هي الواجبات التي تقتضيها؛ لأنه بمجرد اختلاطه بالشيء الجميل، ولمسه يضع ما كان يحمله منذ صباه ويغذي ويهذب الذي يخرج منه مع موضع حبه الذي لا تنفصل صورته عن ذهنه في غيابه أو في حضوره؛ ولهذا كان الذين يتحدون على هذه الصفة يكونون مرتبطين برابطة أقوى وحب أعظم لكونهم يخلفان نسلا أعز وأجمل من نسل الأزواج الآخرين. وكل من يفكر في النسل الذي تركه هومير وهصيود وغيرهما من كبار الشعراء، وفي أن هذا النسل هو مصدر ذكراهم الخالدة، وشهرتهم الدائمة أو ينظر إلى بنات نفس ليكرجوس أو إلى القوانين التي خلفها صولون، وفي الأعمال الكبرى التي تركها العظماء في بلاد اليونان، وفي بلاد البربر أثرا وعهدا للحب الذي كان بينهم وبين الجمال، يفضل أن يكون والدا لمثل هؤلاء الأطفال دون الأطفال الذين يولدون في شكل إنساني؛ لأن الشرف الإلهي والثناء الإنساني عادا عليهم من مثل هؤلاء الأطفال، ولكن لم يعد عليهم شيء منهما بسبب الأولاد الآدميين!
إن الذي يتوق إلى الحب الحقيقي ينبغي له منذ صباه أن يسعى في الاتصال بالأشكال الجميلة، ثم يجعل شكلا واحدا جميلا موضعا لحبه، ثم يلقحه بالمفاخر العقلية، ثم عليه أن يعتقد أن الجمال أينما حل هو شقيق الجمال في أي شكل آخر، فإذا كان واجبه أن يتقصى أثر الجمال في الأشكال، فيكون من الجهل ألا يعلم أن الجمال واحد وإن تعددت الأشكال، فيطفئ قليلا من جذوة تعلقه بشكل واحد ليقف حبه على سائر الأشكال، ثم هو كذلك يعتبر جمال النفوس أرقى من جمال الأبدان، فإذا وجد شخصا ذا نفس جميلة، ولكن زهرتها ذوت، فإن ذلك لا يمنعه عن وقف حبه وعنايته على هذا الشخص واتخاذه رفيقا لإنتاج الأشياء الجميلة التي تحملها نفسه، ثم يكون واجبه أن يهذب هذا الشخص، فيبدأ بتعليمه العلم ليرى فيه جمال الحكمة، وبذا يتأمل في الجمال فيخلص من ربق عبادة الجمال والحب في شكل خاص، بل يلتفت بعين نفسه إلى محيط الجمال العقلي، فيستخرج بجمال الأشكال التي يراها ما كان كامنا في نفسه من أفكار الحكمة، فإذا قوي واشتد يشتغل بعلم واحد وهو علم الجمال العام.
ومن تعلم وتهذب في الحب إلى هذه الدرجة بتأمله في الأشياء الجميلة بالتدريج، وحسب ترتيبها الوجودي، فقد حصل الآن على غاية الحب ويرى فورا وفجأة نوعا من الجمال عجيبا في طبيعته، وهذا هو الجمال الذي لأجله تكبدت كل هذه المشاق، وهذا الجمال خالد، ولا يمكن إنتاجه، ولا يمكن إهلاكه، ولا يمكن زيادته، ولا نقصه، وهو لا يشبه الأشياء الأخرى في أنه جميل من جهة، ومشوه من جهة أخرى، وليس جميلا بالنسبة لشيء ومشوها بالنسبة لشيء آخر، وليس هو جميلا هنا، ومشوها هناك، وليس جميلا في اعتبار إنسان ومشوها في اعتبار إنسان آخر، ولا يمكن تصور هذا الجمال للذهن كتصور جمال الأيدي والوجه، أو أي عضو من البدن أو تصوره كجمال علم من العلوم، وليس له وجود معين، وليس في الأرض أو في السماء أو في مكان آخر، ولكنه على الدوام ذا شكل واحد ثابت لا يتغير ملائم لذاته.
