مقدمة الطبعة الثالثة
فنان طيبة
حبيب آمون
شاءول بن شمويل اللاوي
المعجزة
مينا الأثريبي
آكل المرار وهند
العقد المبارك
الغمرات ثم ينجلينا
عبيد الله بن الحر
فارسة قصر الباهلي
سلامش
الأمير بدر الدين بيليك
آخر السلاطين
المبارزة المؤجلة
آخر الباشوات
المعركة المستمرة
الرقصة المجنونة
دعاء شعبان
العودة
مقدمة الطبعة الثالثة
فنان طيبة
حبيب آمون
شاءول بن شمويل اللاوي
المعجزة
مينا الأثريبي
آكل المرار وهند
العقد المبارك
الغمرات ثم ينجلينا
عبيد الله بن الحر
فارسة قصر الباهلي
سلامش
الأمير بدر الدين بيليك
آخر السلاطين
المبارزة المؤجلة
آخر الباشوات
المعركة المستمرة
الرقصة المجنونة
دعاء شعبان
العودة
مع الزمان
مع الزمان
تأليف
محمد فريد أبو حديد
مقدمة الطبعة الثالثة
هذه لمحات من صور النفس البشرية في مغامرتها الطويلة على مدى القرون جيلا بعد جيل، نرى فيها أشباها لأنفسنا؛ إذ نسعد أو نشقى، وإذ نندفع مع عواطفنا التي تسف بنا تارة وتسمو بنا أخرى. وما تزال الإنسانية تكتب قصصا جديدة في كل يوم وكل ساعة، ومن مجموع هذه القصص الإنسانية نستمد عقائدنا ومثلنا العليا ونواميس حياتنا الاجتماعية. وما من قصة قديمة إلا وفيها عرق نابض متصل بحياتنا الحاضرة، وما من خلجة من خلجات نفوسنا في عصرنا هذا إلا وفيها عرق متصل بمنابع الإنسانية الأولى. وأنا إذ أقدم هذه المجموعة إلى أبناء هذا العصر إنما أهدي إليهم جانبا من نفسي وعصارة من فيض قلبي، وقد زدت على القصص التي ظهرت في الطبعة الأولى عدة قصص أخرى تصل خطوات الزمان في أحداثه الكبرى إلى وقتنا هذا الذي نعيش فيه، وما يكون أسعدني إذا وجد القراء فيها بعض لحظات سعيدة أو بعض خطرات تبعث على التأمل.
فنان طيبة
«الحب أزلي والكبرياء أزلية.»
كان «أمنكارع» بقية عصر قديم كاد الناس ينسونه، فقد عاشر الملك «أمنحتب» الكبير جد الملك «أمنحتب» المجيد، وكان أهل طيبة ينظرون إليه كما ينظرون إلى التماثيل الخالدة التي تحف بمعبد آمون. ولكنه كان مع ذلك فتي الروح وسيم الوجه برغم التجاعيد الكثيرة التي تعلو جبينه العريض. وكانت عيناه ما تزالان تلمعان ببريق الشباب وتشع منهما أنوار تنم عن طيبة قلبه، ولا سيما إذا تبسم وهو ينظر إلى ابنته الشابة الجميلة «نفرتويا»، أو إلى تلاميذه الأعزاء في «حصن طيبة».
وكان الأمراء الشبان الذين يتعلمون في حصن طيبة يحبونه كصديق بقدر إجلالهم له كأستاذ، ويلتفون حوله كلما رأوه ليستمعوا إليه وهو يحدثهم عن الأيام الجليلة التي شهدها في أيام شبابه، وما كان أكثر ما يدخره في ذاكرته من القصص العجيبة عن مغامرات الحروب عندما كان يصحب «تحوتمس» الكبير في غزواته ببلاد لبنان وسوريا، وفي زحوفه المظفرة على شواطئ الفرات أو جبال الشمال حيث دك حصون «الخيتا»، وكثيرا ما كان يقص عليهم كذلك قصص مغامراته في صيد فرس البحر والتمساح والأسود والفيلة عندما ذهب مع تحوتمس العظيم إلى ما وراء جنادل النيل في بلاد «كوش»، فإذا ما فرغ من أحاديثه ذهب هو وتلاميذه إلى حجرة الرسم وأخذ يكشف لهم عن أسرار الفنون الخالدة ويبهر عقولهم ببراعته في بعث الحياة في الحجارة الصماء. ولم يكن علم أمنكارع بالتواريخ القديمة أقل من وعيه لذكريات شبابه، فكان يتحدث عن آثار «أون» و«منف» كما يتحدث عن معابد طيبة نفسها. فإذا وصف الدول الماضية منذ آلاف السنين ملأ القلوب خشوعا لعظمتها وإجلالا لمجدها؛ لأنه كان يكشف لتلاميذه عن آيات الإبداع في آثارها العظيمة كأنه قد شارك في بنائها وعرف كوامن أسرارها. وكان من عادته إذا بدأ أحاديثه أن يشخص ببصره في الفضاء وينطق بصوت هادئ كأنه يناجي نفسه، فيخشع تلاميذه من حوله ويسبحون معه في صور القرون الماضية كأنهم قد انتقلوا إليها وعاشوا فيها بسحر ساحر، حتى إذا أمسك عن الحديث تنفس التلاميذ أنفاسا عميقة ونظروا إليه بعيون ملؤها العطف والإجلال. وقد اختاره فرعون أمنحتب العظيم الثالث ليكون أستاذا للفن والتاريخ للتلاميذ الأمراء الذين كانوا يتعلمون في «حصن طيبة»؛ لأن فرعون أمنحتب كان حريصا على أن يتلقى هؤلاء التلاميذ علومهم من أفذاذ العلماء والحكماء، حتى إذا ما كبروا وعادوا إلى بلادهم كانوا أهلا لوراثة الملك عن آبائهم الذين يحكمون الأقطار المنضوية تحت لواء فرعون صاحب التاجين.
وكان أمنكارع مع كبر سنه لا يتخلف يوما عن دروسه، ولم يبد عليه يوما ما يدل على فتور أو ملال، بل كان دائما يفيض بالبشر والنشاط.
وكان من تلاميذه الأعزاء في حصن طيبة أبناء ملوك كثيرين من كل جهات الأرض، فمنهم من جاء من بلاد الخيتا في الشمال، ومنهم من أتى من أقصى بلاد كوش في الجنوب، ومنهم أمراء من أبناء ملوك النهرين في الشرق ورؤساء ليبيا في الغرب. ولكن أحبهم إليه كان «دوشري» ابن ملك المتاني على حدود سوريا الشمالية، وهو من أكثر تلاميذه حبا له وإعجابا به، لا يكاد يفارقه إلا عندما يغادر الحصن عائدا إلى بيته قبل حلول المساء.
وكان الشيخ أمنكارع إذا خرج من معهد الحصن ذهب إلى بيته الصغير على شاطئ النيل ليقضي سائر يومه مع ابنته الوحيدة الباقية له في الحياة نفرتويا ذات الشعر الأسود وأجمل فتاة في طيبة. ولم يكن له في الحياة غيرها، وقد جمع فيها كل ما بقي له من الآمال، بعد أن غادره أبناؤه جميعا وبعد أن سبقه الأصدقاء والأحباب إلى جوار «أوزيريس».
ولكن الشيخ كان يخرج في بعض الأيام للنزهة في الأرياف المحيطة بالمدينة، أو إلى الصحراء الفسيحة ذات الرمال الذهبية في أيام الشتاء، ويستصحب في هذه النزهات تلميذه العزيز دوشري مع ابنته نفرتويا ويقضون الوقت بين تأمل مناظر الطبيعة وبين مدارسة أسرار الفن والحكمة، فإذا تعب الشيخ من السير الطويل جلس ليستريح عند جانب النهر أو ليتمدد على الرمال الناعمة، وينطلق دوشري ونفرتويا في جولتهما الطويلة ثم يعودان إليه بعد أن يكون كل منهما قد رسم أجمل ما وقع عليه بصره من صور الطير والنبات أو مناظر النهر والصحراء. وقد تعود أهل طيبة أن يروا الشيخ مع ابنته وتلميذه حتى صار من المألوف عندهم أن يقرنوا بين اسم نفرتويا ودوشري، وأطلقوا عليهما اسم «إيزيس» و«أزوريس»؛ لأنهما كانا مثالين للجمال والوداعة والكمال.
ولكن بنات الأعيان في طيبة كن يتحدثن دائما عن نفرتويا في سخرية؛ لأنها لم تكن من بنات الأمراء أو الأعيان، فهي ابنة فنان صانع تماثيل، وإن كان فرعون يقربه ويثق فيه ويجعله أستاذا لأبناء الأمراء. وكثيرا ما دفعتهن الغيرة إلى إنكار نبوغ أمنكارع والبخس من عظمة فنه. كما كن يوجهن أشد اللوم إلى الأمير دوشري؛ لأنه تنازل حتى اختار فتاة مثل نفرتويا ولم يلتفت إلى واحدة من بنات كبار الموظفين أو الأمراء أو سدنة المعابد.
ولكن دوشري ونفرتويا كانا لا يعيران التفاتا إلى هذه السخرية التي كانت تصل أحيانا إلى سمعهما؛ لأنهما كانا سعيدين وحدهما في عالمهما الصغير مع الشيخ العزيز، ولا يعبآن بقصور طيبة ولا بمن يمرح فيها.
ولكن الأميرة الملكية «تادوخيبا»، زوج ولي العهد وابنة ملك المتاني وأخت دوشري، كانت تنظر إلى هذه الصداقة بين أخيها وبين نفرتويا في كثير من القلق. حقا إنها كانت تعجب بالفتاة وتجل الشيخ العالم الفنان أمنكارع، ولكنها لم تنس أن أخاها أمير ملكي، وأنه وارث عرش «المتاني»، ولا ينبغي له أن يختار عروسه إلا من قصور الملوك. ولماذا لا يلتفت دوشري إلى إحدى بنات فرعون أو إحدى بنات الأسرة الملكية على الأقل؟ فكانت كلما رأت الصداقة تتوثق بين أخيها والفتاة زادت خشية وتوجسا من أن ينتهي الأمر بينهما إلى الكارثة، وأي كارثة أشد من أن يتزوج الأمير من إحدى بنات الشعب وإن كانت تلك الفتاة نفرتويا؟ ولم تستطع آخر الأمر أن تمتنع عن إظهار مخاوفها لزوجها ولي العهد واستأذنته أن تفاتح في الأمر فرعون العظيم نفسه حتى يحول بين الفتاة وبين دوشري. ولكن ولي العهد لم يوافق الأميرة تادوخيبا، بل إنه صارحها بأنه يفضل نفرتويا على كل بنات الأمراء اللاتي يعرفهن جميعا، وحاول أن يبين لها أن سعادة الشاب تتوقف على اختيار قلبه، وأطال في التحدث عن فضائل نفرتويا. فلما لم تقدر تادوخيبا على إقناع زوجها ولي العهد برجاحة رأيها، ذهبت إلى فرعون نفسه لتضرع إليه أن يساعدها.
وكان اليوم الذي توجهت فيه إلى فرعون من أيام الخريف الجميلة، والمدينة تستعد للاحتفال بفتح السد الذي يفصل بين النيل وبين البحيرة الكبرى في القصر الغربي.
كان يوما من أحلى أيام الخريف وأصفاها سماء وأرقها نسيما وقد أخذت طيبة كل زينتها استعدادا للعيد الذي اعتادت أن تحتفل فيه كل عام بتدفق الماء إلى البحيرة. كانت السفن في ميناء النهر ترفع الأعلام الملونة، وقد انتشر النوتية فوق الساحل يغنون ويشربون الجعة ويرقصون، وهم من ألوان مختلفة جاءوا من جميع أطراف الأرض ليحملوا خيرات بلادهم إلى عاصمة فرعون. كان فيهم نوتية من أهل فينيقية بشعورهم المضفورة ولحاهم الطويلة، وبشرتهم البيضاء وعيونهم السوداء. وفيهم بحارة من جزائر البحار الشمالية من الشردن والشكلش وأهل قبرص ورودس، وهم لا يسترون أبدانهم إلا بقطع من الجلد تتدلى من أعناقهم إلى ظهورهم وصدورهم. وأما بحارة كوش فكانوا يلفون أرهاطا حول أوساطهم من جلود النمور ويرقصون في حلقات صاخبة لا يعبئون بضحكات الجمع الملتف حولهم. وخرجت طيبة كلها منذ الصباح في زينة الاحتفال الأنيق، الرجال في ملابسهم الكتانية البيضاء ونعالهم الملونة وشعورهم المستعارة التي تتدلى على أكتافهم، والنساء في ملابسهم المزركشة بالألوان تصف محاسن أجسامهن الدقيقة. وتزاحمت الجموع على الشاطئ تتنافس على القوارب للعبور إلى البر الغربي لكي تدرك الاحتفال منذ الصباح، حتى لا يفوتها منظر فرعون وهو يقطع السد بيده المجيدة، وينزل في القارب الذهبي إلى البحيرة العظيمة مع ماء الفيضان الأحمر.
وخرج أمنكارع في ذلك اليوم مع نفرتويا ودوشري لمشاهدة مناظر العيد، فاستقلوا قاربا ملكيا وضعت حوله الحشايا فوق الطنافس الوثيرة، وبلغوا الشاطئ الغربي قبل أن يصل موكب فرعون. وكانت البحيرة صافية اللون مثل البلور تحيط بها أشجار الجميز والحور والصفصاف والسنط ذي الزهرة الصفراء الفاتنة. ومالت نفرتويا على فرع فاقتطفت منه زهرتين صغيرتين وضعت إحداهما على صدرها والأخرى على صدر دوشري.
وكان دوشري يلبس حلة زاهية اللون من صنع فينيقية ذات أكمام واسعة حليت أطرافها بخيوط ذهبية، وجعل في قدميه خفا أنيقا من الجلد الأصفر المموه بالذهب. على حين لبست نفرتويا حلة من الكتان الشفاف عليه وشي مختلف الألوان حول الصدر والعنق، وكان خفها الأحمر اللين منقوشا بصور صفراء من رسم زنبق الماء. وأما الشيخ أمنكارع فكان ما يزال محتفظا بزيه الساذج الذي عرفه منذ شبابه، وهو ثوب طويل يربطه حول وسطه حتى يصل إلى ركبتيه، ويلقي فضلته على كتفيه حتى يغطي ظهره وصدره، ولم يجعل في قدميه إلا نعلا من الجلد مربوطة حول قدمه بسير دقيق.
وساروا في الشارع الأعظم المؤدي إلى معبد الملك، وكان أمنكارع يسير الهوينى متأملا تماثيل بنات آوى التي على الجانبين، ويقف بين حين وآخر ليتأمل أحد التماثيل ويهز رأسه في صمت ثم يستأنف سيره. وسبقه دوشري مع نفرتويا حتى بلغا المعبد قبله، ووقفا حينا يتأملان صرحه الرائع والمسلتين الشاهقتين اللتين تحفان به عند المدخل، ثم ذهبا إلى التمثالين الجديدين الهائلين - وقد أقيما لفرعون أمنحتب العظيم الثالث منذ سنتين، ولم يسبق لملك أن اتخذ تمثالين مثلهما في العلو والضخامة. وخشع قلباهما عندما رفعا رأسيهما إلى أعلى التمثالين ليتأملا وجهيهما الصارمين وهما يشرفان على النيل من أقصى السهل كأنهما عملاقان جباران. وقال دوشري لنفرتويا في صوت متهدج: وددت لو ذهب سيدي المبجل أمنكارع إلى بلادي ليصنع تمثالا مثل هذا لوالدي.
فقالت نفرتويا: إنه لا يرفض لك أمرا يا دوشري.
فتبسم الفتى قائلا: أتذهبين معه يا نفرتويا؟
فتبسمت نفرتويا قائلة: لعل أبي يفضل أن يصنعه ها هنا.
فقال دوشري: وكيف يصنعه هنا وهو لم ير أبي؟ إنني أتمنى لو كان لملك المتاني تمثال مثل هذا ليخلد ذكره، إنني أرى ذلك التمثال وكأنني أنظر إلى وجه سيدي الملك المقدس وهو يشرف علينا من علو سبعين قدما.
وكان أمنكارع قد بلغ موضع الشابين ووقف ينظر إلى التمثالين في تأثر ظاهر، وقال: لقد تفنى الأجساد وإن بالغنا في تحنيطها، ولكن خلجات نفوسنا تبقى مع الفن إلى الأبد في هذه الصخور الصماء.
وعاد ينظر إلى التمثالين حينا، ثم قال: وددت لو كان هذان التمثالان واقفين وليسا قاعدين هكذا يا دوشري. إنهما في جلستهما هذه يكذبان النظر ولا يقعان في القلب كما ينبغي لهما. لقد رسمت تصميما لهما واقفين، ولكن الملك المقدس اختار تصميم هؤلاء الذين يملئون الأرض ادعاء ويظنون الفخامة عنوان المجد.
فقال دوشري في صوت متردد: كنت أقول لنفرتويا إنني أتمنى لو صنعت لأبي مثل هذا التمثال أيها السيد المبجل.
فهز أمنكارع رأسه قائلا بصوت هامس: لو كنت شابا!
ووضع يده على كتف دوشري وأضاف قائلا: لو كنت شابا لذهبت إلى المتاني من أجلك، وصنعت لأبيك تمثالا يرضيني.
فأخذ الشاب يد الشيخ في رفق ورفعها إلى فمه يريد أن يقبلها، فبادر الشيخ وقبض يده وانحنى على الفتى فقبل جبينه، وقال له بصوت متهدج: لئن شاء آمون أن يمد في أجلي، فسأصنع لك أنت صورة من حجر الجرانيت الأحمر، صورة لك إذ تمرح مع نفرتويا في الحقول أو تصيد معها البط والسمك من النهر.
فتهلل وجه الفتى ونظر إلى نفرتويا مبتهجا، ولكنه رأى على وجهها سحابة من الوجوم. ونظر إليها كالمستفهم ولكنه لم يتكلم. وأدركت نفرتويا معنى نظرته، وحاولت أن تبدو مرحة، ولكن قلبها لم يساعدها؛ فظهرت ابتسامتها مترددة تنم عن جزعها.
فصرف دوشري نظره عنها حتى لا يحرجها، وعلت عند ذلك ضجة عالية من ناحية النهر فاتجهت أنظارهم جميعا إلى هناك، وقال الشيخ: هلموا إلى المعبد، فقد أقبل موكب فرعون.
وجذب دوشري نفرتويا برفق من ذراعها واستأذن الشيخ أن يذهب معها مسرعين حتى لا يفوتهما شيء من مناظر الاحتفال. وسألها دوشري وهما يهرولان: رأيتك تغيرت منذ حين يا نفرتويا.
فترددت الفتاة حينا ثم قالت في صوت خافت: لست أدري ماذا أزعجني.
فقال دوشري في لهفة: لعلني لم أكن سبب ذلك الانزعاج.
فبادرت نفرتويا قائلة: لا، لا يا دوشري. إنها حماقة من حماقات الطفولة بغير شك. لست أحب لوحات الجرانيت الأحمر، كانت دائما تحمل إلى ذهني صورا حزينة. كنت أفضل لو قال أبي إنه سيصنع لنا تمثالا من الحجر الجيري أو من الصوان الأسود. أقول تمثالا وليس صورة على صفحة من الجرانيت الأحمر. هذا ما أزعجني.
فضحك دوشري ضحكة عالية وقال في دفعة مرحة: لقد ظننت الأمر أخطر من مثل هذا الوسواس يا نفرتويا. سأقول له أن يجعله تمثالا لا لوحة، ولن يبخل السيد المبجل بأن يجعله من المرمر بدلا من الجرانيت الأحمر. لقد تأخرنا يا نفرتويا وهذا هو الموكب قد بدأ، أرجو ألا يعرقل هذا الحذاء الضيق سرعة حركتك.
وأسرعا حتى بلغا سور المعبد فظهرت أمامهما الساحة الكبرى التي تمتد وراءها البحيرة الفسيحة. ثم بدت لهما صورة الملك من بعيد مع زوجته الملكة الجميلة «تي» ذات الشعر الأصفر الذهبي، وكانا يتجهان في موكبهما نحو الساحة. وبعد حين جاء أمنكارع وهو ينهج من جهد السير. وكان فرعون قد اقترب في موكبه، فلما وقعت عينه على الشيخ حياه باسما. فاقترب الشيخ وسجد حتى لمس الأرض برأسه، ثم رفع رأسه وجهر بالدعاء. فمد إليه فرعون يده عاطفا وأمره أن يكون قريبا منه حتى ينزل إلى البحيرة في أقرب السفن المحيطة بموكبه الملكي.
وبلغ فرعون البحيرة ونزل إلى قاربه الذهبي تحيط به زوجته الحسناء والأميرة تادوخيبا. وتلفت الشيخ ليرى أين ابنته فرآها مع تلميذه دوشري ينزلان وحدهما إلى قارب ولي العهد. ولم يكن عجيبا أن يغيب ولي العهد نفسه عن حضور الاحتفال، فقد كان معروفا بأنه لا يؤمن بآمون، ويعكف على عبادة إله غريب لا يعرفه أحد يسميه «آتون» ويسبح له بالترتيل والأناشيد. فلم يجد الشيخ بدا من النزول في أحد قوارب البلاط الملكي ليكون قريبا من فرعون إطاعة لأمره.
وكان الموكب رائعا أظهر فيه أمنحتب العظيم من أبهة الملك والجود والبر والسطوة ما هو جدير بابن الآلهة المقدس.
وتعطف على الأميرة تادوخيبا فأجلسها عن يساره كما أجلس الملكة إلى يمينه.
وكانت تادوخيبا موضع رعاية خاصة، حتى إنه قضى أكثر الوقت في الحديث معها والاستماع إليها.
ولما انتهت الجولة على البحيرة اتجه فرعون نحو المعبد العظيم الغربي ليقدم القرابين الجديرة بمجده إلى كبير كهنة آمون. ولم ينس أن يتكرم على الفنان الشيخ أمنكارع فدعاه ليسير قريبا منه واتجه إليه بحديث طويل حتى تهامس رجال البلاط قائلين: إن أمنكارع قد بلغ ذروة من المجد لم ينلها أحد رجال الفن من قبله.
وتخلف أمنكارع عن مسايرة فرعون عندما بلغ باب المعبد الكبير، وسار في صفوف رجال البلاط متباطئا، وأخذ يتلفت حوله ليرى ابنته التي غابت عن عينيه منذ سار إلى جانب فرعون. ولكنه كان يبدو عند ذلك أصفر الوجه مضطرب النظرات، يكاد وجهه ينطق بأنه حزين. واستمر الاحتفال رائعا جليلا تتخلله الأناشيد التي تملأ القلوب ابتهاجا، وبدا فيه فرعون في كمال أبهته يجمع بين عزة الملك وخشوع التقوى، ونال بركة مضاعفة من كبير الكهنة الذي أهدى إليه رمز الحياة الخالدة مصنوعا من خشب شجرة سقيت دائما بالماء المقدس.
ورجع أمنكارع مع ابنته وتلميذه بعد انفراط عقد الموكب، فركبوا القارب إلى الجانب الشرقي من النهر وساروا صامتين حتى بلغوا المنزل الصغير على الشاطئ. واستأذن دوشري ليعود إلى حصن طيبة ليقضي الليل فيه كالعادة المتبعة. وكان يحس في قلبه انقباضا عجيبا بعد ذلك اليوم المرح البهيج، ولم يقدر أن يسري عن نفسه ذلك الشعور، وذهب إلى مخدعه لعله يهدئ من قلقه في هدوء الوحدة، ولكن صورة الشيخ كانت تتمثل له دائما وهو يسير بطيئا مطرقا حزينا.
وخيل إليه أن حديث فرعون هو الذي بعث في الشيخ ذلك الحزن الشديد الذي غمره فجأة، بعد أن كان في الصباح نشيطا كأنه شاب مرح.
ولم يستطع دوشري البقاء في مخدعه طويلا فخرج ليفرج عن قلقه، وذهب إلى ركن مطل على النهر وجعل يسرح ببصره فوق صفحة الماء وعلى جوانب الشطآن وخلال السماء الصافية التي يغمرها ضوء البدر، ولكن صورة وجه الشيخ الحزين لم تفارقه وصورة نفرتويا لم تستطع أن تهدئ من سورة وساوسه. ماذا قال له فرعون حتى أزعجه هكذا؟ ثم ماذا قالت تادوخيبا لفرعون في ثنايا ذلك الحديث الطويل الذي كان بينهما على طول الجولة فوق البحيرة؟ أتكون قد أعادت على فرعون ما سمعها تقوله في يوم من الأيام عن مخاوفها من تعلقه بابنة الشيخ؟ أيكون فرعون قد حدث أمنكارع عن ابنته وعلاقتها به؟ لم يفق الشاب من وساوسه إلا عندما شعر بوقع أقدام تقترب منه، فالتفت إلى ورائه وسمع صوتا يناديه وكان صوتا مألوفا، وقال له رئيس الحصن: لقد بحثت عنك في أركان القصر يا دوشري ... لم تخلفت عن مائدة العشاء؟
فأجاب دوشري: حقا لقد نسيت يا سيدي.
ونهض متكلفا النشاط حتى لا يثير فضول رئيس القصر، ولم يلبث أن استعاد مرحه عندما صار بين أصحابه في حلقة السمر بعد أن فرغوا من العشاء. ولما عاد إلى مخدعه بعد أن مضى صدر الليل كانت كل الظلال قد انقشعت من قلبه كأن لم يعكر صفاءه شيء في ذلك النهار.
ولكن الصباح التالي حمل إليه نبأ كان أشد عليه من كل ما مر به من القلق والوساوس، فقد جاء إليه قائد الحصن في الصباح ليبلغه أمر فرعون أن يسافر إلى «أون» في ذلك اليوم نفسه ليتم دراسته في معهدها العظيم بعد أن نال بغيته من الدراسة في حصن طيبة، وكان عليه أن يأخذ أهبته للسفر من ساعته بغير إبطاء.
وأظلمت الدنيا في عينيه وتهالك على كرسيه ولم يجب بكلمة.
وثارت في نفسه غضبة شديدة لذلك الأمر المفاجئ، ولكنه تذكر أنه أمر فرعون، ولا حيلة لأحد فيما يأمر به فرعون. وجاهد أن يمنع نفسه من البكاء لشدة شعوره بالعجز أمام الإرادة التي لا تقاوم، وذهب صامتا ليستعد للسفر في المساء.
ولما أقبل المساء كانت السفينة في انتظاره تحت أسوار الحصن فصعد إليها بغير أن ينظر إلى الوراء، وبادر فمسح الدمعة التي فرت من عينيه، ثم ذهب إلى مؤخرة السفينة واتجه ببصره نحو بيت أستاذه حيث تقيم نفرتويا. ولما اختفت طيبة عن عينيه وراء ثنية النهر ارتمى في موضعه وأسلم نفسه للبكاء.
