ولما كانت آماسيا لا تبعد عن حوضة إلا مسيرة ست ساعات بلغناها غير متأخرين، فكان لنا في الوقت متسع لمشاهدتها والإلمام ببعض محاسنها. على أنني لم أجد فيها من المناظر ما يبعث على الطرب أو يهيج ساكنا في الفؤاد؛ ذلك لأننا جئنا في أواخر كانون الثاني وأشجارها مجردة من ورقها وأرضها معراة من نبتها، والوحل متراكم في طرقاتها، وكان متصرفها إذ ذاك العالم الكبير المرحوم كمال بك؛ وهو غير نامق كمال بك الشهير، وكان منفيا إليها، فأحببنا زيارته ثم علمنا أنه مريض، فزاره كاظم بك وحده.
ومما أذهل عقلي أني رأيت نساء الأرمن والروم في آماسيا متحجبات، يتهادين ساحبات مآزرهن كما تفعل نساء المسلمين، فأيقنت أن المرأة العثمانية في تلك البلاد محرومة من نعم الدنيا، فتجددت لوعاتي وتضاعفت أحزاني، وقلت ما قاله أبو الطيب المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ثم عاودنا الخان الذي نزلناه فإذا جماعة من كبار المدينة جاءوا لزيارة كاظم بك؛ لأنه ابن أخي الحاج حسن باشا والي سيواس، فجعلوا يتنافسون في إكرامه والتقرب إليه. وفيمن جاءنا يومئذ أبناء طوبجي زاده، وهم فروع بيت من بيوتات الحسب الزاكي في تلك البلاد. وقد أعدوا لنا مأدبة بلغت الغاية في بهجتها، وأهدونا من تفاح آماسيا المشهور شيئا كثيرا وحملونا جانبا منه هدية للوالي، فسألني كاظم بك أن أنظم بيتا من الشعر التركي أكتبه على حائط الغرفة التي بتنا بها، فأجبته إلى ما أراد وقرأه أناس كثيرون ممن قدموا بعدي سيواس وأخبروني به. وكان يخيل إلي أن سأرحل إلى بلاد مثل آماسيا، هيهات، أخطأت الظن وخاب المأمل، فما سارت بنا العربة إلا بين صخور وعلى حجارة لا نستجلي عندها خضرة ولا نرد ماء إلا كما قال الشاعر:
صرى آجن يزوي له المرء وجهه
إذا ذاقه الظمآن في شهر ناجر «جنكل»: هو منزلنا الرابع بعد خروجنا من صامسون، موضع تبصرت فيه فلم أر بيتا ولا سكنا سوى الخان الذي نزلناه؛ وهو على سفح أكمة هناك، بئست دار المسافر تلك، قفر جرداء موحشة، لا يلم بساحتها طير، ولا يبقل في مهادها نبت، ولا يظلها سحاب، ولا تهب عليها صبا، ولا يسجع بها طير، بلغناها وقد بلغت الشمس مغربها، فلما فرغنا من الاستعداد لحاجات العشاء خرجت إلى مكان بالطبقة العليا من الخان أريد أن أتمشى. وقد خلت ذلك المكان مستشرفا، فإذا هو لا يشبه المستشرف، فقلت: تظل أنت يا عبد الحميد في قصر يلديز بين بنات الجركس، تقتل الأمة وتضحك من عقول الناس، وترمي بي في هذه الفجاج لأقيس لك جبال الأناضولي ووهادها! ألم تجد أحدا أعلم مني بالمساحة؟! إنك لقليل الخبرة بالهندسة!