وكل الأشياء الأخرى جميلة بواسطته مع فرق واحد وهو أنها عرضة للإنتاج والهلاك، ولكنه ليس عرضة للزيادة والنقص، وهو ممتزج بالحقيقة ذاتها ؛ فهو يخرج الفضيلة ذاتها، ويتغذى بها، ويصبح عزيزا لدى الأرباب، فإذا صحت هذه النعمة لبشر كان هو - لا شك - خالدا غير فان.
هذا هو يا فيدروس ما قالته لي تلك النبية الغريبة، وقد اقتنعت بقولها فشغلت نفسي من ذلك الحين بإقناع الآخرين بأنه لا يوجد رفيق غير الحب لإيجاد الاتصال بين الخلود وبين طبيعتنا البشرية الفانية؛ لذا أطلب من كل منكم أن يكرم الحب ويشرفه؛ ولهذا أنا الآن أحمد الحب على قدر استطاعتي، وهذا المقال الذي قلته هو هدية وثناء وصلاة مني إلى الحب. •••
فأثنت الجماعة على خطاب سقراط وهم أريسطوفان بإبداء ما عن له بشأن ما ورد على لسان سقراط متعلقا به، وإذا بباب الدخول يقرع قرعا شديدا، ثم استأذنت عليهم جلبة تشبه جلبة السكارى المعربدين في صحبتهم زمار، فقال أجاثون لخدمه: «اذهبوا يا غلمان وانظروا من الطارق، فإن كانوا من أصدقائنا فرحبوا بهم، وإلا فأخبروهم أنا فرغنا من الشراب.» وبعد ذلك بلحظة سمع المجلس صوت السبياديس في المدخل وهو على أشد ما يكون من السكر يزأر قائلا:
أين أجاثون؟ خذوني إليه! فأخذ الزمار وبعض أصدقائه بيده ووقفوه مستندا إلى دعامة الباب، وكان على رأسه إكليل من حبل المساكين والبنفسج، وعلى رأسه كمية كبيرة من العصائب، فصاح قائلا: أحييكم أيها الرفاق، إنني شربت كفايتي، ولكن إذا شئتم أن أشرب معكم فلا مانع، فإذا لم ترغبوا في الشراب فإنني أنصرف بعد تتويج أجاثون؛ لأنني ما جئت إلا لهذا الغرض، أؤكد لكم أنني لم أستطع الحضور أمس، ولكنني جئت الليلة وحول صدغي تلك العصائب ليتيسر لي أن أستعين بها في تتويج ذلك الذي أستميحكم عفوا إذا وصفته بأنه أجمل الرجال وأحكمهم، أتضحكون من سكري؟ أجل إنني أعرف أنني أقول الحق، أضحكتم أم لم تضحكوا، ولكن قولوا هل تأذنون لي في الدخول أم لا؟ وهل تشربون معي؟
فأظهر أجاثون والجماعة رغبتهم في دخوله، وطلبوا إليه أن يتكئ بينهم، فدخل مأخوذا بيده من شدة سكره، ثم حل رباط رأسه ليتوج به أجاثون، وكان سقراط حياله مباشرة، ولكنه لم يبصر به رجاء مجلسه بين سقراط وأجاثون، وقد تحرك سقراط ليفسح له متكأ، فلما جلس ضم أجاثون إلى صدره، ثم توجه، وطلب أجاثون إلى عبيده أن يحلوا رباط نعليه ليتيسر له أن يتكئ على وسادة واحدة بين سقراط وأجاثون، فقال السيباديس لما سمع أنه ثالث اثنين على وسادة واحدة إني أود ذلك، ولكن من يكون ثالثنا؟ ثم التفت فأخذت عينه بسقراط فطفر السيباديس وصاح أي هرقل! من هذا الذي أرى؟! أنت يا سقراط متربص لي في كل مكان، ثم تلقاني دائما حيث لا أنتظر لقاءك، أما وقد فرغت من هذا فقل لي: ماذا جاء بك إلى هنا؟ ولماذا اخترت أن تتكئ في هذا المكان دون سواه، ولم تختر جوار أريسطوفان أو غيره ممن يتساهلون في أن يكونوا موضع سخرية، بل توصلت بحذق إلى الاتكاء بجوار أظرف الحاضرين وأحلاهم؟ فقال سقراط: هيئ يا أجاثون دفاعا عني، إنني لا أكتم أن صداقتي لهذا الرجل أمر وبيل؛ فمذ عرفته لم أستطع أن أحادث سواه، بل لم يتم لي أن أنظر إلى غيره، فإذا فعلت فإنه يغار غيرة شديدة، ويستسلم للإغراق في إظهار استيائه، ويندر أن يصون يده عن ضربي، أتوسل إليكم أن تعوقوه عن مثل هذه الفعال في هذا المجلس، توسط في الصلح فقد وكلتك عني، فإذا لم تهدأ سورة غيرته وغيظه فاستعد للدفاع عني. فقال السيباديس: لا أريد مصالحتك، وسوف أنتهز فرصة أخرى لعقابك على ما حدث منك الليلة. ثم التفت إلى أجاثون، وقال له: أعرني بعض هذه العصائب لأتوج الهامة العجيبة التي يحملها بين كتفيه ذاك الذي ألام على أنني توجتك وأغفلته، وهو الذي غلب كل الرجال بخطبه ليس أمس كما فعلت فحسب، بل في كل وقت. قال هذا، ثم أخذ بالعصبة وربط رأس سقراط، ثم اتكأ وقال: أنتم يا رفاق في صحو فلا تضجروا، بل اشربوا لأنكم اتفقتم معي على المنادمة، وإنني أنتخب لهذا المجلس نفسي رئيسا إلى أن تسكروا. أجاثون! إلي بكبرى طاساتك، ولكن لعل هذا الوعاء المملوء نبيذا مبردا يكفيني، علي به يا غلام! فلما رأى أنه يسع أكثر من ثماني كئوس عامرة شرب ما فيه عن آخره، ثم أمر أن يملأ لسقراط، ثم قال: انتظروا أيها الإخوان إنني لا أستطيع أن أدبر حيلة على سقراط؛ لأنه يستطيع أن يشرب على قدر رغبة من يشاء، ثم هو بعد ذلك لا يسكر، ولا يفقد توازنه.
فلما ملأ الغلام الوعاء شربه سقراط عن آخره، فقال: أريكسماكوس! أيبقى شرابنا بغير مسامرة أو طرب، فنكتفي بالشراب الساذج خلوا من المؤانسة، وهذه خلة الظمآن؟ فقال السباديس: «أريكسماكوس! لم أرك من قبل! تحية أيها الولد البار من والد أبر.» أجاب أريكسماكوس: تحية لك أيضا، ولكن ماذا نحن فاعلون؟ قال السباديس: نفعل ما تأمرنا بعد؛ لأنه ينبغي لنا أن نخضع لإرشادك؛ لأن الطبيب يعدل مائة من سائر الرجال، فمرنا بما تشاء! قال أريكسماكوس: قبل أن تدخل علينا اتفقنا على أن يلقي كل منا خطابا بليغا في الثناء على الحب مبتدئين بالجهة اليمنى، وقد قام كل منا بعهده إلا أنت؛ فقد شربت معنا ولم تتكلم، ويجب عليك أن تقوم بحصتك في الحديث، فإذا فرغت من ذلك فما عليك إلا أن تأمر سقراط بما تشاء، وهو يأمر جاره من اليمين بما يشاء، وهكذا دواليك. قال السباديس: إن في اقتراحك نصيبا من العدل يا أريكسماكوس وإن كان من الإجحاف أن ترغم السكران على مناظرة من لم يسكروا، هل أقنعك سقراط بصحة ما قال عني؟ أم أنت لا تعلم أن الأشياء على عكس ما يصورها لنا؟ فإنني أعتقد بجد أنني إذا مدحت في حضرته إلها أو بشرا سواه، فلن أسلم من ضربه، ولكنني أؤكد لك يا سقراط أنني لن أثني في حضرتك على أحد سواك.