وأخفى أمنكارع عن ابنته سر الحديث الذي دار بينه وبين فرعون يوم احتفال الخريف، ذلك الحديث الذي أمره فيه أن يقطع الصلة التي ما كان لها أن تجمع بين دوشري الأمير الملكي وبين فتاة من عامة الشعب، وإن تكن نفرتويا الحسناء وابنة الشيخ المبجل أمنكارع. ولكنه لم يستطع أن يخفي عن نفسه ألم الطعنة ومرارة الإهانة. لقد بلغت تلك الطعنة من الشدة أنه كاد يندفع إلى الرد عن أمنحتب العظيم قائلا له: إن القلوب لا تعرف الفروق التي يقيمها المتكبرون. ولكنه لم يجرؤ أن يخاطب ابن الآلهة إلا قائلا: سمعا وطاعة يا مولاي. وخطر له عندما سمع أمر فرعون أن يقول له: «إنك أنت يا صاحب الجلالة تزوجت من إحدى بنات الشعب عندما أحببت الملكة تي الحسناء!» ولكن الكلمات تعثرت في حلقه قبل أن ينطق بحرف من حروفها. ومهما يكن من الأمر فإن غضب أمنكارع وشدة وقع الإهانة عليه لم يكونا شيئا إلى جانب الكارثة التي ألمت به عندما رأى ابنته تذبل وتفقد سعادتها بعد أن فارقها دوشري.
ومرت الأيام بطيئة، ولكنها توالت مظلمة حزينة، وكانت نفرتويا لا تنطق باسم دوشري تسأل أباها عنه أين غاب ولم غاب. قضت أيامها صامتة هادئة وديعة كأنها لم تفقد شيئا ولم تجزع من شيء، كالزهرة المفردة التي تتفتح وحدها في الصحراء ذات صباح ثم يتبدد عبيرها وألوانها الزاهية في وحشة الفقر. ولم يلحظ أمنكارع أن ابنته تذبل وتفقد نضرتها يوما بعد يوم حتى رآها ذات يوم وقد أصبحت ذاوية.
وجلس دوشري في أون على سور معبد الشمس الشاهق ينظر إلى الشمس وهي تهبط إلى أفق الغرب. وكانت الأرض تمتد تحت عينيه مثل صفحة مرآة لا يقطع سطحها سوى نقط منثورة من آجام النخيل. وكان السكون يخيم على الكون وماء الفيضان يغمر الحقول إلى آخر ما تصل إليه العين. وكان الهواء ساكنا في ذلك الوقت من شهر مسرى الحزين، كما كان قلب دوشري. لم يكن له في معبد الشمس صديق كما لم يكن له في أون كلها أليف، وأحس بأنه قد أصبح وحيدا غريبا في بلاد بعيدة غريبة، لا يؤنسه شيء في ذلك الفضاء الفارغ الرهيب الذي كان يحيط به. وعادت إليه وهو جالس هناك ذكريات جولاته مع نفرتويا في أرياف طيبة وعلى ضفاف نيلها وفوق أمواجه الوديعة. كان كل شيء هناك ينبض بالحياة والأمل، حتى تلك التماثيل الرابضة على جانبي الطرق، إذ كان الشيخ أمنكارع يبعث فيها الحياة كلما تحدث عنها. فأين تلك الحياة المليئة في طيبة من حياته في معبد الشمس الشاهق في مدينة أون العظمى، التي لم تكن في نظره سوى سجن مظلم. وخطر له أن يتسلل من المعبد حتى يصل إلى النهر فيلتمس قاربا يصعد فيه إلى طيبة مرة أخرى، ليستعيد أنفاسه الحارة وصدره المبتهج ونفسه المرحة. ولكن كيف يقدر على التسلل من المعبد الضخم الذي توصد عليه الأبواب المتينة ويحيط به الحراس في الصباح والمساء؟
وفيما كان جالسا هناك تتنازعه أشجانه الثائرة جاء إليه كاهن يحمل إليه رسالة من أخته تادوخيبا، وهي أول رسالة تلقاها منذ فارق طيبة في أول الخريف. وفتح الرسالة بقلب مضطرب، وكانت لفافة من البردي عقد عليها شريط من الكتان الأنيق. ولأول مرة في حياته تمنى لو كان له جناح فيطير به ساعة حتى يبلغ طيبة ليرى نفرتويا؛ لأن الرسالة أنبأته بأنها مريضة وتريد أن تراه قبل أن تبدأ رحلتها الأخيرة إلى عالم أوزيريس! لم يدر ماذا يستطيع أن يفعل ولا ماذا يستطيع أن يقول، فلم يكن أمامه إلا أن يصبر نفسه حتى تحمله السفينة كما تشاء لها رياح الخريف الفاترة. وسافر من ليلته نحو الجنوب بقلب واجف وعين دامعة وصدر كئيب.
وهناك في طيبة ذهب إلى بيت الشيخ أمنكارع آخر الأمر، ولكن الدار كانت خالية. وكان الشيخ بعيدا في الجانب الغربي لا يقيم في المدينة منذ فارقته نفرتويا في رحلتها الأبدية. وأسرع دوشري إلى الغرب حتى رأى الشيخ وكان عاكفا على جدران المقبرة التي يعدها لابنته لتكون مثوى لجسدها بعد أن يتم الكهنة تحنيطها. كان الشيخ يطمع أن تقف نفرتويا على مقبرته مع دوشري يقدمان القرابين من أجل سلامة روحه في عالم الظلام، ولكن الأقدار قست عليه مرة أخرى ونزعت منه أمله الأخير.
ولما رأى الشيخ تلميذه مقبلا رمى مطرقته وإزميله ومد يده ليصافحه صامتا. ولم ينطق دوشري بكلمة عزاء، بل نظر إلى الرجل في صمت ثم ترك يده وحول عنه وجهه وأجهش بالبكاء. وأسرع مبتعدا ليتدارى وراء جدار المقبرة، ثم ارتمى على الرمال وترك دموعه تتدفق ليخفف عن قلبه المحترق وصدره المختنق. وعاد أمنكارع إلى جدار المقبرة يضرب فيه بمطرقته وإزميله في عنف وهو صامت، وكان أمامه لوح من الجرانيت الأحمر فيه نقش صورة ما تزال تحتاج إلى المزيد، والشيخ يضرب بمطرقته وإزميله بغير توقف كأن في داخله ثورة عنيفة.
وقام دوشري بعد أن استطاع أن يتماسك، فذهب إلى الشيخ ووضع يده على كتفه مترفقا، فرفع الشيخ رأسه ورمى بالمطرقة ورفع يده فمسح عرقه المتصبب من جبينه، وتنفس نفسا عميقا وهو ينظر نحو دوشري، ثم استرخى وخر متهالكا. وبعد حين رفع رأسه في فتور وقال: هذا أنت يا دوشري، لقد وعدت أن أصنع لك صورة فوق الجرانيت الأحمر. ها هي ذي صورتك يا بني، ولكنها صورة باكية.
ثم قام وترك الفتى ينظر باكيا إلى الصورة، وانطلق يسير في طرق مدينة الموتى المتعرجة حتى اختفى.
وأما دوشري فقد عزم على أن يعود إلى أون من ساعته، وأن يذهب إليها في هذه المرة ليكون كاهنا راهبا.
وقد عرفت طيبة فيما بعد كاهنها الطيب الوديع دوشري، ذا البشرة البيضاء والعينين الزرقاوين، الذي يقال إنه كان من قبل أميرا جميلا ثم جذبته محبة آمون فآثر خدمة الإله على أن يكون ملك المتاني.
وقد عرف عن الكاهن دوشري أنه كان في كل يوم يعبر إلى مدينة الموتى في الغرب ليذهب إلى قبر نفرتويا وقبر أمنكارع الذي في جواره؛ لأنهما كانا حبيبين لآمون.
وكان دوشري كلما ذهب إلى المقبرة وقف حينا ينظر إلى الصورة البديعة التي في اللوحة الحمراء الجرانيتية، ثم يتمتم قائلا كأنه يتلو صلاة:
قد نزول نحن عن الأرض، ولكن خلجات نفوسنا تبقى مع الفن إلى الأبد في هذه الصخور الصماء.
حبيب آمون
«كان السلطان والعقل يتنازعان منذ آلاف السنين كما لا يزالان يتنازعان إلى اليوم. وقليلون هم الذين يرفضون السلطان طاعة للعقل.»
كان يوما رائعا من أيام الشتاء في طيبة التي لا يشبهها شيء في بهائها ولألاء نورها وزرقة سمائها. وكانت المدينة في ذلك اليوم هادئة على غير عادتها. كانت قصورها الواسعة لا تشتمل إلا على بعض الأتباع والخدم، وكانت معابدها نفسها خالية لا تتردد فيها أصداء الأناشيد، كأن أعمدتها الباسقة وأبوابها العالية ونقوشها الرائعة قد أصبحت آثارا عملاقية من مدينة غابرة بقيت بعد زمانها. وكانت الطرق ساكنة راكدة، كأنها المسالك المهجورة بين المقابر التي يقيم فيها الأبرار إلى الأبد. لم تكن هناك حياة إلا على شواطئ النهر المزدحمة بالسفن التي أتت إليها من أركان البحار السبعة، تحمل خيرات الجزائر وشواطئ البحر الشمالي وأخشاب بونت وخزف كنوسوس وعطور اليمن وعاج كوش.
خرج أهل المدينة في ذلك اليوم لشهود الاحتفال بعودة آمون إلى الكرنك بعد أن حرمت العاصمة العظمى منذ سنوات كثيرة من مواكب الإله آمون منذ أيام «أخناتون» أمنحتب الرابع، صاحب البدعة الجديدة التي دعا فيها إلى عبادة آتون إله الشمس، وفي سبيله فارق عاصمته واتخذ له عاصمة جديدة في الشمال، مدينة أخناتون.
وخرج الناس منذ الصباح الباكر ليتمتعوا بالنظر إلى فرعون الصغير «توت عنخ» زوج الأميرة الملكية ابنة أخناتون؛ لأنه سوف يداوي الجراح ويعيد إلى طيبة بهجتها ومرحها ورونقها، ويرجع بركة آمون إلى أهل المدينة مرة أخرى.
واصطف الشعب على جانبي الطريق خارج المدينة من قصر الملك الشرقي حتى مدخل طريق الكباش الذي زينه أمنحتب الثالث الكبير وجعل على جانبيه صفين من تماثيل الكباش رمزا «لآمون». وهناك وقف الحراس يمنعون الناس من اجتياز مداخل المعبد، إلا العظماء الذين كانوا يستطيعون الاقتراب من فرعون.
ولما علت الشمس فوق أفق الشرق، أقبل «توت عنخ» الشاب زوج الأميرة الملكية راكبا عربته الحربية يجرها اثنان من الجياد البيضاء، ووقف فيها يمسك بأعنة الخيل بيمناه، ويقبض على عصاه الذهبية بيسراه، ولم يلبس تاج القطرين الذهبي المزدوج، بل وضع حول رأسه إكليلا يمثل الحية الملكية ترفع رأسها من أمام. وعلى مدخل طريق الكباش وقف كهنة الهيكل بملابسهم الكتانية البيضاء ينشدون الأناشيد بأصوات تملأ القلوب خشوعا.
وكان «توت عنخ» نحيل الجسم، تعلو وجهه صفرة مثل صفرة النرجس الذابل، وتعتري جبينه بين حين وآخر سحابة من العبوس، وتختلج عيناه في قلق يحاول أن يخفيه تحت ستار من الوقار والهدوء. كان مظهره ينم عن معركة خفية تثور في حنايا صدره، ولكن الناس لم يلتفتوا إلى شيء مما بدا عليه؛ لأن تيار الحماسة جرفهم، وخلعت بهجة العيد ورونق الموكب على فرعون نورا وضاء فلم تقع منه العيون إلا على صفاء وسناء وبهاء.
وسار الملك بعربته بين صفي الكهنة تحف بهم التماثيل البيضاء البراقة حتى دخلوا إلى فناء المعبد، فسجد من هناك جميعا من أعيان وأمراء، ومضى الموكب في سبيله والكهنة من أمامه حتى بلغ صدر الفناء الكبير، ونزل من عربته متجها نحو العرش الذهبي القائم تحت مسلة تحوتمس العظيم.
وكانت ساحة المعبد مثل غابة من الأعمدة الباسقة والمسلات ذات الرءوس الذهبية التي تشير إلى كبد السماء حيث يلمع ضوء حوريس، وزادها كهنة المعبد رونقا بما جعلوه بينهما من أشجار ثمينة نقلت إلى هناك من أقاليم بونت البعيدة، تتخللها الأعلام وسعف النخيل والزنبق المائي في أوعية من المرمر الشفاف. وكان الهواء عطرا بما يفوح من مجامر البخور من عبق الند والعود والمر واللبان.
وجلس توت عنخ على العرش ووقف حوله القواد والأعيان على ما رسم لهم من المواضع، وطاف الكهنة بتماثيل آمون حول الساحة، والكاهن الأعظم يسير أمامهم يحمل تمثالا ذهبيا وهم ينشدون آيات من الدعوات والصلوات. وما زالوا حتى بلغوا مكان العرش، فوقفوا ووقف الأمير الشاب ليحيي صورة الإله المنتصر. فأشار الكاهن الأعظم إليه بالتمثال الذهبي، واتجه به نحو حرم المعبد، وخر الناس جميعا ساجدين. حتى إذا بلغ الكاهن قدس الأقداس فتح الباب ودخل، وتبعه الملك وأغلق من ورائهما المصراع. وخيم الصمت رهيبا من الموقف العظيم في الخلوة الخاصة التي لا يطلع على سرها إلا من يتجلى لهم آمون: الكاهن الأعظم وفرعون.
وكانت حجرة قدس الأقداس مظلمة لا تضيئها إلا ذبالة ضئيلة في قنديل من الذهب، لا يكاد أحد يتبين في ضوئها شيئا سوى ظلال متحركة يلقيها اللهيب الخافت المتراقص في الأركان.
ولما صار الملك وحده مع الكاهن استلقى خائرا على كرسي في جانب المذبح، ورمى عصاه الذهبية، وأن أنة ضعيفة بصوت لا يكاد يسمع، فقال له الكاهن بصوت رقيق: أي بني، شملتك رحمة آمون ...
وكأن هذه الكلمة قد نفست عن مرجل فوار، فما كاد الشاب يسمعها حتى انفجر قائلا: أيها الشيخ، أمسك عن هرائك. فنحن هنا وحدنا لا يسمعنا غير الحق. والناس جميعا من وراء هذا المصراع لا يسمعون.
فقال الكاهن في هدوء: أعرف أننا هنا وحدنا يا زوج ابنة الآلهة، يا وارث الفراعين. وأعرف أن الحق يسمعنا؛ ولذلك أطلب لك رحمة آمون.
فصاح الشاب في غيظ: أما كفاك أنني تحملت ما تحملت من الأكاذيب في ملأ الناس؟ أما كفاك أنني كتمت ما في نفسي وخالفت قلبي وأحنيت رأسي لهذا التمثال الأصم؟
فقال الكاهن وفي صوته هزة خفيفة: إنك يا بني ما زلت شابا، وقد يغتفر للشاب أن يشك. ولكن هذا التمثال رمز الحق.
فصاح توت في غيظ: إنني لا أشك أيها الشيخ، إنما أنطق بعقيدة لن تستطيع أن تزيلها من قلبي، هي عقيدة الحق الذي لم يعرفه سوى الملك الأعظم أمنحتب «أخناتون» الذي تسمونه المجرم.
فتراجع الكاهن إلى الوراء وقال في صيحة مكتومة: أما زلت تذكر المجرم أخناتون؟ ألم توافق على نبذ إلهه المزيف؟ ألم تتزوج من الأميرة «عنخ سنب»؟ أما سميت نفسك «توخ عنخ آمون» ورضيت أن تلعن المجرم في ملأ من الناس؟
فصاح «توت» غاضبا: نعم رضيت، وهذا ما يجعلني أمقت نفسي. رضيت لأنني لم أجد بدا من الرضا. إنني هنا لا أنطق إلا بالحق لأن كتمانه يعذبني. أتريدني على أن أخادع نفسي وأنا في خلوتي هنا؟
قل الحقيقة سافرة أيها الشيخ. قل إنك تطلب مني أن أطيعك أنت. قل إن «آي» الكاهن الأعظم قد انتصر، وإنه يأمر «توت» الصغير أن يذعن له. ليس هو آمون الذي يريد مني الإيمان به، بل هو أنت الذي تطلب مني أن أخضع لك. أنت «آي» الذي تطلب مني أن أعبدك وليس آمون ذلك التمثال الأصم.
وكان الشيخ يسمع هذه الصرخات الغاضبة وهو فاتح عينيه في حنق يحاول أن يخفيه. فلما انتهى الشاب قال الكاهن بصوت خافت: ثم ماذا؟ ...
فقال «توت»: لا شيء إلا أن تكون صريحا معي هنا. لقد كنت أنا صريحا مع نفسي ومعك عندما رضيت بتغيير اسمي وتركت اسم «آتون»، فقد قلت لك عند ذلك إنني أذعن من أجل التاج. فأرجوك إذا خلوت معي ألا تطلب مني أن ألغي عقلي وأعبد تمثالا لكبش صنعته أيدي النحاتين.
فلم يقو الكاهن على تمالك نفسه وصاح غاضبا: حسبك يا ابن الشعب! •••
فوثب «توت» على قدميه صائحا: بل أنا الملك المقدس. أنا زوج الأميرة عنخ سنب.
فأجاب الكاهن بصوت أجش: إنك لا تمت إلى الملوك بنسب، فما أنت إلا زوج ابنة قد تموت غدا.
فرفع الملك رأسه ووقف منتفضا، ثم أخذ صولجانه من فوق المذبح وأراد أن يتكلم، ولكنه غص بريقه من الغيظ فلم ينطق. ونظر الكاهن الشيخ إليه فاتحا عينيه الواسعتين في ثبات وسيطرة. وبقي «توت» لحظة ينظر إلى عيني الكاهن لا يستطيع منهما فكاكا، ثم تخاذل واضطرب وتهالك على مقعده وتقدم نحوه الشيخ حتى صار لا يفصل بينهما إلا قيد شبر، فطرفت عينا الشاب وأن أنة تشبه صيحة مكتومة، فقال له الكاهن في صوت هادئ: المجد لآمون.
ثم وضع يده على كتفه وهو لا يزال يحدق في عينيه، واستمر قائلا: سألقي عليك قصة قصيرة قد تكون سمعتها من قبل في دروسك. نحن نحتفل اليوم بعيد «أوبت» تذكارا لليوم الذي اختار فيه الإله «آمون» جد زوجتك الملكية تحوتمس الكبير. كان تحوتمس كما تعلم كاهنا لا أمل له في الحكم؛ لأنه لم يكن سوى ابن جارية لا تجري في عروقها دماء الملوك. وكانت أخته «حتاسو» هي الأميرة الملكية الشرعية. ولكن آمون رضي عن تحوتمس واختاره في مثل هذا اليوم للملك؛ لأن تمثاله الذهبي وقف أمامه في أول دورة من دورات الاحتفال، ومن ذلك اليوم صار تحوتمس الكاهن ملكا لمصر وسيدا للقطرين.
هذا هو فرعون الذي لم تعرف البلاد سيدا مثله ببركة آمون. أما سمعت بهذه القصة من قبل؟
فحدق «توت» في عيني الكاهن لحظة، ثم ألقى برأسه في عنف على يديه واهتز جسمه في نشيج صامت. فوضع الكاهن يده على رأسه ومر عليه في عطف وقال بصوت رقيق: شملتك رحمة آمون يا ولدي. عندما تخرج من هنا سيدور تمثال الإله دورته في الساحة الكبرى، وستكون جالسا على العرش المقدس، وسأقول كلمتي على مسمع من رجال الدولة والأمراء والكهنة، وسينصت الجمع كله ليسمع ما تجيب به، فإذا أجبت وقف تمثال آمون أمامك كما وقف أمام تحوتمس، وإلا ...
قال هذا ثم سار رافعا رأسه متجها نحو الباب، ففتحه ووقف ينتظر حاملا التمثال الذهبي. فقام توت فاترا من مقعده وسار وراءه مطأطئ الرأس، وكانت على وجنتيه بقعة حمراء واسعة تتقد في وسط صفحة وجهه الأصفر. وسار الكاهن عائدا إلى الساحة والملك يسير من ورائه، وخر الجمع المحتشد سجودا، حتى بلغا موضع العرش وجلس الملك عليه. ثم قام الكاهن الأعظم بين يديه فألقى في المجامر حفنات من العود والند والمر، ثم رفع يديه في هدوء وأخذ يرتل نشيدا وهو يدور بتمثال آمون الذهبي حول فناء المعبد، ثم صاح بأعلى صوته: «المجد لآمون!»
فقام «توت عنخ» عن عرشه وأجاب بصوت ضعيف: «المجد لآمون!»
فتقدم الكاهن إلى الملك فوضع يده على رأسه فمسحه بالعطور وقال له: أيها الملك المقدس، انهض، وتلق بركة آمون.
فسجد الجميع مرة أخرى، وقام الملك مترنحا ثم أحنى رأسه وقال مرة أخرى: «المجد لآمون!»
وعلت عند ذلك ضجة عظيمة من الجمع العظيم: «توت عنخ حبيب آمون.» وعلت أناشيد الكهنة تدوي بين جدران المعبد العظيم. ولم يلحظ أحد ما اعترى الملك من اضطراب، ولم يسمع أحد تلك الأنة العميقة التي ترددت في صدره تشبه الحشرجة وهو يقول في ألم: أواه!!
شاءول بن شمويل اللاوي
«ما زال المستعبد يحن إلى الحرية وينطق بالأمل فيها، ولكنه قلما يقوى على أعبائها!»
كان لي ولع بالتجوال في الصحراء منذ الصبا، ففيها كنت أملأ صدري من الهواء الصافي الذي لا تعكره أنفاس هذه الإنسانية المزدحمة، وكنت أجد في سمائها جلاء لبصري، وفي عمق سكونها سلاما لنفسي. كنت أنقل عيني بين رمالها الصفراء فأجد راحة لا أجد مثلها بين الحقول الخضراء أو على شاطئ اللجة الزرقاء. فإذا سرت فيها يوما من أيام الشتاء وقد غسل القطر رمالها، كان من أبدع المناظر عندي منظر حصبائها تلمع مختلفة الألوان في قيعان الجداول الصافية، تزري باليواقيت واللآلئ.
وقد جمع حب التجوال في الصحراء بين قلوب مختلفة الميول متباينة الطباع، ألفت الصحراء بين قلوبهم؛ لأنها كشفت لكل منهم مخبوء طبع صاحبه، إذ لا شيء يكشف حقائق الناس مثل البعد عن زخارف المدينة وغشاواتها الخادعة. فهناك في الصحراء يقابل الإنسان أخاه وجها لوجه، ويقابل الحياة صريحة لا تمويه فيها.
وكان صديقي الذي أؤثر صحبته في هذه الجولات صديقا قديما منذ أيام الطفولة، وكنا كلما خرجنا معا إلى قلب الصحراء تبينت لنا تفاهة الحياة المتكلفة التي نحياها بما فيها من حدود وأوضاع وعادات ورسوم وعقائد. كان كل منا يرى في الآخر أخا من بني الإنسان، لا يحتاج معه إلى رباط أوثق من علاقة الإنسانية.
ولقد طالما تساءلنا فيما بيننا إذا ما خلونا إلى النجوى تحت النجوم المتلألئة السرمدية عن جوهر تلك الحدود التي يخلقها الناس فيما بينهم، وكثيرا ما كنا نعجز عن الجواب.
وقد قصدت مع صديقي هذا إلى برية سيناء في بعض أيام الشتاء، وكنا نسير يومنا كله على هينة في سيارتنا، حتى إذا أدركنا المساء ملنا إلى أقرب واد فقضينا فيه الليلة، حتى يطلع الصباح فنستأنف السير معرجين على كل ما نمر به مما يسترعي أنظارنا. وكنا نجد في ذلك كله مجالا فسيحا للتأمل والدرس.
وفيما كنا نسير في أصيل اليوم الثالث من رحلتنا، سمعت صاحبي يصيح فجأة: اسمع ...
فنظرت إليه فوجدته يحدق بنظره في ناحية عن يسارنا بها مدخل واد ضيق، وقال وهو يوقف السيارة: انظر إلى هذا الموقع. إن شيئا في مظهره يأخذ بنفسي.
فتأملته لحظة فإذا هو يشبه فناء بيت من تلك البيوت التي يصفها علماء آثار ما قبل التاريخ، عندما كان الإنسان يتخذ من الكهوف منازل قبل أن يعرف سر البناء. وشعرت بشيء يجذبني إليه. فقلت لصاحبي وأنا أنحدر إلى الوادي: إن التمتع بالصحراء لا يتم لمن يسير على مثل هذه السيارة السريعة.
فأجابني صاحبي في ابتسامة عابرة: حقا، إن السيارة هنا دخيلة، إنها تدنس أرضا خلقها الله لتكون وادعة مطمئنة راضية بسير إبلها.
وكان يسير إلى جانبي ويحدثني وأنا متجه بكل اهتمامي نحو مدخل الوادي. ولو كانت الجان تتخذ بيوتا لما كانت تختار إلا مثل هذا المكان.
وبعد جولة قصيرة في الوادي بدا لنا أن نقضي الليلة هناك، فقد كان منزلا طبيعيا لمن يمر بذلك الجانب من الصحراء. وجلسنا بعد ساعة إلى جانب صخرة قائمة في وسط الفناء الفسيح الذي ينفرج من وراء المدخل الضيق، وأعددنا عليها طعامنا وجعلنا نضرب في شعاب الحديث، كأننا على مائدة في فندق عظيم في عالم مسحور.
وقلت لصاحبي: كم من الناس أتوا قبلنا إلى هذا المكان وجلسوا حول هذه الصخرة كما نجلس؟ وكم من أجيال من البشر مرت من مدخل هذا الوادي إذا عرجت لقضاء ليلة هنا في أسفارها الطويلة؟
فقال صاحبي: لعل هذه الصخرة كانت مذبحا مقدسا تنحر عليه القرابين للآلهة التي لم يفهم الناس سرها؟
والحق أنني فطنت عند ذلك إلى سر الرهبة التي أحسستها منذ دخلت إلى ذلك الفناء الفسيح.
وجلسنا لحظة في صمت ننظر فيما حولنا، وخطر لي أن هذا المكان البعيد ينطوي في صمته على أسرار عميقة.
وقلت لصاحبي: ألسنا نشبه بني إسرائيل وهم يغادرون مصر هربا من طغيان فرعون؟ ألست تضيق ذرعا بالإقامة في المدن المزدحمة وبين المجامع المنافقة؟ ألست تحس هنا لونا من الحرية لا تجدها في ربوع المدينة؟
فأجاب: هذا ما كنت أفكر فيه منذ لحظة.
