من ذلك الوقت امتلأ قلبي ثورة على الحكم الفاسد، ولكني كظمت الثورة في صدري فتعمقت وأصبحت بعد قليل تشبه الوسواس أو الجنون.
ثم صودرت أموال إسماعيل لتسديد ديون المرابين، وصفيت الدائرة السنية، ووجدت نفسي في الطريق بغير وظيفة. أتفهمون شعوري عند ذلك وتدركون السبب الذي حملني على الخطوة التالية؟ أقول لكم إنني بدأت أبحث عن الأفراد الآخرين الذين يحملون في صدورهم ثورة مثل ثورتي. وهكذا قضيت سنتين من التشرد والجوع والثورة. وعزل الخديو إسماعيل واتقدت النيران في قلوب كثيرة، فاتصلت بالشيخ عبد الله نديم وبدأت أكتب في الجرائد التي يصدرها وأصبحت من أتباع الثورة العرابية.»
وأخرج رضوان أفندي منديلا وأخذ يمسح قطرات العرق عن جبينه، كما أخذ يمسح قطرات من الدموع في عينيه. ثم استأنف الحديث وكان الشبان ينظرون إليه في تلهف، فقال: «بالاختصار لا أطيل عليكم، فإني لم أقنع بالكتابة في الجرائد، بل تطوعت في الحرب عندما ارتمى الخديو توفيق بن إسماعيل في أحضان الإنجليز، وكنت كلما جاء ذكره أبصق على الأرض وأطلق لنفسي العنان في سبه وسب أبيه وأصفهما بأوصاف لا أحب أن أعيدها على أسماعكم لأنها شنيعة. كنت أسب كما تعود الجنود المحاربون أن يفعلوا.
وكانت النيران المتقدة في قلبي تدفعني إلى أعمال جنونية، فاشتركت في حريق الإسكندرية، وتهورت في معارك المدينة كما تهورت في معركة كفر الدوار، حتى إني رقيت إلى صف ضابط. وصدرت الأوامر إلينا بالانتقال إلى الشرقية، وهناك عسكرنا في التل الكبير. ولا تسألوا أيها الأبناء عن الحقائق الأليمة التي بدأت تنكشف لي عند ذلك. كان الجميع يعرفون مقدار تهوري، ولهذا كان لي في كل يوم مفاجأة جديدة؛ إذ كان الكثيرون يطلبون مني أن أقوم بأعمال أشم فيها رائحة الخيانة. جاءوا يعرضون علي هدايا ثمينة لإغرائي، فكنت أزداد يقينا بأنهم يريدون مني الخيانة، فكنت أبصق على الأرض وأسبهم سبا شنيعا. ولكني لم أتكلم وكتمت في نفسي الغيظ حتى لا أثير فضيحة. وماذا يحدث لو ثارت فضيحة؟ لا شيء أكثر من تلويث سمعتي وانشغالي عن الجهاد في أمور تافهة. وكانت أكبر مفاجأة لي عندما جاء إلي أحد مشايخ الصوفية الذين يسيرون مع الجيش لإقامة الأذكار والابتهال إلى الله بالنصر، وطلب مني الشيخ أن أترك الدرك الذي كنت مرابطا فيه لأشترك في ذكر هام محقق الفائدة لانتصار الجيوش الوطنية. ولم أفهم معنى قوله بل إني تعجبت منه وشممت رائحة الخيانة. ولما رفضت أخذ الرجل يلح علي إلحاحا شديدا وانتهى أمره بأن عرض علي كيسا مملوءا بالذهب قائلا: هذه هبة من سلطان باشا لشدة إخلاصه وحرصه على قيامنا بالدعاء في هذه الليلة.
وكنت قد سمعت بعض إشاعات عن انشقاق سلطان باشا واتصاله بحزب الخديو والإنجليز، فصرخت في الشيخ صرخة حانقة وبصقت على الأرض وسببته سبا مقذعا كما سببت الخديو وسلطان باشا والشيطان. ومضى الرجل عني غاضبا يدعو علي، وفضلت أن أبقى في مكاني لأحافظ على الدرك الذي كنت فيه. ولكن لم أتكلم بكلمة، وعزمت على الذهاب بنفسي إلى عرابي باشا لأطلعه على الشكوك التي ساورتني. ولكن المفاجأة حدثت أسرع مما كنت أتوقع. فإن الموقعة بدأت بعد قليل وبادرت إلى مكاني لأقاتل. وكان معي في الموقع الذي كنت فيه سرية من عشرين رجلا؛ لأني كنت قائما بأعمال ضابط ملازم وكنت على وعد بالترقية بعد المعركة. أتدرون ماذا حدث؟ لم يكن هناك رجل واحد؛ لأن الجميع ذهبوا ليقيموا الأذكار، واضطررت إلى أن أقاتل وحدي.
وبعد عشرين دقيقة من بدء المعركة رأيت عرابي باشا راكبا متجها إلى محطة السكة الحديد، وصدرت الأوامر بالرحيل إلى القاهرة.
عند ذلك بصقت على الأرض مرارا وأنا أسب وألعن الجميع، ولم يخل من حنقي أحد سواء كان عسكريا أم ملكيا، وسواء كان شيخا أم شابا. وسرت مع السيل المضطرب نحو القاهرة لا أدري أين أذهب. انفرط العقد ولم يبق في البلاد حكومة.
ثم رأيت الإنجليز يدخلون إلى القاهرة، وكدت أجن من الغيظ والحنق عندما وجدت الجميع يقفون لينظروا إليهم وهم يسيرون في سلاحهم في الشوارع. ولعنت نفسي أيضا لأني وقفت معهم. وسرت كالمجنون أبحث عن أحد أسأله عما حدث.
وفي اليوم التالي سمعت الخونة يتكلمون بأصوات عالية، الذين كانوا بالأمس يستمعون إلى خطابات عبد الله نديم وقصائد البارودي ويصفقون حتى تدمى أيديهم بدءوا يلعنون الثوار ويسمون عرابي خائنا. وبدأت أنا وأمثالي نتوارى. فماذا تنتظرون مني أيها الأبناء بعد كل هذا؟ ماذا تنتظر مني يا إبراهيم يا ولدي؟ أنت إبراهيم على اسم أبي لأني أحبك وأضع فيك أملى الذي فقدته بموت أبي. ماذا تريد مني؟ أتقولون بعد هذا إن هناك شيئا اسمه الوطن؟»
فصاح إبراهيم: بحق أبيك يا أبي لا تقل هذا!
Shafi da ba'a sani ba