فقال أريكسماكوس: افعل هذا إذا، امدح سقراط إذا شئت. فقال السباديس: هل أطعن عليه وأعاقبه على مرأى ومسمع منكم جميعا؟ فقال له سقراط: ما الذي تضمره لي؟ هل عزمت على الهزء بي، ووصفي بما ليس في أم ماذا؟ قال السباديس سأقول الحق ليس إلا، أتسمح لي؟ قال سقراط: إنني لا أسمح لك بقول الحق وحده، بل أشتد في مطالبتك بأن تقول الحق كله.
السيباديس: أطيعك عن طيب خاطر، وإذا ذكرت شيئا مخالفا للحقيقة فعقني عن إتمام الحديث، وأقنعني بخطئي؛ لأنني لا أحب أبدا أن أقول غير الحق بعلمي، واحتملني إذا لم أذكر الأشياء على ترتيبها الحقيقي، بل بترتيب تذكري إياها؛ لأنه لا يسهل على من كان في حالي أن يعدد بالنظام والدقة جميع غرائبك وشواذك.
إنني أبدأ بالثناء على سقراط بتشبيهه بتمثال معين، لعله يظن أنني أذكر هذا التمثال على سبيل السخرية، ولكن أؤكد لكم أن هذا ضروري لصدق تصوير الحقيقة. أقول إن سقراط يشبه تلك السيلون
3
التي تجلس في مصنع الحفار، وتنحت وهي تحمل مزامير، فإذا شقت نصفين وجدت داخلها تماثيل الآلهة. أؤكد أن سقراط يشبه «إنسان الغابة» مارسياس، أما أن شكلك ومظهرك يشبهان شكل «إنسان الغابة» ومظهره، فأمر لا تستطيع نكرانه، وأما أوجه الشبه الأخرى التي بينك وبينه فاسمعها الآن مني، ألست شديد السخرية حاد الطبع؟ إذا أنكرت هذا فإنني مستعد لإثباته بكل الطرق بما في ذلك البينة. ألست زمارا؟ بل إنك أبرع وأحذق في الزمر من مارسياس؛ لأن مارسياس وكل من يزمر على طريقته إنما يسحر الناس بقوة الفم، وأي موسيقار، حاذقا كان أو غير حاذق، يطلق هذه الموسيقى، فإنها وحدها كفيلة بأن تسوده على عقول الرجال. ومن ربانية طبيعتها تظهر من كان محتاجا للآلهة أو للدخول في حظيرة الأسرار الإلهية، ولكنك تختلف عن مارسياس في أمر واحد، وهو أنك تفوز بمأربك بغير أداة، بل بالألفاظ التي تنطق بها؛ لأننا إذا سمعنا برقليس أو غيره من الخطباء الفصحاء فلا نأبه له، ولكن إذا سمعك أحد أو سمع حديثا مرويا عنك مهما كان الراوي سخيفا، رجلا كان أو طفلا أو امرأة، فإن كلماتك تقع من قلبه أعظم موقع، وإذا لم أكن أخشى من شدة سكري لأكدت لكم قولي بقسم عن الأثر الغريب الذي كان لكلماته في نفسي ؛ لأنني إذا سمعته يتكلم فإن قلبي يخفق أشد من خفقان قلوب المحتفلين بالخفايا القوريبانية، ثم تجود عيناي بالدموع كلما استمر في الكلام، وقد رأيت مثلي كثيرين يبكون إذا سمعوا كلامه خشوعا وطربا، لقد سمعت برقليس وغيره من الفصحاء، ولكن لم يلحقني شيء من هذا، ولم تضطرب نفسي، ولم تمتلئ تأنيبا لذاتها كما لو أنها ذلت وامتهنت وطرحت في الحضيض كما يصنع بالأرقاء، ولكن هذا «المارسياس» الحاضر قد فعل بي هذا الذي أصف إلى أن احتقرت حياتي، واعتبرت أن عيشي لا خير فيه.