وجعلنا نتذاكر بعض ما تردده الكتب المقدسة من قصص موسى وقومه حتى فرغنا من الطعام، وقمنا نمشي رويدا في أطراف المكان الساكن.
وكانت لي منذ صغري عادة سيئة: أن أخبط بقدمي ما يعترضني من حجارة، فجعلت - كلما مررت بحصاة - أدفعها كما أدفع الكرة، وما كان أشد عجبي عندما خبطت قطعة مستديرة فرأيتها تتدحرج خفيفة كالكرة، فتبينتها فإذا هي عظام جمجمة آدمية.
فصحت بصاحبي: إذن لقد شهد ذلك الموضع حادثة إنسانية!
فقال بتهكمه الهادئ: أتقصد أن كائنا بشريا مات هنا؟
فقلت في شيء من الاهتمام: أقصد أنه قد وقف هنا بعض إخواننا في الإنسانية الذين مضوا قبلنا، وكانت العواطف تهزهم كما تهزنا وتعصف بهم وتدفعهم وتؤدي بهم إلى المآسي كما تفعل بنا. ونحن اليوم لا نستطيع إلا أن نشعر بآلامهم ونرحمهم مع أننا لا نعرفهم. أتنكر العلاقة القوية التي تربط أجيال البشرية؟
فتبسم وهز رأسه وسار يتأمل جوانب التلال ويميل بين حين وآخر إلى بعض حجارتها فيفحصها ويبقي منها في يديه قطعا يريد أن يحتفظ بها كما كان يفعل دائما في جولاتنا.
فقلت له لأنتقم من تهكمه: إنك لا تعبأ إلا بهذه الحجارة يا صديقي. ألا يهمك كل هذا العالم السحري الذي يحيط بنا؟
ولكنه مضى في سبيله يميل هنا أو هناك كأنه لم يسمع مني شيئا. وملت على العظمة المستديرة لأفحصها فإذا بي أرى عظمة أخرى قريبة منها قد غمر الرمل أكثرها، فتناولت حجرا وجعلت أحفر ما حولها حتى استخرجتها فوجدتها تتصل بهيكل آدمي كامل مدفون هناك. فاعتراني انقباض شديد واسترجعت، وجمعت العظام المنثورة التي وجدتها قريبة مني وجعلت أعيدها إلى مدفنها وأجمع عليها الرمال مما حولي حتى لا أزعجها في مقرها الذي ثوت فيه تلك السنوات الطويلة. وفيما أنا في ذلك بدا لي سطح من الخشب تحت طبقة الرمل التي أزلتها بيدي لأسويها فوق العظام، فثارت دهشتي مرة أخرى وتركت ما كنت فيه، وأقبلت على ذلك السطح الخشبي فكشفته وأخذت أحدق فيه بنظري، فوجدت عليه نقشا غريبا. فدفعني ذلك إلى أن أحفر ما حوله حتى أخرجته، فوجدته صندوقا صغيرا طوله نحو نصف متر في عرض أقل من ذلك بقليل وعمق أقل من عرضه. وكان صديقي قد عاد يسير نحوي حتى اقترب مني، فلما رأى الصندوق أمامي أقبل يسعى نحوي في اهتمام عظيم، وقال: أراك قد كشفت شيئا يستحق الاهتمام.
ثم أخذ يساعدني على تنظيف الصندوق مما عليه من الرمال، ونزعنا عنه غطاءه فوجدنا فيه مجموعة من الجلود الرقيقة وقد دب إليها شيء من الفساد، وكان عليها خط بقلم غريب يميل لونه إلى السواد. فنظر صاحبي إلي وقال: إنها لقية ثمينة!
فقلت له: حقا إنها كذلك، ولا شك في أن لهذا الصندوق شأنا مع هذا المقيم في الحفرة إلى جانبه.
وأشرت إلى الحفرة التي دفنت فيها بقية العظام. وقضينا الليلة التالية في حديث متشعب عن هذه الإنسانية القديمة التي كانت منذ ألوف السنين كما هي اليوم تضطرب ولا تعرف السلام. ولما عدنا إلى القاهرة كان أول همنا أن نذهب إلى صاحب لنا من علماء الآثار ليساعدنا على كشف السر الذي تنطوي عليه الكتابة الغريبة.
وقضى هذا العالم حينا في فك تلك الكتابة حتى نسيت أمرها أو كدت أنساه، لولا أن جاء صاحبي إلي ذات مساء وهو يلوح في وجهي بلفة من الأوراق قائلا: ألا تذكر رحلة سيناء؟ لقد أتم صاحبنا فحصه واستطاع أن يفك رموز الكتابة الغريبة. «كانت الجلود كلها مكتوبة بالخط الشعبي الذي كانوا يكتبون به في دواوين مصر القديمة في عصر الإمبراطورية.»
فتذكرت رحلة الصحراء والصندوق والجلود البالية المنقوشة بالخط الغريب، وسألته: وما هذه الأوراق في يدك؟
فقال: هي ترجمة عربية فصيحة.
وجلس إلى جانبي وفتح الأوراق وأخذ يقرأ: «أنا شاءول بن شمويل بن شمعون، من عشيرة اللاويين سادة إسرائيل ...»
ثم رفع وجهه إلي قال باسما: أليس هذا اسما جميلا؟
وكان شوقي إلى سماع الترجمة عظيما، فقلت في لهفة: هذه الشينات لا تعجبني، ولكن استمر ...
فاستمر يقرأ: «كنت بمصر مع قومي، وكنا في أرض جاشان مهد أبي وجدي، وكنت في أول الأمر صاحب خاتم الأمير «راحا ترع»، ولكني عزلت من خدمته عقب الحوادث المشئومة التي جرها النزاع الدموي بين الكهنة وبين «أخناتون»، فطردت من خدمتي؛ لأنني مثل سائر قومي آمنا بالإله آتون، الإله الواحد الذي تدين له الخلائق جميعا، آتون الذي يشرف على الكون من سمائه ويحييه بأنواره ذات الأسرار العميقة.
ثم وضعت بعد ذلك حول رقابنا أغلال العبودية، وحشرنا في البراري لنعمل اللبن من الطين لبناء مدينة بيتوم، تسوقنا سياط المقدمين ورؤساء العمل ذوي الأيدي الصلبة والقلوب التي تشبه خشب السنط.
وكانت مشقة العمل تزيد من يوم إلى يوم، وكلما مر علينا شتاء جاء شتاء آخر أشد منه بردا، حتى امتلأت قلوبنا غيظا وحقدا.
ودفعنا اليأس والألم أخيرا إلى أن نضرب ونقاوم، وأخيرا تحرك رجل امتلأ قلبه بالرحمة علينا، فكان يزورنا في الليل ويواسينا، ولكنه دافع يوما عن أحدنا فقتل رجلا مصريا واضطر إلى الهرب.
وكاد اليأس يغلب الأمل في قلوبنا، لولا أن عاد الرجل الطيب إلينا بعد غيبته، وأخذ يدعونا إلى ترك مصر والخروج معه إلى الصحراء. وكان يجمعنا في الليل خفية ويؤكد لنا أن وراء البرية أرضا فسيحة يستطيع الناس أن يعيشوا فيها أحرارا ويعبدون الإله الذي يريدون عبادته.
ولكن الناس كانوا يخافون من البرية، ولا يجرءون أن يخرجوا من أرض مصر؛ لأنهم كانوا في الحقيقة يخشون الجوع أكثر من حبهم للحرية. نعم، فالناس دائما يفضلون أن يشبعوا بطونهم على أن يعيشوا أحرارا.
وأخيرا أمرنا الرجل الحكيم بالاستعداد للرحيل، فخاطرنا وعزمنا جميعا على أن نسير وراءه إلى الصحراء.
وطلع علينا الفجر يوما من أيام الربيع ونحن نغطي وجه الأرض في قافلة لا أول لها ولا نهاية، وسرنا وراء الحمير التي حملنا فوقها كل ما كنا نملك من المتاع. ولست أنكر أننا قد خدعنا جيراننا المصريين وأخذنا نحاسهم وذهبهم مدعين أننا سنردها إليهم بعد العيد. وهذا العمل سرقة بغير شك، ولكنه كان انتقاما منهم لشدة غيظنا.
وقابلنا في هجرتنا صعابا وشدائد، وتعرضنا لأخطار جمة نجونا منها ببركة إلهنا الذي هاجرنا من أجله، وكان الرجل الطيب يصلي لله من أجلنا كل صباح وكل مساء؛ لأن موسى - وهذا هو اسمه - كان محبوبا من الله. ولكنا وجدنا بعد قليل أن زادنا قد نفد، ولم نجد حولنا زرعا ولا صيدا، وكان الماء في الآبار ملحا، فعادت الحيرة تملأ قلوبنا؛ لأن الحرية التي طلبناها كانت تهددنا بالموت جوعا وعطشا. وصرخنا إلى موسى نطلب منه أن يعطينا خبزا وماء، وأعطانا موسى كل ما بقي معه، فلم يكفنا إلا قليلا، وصرنا ننظر إلى أولادنا وهم يبكون من الجوع والعطش وتتحرق عليهم قلوبنا جزعا، حتى انتهى بنا الأمر إلى أن صحنا بموسى: «أعدنا إلى مصر؛ فالإنسان قد يحيا مع العبودية، ولكنه لا يحيا وسط الصحراء بالحرية وحدها.»
وغضب موسى وظهر عليه الاضطراب، وصاح بنا يؤنبنا، ولكن لغته كانت سقيمة؛ لأنه لا يحسن لغتنا وكنا لا نفهم منه إلا بعض ألفاظ عندما كان يتكلم بلسانه المصري.
وجعل هرون أخوه يترجم لنا أقواله؛ لأنه كان يجيد لساننا، فلم نستمع إليه لأن الجوع كان يقرص أمعاءنا وبكاء أطفالنا يوجع قلوبنا، وصحنا نطلب العودة إلى مصر لنأكل من فولها وعدسها وبصلها. وفي الصباح ذهبنا إلى موسى لنخبره بأننا سنعود إلى جاشان. فوجدناه يصلي، فانتظرنا حتى فرغ من الصلاة وأقبل علينا بوجهه متهللا، وقال: «اذهبوا إلى ذلك الوادي.»
وأشار بيده إلى جهة مشرق الشمس، ثم قال لنا: «هناك تجدون على الأرض حبا يشبه القمح، فاطحنوه واعجنوه بالزيت وكلوا منه.»
ثم أشار إلى السماء وقال: «انظروا إلى هذه الطيور الكثيرة التي تأتي من البحر، إنها رزق طيب، فكلوا من لحومها تغنكم عن فول مصر.»
ولكن السلوى والمن لم يكونا مثل الفول والعدس، والحرية كانت تكلفنا أن نسعى وأن نفكر. كانت الحرية ثقيلة على أكتافنا؛ لأن الذين اطمأنوا إلى العبودية يفزعون من التفكير لأنفسهم.
وأخيرا وصلنا في سيرنا إلى الجبال العالية التي تغطيها الثلوج في الشتاء، وألقينا رحالنا في «ريفيديم»، وكان البرد شديدا لم نقو على تحمله بعد السير الطويل، فتساءل الناس: «هل هذه هي الحرية التي خرجنا نطلبها؟» ولكن موسى كان رجلا مهيبا لم يجرؤ أحد على الصياح في وجهه.
فما كاد يصعد إلى الجبل العالي ليناجي ربه حتى اجتمعنا وجعلنا نوقد النيران ونرقص، وصنعنا بعض الشراب من بلح واحة «ريفيديم»، وصنعنا لأبيس تمثالا من الذهب الخالص وأقمنا لأنفسنا عيدا. نعم، فإن العبيد ينسون ذل العبودية وهم يرقصون. ولا أستطيع أن أصف ما كان من موسى عندما عاد إلينا ورآنا على تلك الحال. لقد غضب وحطم التمثال وأوقع بالرؤساء وجثا هرون على ركبتيه يعتذر ويتنصل من ذنبنا.
وأمرنا موسى بالتأهب لغزو أرض «موآب»، كأنه أراد أن يعاقبنا على خطئنا. فوقع علينا ذلك الأمر مثل الصاعقة، وصاح الناس: «هل خرجنا من مصر لكي نحارب؟ هل معنى الحرية أن نحارب ونموت؟»
فانفجر موسى غاضبا، وقال: «إن الحرية أغلى ما يملك الإنسان في الحياة، فحاربوا لكي تكونوا أهلا لها.»
ولكنا لم نفهم أقواله، وقعدنا على الأرض عازمين على العصيان، وقال بعضنا له في وقاحة: «اذهب أنت وربك فقاتلا.»
فغضب موسى غضبا لم يسبق له مثله، وصاح بنا: «أيها العبيد، إنكم قد نشأتم في الذل فلا تعرفون الكرامة، وعشتم في الخسف فلا ترون في الحياة ظلما تأبونه. إن دمكم لا يحمى ولا يعنيكم إلا الطعام. فعودوا إلى مصر وارجعوا إلى فولها وبصلها وعدسها وإلى عبوديتكم فيها. لن يفهم جيلكم هذا للحرية معنى؛ لأنه لا يعبأ إلا بالطعام. فها أنا ذا سائر إلى الأمام، ولمن شاء منكم أن يرجع إلى مصر. ستبقون حيارى حتى ينقرض هذا الجيل وينشأ جيل من بعده يستطيع أن يدرك قيمة الحياة الحرة، وعند ذلك يستطيع الأحرار غزو أرض موآب.»
ولما انتهى موسى من قوله سار مسرعا وأمر بالرحيل ضاربا في البرية على غير هدى.
ولقد كنت أحب موسى وأجله، وكنت من أكثر الناس عطفا عليه وتقديرا لآرائه، ولكني شعرت عند ذلك بالغيظ يملأ قلبي. فقد كنت من بني لاوي سادة إسرائيل، فكيف يصيح بنا هكذا؟ ولما رأيت الناس يسيرون خلفه ثارت ثائرتي عليهم وصحت فيهم: «إنكم عبيد حقا.»
وعزمت على مفارقتهم.
وجاء إلي امرأتي ليلا فرأتني أتململ ولا يجد النوم سبيلا إلى جفني، فسألتني عن سبب اضطرابي، فأعلمتها السبب وأخبرتها أنني عزمت على مفارقة موسى. وكانت المرأة حاقدة على موسى؛ لأنه لم يعد إليها حليها التي وهبتها لتكون زينة لتمثال أبيس يوم العيد المشئوم. فما كادت تسمع قولي حتى أخذت تشجعني على مفارقة موسى والعودة إلى مصر، وجعلت تتدفق بعبارات حانقة على من كان السبب في خروجنا إلى الصحراء.
فما طلع الفجر حتى كنا في الطريق إلى أرض جاشان.
ولكن أواه! إنني أستحق كل ما وقع علي من عقاب الله. لقد تركت موسى، ودفعتني الكبرياء إلى مفارقة الرجل الذي كان يريد لي الحرية والكرامة، فماذا وجدت عند فرعون؟ لقد قبض علي حراس فرعون هنا.
إنني الآن في هذه الحجرة المظلمة، أجلس في انتظار كلمة من فم الظالم الذي قبض علي، ويمر في خاطري كل ما وقع لي في الشهور الثلاثة الأخيرة كما تمر حوادث الماضي أمام عين الغريق. لقد أخذوا امرأتي وأبنائي وساقوهم إلى حياة الذل ليكونوا عبيدا وإماء، وأما أنا فلست أنتظر سوى العقاب العادل الذي قدره علي «أدوناي» الإله المنتقم؛ لأني لم أفضل الجوع والخوف على العبودية.
الموت آت بلا شك، ويا ليتني بقيت حرا وقابلت الموت حرا.
إنني أسمع ضجة عند باب حجرتي، وها هو ذا المفتاح يصر في ثقبه.»
وإلى هنا انتهت القصة، ونظر إلي صديقي متأثرا، ونظرت إليه صامتا، وعدت بخيالي إلى ذلك الوادي البعيد في الصحراء حيث وجدنا الصندوق والجثة، وسبحت في عالم بعيد أتصور ذلك السجين المسكين وهو يستقبل الداخلين عليه في حجرته المظلمة، التي لم يبق منها أثر فوق الرمال.
المعجزة
«الإيمان دائما يهب السلام للقلوب، وإن كان بمعبود مزيف.»
كان القارب يشق ماء النيل الصافي الضارب إلى الخضرة وينزلق مسرعا مخلفا وراءه خطا أبيض من الرشاش فوق رءوس الأمواج المضطربة، وكانت أغاني النوتية تناغم ضربات المجاديف وتتماوج على الهواء الهادئ الذي يخفق في أذيال العلم الأصفر المرفوع فوق المظلة البيضاء في مؤخر القارب.
وجلس «ستنامر» تحت المظلة صامتا، وقد وضع ذقنه على يده متكئا به على ركبته اليمنى ينظر نظرة جوفاء إلى الماء وإلى المجاديف التي تشق سطحه. ولكنه لم يكن في الحقيقة ينظر إلى الماء، ولا إلى المجاديف. ولم تكن أغاني النوتية المتكررة تسترعي انتباهه؛ لأنه كان غارقا في تأمله تسرح أفكاره نحو الدار التي ما زال يقطع نحوها الأميال واحدا بعد واحد منذ ركب القارب من قصر فرعون رمسيس الثالث في شرق الدلتا.
هناك في الجنوب كانت أمه «حاتاسو» سليلة بيت «رمهات» العريق، وهو بيت أنجب سلسلة مجيدة من الأبطال الذين رفعوا أعلام مصر في أركان العالم، وكان آخرهم جده القائد المظفر «رمهاتي» الذي شتت شمل الشردن في غرب الدلتا في أيام «رمسيس» الكبير «الثاني». كان ستنامر يحس حنينا عميقا إلى هذه الأم الكريمة، التي لم يكن لها في العالم سواه، وهي مع ذلك تقيم وحدها في القصر المنعزل في ضواحي طيبة راضية بفراق وحيدها، وتدعو آمون صباحا ومساء أن يمهد له سبيل المجد كما مهده لأجداده من قبل، حتى يحفظ علم بيت «رامهاتي» خفاقا على تعاقب الأجيال.
ولكن أفكار ستنامر كانت أيضا تحوم حول صورة «تويا» في الأصباح والأمسيات، في اليقظة والحلم، تويا الجميلة سليلة بيت فرعون أمنحتب العظيم.
نشأت تويا معه منذ الصبا عندما كانا يمرحان معا في الحديقة اليانعة المحيطة بقصري أسرتيهما العريقتين المتجاورتين، وطالما تجولا معا في حقول البرسيم أو القمح ليترصدا للسمان أو ليصطادا الفراش العجيب الألوان.
وقد بقيا على مودتهما العميقة حتى اضطر ستنامر إلى مغادرة طيبة ليشارك في حروب مليكه رمسيس الثالث تاركا أمه وعزيزته تويا، وقضى بعيدا عن وطنه ثلاث سنوات طويلة لم يجد في خلالها من الوقت ما يتيح له الفرصة لزيارة وطنه والإقامة فيه حينا بين ظهراني أهله ورفقاء صباه.
لقد مرت هذه السنوات الثلاث وما كان أطولها عليه وأقصرها! كانت تطول عليه كلما خلا بنفسه في الليالي وتذكر أحبابه الذين فارقهم، وكانت تقصر وتمضي سراعا عليه وهو يضرب في الآفاق لا يكاد يستقر في مكان. فكان إذا أرخى الليل سدوله وأوى إلى خيمته يطلق العنان لخياله فيحمله إلى أحبابه في عالم الوهم. وكانت صورة تويا الثاوية في صدره تسعده بنجواها وتعلله بحلو الأماني. فكم أزالت هذه الصورة وحشته وهو في الصحراء الغربية البعيدة عند «جبل قرون السماء».
وكم آنسته هذه الصورة، وهو في خيمته عند جبال «حوران» بالشام أو في أودية فلسطين.
كان ستنامر إذا اطمأن في خلواته يخرج من جعبته تمثال إيزيس المقدسة ويتأمل جمالها البارع بقلب خاشع خافق، ويصلي لها طالبا أن تحمل السلام والسعادة إلى قلوب أحبابه حيث يقيمون. وكانت صورة تويا تلوح له دائما في ملامح تمثال إيزيس فتملأ روحه بهجة وأملا.
جلس ستنامر في مؤخرة القارب يفكر في تلك السنوات التي مرت به، وكان بين حين وآخر يتنفس نفسا عميقا ويفيق إلى نفسه فيبتسم ابتسامة ضئيلة، ويقول لنفسه: ما هي إلا أيام قليلة أخرى ثم أجتمع بالأحباب.
ومضت الأيام بطيئة، ثم ظهرت له أخيرا عند الأفق قبل المساء جزيرة كأنها تسبح طافية فوق الماء، وكان النخيل الباسق يصعد من سطحها ضاربا في السماء برءوسه ويتمايل في رشاقة مع هبات النسيم. وكان ستنامر يعرف هذه الجزيرة منذ الصبا، فلقد طالما اصطحبه أبوه الأمير «أمنمرى» للصيد فيها بعد هبوط مياه الفيضان.
وجعل يتأمل حسن منظرها وقد كساها العشب والشجر الملتف، وعادت إليه ذكرى الصبا الحلوة كأنها ذكرى الأمس القريب.
وفيما كان غارقا في تأمل صور ذلك الماضي سمع ضجة النوتية وهم يصيحون: «معبد آمون!»
فأسرع خارجا من تحت المظلة ووقف ينظر إلى المعبد المشرف على النهر، وخشع قلبه عندما اتجه بالصلاة إلى آمون.
وكان البدر يقترب من كبد السماء عندما وصل ستنامر إلى قصر أمه وألقى نفسه بين ذراعيها.
وأخذت الأميرة «حاتاسو» أم ستنامر تقص عليه أخبار السنوات الثلاث التي مضت ، وكانت الأخبار كلها تثير نفسه، فما أعجب تقلب أمور الحياة وأسرعها! كان بعيدا يذرع الأرض من المشارق إلى المغارب، وكان الأهل والصحب جميعا مقيمين في العاصمة الكبرى، ولكن اضطرابه في الآفاق لم يكن بأعظم من اضطرابهم مع صروف الأيام. أما الصغير فقد كبر، وأما الكبير فقد مضى عن الأرض، وأما المال فقد تداولته الأيدي كما يتلقف الصبية الكرة بعضهم من بعض. كل شيء يتبدل ويتغير، سوى «رع» الخالد «حورماخيس»، فهو دائما يشرق كل صباح على الأرض ويغرب كل مساء ذاهبا إلى العالم الآخر في إقليم «يارو». وأخيرا سأل ستنامر أمه عن تويا؛ لأن أمه لم تذكر شيئا عنها.
ونظرت الأم نحوه في فزع عندما سمعته يسألها عن الفتاة في لهفة يشوبها شيء من الضجر. كان ذلك السؤال صدمة أصابت الأم فجأة على غير انتظار فزعزعتها ... فسكتت لحظة وأرادت أن تحول عينيها عن نظراته، ثم قالت بصوت خافت حاولت أن تمسك زمامه: تويا بخير يا ولدي.
ولكن ستنامر أعاد سؤاله في إلحاح قائلا: كيف حالها يا أماه؟ خبريني! هل من شيء أصابها؟ إنك بغير شك تخفين شيئا من أخبارها عني.
فبادرت الأم ومدت يدها إلى رأسه تمسحه وقالت في تردد: بل هي بخير يا ولدي ...
فقال في ضجر: عزمت عليك يا أماه أن تحدثيني طويلا عن تويا!
فأخذت الأم تقص عليه قصة طويلة ... كانت تويا بغير شك كريمة النفس، لا تزال باقية على مودته حافظة عهده، وتبكي ليلا ونهارا في خلواتها حتى اعتراها السقم. وقد أصبحت طريحة الفراش، فلا الدواء يشفيها ولا مباهج الحياة تسليها. كانت تنحدر إلى الموت. ولكنها لم تستطع أن تقاوم إرادة أبيها. وهل كان أبوها يجرؤ على رفض مصاهرة السيد العظيم «مريي» الذي كانت البلاد تهتز إذا ذكر اسمه؟
ولما انتهت الأم من قصتها مرت بيدها على رأس ولدها المطرق لتواسيه، وكانت تتمنى لو استطاعت أن تبلغ بيدها شغاف قلبه فتمسحها من ذلك الحب الذي لا أمل فيه. ولم يتكلم ستنامر ولم ينطق بشكوى، ولكن أمه كانت تستطيع أن تقرأ ما في أعماق قلبه من شعور الخيبة والحنق. كان موعد زفاف تويا على القائد الكبير «مريي» بعد أسبوعين اثنين، وكان رئيس الكهنة نفسه يشرف على دقائق رسوم الاحتفال في معبد أمنحتب الرشيق القائم على الشاطئ الشرقي من طيبة. وقد أعد الزوج النبيل لذلك اليوم مهرجانا رائعا يليق بمكانته الكبرى. وهل كان هناك من هو أمجد من قائد الكتيبة اللوبية في جيش الملك؟ لم يكن في الجيش كله من هو أقرب منه إلى قلب الملك العظيم رمسيس الثالث، حتى لقد ائتمنه على إقليم العاصمة الكبرى وجعله حاكما عاما عليه.
وكان «مريي» عملاقا يرفع رأسه كالمسلة الباسقة، فإذا لبس سلاحه كان مثل إله الحروب. وكان يسير أحيانا في طليعة كتيبته اللوبية ليعرض هيبة الملك على رعاياه من أهل طيبة، فإذا رآه الناس خشعوا وتذكروا بأس فرعون العظيم.
وكان مريي يوقع الرعب في القلوب بهيبته وبعينيه الزرقاوين اللتين تشبهان عيني الفهد.
وكان أحيانا يبتسم إذا سمع تحية من بعض المتزلفين الذين كانوا يتقربون إليه بالهتاف والدعاء، ولكن الابتسامة كانت تلوح على فمه مرعبة كأنها على وجه نمر تظهر من تحتها ثناياه البارزة إلى الأمام، على حين تبقى عيناه الزرقاوان ناظرتين إلى الأمام في جمود مخيف.
وذهب ستنامر عقب سماع القصة المحزنة إلى مخدعه فاعتكف فيه، ولم تستطع أمه أن تخفف من وقع النبأ عليه برغم عطفها ومواساتها. حقا إنه لم يجهر بالشكوى ولم يظهر الجزع، ولكن منظره كان ينم على ما في قلبه من اليأس. ولقد ضاقت الحياة أمامه وخيل إليه أن الآفاق تريد أن تنطبق عليه من الشرق والغرب فلا تدع لأنفاسه متسعا فيما بينها. وغمر الشقاء أمه «حاتاسو» واتهمت نفسها بأنها كانت السبب في يأس ولدها الحبيب، وجعلت تحاسب نفسها حسابا عسيرا على أنها لم تخف عنه النبأ القاسي حتى لا تحطم قلبه، وأنها صدمته صدمة شديدة هدمت آماله في مثل لمح البصر. وأخيرا لم تجد الأم حيلة لتخفف بها من آلام نفسها وآلام ولدها إلا أن تذهب إلى معبد أمنحتب للصلاة عند محراب «آمون».
