فخرجنا من توقاد على عادتنا مبكرين والطير في وكناتها، فجعلنا نتسنم الهضاب لا يتخلل صعودنا انبساط ولا انحدار، حتى رفع لنا شامخ ذو هضبات، متصل الذرى بالسحاب، تعالته تلال من الثلج كالقطن المندف، أشم، صعب المرتقى يقصر دونه الجهد وتنحل في ترقيه العزائم، تتطالع فوقه الجياد والعربات كأنها تسبح في سحاب جامد. قلت لصاحبي: ما هذا الذي نرى؟ قال: هذا «جاملي بل». - ما زدتني علما. - وما تريد أن تعلم منه؟ شاهق من شاهقات الأناضولي توسط بين «يكي خان» وبين توقاد، وستعلم ما هو حين نطلب ذروته. - وما حاجتنا إلى هذا النصب؟ أعندنا سعة في الوقت فنضيعها بالتوقل في هذه الجبال. - ذاك ما لا بد منه، ففيه طريقنا إلى «يكي خان».
وفيما نحن نتحدث إذ هبت علينا ريح صرصر نفذ بردها إلى عظامنا، ثم علت في الأفق غبرة حتى لخيل إلينا أن ذلك الشاهق يحثو على رأسه الثلج بدلا من التراب، فاستوقف السائق العربة ونزل عنها وراح يتأثر الطريق، فلما رجع سألناه عن الخبر، فقال: التبست المسالك ولا أدري أية أسير. فتقدم الجنديان اللذان كانا معنا بجواديهما أمام العربة وأشارا إلى السائق أن يسير خلفهما، وما هي إلا مسافة خمسين مترا في سفح الجبل، قطعناها في كد وإعياء، فما راعتنا إلا هزة كادت تستطير كل واحد منا من مكانه، فوثب صاحبي إلى الأرض وبقيت في العربة وحدي، فمالت إلى جانب ميلة فتدحرجت بي إلى حفرة هناك. وقد تعجلت بوثبة لم أحسنها، فوقعت غائصا برأسي في الثلج وبقيت رجلاي في الهواء، ولولا السائق والجنديان لمت في موضعي مختنقا، وما أدركوني إلا بعد أن سففت الثلج سفا، وحين فرغ رفاقي من إنهاضي ونفض ثيابي أخذوا يعالجون العربة ليقيموها وهم لا يستطيعون أن يصنعوا شيئا، فتقدم إلينا الجنديان يعرضان علينا جواديهما، فامتطى كاظم جوادا وامتطيت جوادا، وسرنا نطلب ذروة الجبل، فلما انتهينا إليها رأينا خانا واسعا فيه جماعة من فرسان الجندرمة كانوا ينتظرون قدوم البريد وآخرين من المكاريين، فتلقونا وأنزلونا في الخان، وانطلق رجال منهم بالحبال وبالجياد إلى الموضع الذي تركنا فيه رفاقنا، فجاءوا بهم وقد أضناهم ما كابدوا.
أما أنا فقد سكرت بغير راح، حرارة الكانون بعد برد الثلج، هذا ما لا يطاق، وكان الذين في الخان يعلمون ما في ذلك من الضرر، فأجلسوني ورفيقي بعيدا عن الكانون، ثم أصبنا طعامنا وأخذنا حظنا من الراحة ساعة أو ساعتين واستأنفنا المسير. لم نستشعر ضنى ولا إعياء. شتان ما بين ارتفاع وانخفاض. انبسطت لجيادنا الأرض وسهلت فقطعناها إلى «يكي خان» وكأننا مشينا على الديباج. ولا أنسى موقفي على ذروة «جاملي بل» بين فسيل الأرز وكأنه باقات زهر منتثرة على ملاءة بيضاء منشرة. نظرت إلى ما حولي فخيل إلي أني على روق سحابة جامدة، ثم نظرت عند انحدارنا إلى قرارة الوادي فضاع رائد الطرف بين اختلافات الألوان والأشكال. الماء كالزجاج، وجوانب الوادي كالطبق الصيني، وأخضر النبت وأصفره كالنقش على ذلك الطبق. وقد برد الهواء حتى أصبح كقدح من البلور أكفئ علينا، فلما توارت عنا الشمس تبدى لنا «يكي خان»؛ وهو قضاء أناف عليه جبل في شرقه منعه مصابحة الشمس، صغير بارد ولكنه غير قبيح المنظر، فقضينا ليلتنا في حديث وسمر وتجددت فينا العزائم إذ كان منزلنا هذا آخر منازلنا إلى سيواس. وقد شرد السرور النوم من الأجفان، ولو نمنا لهنأنا نومنا ولاطمأنت جنوبنا، هنالك خانات نظيفة لانت مضاجعها وطابت حجراتها، فلا تقاس بالتي نزلناها من قبل.