لا تنكر هذا يا سقراط؛ لأنني أعلم بيقين أنني إذا شئت الآن أن أسمع لك فلن أستطيع المقاومة، فتعروني تلك الهزة التي وصفت، ويحدث في نفسي الأثر الذي ذكرت؛ لأنه يا أصدقائي يضطرني إلى الاعتراف بأنني على الرغم من حاجتي إلى أمور كثيرة أهمل شئوني الضرورية، وأهتم بأمور أهل أثينا، فأضع أناملي في آذاني كما يصنع من يخشى سماع فتاة البحر، وأفر إلى أقصى ما يمكنني خشية من الجلوس إليه، فأشيخ وتبيض مفارقي من هول ما أسمع منه؛ لأن هذا الرجل جعلني أشعر بعاطفة الخجل التي ما كان يتهمني بها أحد، وهو وحده يوحي إلي الندم والوجل؛ لأنني أشعر في حضوره بعجزي عن دحض أقواله، ورفض ما يأمرني به، ولكنني إذا ابتعدت عنه فإن المجد الذي يغمرني به الشعب يلهيني ويغلبني؛ فلذا أفر وأختفي عنه، فإذا رأيته غلبني الخضوع والذل لإهمالي تنفيذ ما اعترفت به بضرورة فعله، وكثيرا ما منيت نفسي بفقدانه واختفائه أبدا من هذه الدنيا، ولكن إذا حدث هذا - لا قدرت الآلهة - فإن آلامي إذا لن يكون لها حد؛ لأجل هذا ترونني لا أدري ماذا أفعل بهذا الرجل. كل هذا قد تحملته أنا وغيري من زمر هذا «المارسياس» ولاحظوا كيف أنه يشبه الذي ذكرت كل الشبه، وكيف أنه ذو قوة عظيمة، اعلموا أنه ليس بينكم من يعلم طبيعة سقراط الحقيقية، وحيث إنني بدأت وصفه فسأستمر في إظهار حقيقته لكم، لا يخفى عليكم أن سقراط شغوف بعشرة أهل الجمال والاختلاط بهم، وأنه دائما يتظاهر بالجهل، وهذان مظهران يقربانه من سيلنوس في الغاية القصوى، وهذا هو يا أصدقائي الشكل الخارجي الذي تدثر به، وكأنه في ذلك أحد تماثيل سيلنوس ، فإنكم إن شققتم عن مظهره الخارجي إذا لوجدتم الصحو والإفاقة والاعتدال والحكمة؛ لأنه لا يعني بالجمال في ذاته، بل يحتقر كل المظاهر الخارجة، سواء كانت جمالا أو مالا أو مجدا أو أي شيء آخر مما يتهافت عليه الناس، ويهنئون بعضهم بعضا على إحرازه والتمتع به، وهو يعتبرنا - نحن الذين نمجد هذين الشيئين - كل شيء، ويعيش بيننا هازئا بكل ما يعجب به الناس ويعتزون به. على أنني لا أدري إن كان أحدكم قد هيئ له أن رأى التماثيل الإلهية الكامنة في قلب هذا الرجل فتمتع به، وهو مفتوح القلب جاد غير هازل، أما أنا فقد رأيتها فإذا هي على أعظم جانب من الجمال والأبهة والفخار لدرجة أن كل شيء يأمر به سقراط لا بد من تنفيذه كما لو كان أمره صادرا عن إله. لقد كنا رفيقين في الجندية، وكان لنا خوان ومقصف أمام بوتيديا، وقد غلبني سقراط وفاقنا جميعا في تحمل مشاق الحرب. وإذ كانت مئونتنا تشرف على النفاد، كما هي العادة في كل معسكر، فلم يكن أحد بيننا بأقدر على تحمل آلام الجوع من سقراط، ثم إذا توافرت المئونة لم يكن تلذذ أحد بطعام الجند بأعظم من تلذذ سقراط، ولم تكن عادته الإفراط في الشراب برغبة، ولكن إذا أرغم فكان يفوقنا في الشراب بغير سكر، والمدهش أن سقراط لم ير أبدا في حالة سكر بعد إقلال أو إفراط.