وكان الكاهن «أمنميس» رئيس المعبد شيخا مباركا يعرف الجميع أنه حبيب آمون وأنه قديس يوحى إليه بالرؤيا الصادقة ويكشف له الغيب في لمحات واضحة.
ولما قضت حاتاسو صلاتها عند محراب المعبد، جلست حزينة تناجي الإله الرحيم في حرارة، وتناشده أن يلطف بولدها في غمرة حزنه. وفيما هي في نجواها أقبل نحوها الشيخ الكاهن كأنه قد جاء يلبي نداءها. وما كادت تراه حتى أحست كأن نورا ينبعث إلى قلبها. وأفضت إليه بآلامها وآلام ولدها، وسألته أن يهديها إلى سبيل الخلاص بوحيه الميمون. وأخذ الشيخ يعبث بلحيته البيضاء وهو يستمع إلى حديثها في هدوء، فلما أكملت شكواها أطرق ساعة، ثم رفع رأسه في بطء ونظر نحوها مبتسما وهو صامت.
فمدت الأم يديها مبسوطتين نحوه في لهفة وضراعة، وأحست أن الشعاع الذي أضاء قلبها قد أخذ يسطع ويزهر، وقالت وقلبها يخفق: أيها الشيخ المقدس، هل من أمل في الخلاص؟
فهمس لها قائلا: انتظري معجزة آمون.
وأشار بإصبعه إلى شفتيه يأمرها بالتزام الصمت، ثم مضى عنها في هدوء. وكانت حاتاسو مؤمنة طيبة القلب، فخرجت مسرعة تكاد تثب في سيرها، واخترقت الحديقة الفسيحة التي حول المعبد ثم سارت في الطريق مهرولة حتى وصلت إلى بيتها، وذهبت إلى مخدع ولدها فوجدته على سريره حزينا مثلما تركته. فأسرعت نحوه باسمة، وارتمت عليه وضمته إلى صدرها قائلة في صيحة مكتومة: «انتظر يا ولدي معجزة آمون.»
ثم رفعت إصبعها إلى شفتيها تأمر ولدها بالانتظار والصمت.
واقترب يوم الزفاف قبل أن تحدث المعجزة، ثم تمت رسوم الاحتفال بالعقد المقدس الذي سوف يربط مريي وتويا، وتحركت طيبة تستعد للاحتفال الباهر، وأعد علية القوم من رجال ونساء أبدع الملابس الزاهية من الكتان الملون، استعدادا لمشاركة السيد العظيم مريي في احتفاله. ولم تستطع حاتاسو نفسها أن تمتنع عن الاستعداد لإجابة الدعوة. وحل يوم الزفاف آخر الأمر، وذهب الجمع إلى المعبد، وكانت حاتاسو تحس كأنها تحمل في صدرها عبئا ثقيلا عندما تركت ولدها ستنامر في فراشه حزينا لتذهب إلى الاحتفال، وهي تكاد تكفر بآمون الذي وعد بالمعجزة ولم يستطع الوفاء بوعده.
ومالت الشمس نحو الغرب، وصبغت أرجاء الأفق بألوان القرمز والذهب واللهيب. وسار مريي في موكبه العظيم إلى المعبد، وكان يركب عربته الحربية في الطليعة، وقد لبس سلاحه كاملا، ووقف ممسكا بأعنة الجياد ناظرا إلى الأمام جامدا، فاتحا عينيه الزرقاوين الباردتين، لا يلتفت إلى يمين ولا إلى يسار. وكانت العامة من الشعب مصطفة على جانبي الطريق تنظر إلى الموكب الباهر في صمت ووجوم.
ودخل مريي أخيرا إلى المعبد رافعا رأسه في كبرياء، وذهب نحو قدس الأقداس ليلقى الكاهن الأعظم. ولكنه ما كاد يبلغ الباب المؤدي إلى المحراب حتى اعترضه رسول فرعون ومد إليه يده بطومار من ورق البردي، ثم انحنى ووقف ينتظر في خشوع حتى يقرأ القائد العظيم خطاب فرعون. وفض مريي ختام الطومار الذهبي، ثم قرأ ما فيه وكانت عيناه تزيدان اتساعا وقسوة كلما قرأ سطرا بعد سطر. حتى إذا فرغ من قراءة الخطاب ارتعشت يداه وسقط من بينهما لفافة البردي إلى الأرض. فانحنى الرسول ورفعها ووضعها عند رأسه، ثم دسها في منطقته الفضية.
ثم بسط يده مشيرا إلى مخدع قدس الأقداس وقال مخاطبا مريي: هل لسيدي القائد العظيم أن يتقدم مطيعا أمر فرعون؟
فنظر إليه مريي نظرة ثائرة، والتفت حوله لفتة سريعة، ثم تقدم في حنق سائرا نحو المخدع المظلم الذي فيه قدس الأقداس.
وذهب رسول فرعون وراءه حتى دخل، ثم أغلق خلفه الباب قائلا: لن تغيب عنك أوامر فرعون العظيم يا مولاي.
ثم ضم الرتاج النحاسي الثقيل ومضى عائدا نحو ساحة المعبد حيث كان الضيوف ينتظرون، فقال لهم بصوت هادئ: إن مريي ينتظر أمر فرعون. إنه خائن يستحق العقاب!
وكأن صاعقة قد انقضت على الجمع عند ذلك، وعلت ضجتهم صاخبة، واضطربوا واختلطوا وتزاحموا على الأبواب يلتمسون الخروج كأنهم يهربون من كارثة. وتعالت أصوات من بينهم قائلة: إنه خائن بلا شك، إنه يتآمر على مولاه.
وذهبت حاتاسو إلى الكاهن «أمنميس» الطيب لتقبل يده في خشوع وتشكره على صدق نبوءته، ولتصلي عنده للإله آمون بقلب مفعم بالإيمان. فوجدت عنده رسول فرعون في خلوة، فلم تطل وقوفها وعادت إلى البيت لتحمل البشرى إلى ابنها السعيد.
وذاعت في طيبة بعد حين قصة القائد الليبي الجريء الذي أراد أن يتزوج تويا سليلة بيت أمنحتب العظيم، كي يصير أهلا للملك، بعد أن يزيح الدخيل فرعون رمسيس الثالث عن العرش. وكاد يبلغ مشتهاه لولا أن أفسد الكاهن المخلص أمنميس مؤامرته قبل أن تستحكم حلقاتها.
ولكن حاتاسو كانت كلما سمعت تلك القصة هزت رأسها في صمت وتبسمت بسمة خفيفة، وكانت فيما بعد لا تنسى أن تذكر ولدها وزوجه تويا بالذهاب إلى معبد آمون لكي يؤديا واجب الصلاة عند محرابه، شكرا له على المعجزة البارعة.
مينا الأثريبي
«الكبرياء المحطمة تستطيع أن تنتقم ممن حطمها.»
كان الضوء يؤلم عيني السجين كلما فتح باب سجنه المظلم، لطول ما أقام في تلك الحجرة الصغيرة الرطبة، كانت الحجرة أشبه شيء بجحر أو جب لا فتحة له إلا ذلك الباب الضخم العتيق الخشبي الذي كلما فتحه السجان صر صريرا عاليا. فإذا فتح تدفق منه نور يهوي إليه من كوة في أعلى البرج الذي فوقه، وكان ذلك النور يطعن عيني مينا بن حنا، فيضع يده عليهما، فلا يرفعها إلا شيئا بعد شيء.
كانت السنوات الخمس التي قضاها مينا في سجنه بحصن بابليون قد غيرته ومسخت هيئته. كان قبل أن يدخل ذلك السجن شابا تمتلئ الأعين من حسن منظره وروعة هيئته. فإذا ما جاء من قصره الريفي في أثريب إلى مدينة مصر الكبرى رج الأسواق بما يبيع فيها وما يشتري منها. فإذا ما ركب بغلته الشهباء الفارهة خارجا من الأسواق قام له أصحاب المتاجر وأحنوا له الرءوس وتطلعوا في أثره إلى قامته الدقيقة الفارغة وهو رافع الرأس في ثيابه الكتانية الموشاة بالذهب. وكان لعينيه بريق خاطف كأنه وميض البرق في حاشية السحاب.
ولكن ذلك الجمال قد خبا وذبل كما يذبل العود الأخضر تحت لفح رياح الخماسين، وأصبح مينا يلوح كهلا أصفر اللون أشعث الشعر طويل اللحية غائر العينين، وانحنت قامته المعتدلة وثقلت رجلاه، وضعف صوته المليء، حتى صار إذا نطق بكلمة تلفت حوله في فزع كأنه يسمع صوتا غريبا منكرا.
ولم يعرف مينا الأثريبي سببا لقذفه في ذلك السجن الفظيع؛ لأنه لم يكن معاديا للسادة الروم حكام البلاد، ولم يكن ممن يحبون الفضول في أمر السياسة، لم يكن ممن تؤخذ عليهم المآخذ في مشاحنات الحزبين الأخضر والأزرق، ولا في مناقشات المذهبين الدينيين اللذين فرقا أهل البلاد وأوقعا بينهم العداوة. وقد عجب الناس أشد العجب عندما سمعوا بنكبته المفاجئة، ولكن لم يجرؤ أحد أن ينطق باسمه خوفا من بطش الحاكم الصارم قيرس المقوقس الذي كان لا يعرف الهوادة في معاملة من تتجه إليهم شكوك جواسيسه.
وكان يوما من أيام الشتاء الباردة عندما فتح باب الحجرة على مينا ودخل الضوء إليه. وكانت نفسه في ذلك اليوم خائرة، فلم ينهض من مكانه على الأرض الرطبة، بل أغمض عينيه وأدار وجهه عن الباب، وانتظر لحظات ريثما يتحمل بصره الضوء في بطء وحذر. ولكنه سمع السجان يناديه: قم معي يا مينا بن حنا. قم وأسرع فإن الأمير ينتظرك.
فتمتم الرجل في ضعف: أما من رحمة في قلوبكم؟ إنني لا أكاد أقوى على الوقوف أيها المسيحي.
فصاح السجان الرومي: قم سريعا. أما تسمع؟
فتحرك مينا حركة قلقة في مكانه، ثم نهض واقفا وهو يترنح، ومد يده إلى الجدار يتوكأ عليه حتى استقام، ثم التفت إلى السجان وقد فتح عينيه وتغير مظهره فجأة، فاحمر جبينه ومد عنقه كأنه يريد نضالا، ثم نطق بصوت أجش فقال: لن أذهب إلى العذاب بقدمي مرة أخرى. اذهب إلى أميرك، فقل له إنني أمقته. فليحمل آلات العذاب إلى هنا على عاتقه إذا شاء.
وكانت لحيته الغبراء التي صبغها السجن شيبا تهتز في عنف، وعلا صدره بالأنفاس وارتفع رأسه حتى كاد ظهره المقوس يعتدل. فوقف الرومي حينا صامتا ينظر إليه في دهشة ثم قال بصوت حانق: ماذا تقول أيها الأحمق؟ إن الأمير يدعوك .
فصرخ مينا: اذهب إليه فأبلغه أنني أمقته. لن أذهب إليه على رجلي. قل له إنني أود لو استطعت أن أمزق أعضاءه!
فقال السجان رافعا صوته: ماذا حدث بك يا مينا بن حنا؟ هل ذهب عقلك؟ أتريد أن أقول للمقوقس إنك تمقته وإنك تريد أن تقطع أوصاله؟!
فصرف الرجل وجهه عن السجان، ثم سار خطوتين يهتز في مشيته متجها نحو ركن الحجرة.
فاقترب السجان منه ووضع يده على كتفه برفق، وقد دبت في قلبه هزة من الشفقة، وقال له: هلم معي وكن هادئا. فإن الأمير الأعظم قيرس يريد أن يراك.
فالتفت مينا إليه لفتة مترددة وقال له: يريد أن يراني؟
فهز السجان رأسه وقال له: نعم. لقد قلت ذلك مرارا فلم تسمعني!
فأطرق مينا لحظة وهو صامت، ثم رفع رأسه وتنفس نفسا عميقا وهو يغمض عينيه، كأنه يريد أن يبعد عن نظره صورة كريهة. وسار وراء السجان وفي قلبه شجون مضطربة يدفع بعضها بعضا. •••
وكان المقوقس في حجرته الفسيحة في أعلى الحصن، يشرف على النهر وقد فاض ماؤه الأغبر على الحقول التي حوله إلى أطراف الأفق، فصارت الأرض كأنها بحيرة عظيمة لا تظهر فيها من المعالم إلا قرى منثورة، كأنها نقط سوداء تجري بينها جسور سوداء، تبدو من بعيد مثل الخطوط المستقيمة رسمها مهندس فوق صفحة بيضاء.
وكان القلق باديا على وجهه، ويتحرك بين حين وآخر حركة مضطربة متجها بنظره إلى الجزيرة الطويلة الممتدة إلى الشمال من وراء مجرى النهر، وقد ضربت عليها خيام مختلفة الألوان بين سمراء وغبراء وبيضاء وحمراء، موزعة مثل الأكواخ بين حشائش الجزيرة وأشجارها. ودخل عليه جورج قائد الحصن مسرعا فحياه ووقف حياله حتى أذن له بالجلوس، ثم سأله: هل آن له أن يجيء؟
فقال جورج جاهما: نفذت أمر مولاي، فهو الآن يستعد للمثول بين يديك.
فتنفس قيرس وقال في نغمة حزينة: ألم تغير رأيك بعد يا جورج؟
فحرك القائد رأسه مترددا وقال: لم أغير رأيي، ولا أظنه يستطيع أن يصفو لنا بعد ما ناله من أذى على أيدينا. إنه من هؤلاء المصريين ذوي الرءوس الصلبة الذين أتمنى لو استطعت أن أشنقهم جميعا.
فقال قيرس: لست أنكر ما في قولك من حق. إنه مصري عنيد مثل قومه. ولكن ماذا عساه يفعل إذا أنا خاطرت فأرسلته؟
فقال جورج: إذن يزيد أعداؤك واحدا في خارج الحصن.
فعبس قيرس وقال في حقد: لو استطعت أن أفني هؤلاء المصريين جميعا لفعلت كما تريد يا جورج، ولكني لا أستطيع ذلك ويا للأسف. سأخاطر لأنني لا أتوقع ضيقا أشد مما نحن فيه. سأخاطر فأخرجه معي هذه الليلة، ولا أظنه يجرؤ على مخالفتي ما دامت أمه وزوجه رهينتين هنا.
فطرفت عينا جورج طرفا سريعا ولم يجب. وأحس قيرس أن ذلك الجندي الخشن الذي أمامه ما يزال يخالفه في الرأي. ولكنه ملك نفسه وتبسم قائلا في لهجة مرة: إنكم معاشر الجنود لا تعرفون إلا حسم الأمور بالعنف، ولكني قد وجدتكم لا تستطيعون أن تهزموا هذه الشراذم الضئيلة من العرب.
قال هذا وأشار إلى الخيام المنثورة بين الحشائش والشجر في الجزيرة. فانتفض جورج واحمر وجهه، ولكنه لم يرد بكلمة.
واستمر قيرس قائلا: سأذهب الليلة إلى لقاء وفد العرب في الجزيرة، سأحاول أن أصرفهم عن البلاد بالحيلة أو بالرشوة. ولكني أحب أن يكون الأمر سرا، فإياك أن يتسرب الخبر إلى خارج الحصن. أسرع بإحضار مينا، فليس أمامنا من سبيل آخر. سأرسل مينا إلى بنيامين لنواجه العرب صفا واحدا.
فحيا جورج وخرج من الحجرة مسرعا.
وبعد قليل جاء مينا وكان وجهه نحيلا حائل اللون ناتئ الوجنتين غائر العينين، كأن وجهه المعروق عظام جمجمة. فاستقبله قيرس واقفا مرحبا، وأجلسه على مقعد وثير مغطى بالكتان المزركش على مقربة منه، وأخذ يلاطفه في الحديث معتذرا إليه عما أصابه من الأذى، وصرح له بعزمه على إيقاع العقوبة بالوشاة الذين سعوا به ورموه بالأكاذيب. وقال له: سيعوضك قيصر عن كل ما أصابك في مالك ونفسك، وأنت ما تزال شابا والأيام واسعة أمامك تنسيك كل الآلام.
فتنفس مينا نفسا عميقا ولمعت عيناه بومضة براقة ، ولفت رأسه لفتة سريعة، ولكنه لم يجب، بل عاد وأطرق صامتا وصدره يضطرب بأنفاسه.
فقال له المقوقس: لقد آن لهذه البلاد أن تتحد وتعرف في داخلها السلام. أنت تعرف يا مينا بن حنا أن هذا الانقسام الذي نعاني آثاره اليوم هو الذي يجرئ علينا هذه الوحوش التي جاءت تجوس خلال ديارنا.
فرفع مينا رأسه ببطء وقال: لست أفهم شيئا ...
لقد قضيت خمس سنوات في السجن المظلم، وكأني منطو في قبر لا صلة لي فيه بالأحياء. لست أفهم يا سيدي ما تقول.
فقال المقوقس معبسا: هذه المنازعات التي بيننا قد أطمعت فينا أضعف الشعوب وأفقرها. ألا تعجب أن يأتي العرب إلينا يطلبون غزونا؟
فقال مينا في دفعة غضب: وماذا تريد من جثة هامدة؟ ماذا تريد من هيكل محطم؟ ماذا تريد بتوجيه هذا الحديث إلي؟
قال قيرس ملاينا: نحن الآن أمام هؤلاء الأغراب الذين يهددوننا جميعا.
فقال مينا بصوت ضعيف: يهددوننا؟ أيهددوننا بالسجن؟ أيعذبوننا بالسياط والنار والعقارب؟
فقال قيرس وهو يحاول الهدوء: هذه بلادك يا مينا بن حنا. وقد جاء هؤلاء الجياع ليأكلوا طعامكم ويسكنوا مساكنكم ويزيلوا عقيدتكم.
فاندفع مينا قائلا: من أجل عقيدتنا نسجن ونعذب. وأما الطعام والمساكن فلم يبق لنا ما نحرص عليه يا قيرس. قل لي ماذا تريد بإحضاري إلى هنا؟
فصمت قيرس واحمر وجهه، ولكنه تماسك وقال في هدوء: هذه الأحقاد القديمة فرقت بيننا وجعلتنا أعداء يا مينا بن حنا. نحن الآن أمام عدو مشترك يريد أن يقضي علينا جميعا. أليس الروم أقرب إليكم من هؤلاء الذين لا يعرفون المسيح يا مينا؟
فأطرق مينا صامتا وكان وجهه النحيل يشبه وجه جثة محنطة. ولما رفع رأسه بعد حين نظر إلى قيرس بعينين تلمعان ببريق خاطف، وارتد شيء من اللون إلى وجهه وقال: أريد أن أعرف ماذا تريد مني يا سيدي؟
فقال المقوقس: لا أريد منك إلا خدمة قومك ووطنك. أعرف أنك من أشرف أهل هذه البلاد وأكرمهم وأشجعهم، ولولا أكاذيب الوشاة لما أقدمت على شيء يضرك يا مينا بن حنا. إنني آسف ومتألم لأنني اضطررت إلى أن أقبض عليك وأحتفظ بك هنا. السلام والأمن والاستقرار لا تسمح بالتساهل. ولكن الظروف تغيرت والمصلحة العامة تقضي علينا جميعا أن ننسى الماضي وننسى كل شيء إلا الدفاع عن هذه الأرض من أجل المسيح.
فقال مينا في هدوء: وماذا أستطيع؟
فأسرع قيرس قائلا: أشكرك على سؤالك هذا يا مينا بن حنا. هكذا كنت أعتقد فيك عندما دعوتك إلى هنا. أنت تستطيع أن تؤدي لوطنك خدمة جليلة؛ لأنك من أشراف القبط، ولأنك فوق هذا صديق لبنيامين.
فاندفع مينا قائلا: ومن هو بنيامين؟ أتقصد الأب المبارك البطريق؟
فقال قيرس متماسكا: نعم البطريق اليعقوبي بنيامين. بنيامين الذي كان السبب في كل ما حدث من الاضطراب والاصطدام، ولولا مخالفته وإصراره على العناد لما وصلنا إلى هذا الذي وصلنا إليه.
ولكن دعنا من الماضي. يجب أن يعود السلام إلى صفوفنا إذا أردنا مقاومة هذا العدو المخيف.
وكان مينا ينظر إلى يديه النحيلتين وهو صامت ويقبض أصابعه وينشرها في شيء من الاضطراب.
واستمر قيرس قائلا: لست أشك أنك تقدر على الوصول إلى بنيامين، أنت من أقرب أصحابه إليه، ولن تجد صعوبة في معرفة مكان اختبائه. ولست أطلب منك إلا أن تحمل إليه نبأ سارا فيه خير له وللجميع. هذا كتاب قيصر إليه بالعفو عن كل ما سلف. فما رأيك في إيصال هذا الكتاب إليه؟
ومد يده إلى منضدة فأخذ قرطاسا ملفوفا بقطعة من الحرير المذهب ورفعها نحو مينا.
ولكن نظرة مينا الجامدة لم تتغير وبقي ثابتا في مكانه.
فاستمر قيرس قائلا في ابتسامة متكلفة: أنت ما زلت شابا يا مينا بن حنا. سنرد كل أملاكك إليك، وكل الأموال التي صودرت تعود إليك. وأنت تعلم أن قيصر يعرف كيف يكافئ أصدقاءه. ولكن الأهم من كل هذا أننا في ساعة حاسمة تحتاج إلى أن نقف جميعا صفا واحدا. وإذا عاد بنيامين إلينا ووضع يده في أيدينا لم يجد هذا العدو ثغرة يطعننا منها ويقضي على استقلالنا. أظنك لن تتردد في الذهاب إلى بنيامين ...
فانتفض مينا قائلا: أهكذا تتحدث عن الأب المقدس؟ أهكذا تعيد علي اسمه قائلا «بنيامين»؟ ألا فاعلم أنه هو الأب المقدس بطريق القبط يا قيرس.
فاستمر قيرس قائلا في جمود: هذا خلاف لفظي بسيط يا مينا بن حنا. هو إذا شئت الأب المقدس البطريق. وأحب أن أضيف إلى ما قلت لك إنك إذا نجحت في مسعاك وعدت إلينا مع البطريق فستجد السعادة في انتظارك. ستجد هنا زوجتك وأمك يفتحان لك أذرعتهما.
فصاح مينا في فزع: أمي وزوجتي؟!
فقال قيرس في صرامة: نعم، هما تقيمان هنا في انتظارك. ستبقيان هنا في حفظي وصوني حتى تعود إلينا.
فأطرق مينا واضعا رأسه بين كفيه واضطرب اضطرابا ظاهرا، ثم رفع رأسه قائلا: أأستطيع أن أراهما؟
فقال قيرس مرتاحا: تراهما الساعة حتى تطمئن على أنهما بخير.
وصفق بيديه يدعو حاجبه، ثم قال: قد أعددت لهما حجرة فسيحة فيها كل ما تحتاجان إليه من الراحة والخدمة، فلا تقلق من أجلهما.
فهب مينا واقفا وقال: لقد غيرت رأيي، وخير لي أن أراهما بعد عودتي. خير لي أن أذهب بغير أن أراهما.
وكان صوته متهدجا وعيناه الغائرتان تلمعان ببريق شديد.
فقال قيرس مبتهجا: هذا خير لك ولهما، وهو أدعى أن تعود إلينا سريعا.
فأجاب مينا في صوت عميق قوي: سأعود بأسرع ما أستطيع.
ودخل الليل وكان الظلام دامسا، ونزل مينا بن حنا من الحصن في صحبة القائد جورج، ففتح لهما الحراس الأبواب المؤدية إلى المقابر فوق الخنادق المحيطة بالحصن، ثم أعادوا إغلاقها وراءهما، وما زالا سائرين حتى صارا تجاه الجزيرة المستطيلة، فنادى القائد قائلا: تيودور!
فخرج من ظل الشاطئ رجل يسعى حتى وقف تجاه القائد وحياه، وأخذه جورج من ذراعه وانتحى به جانبا وأخذ يهمس له حديثا طويلا، ثم أشار إلى مينا أن يتبعه إلى النهر. وبعد دقائق كان قارب سريع يشق الماء في الظلام الساكن متجها إلى الشمال نحو ميناء النهر في العاصمة الكبرى، يحمل مينا بن حنا.
ومضى شهر بعد شهر وأخذ ماء النيل في الهبوط، حتى كاد الخندق المحيط بالحصن يجف. وكان قيرس يزداد في كل يوم يأسا ويزداد صدره في كل ليلة ضيقا؛ لأنه خاب في كل ما دبره واحتال فيه، خاب في محاولته مفاوضة العرب على مال يأخذونه منه ويعودون أدراجهم إلى الصحراء، وأرسل إليه قائدهم عمرو إجابة جافة طعنت كبرياءه في الصميم. ولم يفلح في إثارة أهل مصر معه إلى الحرب. ولم يفز بمساعدة قيصر عندما طلب إليه إرسال الأمداد. وكانت مخاوفه تشتد كل يوم، إذ كانت الأنباء تتوارد إليه بأن أتباع بنيامين لا يزالون يعادونه ويقاطعونه. ولم يصل إليه نبأ من مينا بن حنا.
وكانت آخر الأنباء أن العرب أرسلوا كتيبة منهم إلى الريف، ففتحت منوف وأثريب وأوشكت أن تهزم «تيودور» في سمنود.
وكان قيرس جالسا في شرفة من شرفات سور الحصن في ليلة من ليالي القمر الباهرة في الخريف، وكان خياله يسبح في الأماني حينا، وفي المخاوف حينا، ناظرا إلى السماء الصافية، وإلى الأفق البعيد، ولا تزال بقية من مياه النيل تغمره من أقصاه وأدناه. وتذكر مينا بن حنا الذي تركه منذ ثلاثة أشهر، ولم يبعث إليه كلمة، فثقل قلبه على صدره من الشعور بالخيبة ومن الحنق، وأحس إحساسا عميقا بالخطأ الذي وقع فيه عندما آمن لهذا العدو القبطي وأخرجه من السجن راجيا أن يساعده على إعادة الوئام بين المصريين والروم في تلك الساعة العصيبة.
وفيما كان قيرس يسبح في همومه، ارتفعت صيحة من جانب النيل، ثم تلاها صوت اصطدام، وارتفع من أسفل الحصن صليل السلاح، ولمعت أنوار وهاجة سمع لها عجيج وزفير. فقام ينظر في جوانب النهر، ولكن التواء المجرى كان يحجب عنه ما وراء الثنية، فلم ير إلا وميض النار كأنه برق سحابة عند الأفق. فبعث إلى جورج قائد الحصن يستدعيه ليعرف منه مبعث تلك الصيحة، وجعل يذرع أسوار الحصن مضطربا لا يدري من ذا الذي يلقي النار الإغريقية على سفن الحراسة وأبواب الحصن، فإن تلك النار سر لم يتعلمه بعد أهل الصحاري.