ثم دعاني كاظم بك إلى المائدة ونفسي لا تشتهي الطعام، فجعلت آكل لا رغبة في الأكل بل إبقاء على قوة أستعين بها على مواصلة الأسفار. فلما رفع من بين أيدينا الطعام وملنا إلى تلك المضاجع الخشنة طار نومي واعتادني أرق شديد، وما راعني إلا جنود من البق تدب إلي من كل ناحية، بق غذي أنواع الدماء حتى اتسع وانبسط وعادت كل واحدة منه كطابع البريد، تتبختر على الوسادة تبختر الفقيه في الجنازة، فقمت إلى خوان في وسط الغرفة عليه مصباح ضئيل النور، وإذا صاحبي كاظم قائم إلى جانب النور، بإحدى يديه قميصه وبيده الأخرى عود يحذف به البق. قلت: ما لك يا رفيق الخير؟ قال: دعني، ألا ترى ما أنا فيه؟ قلت: لا عليك بأس، أفسح لي مكانا إلى جانبك. قد صار القميص قميصين. ولئن دام لنا ما نرى خرجنا هائمين في جنح هذا الليل، ثم سكت كلانا واشتغل عن صاحبه بالتقاط الحشرات، ولبئس العقود عقود نظمناها تلك الليلة حتى آذنت برحيل، فما خفقت راية الشفق على قمة الجبل إلا تبادرنا إلى السائق نوقظه بالأيدي والأرجل، ثم نبهنا الجنديين الحارسين وخرجنا من الخان بعد أن دفعنا لصاحبه حقه، وما أدركتنا العربة إلا وقد قطعنا شوطا بعيدا وغصنا في الوحل والثلج إلى الركب، وحين اعتدلت الشمس في عليائها تهاوت تلاع جنكل برءوسها وحيل بينها وبين الشهود. وطاب بعد ذلك السفر فانطلقت بنا العربة تشتد في سيرها يومنا كله ميممة «توقاد» فوافيناها في عتمة المساء. «توقاد»: مدينة كائنة على مسيرة تسعين كيلومترا من شمال مدينة سيواس، وعلى الشاطئ الأيسر من نهر «توزانلي»، يبلغ عدد سكانها أربعين ألف نسمة، خمسة آلاف منهم من الأرمن وغيرهم من إخواننا المسيحيين. هذه المدينة جيدة التربة، طيبة الهواء، عذب ماؤها، جميم خصبها، تلتف حولها الحدائق المونقة والكروم الوافية، وهي معروفة بكثرة فاكهتها وبقلها، منظفة الأسواق والشوارع. غير أنها ليس بها من آثار السلف سوى حصن خرب فيه السجن المشهور في كتب التاريخ واسمه «جارطاق بدوي». ويذهب أكثر المؤرخين إلى أن توقاد من المدن القديمة، وأنها هي المدينة المسماة عند القدماء «بريسة» أو «قومانة بونتيقة». وقد ذكر المستعصمي توقاد في معجمه. ولأهل هذه المدينة مهارة في صنع الأواني النحاسية ونسج الحرير وتطريزه، وبضاعتهم معروفة بالجودة.
فلما نزلنا الخان وأخذنا بعض الحظ من الراحة خرجت مع كاظم بك نريد زيارة المتصرف، وكان المتصرف رجلا من خاصة الجراكسة اسمه بكير باشا. فإذا دار آهلة كل أهلها جراكسة، وكلهم مقيمون على بدويتهم، فتلقونا على الرحب والسعة، وأدخلونا إلى مجلس الباشا بلا استئذان، وكان بكير باشا يعرف كاظما ولا يعرفني، فسماني له وقص عليه قصتي. فرفع الرجل موضعي وأقبل يحادثني أطيب الحديث، ثم أخذ يقص على جماعة كانوا عنده بعض أخبار البيت اليكني الذي أنا منه؛ وهو في كل حديثه يثني أجمل الثناء. وقد قال للقوم: أيكون مثل هذا خائنا؟! أم يعاقب مثله بالنفي؟! فقال كاظم بك: إن والدة فلان جركسية ووالدة أبيه جركسية. فبسم لي وقال: أصادق صاحبك؟ قلت: نعم. قال: فأنت تركي جركسي معا، كفانا الله شرك. وأخذ يلاطفني ويمازحني كأني كنت صديقه منذ القدم. ولما هممنا بالانصراف دعانا إلى مأدبة أعدها لنا، كانت كأحسن ما يستطاع في ذلك المكان، وقال لكاظم بك: لن تبرحونا غدا، إنكما ضيفاي، وقد أخبرت الوالي بذلك تلغرافيا فرضي. فخرجنا شاكرين، وكنت أحب أن أبلغ سيواس غير متأخر لأجد حيلة في مراسلة أهلي. غير أني كرهت أن أخالف بكير باشا فأقابل إحسانه بالكفران.
وفي اليوم التالي طفنا توقاد وولجنا دورها ومشينا في أزقتها ورجعنا مساء إلى بيت المتصرف مع رسول كان أنفذه في طلبنا، فودعناه وأثنينا على بشره وإكرامه، ثم أصبحنا فتوافى الوجهاء إلى الخان يودعوننا ويظهرون الأسف على فراقنا، فقلت: يا عبد الحميد، تريد ذلي ويريد الله عزي، دام أنفك راغما.
Shafi da ba'a sani ba