وفي منتصف الشتاء (وإن برد الشتاء لقارس في تلك الأنحاء) كان يحتمل بهدوء صنوفا من المصاعب لا يمكن تصورها؛ ذلك أنه كان إذا اشتد الصريب وبلغ الصقيع درجة لا تطاق، بحيث لا يستطيع أحد من الجند الخروج من الخيام، فإذا خرجوا تدثروا وتلفعوا بأعظم اعتناء، ولفوا أقدامهم وأرجلهم بالجلود، كان سقراط يخرج بقبائه العادي، ويسير حافيا على الجليد، ثم يمشي بأسهل ممن يدفئون أقدامهم على ما ذكرت، حتى إن الجند كانوا يظنون أنه يفعل ذلك ليهزأ بهم لعدم تجلدهم في الشدائد، ويحسن بي أن أحيي ذكر كل ما قام به هذا الرجل ، وكل ما تحمله أثناء تلك الحملة الحربية؛ فقد رؤي مرة في الصباح واقفا في مكان معين غارقا في التأمل، وكان يبدو عليه أنه عاجز عن حل المعضلة التي عرضت له، واستمر وقوفه على هذه الحال حتى الظهر، وقد رآه الجند وتهامسوا فيما بينهم من أنهم رأوه واقفا منذ الصباح، ثم جاء بعض رجال أيونيا إلى تلك البقعة، ثم تعشوا وأحضروا أغطيتهم من الصوف، وناموا في العراء؛ لأن حر الصيف ألجأهم لهجرة الخيام، وقد لاحظوا أن سقراط بقي واقفا على حاله الأولى طول الليل حتى الصباح، فلما أشرقت الشمس حياها بصلاة، ثم تحرك من مكانه وانصرف.
ولا يليق بي أن أغفل ذكر شجاعته في الحروب؛ فإنه في تلك الموقعة التي حباني بعدها القواد بوسام الإقدام، كان سقراط هو الذي أنقذ حياتي؛ فأنا مدين له بنجاتي وسلامتي؛ لأنه وقف بجانبي إذ كنت جريحا فصان حياتي، وحمى أسلحتي من يد الأعداء، وقد ألححت إذ ذاك على القواد أن يعطوا القوس باريها، فيقلدوه ذاك الوسام لجدارته به، وأنت يا سقراط لا تنكر أن القواد شاءوا أن يحاسنوا رجلا من طبقتي، فعزموا على تقليدي ذاك الوسام، كذلك كنت أشد رغبة منهم في منحهم إياي الجائزة.
ولما هزم جيشنا وتشتت جموعه أيدي سبا في (دليوم) كان منظر سقراط رائعا عجيبا خليقا بألا ينسى، وكنت راكبا، وكان هو من المشاة ومثقلا بالأسلحة، فلما أسفرت هزيمتنا عن فناء جيشنا تقهقر سقراط ولاشيز فأدركتهما وشجعتهما بمرافقتي، فما كان أعظم الفرق بين سقراط ولاشيز في سمو النفس، وحضور البديهة والشجاعة، ولم تخطئ كثيرا يا أريسطوفان في تمثيله على المسرح؛ إذ كان يسير بثبات، وينظر حوله برزانة وتؤدة، آخذا بنظراته الهادئة أصدقاءه وأعداءه بلا فرق، بحيث كان يظهر للبعيد عنه قبل القريب أن من يجازف بمهاجمته سوف يلقى مقاومة المستميت ، وقد نجا وفريقه بسلام بفضل ثبات جأشه؛ لأن الجنود المتقهقرة تقتفى آثارها وتقتل، ولكن العسكري المنتصر يتردد دون أن يمس رجلا كسقراط كانت نظراته وثباته على ما ذكرت رغما عن انهزام طائفته.