ومضت ساعة طويلة قبل أن يجيء إليه جورج، يهمرج في مشيته، والسلاح يقعقع فوق جسمه الضخم. فبادره المقوقس سائلا في لهفة: من هؤلاء الذين يقذفون علينا اللهيب؟ هل عرف العرب سر القذائف الإغريقية؟
فأجاب القائد لاعنا: ليسوا سوى هؤلاء القبط الذين يظهرون في هذه الأيام ما في قلوبهم من الغل، هي سفنهم التي اعتادت في الليالي الأخيرة أن تهوي إلى الحصن في مثل هذه الساعة لتعترض السفن الآتية إلينا بالمئونة.
فقال قيرس في غيظ: وأين جنودي؟ أما تستطيع يا جورج أن تطحن هؤلاء؟ حتى هؤلاء القبط لا تقدر عليهم؟
فقال جورج في غيظ: لقد كدت أقبض عليه بيدي، ولكنه فر قبل أن أدركه. الشيطان والنار والجحيم! لقد فر قبل أن أدركه.
فقال قيرس في لهفة: من هو؟
فقال القائد في حقد: مينا بن حنا! اللعين مينا!
فصاح قيرس: مينا!
ثم غص بريقه فلم يستطع أن يواصل صيحته.
واستمر جورج في لعنه وصخبه ...
وصاح قيرس من بين أسنانه هو الآخر: اللعنة! اللعنة! هاتوا أمه وأخته! العذاب لهما!
ثم مضى وهو يلهث مما في صدره من الضيق.
آكل المرار وهند
«العاطفة الثائرة لا تعرف الاعتدال في حبها كما لا تعرفه في قسوتها.»
لم يكن حجر بن عمرو بالرجل الذي يعرف التردد. كان وجهه ينم عن أنه كان بين الرجال مثل نمر الغابة، قاسيا صلبا، يعرف الغرض الذي يرمي إليه ثم يسير نحوه في سرعة وخفة واحتراس، حتى إذا أتت اللحظة الحاسمة وثب على فريسته فصرعها ثم أخذ يقضم لحم أكتافها في شره. وكان الناظر إليه يحسب أنه يتحفز دائما للوثوب، فقد كانت شفتاه تنفرجان عن ثناياه مثل وحش يكشر عن أنيابه، وكانت عبسته الجاهمة لا تفارق جبينه، وتخط فيما بين حاجبيه أخدودا عميقا مظلما.
وكان الشتاء قد أوشك أن يمضي، وتنفست في الغدوات نسمات الربيع، واستقر عزم حجر على أن يسير إلى الغزو مع أتباعه من شيوخ القبائل الذين اجتمعوا له من نجد وأطراف اليمامة. كان كل شيخ يظل تحت علمه قبيلته وحلفاؤها، ثم يسيرون جميعا وراء حجر بن عمرو حيث سار، واثقين من أنهم سيفوزون معه بالنصر دائما. ولم يكن هؤلاء الشيوخ سوى صور مكررة من حجر، وإن كانوا قد أذعنوا له واتخذوه زعيما. كانوا جميعا من المغامرين الذين لا يعرفون التردد ولا يخشون الموت. وكانت عادة حجر إذا عزم على غزوة بيت أمرها مع أصحابه، فأعدوا لها الرواحل والخيول في حذر وكتمان، حتى إذا تم لهم ما أرادوا لم يطيقوا صبرا عن السير. فكان حجر يسارع إلى الرحيل بهم في أول الليل أو في وسطه، والظلام ضارب أطنابه في أطراف الفلاة، حتى يأخذوا عدوهم على غرة قبل أن تبلغه الأنباء عن الخطر الزاحف إليه.
ولكن حجرا عندما بيت مع أصحابه غزو البحرين كان على غير ما اعتاد من قبل في غزواته، فإنه بعد أن أعد عدته وأتم تدبير خطته، جعل يتردد ويطاول ويؤجل. وتهامس أصحابه فيما بينهم، فقال بعضهم لبعض إنه قد تغير ودب إلى قلبه الخوف من الحروب. وأفضى بعض أصحاب حجر إليه بما يتهامس به الناس عنه، فغضب وثار وهدد، وهاله أن يتهم بالخوف من الحرب وهو حجر بن عمرو، ودفعه الغضب إلى أن يعزم على السير إلى الغزوة من ساعته. وكان الليل قد تصرم وبدت في الشرق أضواء الفجر، ودبت الحياة في الفضاء الساكن الفسيح عندما بدأ السير.
كانت أنفاس الربيع تهب على منازل كندة من مروج نجد تحمل معها عطور الخزامى والشيح والعرار، وخرج حجر من خيمته ونادى في أصحابه إنهم سائرون من ساعتهم إلى الشرق نحو البحرين. ولكنه كان مع ذلك موزع القلب ثائر الشجن ينازعه قلبه إلى البقاء. وخرج الفرسان سراعا من خيامهم حتى ملئوا رحاب الأودية، ولكنه عاد إلى خيمته ليودع امرأته قبل أن يسير.
لم يعرف حجر الحب إلا منذ تزوج تلك الزوجة الحسناء، ومنذ عرف الحب عرف الحنين والرقة. ومن أجل ذلك الحب كان يطاول أصحابه ويؤجل يوم الغزوة الأخيرة يوما بعد يوم.
وكانت هند الجميلة واقفة عند باب الخباء مثل الأقحوانة الرطبة التي تفتحت في الصباح، وخيل إليه أن الهواء قد امتلأ منها عطرا ونورا.
وألقت بنفسها بين ذراعيه وهي باكية، وأخذت تمزج اللوم بالدعاء وتستعجل عودة اللقاء قبل أن يكون الفراق. وكان صوتها يقع في أعماق قلبه غناء مشجيا، ونظرات عينيها تنفذ إلى نفسه سحرا يكاد يقعده عن الغزوة مرة أخرى. ونزع يديها من حول عنقه في رفق، ووثب على فرسه مستجمعا عزيمته، بعد أن ضمها ضمة أودعها حبه الغامر الشديد، وقال وهو يثب إلى ظهر جواده: أخلف عندك قلبي، فاحفظيه يا هند حتى أعود.
ثم اندفع يعدو نحو أصحابه في عنف، كأنه يريد أن يبعد عن نفسه التردد الذي كاد يلوي عنان فرسه نحو الخباء الحبيب.
ولما سار الجيش وراء حجر كانت الشمس ترسل أول أشعتها من وراء الأفق طالعة على الفضاء الرحب الذي يسيل بأعناق المطي. فالتفت حجر وراءه إلى أقصى الأفق، ليتزود بنظرة من معاهد الحب قبل أن يغيب عنها، واهتز واضطرب وعاودته شجونه، وثار به وجده، وود لو كانت هند تسير معه فيأمن عليها العوادي، وتكون في كنفه يدفع عنها بنفسه ويقيها بحياته.
ما زال حجر يحدث نفسه عن هند وفراقها حتى كادت تجثم على نفسه الوساوس، لولا أنه أزاحها واثقا من أنه لن يقضي في غزوته إلا أياما ثم يعود إليها فيجدها تنتظره وتفتح له ذراعيها تهنئه بالانتصار.
وسار في طليعة الجيش، وأقبل على أصحابه يسمع منهم ويحدثهم، وينظر في الأمور يوردها ويصدرها بما تعود الجميع من حزمه وصرامته. وصارت صورة هند إذا عاودته بعد ذلك زادت عزيمته مضاء وقوة. وما زال حتى انتهى به السير الطويل إلى البحرين، وبات ليلته قبل الزحف الأخير يدبر الأمر مع أصحابه ليهبطوا على عدوهم من كل جوانبه، فلا تطلع الشمس حتى يكون شط البحر جميعا موطئا لخيلهم، وحتى تكون خزائن اللؤلؤ كلها غنائم طيبة ... يختار منها ما شاء من الفرائد هدية لهند الحبيبة.
وفيما كان الأمراء يعبئون الجيش ويقسمون كتائبه ويشدون ألويتهم في أطراف الرماح، طلع عليهم راكب من الظلام وقد شق قميصه وهو يصيح: أدركوا منازلكم فقد أحاط بها العدو!
ثم أخذ يحدثهم عن العدو الذي تسلل إلى الديار في غيبتهم فسلب الأموال وسفك الدماء. ثم قص عليهم أسر هند. لقد كان أول هم العدو أن يحيط بخباء هند فجعلها أثمن غنائمه، وأردفها وراءه على فرسه البيضاء، ونجا بها قبل أن يدركه أحد من آل حجر أو أتباعه المخلصين. ولم يصبر حجر ليسأل طويلا عن حديث الغزوة، فقد كان أول همه أن يبادر إلى العدو ليستخلص منه زوجته وحبيبته الحسناء.
وطلعت الشمس على جيش حجر وهو يحث مطاياه عائدا بجيشه نحو الغرب يطلب منازله في نجد، لعله يدرك عدوه قبل أن ينجو بما غنمه منها. وكان حجر صامتا ينفث في أنفاسه سما، ويهوي على دابته بالسوط وهي تنهب الأرض، ولا يزال يستبطئها ويعنف في القسوة عليها. وبعد أيام بلغ هضاب نجد وطالعته رياحها العاطرة، ورأى رمالها صفراء ناعمة لا أثر عليها ينم عن الغارة التي شنها عليه عدوه الحانق. ولكن امرأته لم تكن هناك. وكان أول همه أن يرسل رجلين في آثار العدو يتحسسان أخباره، ويريان كيف أصبحت هند معه وكيف صارت إليه حالها. وكان قلبه يذوب كلما تصور ذلك العدو القاسي يسومها الذل والعذاب في أسره.
وقضى أياما في عذاب لا يذوق نوما، وهل ينام من يعلم أن حبيبه يعاني مرارة الأسر ويتجرع غصص الفراق؟ وعاد إليه رسوله سدوس بعد أيام يحمل إليه الأنباء، وأخذ يحدثه في ضوء القمر بين الكثبان العفراء، وسمع حجر سدوسا يتكلم وكان شاخصا ببصره في الفضاء يكاد بريق الغضب في عينيه يلمع في ضوء القمر الوضاء، وأخذ سدوس يصف له كيف تسلل إلى جيش العدو في الليل، وكيف زحف على الرمال حتى صار وراء خيمة هند وسمع حديثها مع العدو الذي اختطفها. وكان كلما أفاض في وصفه تلوى حجر كأن النار تتقد في حشاه، يقبض يده تارة ويبسطها، وينزع حبوته مرة ثم يشدها، حتى قال له سدوس: ثم دنا زياد من هند!
فصاح حجر مقاطعا: مهيم! ويحك، أتقول إنه دنا منها؟
واستمر سدوس في حديثه فقال: نعم، دنا منها فاستقبلته مرحبة!
فصاح حجر قائلا: ويلك، أتقول إنها رحبت به؟
فقال سدوس: ثم أهوى إليها بقبلة.
فهب حجر من مجلسه كأنه قد لسعته أفعى، وقبض في يمناه قبضة من غصن مرار كان في جواره، فقطعه بأسنانه وجعل يلوكه، وقال وهو يهدر غضبا: ويل أمه وويل لك! ماذا تقول يا سدوس؟
فقال الرجل وقد خشع خوفا: إذا شئت أن أمسك عن الكلام أمسكت.
فقضم حجر قطعة من المرار وجعل يحطمها بأسنانه ويلوكها، ثم قال بصوت مختنق: بل امض في حديثك لا أم لك ...
فقال سدوس في شيء من التردد: وقال لها زياد: «ما ظنك الآن بحجر؟ أتودين لو جاء مسرعا في أثري؟ أتودين العودة إليه؟»
ثم توقف سدوس عن الحديث ونظر نحو الزوج الثائر.
فصاح حجر وهو يلوك المرار ويلفظه: ما لك تقف؟ امض في حديثك لا أم لك. امض لا أب لك! وقل بما أجابت المرأة.
فقال سدوس مطرقا: فارتمت هند بين ذراعيه ...
فلفظ حجر عند ذلك قطعة من المرار كان قد حشا بها فمه، ثم دفع سدوسا في صدره دفعة ترنح لها، وصرخ قائلا: أمسك لسانك فما لي قوة على سماعك.
ثم ولى وهو يزمجر بصوت أجش مخيف: الفاجرة! الخائنة! القطع! الإحراق!
وسار يخبط الأرض برمحه في عنف حتى بلغ خيمته وجعل يعبث في متاعها ويقلب ما في أركانها ليجمع منها سلاحه ودروعه. ثم هدأ فجأة وتمالك جأشه، وخرج حتى كان عند باب الخيمة فوقف شاخصا إلى الفضاء متكئا على رمحه ونادى سدوسا وفي صوته رقة وقال له: أقبل يا سدوس، فقد عنفت عليك.
فأقبل الرجل حتى وقف تجاهه، ونظر نحوه وهو صامت، فقال حجر يحدثه في صوت متهدج: لست تعلم يا سدوس أي طعنة أصبت بها فؤادي بحديثك. إن ضرب السيوف ووخز الرماح لم يزعزعا يوما جناني كما زعزعته كلماتك، وإن كنت لا آلوك شكرا على نصحك.
ثم تخاذل فارتمى على صخرة ووضع رأسه على قبضة يمينه، وأطرق قائلا: قل يا سدوس ما عندك. امض في حديثك يا سدوس.
فقال سدوس: لم يبق إلا ما قالته هند وهي بين ذراعيه ...
فقال حجر: قل ولا تخف يا سدوس. قل فإن الكي يريح القرحة الداوية.
فاستمر سدوس في صوت خافت: فقالت هند: «لم أبغض شيئا في الحياة مثل بغضي له.»
فصاح حجر في صوت حانق: تبغضني هند كما لم تبغض شيئا في الحياة؟ أقالت هذا وسمعته بأذنيك يا سدوس؟
فقال سدوس في تردد ورقة: لقد علمت أن الرائد لا يكذب صاحبه.
فتنفس حجر كأنما صدره ينفجر، ثم قال: أهند من بين النساء، أم هن كذلك يا سدوس؟ أتبغضني هند وتفضي إلى عدوي بذلك وهي بين ذراعيه؟ أي شيء في الحياة يحرص عليه الرجل بعد هذا؟ أهذا مبلغ الوفاء عند هند؟
وسكت لحظة كأنه يستعيد صورا ماضية لكي يقرنها بالصورة التي حملها إليه صاحبه. أهذه هند التي أمتعته بأشهى ما يمتع النساء الرجال؟ أهذه امرأته التي كان يجد السلام في قربها بعد أن تجهده الحروب؟ أهذه هي الحبيبة التي ودعها عند باب الخيمة وهي تبكي؟ أهي التي استودعها قلبه ريثما يعود؟ أي الصورتين تتمثل فيها الحقيقة، وأيهما يتدسس إليها الكذب المسموم؟ أكانت تخادعه وهي تضمه إلى صدرها، أم هي تخدع زيادا وهي بين ذراعيه؟
واتجه عند ذلك إلى سدوس في شيء من الريبة، وقال يمتحن صدقه: تقول إنك سمعت قولها يا سدوس؟ أسمعتها بأذنيك؟
فقال سدوس خاشعا: نعم سمعتها، ولم أشأ أن أعود إليك إلا بالخبر اليقين.
فقال حجر وقلبه يغوص في صدره: إذن فامض في قصتك وقل لي سائر الحديث، ولا تحجب عني شيئا من قولها. قل ما سمعت وإن كان كل حرف منه يطعن قلبي.
ومضى سدوس يتحدث كأنما يهمس لنفسه، وكلما بلغ موضعا يظن فيه مثارا للألم المبرح في قلب صاحبه تريث وتردد، ونظر إليه خاشعا كأنه يخشى منه سطوة الغضب والانتقام، ولكن حجرا كان سادرا يلوك المرار ويلفظه، ولا ينطق إلا بزفرات مكتومة كأنها حشرجة المطعون. ثم قال سدوس: وجعلت تصفك قائلة: «إنه شديد الكلب، تزبد شفتاه كأنه بعير أكل مرارا!»
فلفظ حجر قطعة من المرار كان يلوكها، وقال كأنه ينفث سما: نعم، ما أنا إلا بعير أكل المرار. امض يا سدوس، امض في قصتك وأتم لي حديثها.
فاستأنف سدوس ولا يزال في خشوعه: ثم قالت له: «لقد عرفته أحزم رجل نائما ومستيقظا. إن كان لتنام عيناه وبعض أعضائه مستيقظ. ولقد رأيته ذات ليلة نائما وأنا أنظر إليه، فإذا أفعى تقبل عليه، فلما بلغت رأسه نحاه عنها، فمالت إلى يده فقبضها، فمالت إلى رجله فحركها، فذهبت الأفعى إلى عس لبن كان إلى جانبه فشربت منه، فقلت يستيقظ فيشربه فيموت ...»
فصاح حجر كأن الأفعى قد عضته وقال: أمسك أمسك يا سدوس، هذه آية لا يدخل إليها الريب في صدقك. نعم، إني لأذكر ذلك وأعرفه. لقد صحوت من نومي فرفعت العس لأشرب منه فوجدت فيه ريح الأفعى، وسألتها عنها فأنكرت أن ثمة أفعى. لقد رأتها الشقية تنفث سمها في اللبن وودت لو أني شربته.
ثم اندفع خارجا من الخيمة كأن خبلا أصابه، وصاح في أتباعه يستنفرهم للقتال ... •••
وانتهى القتال إلى غايته، وهزم حجر جيوش زياد، وعاد بعدوه وامرأته الخائنة أسيرين، وكان أول همه أن يرى هندا في الخباء. •••
ودخل عليها فقامت إليه تستقبله، وكأنها لم تر بريق عينيه ولا تقلص شفتيه، وكأنها لم تسمع فحيح أنفاسه الملتهبة ولا دقات قلبه الحانق. ومدت نحوه يديها كأنها تريد أن ترتمي بين ذراعيه، فاقترب منها جاهما فوجمت إذ نظرت إلى وجهه، وشخصت ببصرها إليه، وثارت في نفسها كل صور الماضي البعيد والقريب، ولم تستطع أن تنطق حرفا، وترددت ثم أطرقت وردت طرفها عن وجهه هاربة من نظراته الثائرة.
فصاح بها حجر وفي صوته الأجش المخيف تهدج وتقطع: هلمي إلى ذراعي يا هند. ما لي أراك لا تقبلين على زوجك الحبيب؟
فرفعت عينيها إلى وجهه المربد تريد أن تقرأ ما عليه، فلم تجد إلا دما وسما ولهيبا، فعادت إلى إطراقها واضطربت وقالت في ضراعة: هل للأسيرة إلا أن تذكر عارها؟
فاندفع حجر وقد ملكه الغضب، فمد يده إلى كتفها فهزها هزة عنيفة وقال في صيحة مكتومة: هل للأسيرة أن تفتح ذراعيها لمن يأسرها؟ هل للأسيرة أن تقبل من سباها؟ تكلمي يا ابنة ظالم. تكلمي يا دنس الحرائر ...
فرفعت إليه رأسها مبهوتة وقالت صارخة: كذبت أو صدقت الكاذب.
فترك حجر كتفها وارتد إلى الوراء قليلا، وقهقه ضحكة مخيفة وقال: انظري يا هند إلى شفتي، أليستا كشفتي البعير إذا أكل المرار؟ نعم انظري إليهما، فقد بالغت في أكل المرار، وهاتان شفتاي مقلصتان أيتها الخائنة!
فأجابت هند وهي تستجمع قوة جنانها: ما حديثك هذا الذي تتحدث به؟ أهكذا تستقبلني بعد نصرك؟ لقد كان بودي لو قتلت قبل أن أقع في يدي هذا اللئيم.
فأعاد حجر ضحكته المخيفة وقال: وما الأفعى التي كنت لم تريها؟ لقد شممت ريحها في العس، ولكنك أنكرت رؤيتها. هل علم بهذا الحديث سواك؟ أكاذب من يروي هذه القصة عنك؟ ألم تخبري بها زيادا وأنت بين ذراعيه؟ لقد كان سدوس وراء الخيمة يسمعك إذ تحدثينه ويراك وأنت تداعبينه.
وكان غضبه قد ملكه عند ذلك، فدفعها في صدرها دفعة ترنحت لها وخرت باكية عند قدميه، وقالت بين دموعها: ذل الأسر أذهلني!
فانتفض حجر عند ذلك وخرج مسرعا من الخباء لا يرى شيئا أمام عينيه. ثم نادى عبدين وأمرهما أن يعدا له فرسين من أشد خيله عدوا.
ولما أحكم رباط هند في ذيل الفرسين أهوى عليهما بسوطه حانقا، فوثبا وثبة تطايرت لها الحصباء، وانطلقا يعدوان على الوادي الوعر ومن ورائهما جثة تتخبط فوق الصخور حتى غابا عن عينيه، ووقف عند ذلك شاخصا ببصره إلى الفضاء وقد أمسك بأعلى عمود خيمته ومال برأسه على ذراعه الممدودة، وقال لسدوس يحدثه في صوت متهدج حزين: كانت يا سدوس إذا نظرت إلي كأن الفجر يتنفس في الظلماء، وإذا أقبلت كأن نفحات الصبا تهب في أعقاب القطر، وإذا تنسمت ريحها كأن الربيع يفتح أكمام الخزامى والعرار، وإذا تحدثت إلي كأن الطير يغني عند الأصيل، وإذا ضممتها إلى صدري ... أف يا سدوس، ابعد عني، فإني أكاد أحترق!
ولوى عند ذلك وجهه، ومسح بيديه دمعة فرت من عينيه، ثم تهالك على جذع نخلة إلى جانبه، وقال يحدث نفسه:
إن من غره النساء بشيء
بعد هند لجاهل مغرور
حلوة العين والحديث ومر
كل شيء أجن منها الضمير
ثم تمالك نفسه بعد لحظة، وقام وقد عاودته ثورته، وقال مقهقها وهو يندفع خارجا إلى الفضاء:
كل أنثى وإن بدا لك منها
آية الحب حبها خيتور
ثم أسرع ووثب على جواد وألهبه سوطا، واتجه نحو الخيمة التي بها أسيره زياد، ليتم انتقامه لقلبه المفجوع.
العقد المبارك
«الإيمان والحب هما شطرا الإنسانية.»
ودخل عمرو بن هشام متجهما على أبي العاصي وهو في فناء داره بعد أن أذن له، وكان من ورائه جمع لا يقل عنه تجهما وتحديا، واستقبلهم أبو العاصي قائما ينظر في وجوههم ثابتا ومد إليهم يده مصافحا وهو صامت.
وقال عمرو بن هشام: أظنك تعرف ما جئنا له يا أبا علي.
فقال أبو العاصي: هلا جلستم أولا!
فقال عمرو في جفاء: لم نجئ لنجلس يا أبا علي، فقد تطاول الحديث بيننا بغير طائل. لم نجئ إلا لنسمع منك الكلمة الأخيرة.
فقال أبو العاصي: يعز علي أن أجيبك بما في نفسي وأنت في بيتي يا أبا حنظلة. فهل جئتم إلي منذرين إذن؟
فتدخل الوليد بن عتبة قائلا: نعم، جئنا إليك منذرين يا ابن الربيع. فأنت تخرج على قومك وتخذلهم، ولا ترضى أن تستمع إليهم. نعم، جئنا إليك مع صديقك هذا الذي يردنا ويدافع عنك في كل موطن وأنت تأبى إلا أن تكون مع عدونا.
فقال أبو العاصي هادئا: إذن فأنت تعرف رأيي يا ابن عتبة ولا حاجة بي إلى إعادته. وإذا كان ولا بد من الحديث ونحن وقوف هكذا فإني أعيد عليكم كلمتي الأولى: لن أسمح لأحد أن يتدخل في خاصة أمري، ولن يستطيع أحد أن يفرق بيني وبين أهلي.
فصاح الوليد بن عتبة: أما قلت لكم إنه عدو يقيم بيننا؟ ها هو ذا يقول كلمته الأخيرة ولا حاجة بنا إلى البقاء هنا.
فقال عمرو حانقا: فأنت يا أبا علي تردنا ردا أخيرا. أنت تريد الإبقاء على ابنة محمد معك وأنت تعلم أنني بدأت ففرقت بين ولدي وبين ابنتي محمد رقية وأم كلثوم. ماذا تنتظر يا أبا علي حتى تجتمع مع قومك على رأي واحد؟ ألست تاجرا تخشى على تجارتك؟ ألست من سادة قريش فتخشى أن يتخلى عنك قومك؟ أتحرص على امرأة وتخاطر بجميع أهلك وعشيرتك؟
فقال أبو العاصي هادئا: وماذا لكم أنتم في امرأتي؟ أينبغي لأحد أن يقول لك اذهب إلى امرأتك فطلقها؟
فصاح رجل من الجمع قائلا: أبهذا تجيب سيد قريش يا ابن الربيع؟
فنظر إليه أبو العاصي هادئا وقال: ومن أنت في قريش يا أسود؟!
فصاح الأسود المخزومي في شراسة: وحق مناة ما جئت إلى هنا إلا لأرغم أنفك.
فقال أبو العاصي غاضبا: والله ما أصبر عليك إلا لأنك في بيتي.
واتجه إلى عمرو بن هشام قائلا: ألمثل هذا جئتم اليوم إلي في داري؟ ألا فاعلم يا أبا الحكم أن أنفي لا يرغم وأن شوكتي لا تلين. ولو شئت أن أخرج إلى المدينة لألحق بمحمد لفعلت ولم يجرؤ أحد على أن يتعرض لي. ولكني أقيم هاهنا في مكة حتى لا أفارق قومي ولا أخذلهم. فإذا أبى قومي إلا أن يذلوني فإني أقدر على الانتصاف لنفسي.
فقال عمرو بن هشام في شيء من السخرية: كل هذا من أجل امرأة؟
فصاح أبو العاصي ثائرا: لن أسمح لك أن تعيدها يا ابن هشام. أنت تعرف من هذه المرأة التي تتحدث عنها؟ فهي إذا لم تكن ابنة محمد فإنها ابنة خالتي. إذا لم تكن زينب امرأتي وقفت دونها أحميها لأنها من دمي ومن عرضي. لن أطلق امرأتي، ولقريش أن تفعل ما تشاء إذا شاءت عداوتي. أترون قولي هذا واضحا صريحا!
فتصاعدت من الجميع أصوات حانقة واضطربوا في غيظ، وصاح الوليد بن عتبة : ها هو ذا يتحداكم.
وصاح الأسود بن عبد الأسد المخزومي: إنه مع محمد.
وقال عمرو بن هشام: ستعرف يا ابن الربيع أنك قد أسأت إلى نفسك، ولن ينفعك محمد إذا نبذتك قريش وخلعت عنك حمايتها. لقد أعذر من أنذر.