تطاول علينا الليل واشتد قاتمه، فأقمنا تحت سواده نتعلل بالأماني، ثم رق أديمه وخف حندسه فبدت تباشير الصباح، فنهضنا نهضة رجل واحد ورمينا بأبصارنا جادة سيواس وانطلقنا مسرعين، وبينا نحن في بعض الطريق إذا التفت صاحبي نحوي باشا مؤانسا، فقال: الحمد لله على السلامة، أدركنا دار المقام، وسترى من سيواس بلدا طيبا فلن تطيب لك مبارحتها. غير أنني أبغض منها كثرة أشجارها، حيثما تسر في شوارعها تلق أشجارا صفت على جانبيها حتى اشتجرت الأغصان بالأغصان واشتبكت الأوراق بالأوراق. - وتبغض مثل هذا الشكل يا كاظم بك؟ أما إنك لحائر القلب لا تدري ما تحب ولا ما تبغض! - أنا لا أحب الشجر الكثير. على أن في سيواس أشياء تطربني. - وما هي؟ - ملاعبها وحاناتها. - ومن أين لها ذلك؟ - وما تعجبك؟ ألا تعلم أنك قادم على ولاية من الولايات العثمانية الكبرى؟ ولسوف ترى من المحاسن ما يسرك، وإني لخائف عليك منها أن تستهوي لبك. فخذ لها أهبتك منذ اليوم ولا تدع قلبك مجزءا بينها. - لقد أنذرت فأعذرت، وما للشباب في بقية تنفق، ذهبت الأيام بجدته ونضارته وإن أنا في الحياة إلا ضيف دنا أوان رحيله.
وإلى هنا عاودنا السكوت، فأخذ كل يفكر في شأنه إلى أن دانينا الضيعة الحميدية المسماة «نمونه جفتلكي»، وهي تبعد عن سيواس مسافة ثمانية كيلومترات. فلما رأيت باسقة الأشجار على جانبي الطريق أيقنت أن صديقي كان صادقا في قوله ، وما حاذينا مدخل الضيعة إلا ألفينا عربة الوالي على انتظارنا ومعها جماعة من رجال بطانته مثل ياوره الخاص ملك أفندي ومثل مأمور التلغراف الخاص، فدنوا منا وبلغونا سلام سيدهم وقدموا إلينا العربة لنتحول إليها، فنزل صاحبي وآثرت البقاء مكاني إذ لم أكن على هيئة تصلح لركوب تلك العربة، وسرنا ميممين سيواس، فبلغناها بعد سير استمر ساعة ونصفا من الزمان.
سيواس
جانب من منظر مدينة سيواس.
استقبلتنا سيواس بوجه أربد، ما اجتزنا صفوف أشجارها المتكاثفة عند مدخلها إلا تلقتنا أعشاشها التربة وأزقتها الموحلة، فدارت العجلات فوق مهاد تراكمت عليها الثلوج والحجارة، وتخطت حفرا لكل غوصة في إحداها جهاد يستنفد الساعات ويذيب الهمم. وقد عرتني هزات ليست هزات تطرب ولا هزات ثمل، أنستني ما تقدم من مثلها في سفرنا كله، وكان دخولنا إلى سيواس يوم الجمعة 14 فبراير سنة 1902.
فذهبوا بي إلى مكان قالوا لي إنه الخان، وافتقدت صاحبي فلم أجده، فامتنعت عن نزول الخان وقلت: بلغت الروح الحلقوم؛ لأن تقع السماء على الأرض أهون علي من أن أطيعكم إلى دخول السجن مرة أخرى، تكاثروا وغالبوني، لن تدخلوني حيا. فجعل القوم ينظر بعضهم في وجوه بعض ولا يفهمون ما أريد، ثم اقترب مني أحد ضباط البوليس متأدبا محتشما وقال: ما لسيدي لا يتفضل بالنزول إلى الخان؟ قلت: ما هذا بخان، إن هذا إلا سجن. قال: إذا كان هذا الخان لا يرضيك فاختر غيره ومرنا بما تريد، فنحن في خدمتك. وفيما نحن نتكلم هكذا إذ أقبل صاحب الخان واسمه «مانوق آغا»، فحياني تحية تبينت فيها الصدق، وعرفت من كلامه ولغته أنه أرمني، فهدأ روعي ونزلت، وحين صعدنا إلى الطبقة العليا أبصرت قوما جلوسا يدخنون نركيلاتهم وسيكاراتهم وأمامهم كاسات القهوة والشاي، وفي صدر المكان فونوغراف يطرب الجلوس بما يحاكي لهم من أصوات المغنين والموسيقات. ورأيت على رءوس القوم نوعين من العمائم، وأحدهما معصوب بشاش أبيض وثانيهما معصوب بشاش أسود. فسألت عن الفرق بين الشكلين، فقيل لي إن الأبيض شعار المسلمين والأسود شعار الأرمن. فتذكرت ما يروى عن اتخاذ بني العباس للشعار الأسود حين أظهروا دعوتهم في أواخر الدولة الأموية، ولم أدرك سر هذا الفارق الجديد.
وما استقر بي الجلوس على بعض تلك المقاعد إلا جاءني مدير البوليس، (وكان يسمى سرقوميسيرا إذ ذاك)، فتلطف في التسليم وجلس إلى جانبي مرحبا ومسلما، فلما فرغنا من مطارحة الأكاذيب قلت له: ما شأني اليوم عندكم؟ - أنت معاون مكتوبجي الولاية (مساعد ثان للسكرتير). - غير أنني منفي. - وما يضرك أن تكون منفيا، وأنت حر غير مسجون ولا مقيد، تذهب أين شئت على شريطة ألا تخرج عن حدود ولايتنا.
Shafi da ba'a sani ba