إن لسقراط من الخلال العجيبة ما يستحق الثناء، ولكن بعضها مشترك بينه وبين غيره من الناس، ولكن ذاك الذي يميزه عن غيره هو مخالفته جميع الرجال، وكونه أرفع من أن يقارن بهم؛ فإن براسيداس كان مثل آخيل، وبرقليس يقارن بنسطور، وأنتنور وكثيرون من الأقدمين تمكن مقارنتهم برجال من نوعهم، أما سقراط بشخصه وخطبه، فلا يمكن تشبيهه بأحد إلا إذا شبهناه بسيلنوس وإنسان الغابة. إن من يسمع حديث سقراط يخيل له في أول الأمر أنه مضحك جدا، فإن الألفاظ والجمل والتعبيرات التي يستعملها تدل على أنه ساتير لعوب (ساتير هو مخلوق خرافي، نصفه إنسان ونصفه ماعز)؛ فهو لا ينفك عن ذكر حمير السوق، وصب النحاس، وقطع الجلد، فإذا سمعه بليد غير واع فإنه يضحك منه، فإذا أتيح للسامع استنباط المعاني الخفية من عباراته الظاهرة تبين له أنها خير ما يقال ويسمع، وأن كل ما عداها مما يستأذن على الإذن لا قيمة له في جنبها، وأنها معان عميقة فاتنة مقنعة روحانية المنحى، وأنها تطرح أمام فكر السامع صورا بديعة فاخرة، وأنها تؤدي بالعقل إلى أسمى درجات التفكير. هذه هي الصفات السقراطية التي دعتني إلى امتداحه والثناء عليه. فلما فرغ السيباديس طرب الجماعة، وضحكوا من حرية فكره، أما سقراط فقال: «يلوح لي أنك صاح يا السباديس وإلا ما تيسر لك أن تتم هذه الدورة الكلامية، وأنت تضمر غايتك وتخفيها وراء ألفاظك التي عليها مسحة البساطة، وحسن النية؛ وحقيقة مرادك التفريق بيني وبين أجاثون؛ أنت تظن أنه يجب علي أن أكون صديقك دون غيرك، وإلا ما احتلت لاختلاق هذه الرواية الساتيرية السلنية (نسبة إلى ساتير وسيلنوس)، ولكن يا عزيزي أجاثون حذار من حيلته، وأتوسل إليك ألا تجعل أحدا يفوز بالتفريق بيني وبينك.» قال أجاثون: لا شك في مقاصده؛ فقد جاء وجلس بيننا ليفرق بيني وبينك، وها أنا أدنو منك لأكون بجانبك دونه. قال سقراط: هذا مكان لك في جنبي. فصاح السباديس: أيها المشتري! ما أشد ما أحتمل من ذلك الرجل! إنه يريد الغلبة في كل سبيل، أرجوك أن تترك أجاثون بيننا. قال سقراط: هذا محال؛ لقد مدحتني لأنني على يمينك، وواجبي يقضي بأن أمدحه لجلوسه عن يميني، أما إذا جلس بجانبك فسيقتضي مجلسه أن يثني علي قبل أن أثني عليه. فقال أجاثون: دعني يا السباديس أغير مجلسي لأفوز بمدح سقراط إياي. ثم نهض أجاثون، وجلس بجانب سقراط، ولم يوشك أن يفعل ذلك حتى غشي المجلس جماعة من السكارى، فاختلط الحابل بالنابل، واضطرب نظام المجلس، فانسحب أريكسيماكوس وفيدورس وغيرهما.
قال أريسطوديمس: أما أنا فقد غلبني النوم، ولم أتيقظ إلا لدى صياح الديك، وإذا بأريسطوفان وأجاثون وسقراط لا يزالون يشربون ويتبادلون فيما بينهم طاسا واحدة، وكانوا يتناقشون وقد انتهت مناقشتهم بأن قال سقراط لصاحبيه: إن من يقدر على وضع الرواية المحزنة قادر على وضع المبهجة؛ لأن أصول الصنعتين (التراجيدي والكوميدي) واحدة، ثم نام أجاثون وأريسطوفان، أما سقراط فلم ينم؛ فقد نهض وتبعته إلى أن بلغ ليسيوم فاغتسل كعادته، وقضى يومه، وعند المساء ذهب إلى أهله.
Shafi da ba'a sani ba