وخرج بغير أن ينظر إلى أبي العاصي، وسار أصحابه من ورائه يتصايحون غضبا.
ولما انصرف الجمع خرجت زينب من حجرتها وكانت قريبة تسمع أحاديث القوم، فجاءت إلى زوجها حزينة وألقت برأسها على كتفه تبكي بكاء مرا. وأخذها أبو العاصي في رفق وأجلسها على أريكة في فناء الدار وجلس إلى جنبها وقال لها: لا تحزنك هذه الأحاديث يا زينب، فلن يجرؤ أحد منهم بعد هذا على معاودتها. سأجيبهم إذا عادوا لمثل هذا الحديث جوابا شافيا.
فقالت وهي تجفف دموعها: هذا ما أخشاه يا ابن خالة. أخشى هذه المصادمات التي لا تنقطع بينك وبين هؤلاء، ولا آمن أن تثور يوما فيخرج الأمر من أيدينا.
فقال في دهشة: وكيف يخرج الأمر من أيدينا؟
فقالت مترددة: ألست تراهم في هذه الأيام متحفزين في كل لحظة؟ ألست ترى الآباء يسجنون أبناءهم ويعذبونهم إذا داخلهم الشك في أنهم يميلون إلى أبي؟ فكيف آمن أن يجتمعوا عليك وأنت تواجه قومك جميعا حتى لم يبق لك فيهم أحد يأخذ بناصرك؟
فقال هادئا: أتحسبين أنهم يقدرون على تعذيبي أو سجني؟ هيهات يا زينب، فإنهم يعرفون كيف أقدر على الوقوف في وجوههم جميعا. ولست في مكة وحيدا، فإن إخوتي وأبناء عمومتي من بني عبد شمس لا يتخلون عني أبدا.
فقالت: أما نذهب إلى يثرب لنكون في مأمن هناك مع أبي؟ ماذا نريد من البقاء هنا بين هؤلاء الذين يصبحونك ويماسونك بما لا تحب ولا يدعون لك سلاما. بحق أطفالنا يا أبا العاصي، لا تبق هنا وانج بنفسك وأهلك وأبنائك إلى يثرب. ألست تحب أبي وتواجه قومك قائلا لهم إنه أكرم من رأيت؟ ما لك لا تذهب إليه وتكون من أصحابه وتترك هؤلاء الذين لا يشبهونك ولا تشبههم. دعني أناديك باسمك الذي كنت أناديك به ونحن أطفال فأقول لك: هلم بنا يا ياسر فلنخرج إلى المدينة، إلى يثرب، كما خرج الذين رفضوا ظلم قريش وكبرياء قريش وجهالة قريش.
وكان أبو العاصي مطرقا يستمع إليها وعلى وجهه ما يشبه الحزن والتردد، ثم رفع رأسه بطيئا وقال لها: صدقت يا زينب فيما تقولين، وما أحب إلي أن أسمع صوتك وأنت تقولين لي يا ياسر كما كنت تنادينني ونحن صبية. إنني أذكر خالتي الحبيبة أمك التي كانت تحبني مثل ولدها، ولا أستطيع أن أنسى عطفها ونبلها، وما زال صوتها العذب يرن في أذني كأنني أسمعه في نبرات صوتك.
ومد يديه إلى يدها فأخذها بين كفيه وقال وهو ينظر في عينيها: وما أزال أذكر يوم ذهبت إلى أبيك أسأله أن يقبلني زوجا لك، وكان أسعد يوم في حياتي. ولو طاوعت نفسي لما فارقته لحظة، بل لكنت أول من يخرج معه.
فقالت زينب: وماذا يحول بينك وبين ذلك يا ياسر؟ أيسرك أن تبقى هاهنا لتسمع هؤلاء كل يوم يقولون لك: «طلقها!»
وأطرقت حزينة. فضغط على يدها بكفيه قائلا: لن يفرق شيء بيننا يا زينب ما دمت حيا، وهذا أول عهد قطعته لخالتي. ألا تذكرين يوم جاءت بهذا العقد الذي أراه حول عنقك؟ كانت ساعة لا أنساها وأنت واقفة بيني وبين أبيك مطرقة من الخجل، فجاءت السيدة النبيلة أمك ووضعت هذا العقد حول عنقك قائلة: «هذا تذكار مني.» ثم نظرت إلي قائلة: «هذا تذكار مني يربط بينكما.» ألا تذكرين ما قلته لها عند ذلك؟
فقالت زينب بصوت متهدج: أماه!
فقال أبو العاصي: «لن يفرق شيء بيننا يا زينب ما دمت حيا.» هذا ما قطعته على نفسي أمام خالتي.
فقالت زينب: إذن فماذا يمسكنا هنا؟
فقال: أنت تعرفين أني شاركت في تجارة أبي سفيان بكل أموالي، ولو خرجنا الآن إلى يثرب لذهبنا إليها بيد فارغة وفرحت قريش بالأموال ولم يهمها خروجنا. وماذا نصنع بولدينا هذين: علي وأمامة؟ وماذا نصنع بالجنين الذي سنسعد بوفادته إلينا بعد قليل؟ لا تقلقي يا زينب حتى يعود أبو سفيان وعند ذلك سنهاجر إلى يثرب كما تشائين. لن يطول غياب أبي سفيان، فموعد عودته بعد أيام.
وما كاد أبو العاصي يتم حديثه حتى قرع سمعه صوت يصيح من بعيد صيحة فزع عالية، فقام مسرعا وقالت له زينب: ما لك أنت بهذه المعارك التي تثور كل يوم يا أبا العاصي؟
فقال وهو يجمع عليه ثوبه: ليس هذا صوت معركة. إنه صريخ ينادي بكارثة.
وأسرع خارجا، ووقفت زينب ترهف سمعها إلى الصوت فإذا هو يعيد نداءه في فزع: «الغوث! الغوث! أدركوا تجارتكم يا معشر قريش!»
وتهالكت زينب على الأريكة خائرة القوى، لا خوفا على أموال زوجها بل خوفا على الأمنية التي كانت تتمناها. فلن يقعد أهل مكة عن الخروج لمساعدة أبي سفيان، ولن يستطيع أبو العاصي أن يتخلف عن الخروج.
وبعد ساعة قصيرة عاد أبو العاصي إلى بيته ليستعد للسير من ليلته مع شباب مكة وكهولها وشيوخها، فقد تعاهدوا جميعا على الذهاب لنجدة أبي سفيان وتخليص أموالهم من العدو الذي يحاول أخذها.
وسألت زينب في فزع: ومن يكون ذلك العدو يا أبا العاصي؟
فقال في تردد: أبوك يا زينب.
وصمتت زينب فلم تجبه بكلمة، وصمت أبو العاصي فلم يقل كلمة، وأخذ يستعد بسلاحه ودرعه حتى يخرج مع أهل مكة بعد ساعة.
وبقيت زينب وحدها نهبا للقلق والألم لا تدري ماذا يطلع به الغد ولا ماذا تستطيع أن تفعل، فقامت لتتوضأ ثم أخذت تصلي وتدعو الله في حرارة أن ينجي زوجها وأن يحفظ أباها.
ومرت عليها الأيام بطيئة أليمة وهي لا تدري ماذا دبرت لها المقادير في نجاة زوجها وسلامة أبيها. ستكون المصادمة بين المسلمين وبين أهل مكة، وهي مصابة في كل حال إذا أصيب جانب منهما. وكانت في كل ليلة تقضي ساعة طويلة في الصلاة تدعو الله أن يحفظ لها زوجها وهي لا تدري ماذا يكون مصيرها في تلك المعركة التي نشبت على حين فجأة.
ثم بدأت الأنباء تتوارد على مكة بأن المسلمين انتصروا نصرا عظيما، وأن أبطال قريش هلكوا في المعركة. واضطربت المدينة بمن بقي من أهلها شيوخا وصبية ونساء، فكانوا كل يوم يخرجون إلى الأودية المحيطة بمكة يتلقفون الأخبار لعلها تحمل إليهم ما يذهب عنهم بعض الخوف الذي خيم عليهم، ولكن الأنباء لا تزيدهم إلا خوفا وجزعا.
وسمعت زينب طرقا عنيفا على بابها في ليلة مظلمة، وكانت السماء غاضبة ترسل أمطارها غزيرة والسحب السوداء تغطي وجه السماء، والرعد يقصف بين البروق التي تشق كبد السماء القاتمة. وقامت زينب متوجسة فسألت: من الطارق؟
فأجابها من الخارج صوت أجش: أنا عمرو بن الربيع.
فصاحت في فزع مكتوم: عمرو!
وفتحت الباب فإذا عمرو أخو زوجها يقف أمامها ثابتا ووجهه ينطق حنقا وحزنا. وكانت قوسه معلقة فوق كتفه وسيفه معلقا في حمائله بعنقه، وفرسه يحمحم مضطربا من ورائه.
فقالت زينب: ماذا حدث لياسر؟
فقال عمرو: تركته أسيرا عند محمد.
فصاحت في صوت مضطرب: معافى؟
ثم استندت إلى الباب خوفا أن تسقط على الأرض من الدوار الذي ألم بها.
فقال عمرو: سأعود إليك في الصباح بعد أن أضمد جراحي.
وسار يجر فرسه وهو يعرج حتى بعد قليلا عن الباب، ثم تحامل فركب وغاب عنها في الظلام تحت المطر المنهمر.
وقضت زينب ليلة ساهرة بين الصلاة شكرا لله على نجاة زوجها وبين الحيرة في أمر أسره. فماذا تستطيع أن تفعل حتى تفك أسره؟ وماذا يقول أبوها إذا هي أرسلت إليه تسأله أن يمن عليه بالحرية؟ بماذا تستطيع أن تعتذر عنه لأبيها وقد ذهب إليه مع الأعداء ليحاربه؟ وهل حقا رضي أبو العاصي أن يجرد سيفه لحرب أبيها وهو يقول إنه أكرم من عرف؟ وأخذت تسائل نفسها كيف تستطيع أن تفتدي زوجها وهي لا تملك من الأموال شيئا. فالتجارة مع أبي سفيان، وهي لا تدري هل وقعت في أيدي المسلمين غنيمة أم استطاع ذلك الداهية أن ينجو بها. وما زالت تعيد في ذهنها مئات من الأسئلة التي لم تستطع أن تهدأ عنها مع كل الصلوات التي كانت تحاول أن تهدئ بها مخاوفها .
وطلع الصباح آخر الأمر، وهدأت ثورة السماء، وصفا الجو، ولمعت الشمس في الأفق، وكانت طرق مكة زاخرة بالجموع المتزاحمة التي لا حديث لها إلا عن الهزيمة الشنيعة التي أصابت القوم. وكان المنهزمون يعودون أفرادا وفي جماعات صغيرة ويسرعون إلى بيوتهم ليداروا وجوههم عن الأبصار وليضمدوا الجراح التي أصابتهم في المعركة الدامية. وبدأت الأصوات تتعالى من أركان المدينة بالنواح على القتلى من أبطال قريش وسادتها. وجاء عمرو بن الربيع يطرق باب زينب زوجة أخيه، وكانت زينب تنتظر قدومه في قلق، فما رأته حتى بادرته قائلة: كيف السبيل إلى خلاص أبي العاصي؟
فنظر إليها عمرو صامتا ولم يحر جوابا.
فقالت زينب: متى تعود القافلة بالتجارة؟
فقال عمرو وقد فطن إلى قصدها: وماذا تفيدنا القافلة أو التجارة؟ لقد وهبها أهل المدينة للاستعداد لمعركة جديدة. قد تعاهد الجميع على أن ينزلوا عن أموالهم في تلك التجارة ليستعدوا للانتقام من محمد وأصحابه.
فوجمت زينب وخاب أملها في تخليص صاحبها، وبقيت لحظة صامتة، ثم رفعت يدها تلمس جانب صدرها، تلمس العقد الثمين الذي وهبته لها أمها.
ووقفت تفكر حينا وتسأل نفسها: ماذا تستطيع في تخليص زوجها؟ أيليق بها أن تتخلى عن عقدها الثمين ليكون فداء له؟ لقد أهدته الأم النبيلة إليها ليكون رباطا بينها وبين زوجها، وها هي ذي تحتاج إلى فداء ليعيد إليها زوجها. أليست هذه مكرمة من مكرمات الأم بعد موتها؟ ونظرت إلى عمرو بن الربيع فقالت له: كم يساوي هذا العقد يا عمرو؟
فقال في دهشة: وماذا تقصدين بسؤالك هذا؟
فقالت: أقصد أن أبيعه لأفتدي به زوجي.
فقال عمرو وهو ينظر إليها في دهشة وإجلال: أتريدين بيعه؟
فقالت: إذا كان يستحق ثمنا.
فقال عمرو: إنه لؤلؤ نفيس، لا أظن أحدا في المدينة يعرف له ثمنا. ومن ذا يشتري هذا العقد في مثل هذا اليوم؟
فقالت زينب: أما تسومه يا عمرو؟
ثم خلعته ونظرت إليه في حنين وهي تمد به يدها إلى عمرو.
فقال عمرو: ولم نبيعه يا أم علي، ألا أذهب به إلى أبيك لأقدمه إليه فداء؟
ففتحت عينيها مدهوشة وخطر لها خاطر سريع، فإن أباها سيعرف العقد إذا رآه.
وهناك في يثرب ذهب عمرو بن الربيع يطلب فداء أخيه، وبقيت زينب في دارها تنتظر عودة عمرو في قلق، وزادها حزنا وخوفا أنها تحققت من عزم قريش على جعل ثمن التجارة التي أفلتت من المسلمين وقفا على الإعداد للحرب المقبلة. وماذا يجديها أن يعود ياسر زوجها ليستعد مع قومه مرة أخرى للمعركة الجديدة؟
وكانت مكة كلها في حداد لا يكاد يخلو بيت من بيوتها من النواح على فقيد أو أسير، كل أسرة مشغولة بما أصابها، والمدينة كلها تتقد من الغيظ وتتحرق للانتقام. فألح على زينب القلق ولم تجد إلى جنبها من يدخل عليها شيئا من الأنس، وقضت أياما طويلة في عزلة مظلمة، ولكنها كانت تجد العزاء والصبر كلما فرغت من الصلاة وتمثلت زوجها عائدا إليها، وكلما تمثلت أباها في المدينة آمنا منتصرا. وبدأت تتجلى لها الحقيقة، أن الله قد استجاب لها فأنقذ لها زوجها وحفظ أباها، وأن الدين الذي آمنت به قد انتصر نصرا عزيزا.
وكانت مفاجأة سعيدة أن يدخل عليها ذات صباح زوجها ومعه أخوه عمرو يعيدان إليها العقد الذي بعثت به للفداء، وأخذا يصفان لها كيف تحرك أبوها رقة عندما رآه، فسأل أصحابه أن يطلقوا لها أسيرها ويعيدوا إليها عقدها. وأخذت زينب العقد بين كفيها وجعلت تقلبه صامتة وهي مطرقة، وأخذت تتأمل حباته اللامعة وتمر بأناملها عليها، ثم رفعته إلى أنفها فتشممته في شغف وهي تحاول أن تقاوم الشعور الذي أفعم صدرها. ولم تستطع أن تقاوم طويلا، فوضعت وجهها بين يديها والعقد ما يزال فيهما وأجهشت بالبكاء.
الغمرات ثم ينجلينا
«الفتوة والنبل يجتمعان كي تنشأ أمة مجيدة.»
كان لونه الأسمر الذي لوحته الشمس ينم عن أنه من أبناء الصحراء، ولكن ملابسه كانت توهم من يراه أنه أحد أبناء الشاطئ الذي يسير فوقه، شاطئ فينيقية الذي أنجب جبابرة المحيط منذ آلاف السنين. كان سرواله الطويل ينتهي من أعلاه إلى منطقة جلدية عريضة تدور حول وسطه ويتدلى منها سيفه المقوس، وكانت هامته الضخمة وقامته العالية وصدره العريض تنادي بأنه محارب تخشى سطوته، وكانت نظراته الخاطفة تلمع مثل شعاع البرق إذا تلفت حوله كالصقر الحذر، وهو يسير الهوينى على الشاطئ ينقل طرفه في الأفق كأنه يريد أن يستشف ما وراءه من الآفاق المجهولة. وسار فرسه الأبيض من ورائه بغير زمام كأنه كلب أليف أو تابع أمين، يتابع خطواته عن قرب حتى يكون على مقربة منه، رافعا أذنيه متنبها إلى كل حركة من حوله. وهب الهواء من جانب البحر رفيقا لا تكاد نسماته تجعد سطح الماء الأزرق الصافي الذي تنفذ العين في رفارفه إلى القيعان الرملية المتلألئة تحت ضوء الشمس في ساعة الأصيل. كان المنظر يغمر الفتى بالهدوء ويبعث في نفسه شجنا رفيقا يساير ما في فؤاده من الآمال المبهمة؛ إذ كان على وشك أن يركب هذا البحر في سرية من الشجعان ليحملوا لأول مرة لواء العرب إلى أرض الروم البعيدة.
كان عبد الله بن قيس الحارثي يتطلع إلى البراح الأزرق الذي أمامه ويفكر في الرحلة المقبلة التي عزم على القيام بها بعد قليل مع أصحابه الشبان الذين تعودوا أن يقوموا بالمغامرات الجريئة تحت قيادته، وإن كانوا لم يركبوا البحر من قبل في مثل تلك الرحلة. وأخذ يصور لنفسه ما هو مقبل عليه في مغامرته؛ إذ يضرب في آفاق تلك اللجة الواسعة مع رفاقه يطلبون المجد ويرتادون المجهول أو يلتمسون الشهادة. وكلما تمثلت له ضخامة المغامرة بأصحابه زاد شغفه بالمبادرة بها حتى لا يتخلف عن الآخرين الذين سبقوا إلى ميادين المجد والمغامرة والشهادة، وفتحوا سهول العراق وهضاب فارس وأودية الشام وأرياف مصر.
سار عبد الله ساعة غروب الشمس يتحسس ثنيات الشواطئ شاعرا بأنه سيكون أول عربي يقدم على المخاطرة بغزوة في البحار، التي لم يجرؤ عليها أحد من شجعان العرب من قبله. وكان أصحابه ما يزالون في خيامهم على سفوح الكثبان الممتدة وراء الشاطئ يجهزون لأنفسهم الزاد والعدة لأيام الرحلة الطويلة التي قد تمتد بهم إلى شهور في أرض غريبة. وكانت السفينة الرشيقة التي اعتزموا المغامرة بها رابضة في إحدى ثنيات الشاطئ، ترتفع بصواريها الخمسة فوق الصخور العالية المحيطة بالخليج.
لقد عرف عبد الله البحر منذ كان طفلا يمرح فوق رماله الصفر الناعمة ويسبح بين أمواجه التي كانت تداعبه أحيانا كأنها أرجوحة وتتقاذفه أحيانا بدفعاتها العاتية، وعرف أسفار البحر في السنابك الصغيرة التي تسير بين صخور الساحل وتشق مجراها بين شعابها المرجانية ذات الألوان الزاهية.
وكان في صباه يجد في البحر مباهج شتى تملأ قلبه سعادة، كما كان يجد فيه مخاوف تملأ قلبه روعة، ولكنه كان في كل حال يحب البحر لما فيه من مباهج ومخاوف. كانت أسفاره في أيام الصبا تطلعه على آفاق متجددة ومناظر متباينة لا يشبه أحدها الآخر إلا في أنها جميعا مناظر خلابة رائعة، كان يأنس بالبحر كلما تبسمت شمس الصباح أو تجلى البدر في الليل أو كلما تلألأت النجوم في الليالي المظلمة، وكان يعرف في أسفاره نشوة الحياة القوية التي لا تعرف الجمود والسكون. فإذا ما صفا قسيم البحر ملأ صدره من عطره القوي، وإذا ما هبت غضبته وجد في هدير أمواجه أنغاما مثيرة تملؤه بالرغبة في الكفاح. وقد علمه خوض البحر أن الصفاء لا يدوم وأن المآزق لا بد تنجلي بعد حين، قد يتحول صفاؤه إلى إعصار في لحظة، وقد تخبو أعاصيره الشديدة بعد حين وتنتهي إلى صفاء بديع.
سار عبد الله على الشاطئ يحدث نفسه صامتا بتلك الأحاديث حتى مالت الشمس إلى الأفق، وكانت بلونها الأحمر تشبه جذوة النار التي توشك أن تنغمس في الماء، وتنبه على صوت أذان المغرب ينبعث من ورائه خافقا بين تلال الشاطئ مترددا في الهواء الساكن: «حي على الصلاة!» فالتفت إلى فرسه وكان ما يزال يخطو من ورائه، حتى إذا ما صار إزاءه وثب عليه وهمزه في رفق، فوثب به كالوعل البري نحو خيام المعسكر ليدرك رفقاءه ويؤمهم في الصلاة.
ولما فرغوا من أداء الفريضة اتجه عبد الله خاشعا إلى السماء وجعل يدعو الله أن يرزقه العافية في أصحابه وأن يجعله فداء لهم إذا قدر لأحد أن يصاب في الغزوة المقبلة. ثم قاموا يستعدون للرحيل من ليلتهم متى اعتدلت الريح في تجاه بر الأناضول.
وسارت السفينة تحمل الكتيبة الصغيرة حتى غاب عنها الشاطئ ومن كان هناك من قواد الجيش الذين أرسلهم معاوية بن أبي سفيان أمير الشام ليشيعوا أول سفينة محاربة. وبعد أيام لاحت للسفينة شواطئ الروم، ووقف عبد الله يقلب بصره في السماء يشكر الله على سلامة أصحابه في تلك الرحلة الأولى. ولكنه رأى عند الأفق نقطة سوداء تلوح من بعيد كأنها سحابة غبار قاتم، ووقع في نفسه أنها من تلك السحب القاتمة التي تنذر باقتراب عاصفة. ولم تمض بعد ذلك إلا لحظات حتى انتشرت النقطة السوداء وارتفعت من حولها سحابات كأنها نفثات هائلة من الدخان تمتد في أنحاء السماء، وبدأ الهواء يضطرب وأخذ وجه الماء يتجعد، فما هي إلا ساعة حتى اشتدت الرياح وجعلت تتقاذف بالسفينة. فنظر عبد الله إلى أصحابه وكانت وجوههم تنطق بما في قلوبهم من الثبات، ولكنها كانت أول مرة يواجهون فيها السماء الغاضبة في لجة الماء. فصاح بهم عبد الله صيحة مرحة، واندفع يعالج القلوع ويديرها بيدين ماهرتين، وبادر أصحابه يساعدونه وهو يشير عليهم بما يفعلون، والسفينة في وسط الأمواج كأنها ريشة في مهب الهواء.
ومضت ساعة طويلة والعاصفة تزأر والمياه تفور من أعلى السفينة وأسفلها وهم يجاهدون الرياح والأمواج حتى بدت ثغرة زرقاء في أفق الشمال، فاستبشر عبد الله إذ دلته تجربته الماضية أن ذلك بدء انجلاء الغمرات. وبعد حين رها الهواء وهدأ الماء وعادت السفينة تطمئن على بقايا الموج، وانقشعت العاصفة كما بدأت فجأة، ولمعت الشمس وضاءة في السماء الصافية كأن لم تكن هناك زوبعة هوجاء كادت تهلك السفينة ومن عليها. ونظر عبد الله إلى أصحابه باسما، وقد أسفرت وجوههم وأقبلوا نحوه مستبشرين بالخروج من الغمرة الشديدة، فحل شملته ولوح بها فوق رأسه في الهواء وصاح بصوت فيه رنين الفوز قائلا: «الغمرات ثم ينجلينا.»
فهتف أصحابه من بعده في حماسة يرددون هتافه، وقام عبد الله فيهم إماما ليصلوا شكرا لله.
ووصلت السفينة إلى الشاطئ عند غبش الفجر، ونزلت الكتيبة إلى الأرض الصلبة التي لا تميد بهم إذا ساروا ولا تغوص بهم إذا اشتد عصف الرياح، وتصايحوا يهنئ بعضهم بعضا بالتجربة الكبرى التي علمتهم أن الغمرات لا بد أن تنجلي إذا ثبت لها من يقتحمها.
وركبوا خيولهم التي أتوا بها معهم فصعدوا في بطن الوادي الذي نزلوا عنده، وأوغلوا في الأرض ليتموا ما جاءوا من أجله، وهو لقاء الروم. ثم دارت معركة.
وكانت الشمس تسطع فوق الوادي عندما انثنى عبد الله برجاله بعد الموقعة الظافرة عائدا إلى الشاطئ، فلما بلغه وقف يتفقد أصحابه ليرى ما أصابهم من المعركة، فلما انتهى إلى آخرهم وعرف أنهم لم يصابوا إلا بجراح يسيرة خر ساجدا لله الذي استجاب إلى دعوته. ولما فرغ الفتيان من تضميد جراحهم أقبل عليهم عبد الله مرة أخرى ولوح بسيفه في الهواء صائحا صيحته: «الغمرات ثم ينجلينا.» وردد الفتيان صيحته في حماسة، ورددتها معهم الأصداء المتكررة بين جوانب التلال.
وذهبوا يقصدون السفينة في المرفأ، فوجدوا هناك جمعا من فقراء أهل القرى المجاورة جاءوا إلى هناك يحسبون القادمين تجارا يلتمسون منهم الإحسان، فلما اقتربوا منهم جفلوا خائفين وكان أكثرهم صبية ونساء. ولكن الفرسان وثبوا عن أفراسهم، وذهبوا إلى الماء يغتسلون ويتوضئون، ثم وقفوا صفا وراء عبد الله بن قيس يؤدون الصلاة.
وتجرأ الصبية فتقدموا نحوهم ينظرون إلى حركتهم في القيام والسجود، وتجرأ من بعدهم النساء، فتقدمن يتصفحن الوجوه ويتأملن ملامحها، وينظرن إلى قامات الفتيان وهيئتهم، ويعجبن من غرابة ملابسهم. فلما انتهت الصلاة تقدم بعض الصبية في تردد حتى وقفوا بين الفتيان وهم يستعدون للرحيل، فأقبل هؤلاء عليهم يمسحون رءوسهم ويبتسمون لهم، ويلقون إليهم بقطع من الفضة والنحاس. وتقدم بعدهم النسوة في أسمالهن حتى وقفن بينهم يتحدثن باسمات ويسألنهم العطاء، فمد الفرسان أيديهم إليهن بالعطاء ثم غضوا الأبصار عن بسماتهن وساروا نحو السفينة وفي أيديهم لجم الخيل، حتى ركبوا جميعا وحلوا القلوع وشقوا رءوس الأمواج.
ومرت بعد ذلك سنة في إثر سنة، وتوالت غزوات الفتيان على سواحل الروم، وزادت جرأتهم على البحر، فكانوا يقتحمونه في الشتاء كما يجوبونه في الصيف، وعرفوا مسالكه في ظلمات الليل، كما عرفوا مساربه بين شعاب الخلجان. وكانوا يعودون من كل غزوة ملتفين حول قائدهم الذي دب الشيب إلى فوديه من صراع تلك السنين المليئة بالأحداث.
وذهبت السفن تتهادى مرة أخرى في مطلع الصيف إلى ذلك الشاطئ كما تتهادى القافلة على فدافد الصحراء. وكان الفتيان عند ذلك قد صاروا رجالا، وتبعتهم طبقة بعد طبقة من الفتيان الذين جذبتهم مغامرات البحر. ولكن أميرهم عبد الله كان دائما عند مقدم السفينة الأولى يرتاد لهم الطريق ويختار لهم مرافئ النزول.
وهبط بهم عبد الله على الساحل على مقربة من المرفأ الأعظم، وصفهم صفا على الخيل، ولكنه تردد عندما نظر إلى المدينة العظمى التي كانت تلوح من فوق التلال البعيدة، وهي ثغر الروم الأعظم الذي أودعوا فيه بقية شوكتهم.
كانت مخاطرة عظيمة أن يتقدم بفتيانه نحو المدينة الكبرى، ولكنه لم يطل التردد وعزم على أن يخوض المعركة. ورأى أن يذهب وحده ليرتاد ميدان المعركة قبل أن يقدم عليها.
فانتحى ناحية يصلي، وأعاد دعاءه أن يحفظ الله فتيانه وأن يجعله لهم الفداء. ثم نزل في سفينة صغيرة مع ملاح فرد ليتحسس الساحل ويستطلع ما فيه من حصون وجنود قبل أن يسير إليه بجيشه الصغير. ولبس ثياب تاجر ليخفي سلاحه ودرعه، وهبط بقاربه الخفيف إلى المرفأ حتى نزل في بقعة منعزلة من البر متواريا في الصخور. وجعل يتعرف معالم المدينة.
ولم يكن هناك سوى بعض نسوة يحتلن على اصطياد الرزق من قواقع الشاطئ، فلما رأين عبد الله وقفن يطلبن إحسانه، فمد إليهن يده بالعطاء وأسرع عنهن يثب فوق صخور الساحل، وتركهن ينظرن إلى ما ألقى في أكفهن من قطع الفضة والنحاس. وصاح النساء صيحات فرح، وهتفن به شاكرات، ووقفن ينظرن في أعقابه وهو يسير خفيفا على الشاطئ برأسه المرفوع وقامته المديدة، وجعلن يتحدثن عنه في إعجاب. وكانت فيهن امرأة طال تردادها على تلك السواحل منذ سنين وجابت أطرافها منذ كانت شابة، حتى ذهب شبابها وعصفت بها الأيام فلم تبق منها إلا أسمالها البالية وجسدها النحيل. فلما انصرف التاجر العجيب وقفت تنظر في أعقابه مشدوهة، كأنها تتفقد شيئا غاب عنها ... تنظر حينا إلى ما في يديها من العطاء وتسرح حينا في أخيلة الذكرى، ثم تنظر نحو الرجل وهو يتباعد عنها رويدا رويدا، فتذكرت أنها رأت تلك الصورة يوما. ثم سنحت لها الصورة من عالم بعيد، فصاحت صيحة مكبوتة، والنساء من حولها يتضاحكن ويتغامزن ويتهامسن عنها قائلات: «إنها لتنظر إلى الرجل الغريب ولا تكاد تثني عينيها عنه.»
فصاحت بهن المرأة: «ويحكن أيتها الخبيثات! فما بي من صبوة تحملني على النظر في أعقاب هذا الكهل، وأنا اليوم امرأة عجوز!»
فصاحت بها فتاة من بينهن: «فما خطبك إذن؟ وما لك تبرقين في أعقاب الرجل وقد انصرف عنك؟ أما سحرتك قامته السمهرية؟ أما خلب لبك ما يلوح عليه من خيلاء؟ أما أطمعك فيه كرمه، وحرك جشعك ما عليه من مخايل الثراء؟»
ولم تجب العجوز عليها بحرف، بل صاحت تقول: «إنه صاحب الصيحة الغريبة وقائد الفتيان. إنه صاحب الغارات التي روعت هذا الساحل منذ سنين. إنه هو الذي هزم هؤلاء الذين يزعمون أنهم أبطال الحروب.»
وجعلت تقص على صويحباتها ما شهدت من عبد الله وما سمعت عنه في غاراته التي شهدتها مرارا، وذكرت لهن صيحته العجيبة التي طالما ترددت أصداؤها بين أودية تلك السواحل بعد الانتصار. ثم جعلت تفيض في وصف الفتيان الذين كانت تراهم أحيانا كالجان فوق الخيول وأحيانا كالرهبان في الصلاة.
ولما انتهت من قصتها نظرت نحو الرجل الغريب، وكان ما يزال يضرب فوق الصخور بقامته العالية وخطاه الخفيفة، فصاحت مؤكدة: «أهذا أيها الحمقى تاجر السلع؟ أهكذا يمشي قعيد الحوانيت؟ أهكذا يثب على الصخر سعاة الأسواق؟ أما رأيتن عطاءه عطاء الملوك؟ أما وقعت عين إحداكن في عينه؟»
ثم مضت غاضبة من حماقتهن وسخريتهن.
وسار النساء نحو المدينة وهن يتحدثن عن العجوز الشوهاء وعن التاجر السخي بالعطاء، ويعدن قصة الرجل الغريب على كل من تجمعه بهن الطريق.
ومضى عبد الله بن قيس يسير على الساحل ويتدسس في ثناياه ويفحص صخوره وخلجانه، ويعد حصونه ومسالحه، حتى مالت الشمس إلى المغيب وألقت بشعاعها الفاتر إلى صفحة الماء من خلال السحب ذات الألوان الباهرة، واسترعى نظره جمال الأفق الغربي، فوقف حينا ينظر إليه مبهوتا خاشعا. ولما عرف أهل المدينة من النساء نبأ الزائر الرهيب خرجوا إلى حراس المدينة يطلبون النجدة. ولمح عبد الله جمعا في أسفل الشاطئ، ولمع له من خلاله بريق يشبه أن يكون بريق السلاح، فلمس مقبض سيفه من تحت ثوبه الفضفاض وعلت وجهه عبسة جد صارمة، وساءل نفسه: «من يكون هؤلاء؟»
ولكنه لم يذكر سوى فتيانه، وخشي أن يؤتى إليهم من بعض الشعاب على غرة، فاندفع عائدا إليهم يثب فوق صخور الساحل كأنه يسابق ظلال المساء، ولكن الجمع المقبل اتجه إليه وانتشر يأخذ عليه أفواه السبل، فعرف أنه هو المقصود، وامتلأ قلبه سكينة أن يكون هو غرض الروم دون أصحابه، ووقف يستعد للقتال. وأحاط به الروم مع طلائع الليل، وأسرع الظلام يلف الأرض حتى صار عبد الله يتحسس مواقع خطاه وهو يقفز من صخرة إلى صخرة، وهو يقاتل بسيفه من أمامه ومن حوله، والأعداء ينحدرون إليه من كل جهة ويوشكون أن يلتئموا عليه. وما زال يدافعهم حتى بلغ قريبا من مرسى السفين، وصاح صيحته: «الغمرات ثم ينجلينا!»
وأقبل على الروم يحاورهم ويواثبهم والجراح تنهال عليه من مئات الرماح. وتصايح جنود الروم في حنق عندما سمعوا صيحته التي ذكرتهم وقعاته الماضية وزادتهم به علما، فتواثبوا عليه حتى تعثر في الصخر ووقع إلى الأرض والتأمت عليه السيوف والرماح.
وسمع عبد الله وهو طريح يعاني سكرات الموت صيحة ترددت أصداؤها في الظلام مجلجلة صدعت سمعه الكليل، فعرف أنها صيحة الفتيان. وانتفض يريد أن يثب على قدميه ولكنه لم يقو على النهوض. وسمع الروم الصيحة فتلفتوا ثم تصايحوا وانتشروا هاربين في الظلام، وتركوا جثة عبد الله حيث كانت على الصخر وقائم السيف ما يزال في يمينه. واهتدى الفتيان بعد حين إلى موضع قائدهم الباسل، فحملوه وكانت على وجهه ابتسامة وهو يتمتم بالصلاة في آخر أنفاسه، وسمعوا آخر كلماته إذ يشكر الله على أنه استجاب دعوته وجعله لصحبه الفداء.
عبيد الله بن الحر
«عندما تضطرب الأهواء تغضب البطولة. وعندما تتعدد الأحزاب تتجرد سيوف الشجعان، ليضرب بعضهم رقاب بعض.»
آثر ابن الحر أن يعتزل في بيته في تلك الفتن الجارفة التي مزقت الكوفة وزعزعت أركانها وأذاعت بها الخوف والفوضى. كان عبيد الله بن الحر الجعفي رجل الحروب والمخاطر، وهو الذي قضى ما مضى من عمره في كفاح منذ كان شابا لم يبلغ العشرين إلى أن صار شيخا نيف على السبعين، ولكنه آثر أن يقيم في بيته متباعدا عن تلك الفتنة العمياء الجديدة التي أثارها طلاب الملك من كل جانب. وماذا كان يحمل ابن الحر على أن ينغمس في مثل تلك الفتنة التي ترددت فيها صيحات الجاهلية، وثارت فيها عصبيات القبائل الهوجاء؟ لقد أصبح كل حي ثائرا بالحي الذي يجاوره، وصار كل قبيل يلتمس لنفسه الحلفاء ممن كانوا حلفاء لأسلافه قبل أن يجمع الإسلام العرب ويؤلف بين قلوبهم.
كانت قبيلة بكر بن وائل تحارب تميما، وكانت الأزد تنافس جيرانها من بكر وتميم، فلا جوار ولا قرار ولا عقد ولا عهد، بل هي أطماع ثائرة، وأهواء متنافرة. وما كان ابن الحر الذي شارك في بناء الإسلام في القادسية ونهاوند وهو شاب، ليشارك وهو شيخ في هدم ذلك البناء الشامخ الذي تناولته الأطماع بمثل هذا العنف، وكادت تدك أساسه وتهد أركانه.
وأقام في بيته يناجي الهموم التي ملأت قلبه من ذكريات الحوادث التي مرت به بعد أن تكشفت له حقائق الناس وظهر له ما تنطوي عليه الحياة من نفاق وخداع ومن كذب ودناءة. كان قلبه الفتي من قبل ممتلئا بالحماسة الخالصة، فما زالت الأعوام تكشف له الغطاء عن الناس طائفة بعد أخرى حتى ضاق بالحقيقة، وعاف المشاركة فيما يتحرك إليه هؤلاء الناس. كان قلبه الفتي منذ أربعين عاما يمتلئ بالدعوة إلى الحق، ولا يبالي أن يبذل دماءه في سبيل الحق، ولا يرضى في جهاده إلا بأن يكون في صدر الأخطار. ولكنه بعد هذه السنين الطويلة، لم ير إلا أن الخلاف قد أصبح على الحكم والسيادة وسلطان الحياة الدنيا.
كان يسمع في كل موطن من مواطن القتال صيحات الحق والعدل تتجاوب من كل جانب، ولكنه لم يجد في حقائق الحياة إلا الطمع في الأموال والزخارف والحرص على النعيم ومفاتن الحياة، فما الذي يدفعه بعد ذلك كله إلى المشاركة في الفتنة الجديدة؟
وكان ابن الحر فوق هذا يريد أن يذوق شيئا من السلام إلى جوار امرأته الحبيبة أم توبة، ابنة عمه سلمى الجعفية، التي تزوج منها وقد نيف على الستين، وكانت فتاة في البضع والعشرين، تملأ بيته سعادة، وتشيع فيه السلام. وكانت حسناء رائعة، يزينها ما هو أكبر من الحسن والشباب، من وداعة نفسها ونقاوة قلبها.
كانت أم توبة كلها روحا وذكاء وطهرا، فكان لا يحس إذا جالسها بما يفرق بينهما من عدد السنين، وعاد قلبه معها فتيا ينبض ويخفق كما كان في العشرين. لهذا لم تستدرجه الأنباء التي كانت تترامى إليه وهو معتكف في داره ولم تغره الفتن المتعاقبة على أن يعود إلى معامع النضال القاسية. فسمع أن البصرة تضطرب، وأن أميرها ابن زياد هرب لائذا بالشام. ثم سمع أن الشام تتنازعها الأهواء بين صبية بني أمية من ولد يزيد بن معاوية وبين مروان بن الحكم شيخ قريش. وسمع أن عبد الله بن الزبير يدعو إلى نفسه، ويبعث البعوث إلى الأمصار يستميل أهلها وشيوخها وينازع بني أمية ملكهم.
ولكنه لم يهتز إلى شيء من تلك الأنباء، وبقي على عزلته مغلقا بابه عليه. •••
وكانت ليلة من ليالي الصيف، والغبار الثائر في الهواء ينعقد مع الأبخرة في ضباب كثيف، وأحس ابن الحر ضيقا، فصعد إلى سطح داره بالكوفة ليقضي الليلة تحت السماء مطلا على الصحراء ليتنفس ملء صدره، كما اعتاد أن يملأ صدره؛ إذ كان يضرب في فيافي اليمن قبل أن ينزل مدينة الكوفة.
وجاءه بعد العشاء جماعة يطلبون لقاءه، فشعر بقبضة زادت أنفاسه ضيقا. فماذا يبغي الناس منه وقد اعتزلهم وباعد ما بينه وبينهم؟ ولكنهم كانوا أصدقاء جاءوا يستأذنون عليه، فلم يستطع أن يردهم بالخيبة.
فقام من مجلسه فاترا، ولبس عباءة من الديباج الأصفر وخفا من جلد لين أحمر، ولف على رأسه عمامة من ثوب يمني، ثم مس بعض الطيب ومسح به لحيته، وكانت لا تزال سوداء تناثرت فيها شعرات بيضاء، ثم نزل متثاقلا حتى بلغ رحبة الدار، فوثب الضيوف وقوفا يرحبون به في حرارة.
كانوا جماعة لا تضمهم رابطة من عصبية، تعودوا من قبل أن يجتمعوا حوله ويأتمروا بأمره. وقد جاءوا إليه لأنهم رأوا أمور الناس قد فسدت واضطربت، ولم يجدوا في حيرتهم من يلجئون إليه غير صاحبهم الشيخ الباسل الذي طالما علمهم أن يلزموا الحق وأن ينصروه في كل موطن.
ودار الحديث بين الجمع، فلمح ابن الحر ما جاءوا من أجله، فجعل يردهم في رفق ويرجعهم عن نفسه في تجمل. وطالت بينهم المناظرة، فعجب الرجال كيف تبدل ابن الحر وتغير، وكيف رضي أن يقيم في عقر داره وقد اشتعلت الفتنة وهو الرجل الذي بنى مجده في معترك النضال من أجل الحق. وتجرأ شاب منهم وقال له: أيجمل بك الاحتجاب يا أبا الأشرس وهذه الحال كما ترى؟
فقال ابن الحر باسما: لقد أصبحت يا ابن أخي لا أرى. لست أرى شيئا ولا أعبأ بأن أرى.
فقال الشاب وقد أحس في جواب الشيخ شيئا من الاستخفاف: ما عهدناك إلا ذا بصر وبصيرة يا شيخ جعفي.
فأطرق الشيخ لحظة ثم قال: لقد علمت حسن رأيك يا جرير بن كريب، ولكني آثرت أن أعكف على صلاتي وأنتظر لقاء ربي.
فقال جرير في شيء من اللجاجة: عرفناك دائما مصليا كما عرفنا أنك تنتظر لقاء ربك في كل لحظة، ولكن ذلك لم يمنعك من نصرة الحق فيما مضى.
فلم يملك ابن الحر أن تبسم وقال في دفعة: الحق؟ أين الحق يا ولدي؟ إنها كلمة تتردد على الألسنة ولا يراد بها إلا غير الحق.
فتحرك القوم قلقين، وقال أحدهم في صوت أجش: أأنكرت الحق يا أبا الأشرس وقد طالما نصرته؟
فعاد ابن الحر إلى الإطراق، وانعقدت على وجهه عبسة وقال بعد قليل: وكيف أنكر الحق وقد قضيت العمر أنصره؟ ألا إني قد رأيت الناس قد صار أمرهم إلى فتنة عمياء. أما سمعتم عبد الله بن عمر صاحب الرسول يقول: «إنها فتنة، القاعد فيها خير من القائم»؟ ألا ترى ذلك يا أخا الأزد؟
فقال الرجل معبسا: إنها كلمة قالها ابن عمر ليداري بها ضعفه، وما أنت وابن عمر؟ إنه رجل لم تسبق له همة.
فتحرك ابن الحر في شيء من الامتعاض وقال: مهلا يا عمرو بن جندب. ألم يكف هذا العالم من قد وثبوا به؟ ألا يكفيك أن ترى في الشام مروان، وفي البصرة ابن الزبير، وفي فارس ابن الأزرق، وفي خراسان ابن حازم؟ أتريد أن نثب نحن كذلك على الكوفة فنزيد في الفتنة عصبة أخرى تسفك الدماء؟ ألا لقد آن لابن الحر أن يتجنب دماء المسلمين يا عمرو بن جندب. لقد أرقت من الدماء في حروبي ما أرجو أن يغفره الله لي، إذ أرقتها وأنا أحسب أني أجاهد في سبيله. ولكني أرى القتال أصبح اليوم في سبيل الدنيا وحدها. لا يا عمرو، لن أسفك بيدي هذه دما جديدا في غير قصد. وما الذي جد في أمرنا حتى نتحدث عن الثورة؟ لقد بايعت البصرة ابن الزبير، وما نحن والبصرة إلا كجناحي هذا العراق. إن في البصرة قوما لا يقلون عنا عددا، وليسوا دوننا شرفا، وما أسلموا أمرهم إلى ابن الزبير إلا بعد أن ذاقوا مرارة الفتنة فيما بينهم. ألا تعرفون ما ذاقت البصرة من الويل والخراب إذ وثبت بكر بتميم، ووثبت تميم بالأزد؟ أفتحبون أن ينزل بالكوفة ما نزل بأختها من قبل؟ هذا هو الأحنف بن قيس سيد تميم بالبصرة، وهذه بكر بن وائل مع مالك بن مسمع، وهذه الأزد مع ابن عمرو، قد اتفقوا جميعا على أن يتجنبوا القتال وبايعوا لابن الزبير، فلم لا تبايعونه وتحقنون الدماء؟
وكان ابن الحر يريد أن يستمر في حجته، لولا أن قاطعه أحد الفتيان صائحا: لقد صدقت يا ابن الحر. إنك لست ترى شيئا، ولا تعبأ أن ترى شيئا!
فغضب الشيخ وعبس عبسة مظلمة، والتفت إلى الفتى قائلا: ألمثلي يقال هذا يا مجشر؟ أما والله لولا علمي بما عندك من المودة لأجبتك جوابا لا ترضاه ...
فقال المجشر معتذرا: لم أقصد يا أبا الأشرس أن أسيء إليك، بل أقصد أن أقول لك إنه قد جد في الأمر جديد لا تعرفه، وقد كنا نحسبك قد سمعت بما كان.
فسكن ابن الحر وقال هادئا: وما ذاك الجديد يا مجشر؟
فقال الشاب في حنق: الجديد أن البصرة تحترق في ثورة جديدة. خرج ابن أبي عبيد: المختار بن أبي عبيد الثقفي، وثار أتباعه اليوم فقتلوا الشرط، وهرب الأمير ابن مطيع عامل ابن الزبير.
فوجم ابن الحر ونظر إلى القوم فاتحا عينيه كأنه لا يصدق ما يسمع، ثم قال في شيء من الحزن: أهي فتنة أخرى؟
فصاح جرير: هي صفقات بيع وشراء ... خرج المختار مناديا بدم الحسين ليقبض لنفسه ميراث الحسين!
فقال ابن الحر في حنق: برئ الحسين منهم. أشهد لقد سمعت الصادق يحكي عن هذا الرجل أنه ما كان يبغض في الناس أكثر من بغضه عليا وولد علي.
وأخذ الفتيان يصفون ما يعلمون من حال البصرة وما صارت إليه أمورها.
وصاح المجشر متحمسا: نحن اليوم بين أمرين لا غنى لنا عن اختيار بينهما: نقيم في يد المختار الثقفي، أو نقاومه لنمنع طغيانه ونفاقه.
وشمل الجمع سكون مدة لحظات طويلة، كانوا فيها ينتظرون جواب ابن الحر. كانوا ينظرون إليه ويرقبون حركات وجهه إذ هو مطرق واجم محمر الوجه، كأنما ينتظرون صوت القضاء. وكان ابن الحر في إطراقه يفكر وتتقاذفه الخواطر وتتجاذبه الميول. أيخرج من عزلته التي ركن إليها وأمل أن يبعد فيها عن الفتن ليذوق السلام فيما بقي له من أيام؟ أم يتبع أصحابه ويعود إلى المعامع القاسية مرة أخرى غضبا من أن يتولى الأمر طاغية ظالم؟! أيجدر به أن يبقى على عزلته ويترك الأمر يئول إلى المختار بن أبي عبيد ويتحمل ذنب كل ما يقع منه من المفاسد والمظالم؟ ولكن ما هناك في الزعماء إلا ظالم وطاغية؟ ... إنهم جميعا يبيعون ويشترون ولم يكن منهم من يقصد إلا أن يحرز لنفسه منفعة.
ورفع ابن الحر رأسه في بطء وقال: أيها الشجعان، لا أحسبكم تظنون بي الجبن عن خوض الحروب حرصا على بقية ضئيلة من الحياة، فلقد كنت كما تعلمون في صدر الأخطار كلما دعاني الواجب. ولكني رأيت هذا الأمر قد صار إلى منازعة الأطماع بعد أن ذهب الأخيار إلى القبور. فإذا أنا اليوم قاتلت فلن يكون قتالي إلا في سبيل بعض من يريد شراء عرض من أعراض هذه الدنيا. ولن أبذل في سبيل هؤلاء نقطة من دماء المسلمين. لا، لن أكون في مثل هذا أبدا!
فعاد السكون لحظة أخرى طويلة، وتردد الرجال بم يجيبون وهم حائرون بين هيبة شيخهم وبين حنقهم من تخذيله إياهم. ثم انفجروا غاضبين، وجعل كل منهم يلقي إليه سهما من قوله. وقام ابن الحر غاضبا مما جبهوه به، وقال في صوت متهدج: لقد بلغتم من عمكم ما بلغتم، فحسبكم. إنها كلمة لا أقول غيرها، لن أدخل في شيء من هذه الفتن الجامحة.
فطأطئوا رءوسهم حزنا وقاموا وهم يكتمون ما على ألسنتهم من ألفاظ الحنق، ولكن المجشر التفت نحوه وهو منصرف وقال: أوتحسب يا أبا الأشرس أنك تقيم في دارك آمنا؟ والله لتعودن إلينا إذا رأيت الطلب حثيثا في آثارك. والله لن يتركك ابن أبي عبيد في أمنك هذا. اقعد ما شئت فسوف يحتوشك الكلاب. ولئن عدت يوما إلى ما ندعوك إليه الآن لتجدننا سراعا إلى تلبية ندائك.
ثم سار الجمع وهم صامتون، وعاد ابن الحر إلى مجلسه من ابنة عمه فأفضى إليها بما كان، وجعل يحدثها ويعيد عليها حجته التي رد بها أصحابه، وكأنه أراد بذلك أن يقوي نفسه، إذ أخذ يشعر أنه قد خانهم فيما عاهدهم عليه من قبل.
ونظر إلى سلمى ينتظر جوابها ويستوحي خاطرها، فقالت وقد علمت ما يريد: أحسنت والله يا أبا الأشرس لو أن المختار تركك آمنا في بيتك.
فأطرق ابن الحر حينا وهو صامت، ثم رفع رأسه وتكلف الابتسام وقال لامرأته في حزن: سنرى ما يفعل ابن أبي عبيد.
ثم انتقل معها بالحديث إلى حيث كانا من قبل يتناجيان.
ومر الصيف ومضى من بعده الشتاء، وأقبل الربيع في موكبه تهب فيه الريح رخاء، وتسرح السحب البيضاء في السماء الصافية، والمرج يزهو في حلته الخضراء، والزهر يبسم للحياة الجديدة. ولكن ابن الحر لم يكن في بيته؛ لأنه كان قد خرج مع سبعمائة من أصدقائه الشبان إلى المدائن وعسكروا هناك يستجمون بعد رحلة طويلة هبطوا فيها من الجبل.
لقد صدق ما تنبأ به المجشر عندما قال لابن الحر منذ عام إن المختار لن يتركه في الكوفة آمنا في عزلته. فلم يقنع المختار منه بالعزلة وأوفد إليه الرسل ليذهب إليه، فرد ابن الحر الرسل معتذرا ولم يذهب، وألح عليه المختار ولج هو في الإباء. فساء ظن الطاغية فيه وأخذ يدبر للإيقاع به كما أوقع بمئات غيره من سادة الكوفة الذين اعتكفوا في بيوتهم اتقاء الفتنة. وأتاه أصحابه يوما يحملون إليه نبأ ما يدبره المختار للإيقاع به، فتردد حينا حتى استيقن من الأمر، ولم يكن له بد من الخروج معهم. وغادر الوطن وخلف ابنة عمه وراءه في الكوفة وأمسك قلبه أن يخونه عند الوداع.
وكان يوما عاصفا باردا من أيام ذلك الربيع، وقد مالت الشمس إلى الغرب وصبغت الأفق بألوان الشفق.
ونزل ابن الحر وفتيانه في وهدة ملتفة الشجر عند المدائن، يكمنون فيها حتى لا يبصرهم من يسير على الطريق الواضح. وأقاموا على مداخل الوهدة ربيئة تحرسهم من أرصاد العدو، وجلسوا حول حفرة أوقدوا فيها نارا ليستدفئوا. وكانت رحالهم وأحمالهم مبعثرة في أطراف الوهدة تتخلل الشجر وتغطي الساحات الفسيحة التي بين الدحال الملتفة، تنبئ بأنها ألقيت هناك على عجل. ولما غابت الشمس هبوا إلى الصلاة يؤمهم ابن الحر، حتى إذا ما انتهوا من الصلاة ذهبوا إلى رحالهم يلتمسون عشاء أو يستريحون من الجهد، وبقي ابن الحر مائلا على النار مفكرا ينظر إلى لهيبها وينسج منه في خياله صورا. وحمله الخيال إلى الكوفة وإلى داره التي خلف فيها أم توبة من ورائه. وكان بين حين وحين ينظر نحو الغرب قلقا، يحاول أن يرى ما بين الشجر من ضوء القمر، ثم يعود إلى إطراقه ويميل على النار يتأمل ما تخيله له من الصور. وكان القمر قد توسط السماء وأوشك أن ينحدر إلى الغرب، عندما لاح له شبح راكب يسرع بين الأشجار، فقام نحوه في لهفة فإذا هو رسول جاء يحمل إليه بعض الأنباء.
وقال الرسول في صوت المواساة: لا يرعك ما حملت إليك يا أبا الأشرس!
وكان هذا القول كافيا ليفهم ابن الحر أن صاحبه يحمل إليه مأساة.
وقص الرجل عليه قصة قصيرة أذكت في قلبه نارا تتأجج. فصاح بصوت ترددت أصداؤه في الليل الساجي: يا غوثاه!
ثم ارتمى على جذع نخلة ووضع رأسه بين يديه. فتحركت الأغطية فجأة في جوانب الرحال المنثورة بين الشجر، وتهاوى أصحابه إليه يترنحون من أثر النعاس، حتى التفوا به وجعلوا يتساءلون عما أصابه. فقص عليهم الرسول قصته: انتهب المختار ضياع ابن الحر وأحرق داره، وساق امرأته سلمى النبيلة أم توبة إلى السجن، ولم يرده عن قسوته أنها امرأة آمنة في بيتها.
وما كاد الفتيان يسمعون القصة حتى انصرفوا في صمت إلى الرحال، وجعلوا يستعدون سراعا للمسير.
وانحدر القمر إلى الغرب وطلع الفجر، وكان ابن الحر وأتباعه سبعمائة فارس يمسحون بسنابك خيلهم عقود الندى الغزير المخيم على البساط الأخضر من عشب المرج عند مداخل الكوفة، ثم تسللوا من جبانة السبيع إلى موضع السجن.
وكان الحراس قد هدءوا وغطوا رءوسهم بالأقبية الصوفية الغليظة يستدفئون من البرد القارس، ويصيبون من النوم إغفاءة في السحر ، فأيقظتهم أصوات فتيان ابن الحر عند رءوسهم يحطمون أبواب السجن في حنق، ولم يفلت منهم إلا من استطاع أن يهرب، وانطلق ابن الحر في سراديب السجن يعدو في تلافيف الحجرات والسيف مصلت في يمينه وهو ينادي: «أم توبة، هذا ابن عمك يسرع إليك.»
فلما بلغ أقصى السجن سمع صوتا ضعيفا كأنه ينبعث من تحت أقدامه قائلا: إلي أبا الأشرس!
فاندفع نحو الباب المطأطئ الذي دونه، فحطمه بطعنات رمحه ودفعات جسمه، ورأى أمامه امرأته الحبيبة كأنها شبح أصفر لا تكاد تقوى على الوقوف. فاحتملها بين يديه وعدا بها وهو صامت اللسان خافق القلب، حتى إذا بلغ رحبة السجن وجد أصحابه لا يزالون يضطربون ويحطمون، فصاح بهم: أطلقوا من تجدون في حبس الطاغية ...
ثم انتحى بابنة عمه، فوضع عليها عباءته، وفتح لها ذراعيه، وقال لها: فداك دمي أيتها الحبيبة!
فاندفعت سلمى بين يديه باكية.
فضمها إلى صدره كما تضم الحمامة فرخها إلى جناحها، وقال وهو يهدر في ثورته: لأثيرنها عليهم نارا لا تطفأ، ولأبعثنها عليهم زلازل لا تبقي ولا تذر، حتى أدك صرحهم الخاوي الذي لا قوام له إلا على مثل هذا الجرم الشنيع.
وفيما هو يحدث امرأته سمع حوافر خيل مقبلة، فأسرع إلى فرسه وصاح في فتيانه: هلموا إلى الجبابرة الأنذال ...
وسارع الفتيان فركبوا من حوله وهو مردف حليلته من خلفه، حتى خرجوا من السجن إلى الأرض البراح وكان صداما عنيفا بينهم وبين جنود الطاغية حتى خرجوا من صفوفهم المتراصة.
ولما نزلوا أخيرا عند المساء في الوهدة الغائرة بين الدحال وطلع القمر فوق الفضاء الساكن، سمع الفتيان صوت شيخهم يتغنى عند رحله بأبيات شجية من شعره، وكانت نبراته المختلجة تنم عما في صدره من الأشجان.
ثم نادى أصحابه في صيحة عالية، فلما اجتمعوا حوله رفع يده عالية وقال في صوته الجهوري: «سنعود إلى القتال الليلة أيها الشجعان. لن ننتظر الصباح حتى لا يطول أمد الطغيان.»
فارسة قصر الباهلي
«هذه امرأة تلد الأبطال ...»
كان المرج الأخضر يمتد حول القصر - قصر الباهلي - فلا تقع منه العين إلا على بساط يتموج مع النسيم، وقد وشته الزهور بين بيضاء وصفراء وحمراء، وخرج الرعاء يسوقون فيه قطعانهم وخيولهم الضامرة.
وخرج من الحصن صبية يمرحون في صباح ذلك اليوم الوديع، بعد أن حبسهم الشتاء في حصنهم الحصين شهورا طويلة، كانت فيها تلك المروج هادئة في سبات يشبه الموت، تحت أكداس من الثلوج تعصف عليها زعازع الزمهرير.
كان ذلك في أرض السغد فيما وراء سمرقند، وقد وطئتها أقدام فرسان العرب منذ سنوات قليلة مع قائدهم الشاب قتيبة بن مسلم الباهلي القيسي.
ومشت بين الصبية امرأة فارعة بيضاء، واسعة العينين، سوداء الشعر، تتنفس سحرا وكبرا ونبلا، وعليها حلة من الحرير الأبيض ووشاح رقيق تزينه نقوش زاهية تحاكي ألوان زهور المرج. وكان حول خصرها الدقيق منطقة زرقاء من نسيج رقيق عقدت فيها عقدة دلت أطرافها على جانب حلتها.
وسارت عاتكة تنقل طرفها فيما حولها ولا ترى إلا صورة زوجها الحبيب هلال التميمي، ذلك الفتى الفارس الذي قتل منذ عامين وترك لها طفلها الصغير الذي يمرح مع الصبية حولها. وكانت بين حين وحين تتنبه من حلمها فتنظر إلى الصبية في لعبهم فتبتسم لهم ابتسامة عطف ثم تعود إلى خيالها لتناجي صورة الزوج الذي نشأ معها في أودية قومها بني تميم حتى زفت إليه على حب نبيل، ولكنها لم تتمتع بالحياة معه إلا ريثما درج ولدهما بينهما. ولما نزعته الحرب منها لم تبد لموته جزعا، وكتمت حزنها في أعماق قلبها، والتمست العزاء في خلواتها مع صورته في الخيال، وفي نظراتها إلى الصبي الصغير الذي خلفه من ورائه معها.
ولما بلغ الصبية مرعى الخيل أقبل ولدها يجري نحوها، وقد علق على كتفه قوسا صغيرة ودلى في منطقته كنانة سهام من جريد النخيل، وقال لها في حماسة: ألا أركب قليلا يا أمه؟
فمالت عاتكة عليه فرفعته بين ذراعيها وقبلته قبلة سريعة وهو يقاوم ويرفس ويصرخ حتى وضعته على الأرض فتخلص من يديها ووثب جاريا وصاح بها: أدركيني إذا استطعت، فإني سابق إلى الخيل.
فأسرعت المرأة وراء ولدها وصاحت به: ألا تخشى السقطة يا عمير؟
فضحك الفتى في مرح وقال وهو يمسك بقوسه: لا أخشى السقطة يا أمه. ألست عمير بن هلال؟
واتجه نحو فرس بيضاء كانت أدنى الخيل إليه، فأسرعت أمه حتى أدركته ومسحت بيدها على رأسه في رفق وقالت مبتسمة: تعال معي يا عمير سنركب جميعا.
ثم ذهبت معه إلى الفرس البيضاء فنادتها كأنها تنادي بعض أهلها فأقبلت الفرس نحوها، ورفعت المرأة ولدها فأركبته، ثم قصدت إلى فرس أحمر قريب منها وقفزت فوق ظهره خفيفة كأنها فارس من فرسان الحروب، ومسحت بكفها عنق الفرس فصهل صهيلا خفيفا ثم سار يثب هادئا، وسارت فرس الصبي إلى جواره تحاكي وثباته. ولكن الصبي لم يرض بذلك السير المطمئن فوخز فرسه بقدميه الصغيرتين، ومال على عنقها قابضا على شعر معرفتها، وصاح بها يحثها على الإسراع، فاندفعت به الفرس مسرعة، وصاحت عاتكة بولدها: على مهلك يا عمير! فما ينبغي لنا أن نبعد.
فصاح الفتى وهو يقرقر ضاحكا: الحقي بي إذا استطعت يا أمه.
ثم جذب شعر الفرس وضرب ظهرها برجليه، فاندفعت تعدو به في المرج الفسيح عدوا هينا، فلم يكن لعاتكة إلا أن تعدو بفرسها في إثره وقد داخلها كثير من الخوف عليه، وطالت بينهما المسابقة حينا حتى لحقت به واستوقفته، وقالت له في شيء من الغضب: لقد أسأت يا عمير وعصيتني.
فلم يقلل الصبي من مرحه عند سماع لومها، بل قال ولا يزال يضحك: كان في استطاعتي أن أعجزك عن إدراكي.
فلم تملك عاتكة إلا أن تبتسم وتصرف ما ثار في نفسها من الغضب، وقالت له في عطف: هلم بنا نعود فقد بعدنا عن القصر، والسغد قريبون منا.
فعاد الصبي إلى الضحك وهو يمسك بقوسه: وماذا تخشين يا أمه؟ لست أبالي السغد، فهذه قوسي.
فاقتربت منه عاتكة وقالت وهي تمسح عنق فرسه: سابقني إذا شئت في العودة يا عمير.
وفيما كانت تدير جوادها إلى جهة القصر لاح لها فارس يعدو نحوها، فأرادت أن تسرع عائدة، ولكن الصبي تلكأ وهو يعيد عليها أحاديثه وضحكاته حتى اقترب الفارس وترجل وأقبل نحوها، فوضعت عاتكة الخمار على وجهها، واتجهت إلى الصبي وقالت له في حدة: هلم يا عمير.
وأحست في نفسها غضبة قوية؛ لأن ذلك الفارس تعود أن يتعرض لها في المرج منذ حين كلما تحين خلوتها.
واقترب الفارس وأشار إليها بالتحية متأدبا وهو باسم، ولم يخف على عاتكة ما بدا على وجهه من اضطراب كان يحاول أن يخفيه تحت ابتسامته. فلم تجب عاتكة على تحيته، بل انصرفت إلى الصبي وقالت له في شيء من الصرامة: أرني الآن كيف تحسن الركوب يا عمير.
ثم همزت جوادها في شيء من العنف وضربت بيدها كفل فرس الصبي، فعدا الجوادان، وجعل الصبي يصيح بفرسه أن تسرع حتى يدخل القصر سابقا، ووقف الفارس ينظر في أثرها، وعلى وجهه آثار من الدهشة والخيبة.
ثم مضى مطرقا حتى عاد إلى أصحابه الذين كانوا ينتظرون عودته في وجوم، فوقف معهم حينا ولا يزال مطرقا، ثم رفع رأسه وقد لمعت عيناه ببريق خاطف ولاحت على وجهه بسمة ضئيلة، ونظر إلى صاحب كان إلى جواره وقال بصوت هامس: سأذهب غدا إلى أبيها.
فنظر إليه صاحبه منكرا ولم يجب، فأعاد عليه قوله: سأذهب غدا إلى أبيها لأخطبها. أتراه يردني؟
فقال صاحبه: إنك لم تسمع نصيحتي من قبل، فلا فائدة في إعادة نصحك.
فقال له الشاب باسما: وهل عرفت أن النصح ينفع من كان مثلي؟ إنني لا أملك قلبي يا بغا حتى أصرفه عنها.
فقال بغا في دفعة: ولكنك تنسى أنك الأمير صول سيد السغد وابن سيدهم. وأنت تعرف هؤلاء العرب ومبلغ كبريائهم. فهل سمعت أن أحدا منهم زوج ابنته لغريب؟ ألا تعرف ما يجيبك به أبوها إذا أنت خطبتها إليه؟
فانتفض الأمير صول غاضبا، وقال وقد احمر وجهه: أيجرؤ هذا الرجل على الإباء؟
فقال بغا: إنهم يتزوجون بناتنا حقا، ولكنهم لن يرضوا بنا أزواجا.
فقال صول وقد زاد غضبا: ألا يرضى بي أنا؟
فأجاب بغا: لن يرضى بغير عربي مثله.
فقال صول: إذا لأضرمنها عليهم حربا حامية. لأعيدن الحرب فيما بيننا إذا تجرأ الرجل فلم يرض بي صهرا.
ولم ير بغا أن في مراجعته نفعا، فأمسك عن الجواب وسار الجميع إلى مضارب خيامهم في صمت ووجوم.
وقضى صول تلك الليلة مترددا في شجونه، لا يستطيع أن ينسى صورة عاتكة التي علقت بقلبه منذ رآها. لقد رآها عرضا منذ شهرين، وبقيت صورتها ماثلة في خياله، لا تفارقه في صباح ولا مساء. وكان يتعرض لها كلما سنحت له في المرج، فلا يفوز منها في كل مرة إلا بإعراض وصمت، فكان ذلك لا يزيده إلا وجدا بها. ثم رأى أن يخطبها من أبيها، فدافعه صديقه بغا مرارا، ولم تزده نصيحته إلا عنادا وإصرارا على خطبتها، بل لقد دفعه حبه على أن يعزم على الحرب من أجلها، إذ كان العرب في قصر الباهلي فئة قليلة لا تستطيع أن تقوم لها قائمة إذا صدمها صول بالألوف المؤلفة من قبائل السغد الذين كانوا لا ينتظرون منه إلا أن يأمر فيبادروا إلى طاعته سراعا.
وبكر صول في الصباح فذهب مع بعض أتباعه إلى باب القصر يطلب الإذن على نهشل بن يزيد أبي عاتكة. وأذن له نهشل وأنزله ضيفا وأكرمه وحدثه وآنسه، فقد عرف أنه سيد السغد، وأنه في ذروة القوم غنى ونسبا. وكان الفتى في تمام شبابه وكرم شيمه مما يزيده منزلة وكرامة.
ثم أفضى صول إلى نهشل بما جاء له، وكانت مفاجأة وجم لها العربي، فأطرق لحظة ثم قال بصوت خافت: لولا أنك ضيفي لما نجوت من عقوبتي.
فوثب صول على قدميه كأنه قد وطئ جمرا، ولم يجب بكلمة، بل خرج من القصر وهو لا يرى مواقع أقدامه من الغضب، وعاد إلى قومه والنار تلتهم قلبه التهاما.
ومضى شهر بعد ذلك على قصر الباهلي، ولا حديث لمن فيه إلا ذكر ذلك الأمير التركي الذي بلغت به الجرأة أن أتى إلى نهشل بن يزيد يخطب منه ابنته. وامتنعت عاتكة عن الخروج إلى المرج. وزاد حزنها على زوجها الحبيب ؛ لأن خطبة الفتى التركي أعادت إليها ذكرى فجيعتها.
ثم تحرك السغد فجأة، وإذا بقصر الباهلي ذات مساء مثل بقعة جزيرة في محيط من جموع الأتراك.
وبلغت أنباء الثورة إلى حامية العرب في سمرقند، وكانت الجيوش العربية غائبة في بعوث الفتح، موزعة في دروب سجستان وخراسان، فلم يبق في عاصمة الحدود إلا بضعة آلاف في وسط ألوف الألوف من قبائل الترك.
واجتمع قواد العرب في سمرقند يتشاورون في أمر القصر، وفي أمر من فيه من نساء وصبية، وفي عجزه عن الثبات لمن أحاط به من فرسان الترك وشجعانهم، وقد امتلأت قلوبهم حقدا على سادتهم المتكبرين.
وقال شعبة بن ظهير، وكان منذ حين أمير القوم ثم عزل عنهم: لو كانت هنا خيول خراسان لاستطعنا أن نذهب إلى نجدة هؤلاء، ولكن ماذا نستطيع وحدنا؟
فصاح به فارس طويل على رأسه عمامة حمراء: ما لك تخذلنا عن نصرة أهل القصر؟ ألسنا من خيول خراسان؟
وتبعه آخرون فإذا بالجمع يتصايح ويتناقش، منهم من يتوثب إلى القتال ومنهم من يؤثر الحذر والأناة، حتى كاد العقد ينفرط، والقول يتشعب، والخصام والجدال يصيران إلى تدافع ونضال.
فقام رجل من وسط الحلقة متكئا على سيفه، وأشار بيده يطلب الكلام، فالتفت إليه الناس بعد حين وهم يتنادون: أنصتوا إلى أميركم عثمان بن عبد الله ...
فقال الأمير بعد أن هدأت الثائرة وخشعت الأصوات: «أي قوم! هؤلاء إخوانكم في قصر الباهلي لا يزيدون على مائة أهل بيت يحرسون ثغرا بعيدا، ويحمون من نسائكم وذراريكم من هم في أعناقكم أمانة.»
فحاول شعبة أن يقاطعه، فعلت ضجة أسكتته، واستمر عثمان فقال: «ولسنا في حربنا نبالي ما يصيبنا. إن قصر الباهلي بمن فيه من نساء وصبية يستظلون بعلمكم، ويقيمون هناك ربيئة لكم. أتسلمونهم إذ تكاثر عليهم العدو؟ أتبيحون حرمكم لأنكم اليوم في قلة؟»
فعادت الضجة، وعلت الأصوات، وتهاتف الناس قائلين: إلى قصر الباهلي.
فتبسم عثمان راضيا، وعاد إلى الكلام فقال: «لست آمر ولست أنهي. إنكم إن أقدمتم استقبل كل فرد منكم عشرة أو عشرات من العدو، ولعلكم لن تستطيعوا غير أن تواسوا من هناك من المسلمين بأنفسكم، فتنالوا الشهادة إلى جوارهم، ولكني لا أمنع من أراد منكم النهوض للقتال.»
فما كاد يتم قوله حتى قام من جانب الجمع ذلك الفارس الطويل الذي تكلم من قبل، وهو المسيب بن بشر التميمي، فقال وهو يسوي على رأسه عمامته الحمراء: «لقد عرفتم أن السغد ما تحركوا إلا ليأخذوا عاتكة، امرأة هلال التميمي، وهو الذي عرفتموه فارسا في الحرب، كريما في الجوار، طالما دافع عن أحسابكم حتى قتل. أنترك امرأته سبيا ونسلم ابنه الصبي للعدو يبيعه رقيقا؟ لن أبيت الليلة هنا، ومن شاء أن يلحق بي فليفعل.»
وما طلع صباح اليوم التالي حتى كان سبعمائة فارس يتبعون المسيب في الطريق إلى قصر الباهلي، وقد بايعوا أنفسهم جميعا على الموت.
وسارت الكتيبة الصغيرة لا تهدأ في ليل ولا في نهار، حتى صارت بعد أيام على فرسخين من القصر، فنزل المسيب يستروح قليلا ويريح من معه، وانصرف الفرسان يلتمس بعضهم طعاما وبعضهم يستلقي استجماما، وتركوا جيادهم في سروجها وعدتها، وأقاموا في أطراف منزلهم ربيئة يحرسونهم من المفاجأة.
ثم دعا المسيب فارسين ليسبقا الكتيبة في حذر إلى القصر، ويحملا إلى من فيه نبأ النجدة، ويأمرا حاميته بالصبر والدفاع.
وأقبل الليل ولف المروج في ظلمة حالكة، لا يلوح فيها غير وميض نيران العدو تملأ الأفق من بعيد. وهبط على الفضاء سكون تخرقه صيحات تتموج مع الريح، وتصل إلى الآذان مبهمة، فتزيد الظلام رهبة ووحشة. وما هي إلا ساعات حتى عاد الرسولان، فكان أول من لقيهما المسيب وهو يسير في المرج ينتظر عودتهما في قلق. وما كاد يراهما حتى سألهما بلهفة: هل بلغتما القصر؟
فقال أحدهما: لم نستطع الدخول، فقد كاد حراس القصر يرموننا بالسهام يحسبوننا أعداء، لولا أن سمعوا كلامنا العربي، فطلبت منهم أن يدعوا أمير القصر ليكلمني، فما أبطأ حتى أتى، وأخبرته بقرب الغياث.
فسأل المسيب ولا يزال متلهفا: وماذا وجدت منه؟
قال الرجل: لقد اعتزموا أن يقدموا النساء دونهم، ويقاتلوا حتى يفنوا جميعا.
فسري عن المسيب وتنفس نفسا عميقا، وقال: هؤلاء قومي ...
ثم أسرع إلى رجاله، فنادى قائلا: القتال في ليلتنا هذه ...
فلم يجبه أحد بكلمة، بل وثب الجميع على خيولهم وتجهزوا للمسير، فاتجه إليه المسيب وقد اعتلى جواده قائلا: خفضوا الأصوات واهدءوا في السير، حتى إذا اقتربنا منهم فكبروا تكبيرة واحدة واجعلوا شعاركم «يا محمد!»
ثم اندفع يسير في طليعتهم سيرا وئيدا في صمت وسكون، حتى لاحت لهم خيام الترك في ضوء النيران وقد همدت الأصوات والقوم من تحتها نيام. فاقترب المسيب برجاله حتى إذا صار من الخيام على مرمى سهمين صاح مكبرا، واندفع مع أصحابه يصيحون صيحة رجت جوانب الفضاء: «الله أكبر! يا محمد!»
ولم يلبث المعسكر الفسيح بعد هذه الصيحة أن صحا وتحرك وماجت جموعه مضطربة، وقد خالطتها سيوف قاطعة، ورماح طاعنة، كأن السماء قد صبتها على رءوسهم بغتة. وما هي إلا ساعة حتى سالت المروج بالرجال والخيل، وصار العرب في وسط المروج الزاخرة كالشعرات البيضاء في الفرس الأدهم، لا يعرف بعضهم بعضا إلا بصيحة «يا محمد».
وكان المسيب دائما في طليعة القوم، يجوب المعسكر من طرف إلى طرف، وأوغل بين الجموع فإذا هو وحيد. ثم رأى فرسه يخر من تحته وهو بين ألوف يخبطون في عماية الظلام ودهشة النوم، فترجل وهو يصيح صيحته: الله أكبر! يا محمد!
واجتمعت عليه السيوف من كل جانب، وهو يدافع ويناضل ويتعثر في جثث قتلاه، وكاد التعب يعييه عن القتال وكسرت رمحه وكلت يداه. ثم سمع صيحة على مقربة منه أعادت إليه نفسه، فتحامل وصاح صيحته مجيبا، فأقبل عليه رجاله وجعلوا يطاعنون ويضربون، وفيهم رجل قد قطعت يمينه فأخذ السيف بشماله، ثم قطعت شماله فجعل يدافع العدو بما بقي من ذراعيه. ولما استجمع المسيب قوته، وصاح صيحته مرة أخرى، اندفع نحو الرجل ليعينه، ولكن سيفا أهوى على المسكين فأنامه. ولم يلبث العدو أن تردد وتزعزع وتملكه الفزع فتراجع يطلب الفضاء هربا، وما هي إلا لحظات حتى كانت أشباح الترك تسد الأفق لا تلوي على شيء.
فصاح المسيب في أصحابه: دعوا القوم في هربهم، ولا تلحقوا بهم.
ووقف ينظر لحظة إلى الفارس الصريع المقطوع اليدين، ثم مال إليه فقبله، وأسرع فركب جوادا رآه قريبا منه ولوى عنانه وأشار إلى أصحابه قائلا: إلى القصر!
وهناك استقبلهم المحصورون خارجين من القصر ليشتركوا في المعركة. وسار الركب العربي عائدا إلى سمرقند، بكل من في قصر الباهلي من رجال ونساء وذراري. وفصل المسيب من القصر في آخر الركب بعد أن دار حول الأسوار ينظر لعله يجد متخلفا، فرأى امرأة تصيح به تستمهله، وعلى يديها غلام صغير. فوقف حتى اقتربت منه، فقال لها في لهجة اللوم: وفيم تأخرت وقد كدنا نبعد؟
فقالت المرأة في هدوء: كنت أحمل ولدي من جانب في القصر تركته فيه.
فقال الرجل متعجبا: وكيف تتركين ولدك؟
فقالت المرأة: كنت أحارب مع قومي، فما كنت لأتركهم يحاربون وحدهم.
ثم دفعت الطفل إلى الرجل قائلة: خذ هذا بين يديك.
فأخذ الرجل الطفل منها فجعله أمامه، وذهبت هي إلى فرسها في جانب القصر فوثبت عليه كأنها فارس بارع.
فصاح بها المسيب: أوأنت عاتكة؟
فقالت المرأة: أنا عاتكة ابنة نهشل.
فخفض الرجل بصره وجمع الطفل إلى صدره في عطف وسار صامتا أمامها ليلحق بالركب.
سلامش
«قد تختلف الشعوب، وقد تقوم الحدود بين الدول وتثور فيها الحروب، ولكن القلب الإنساني يجمع بينها ويزيل أحقادها.»
دافع المحصورون في أنطاكية دفاع الأبطال. لم يتركوا الأسوار حتى لم يبق بها ركن غير مثلوم. ولم يدعوا الضرب حتى لم يبق لمجانيقهم حجر يقذفون به أو نار يلقون بها على أعدائهم. وانتصرت جنود السلطان بيبرس، ودخلت المدينة في أبهة النصر واختيال القوة. وكانوا وهم يدخلون المدينة لا ينسون أنهم فتحوا أكبر معقل بقي للنصارى في الشام، بعد أن كانوا قد بسطوا أيديهم على ذلك القطر كله.
وكان قائد الجند «سلامش» شابا في مقتبل العمر، لو رآه أحد في غير لباس الحرب لظنه أحد أبناء الملوك المنعمين. وجه مشرق وقوام ممشوق ورأس عال وعين تنطق بالسيادة. وكان في عدة الحرب عليه اللامة والدروع وفي يده الرمح وفي منطقته السيف، راكبا جواده الأصيل في صدر جنوده، ناظرا إلى الأمام معبسا جادا.
وكان يوم دخول أنطاكية يوما مشهودا، فكان نساء المدينة وصبيانها أسرى ينتظرون حكم الفاتح فيهم! وكان رجالهم وشبانها بين مقيد في الأصفاد وجريح يعنى به في خيام العلاج، وقتيل طريح على جانب الأسوار. وبلغ القائد وجيشه ميدان المدينة الأكبر، وقد احتشد فيه الأسرى والضعفاء يتطلعون جميعا إلى من في يده الحكم في مصائرهم. وهدأت الأصوات، وأومأ القائد للجيش بالوقوف حول الميدان. فوقف الجند ينظرون إلى أكوام الغنائم التي أمر السلطان الأعظم أن تقسم بينهم، وهي من كل نفيس ونادر من تحف الأمراء والأغنياء. ووقف جماعات من سبايا الحرب بين صبية وعذارى وبين كهول وشبان ينظرون إلى قيودهم حانقين، أو يبكون ويندبون معولين.
وتقدم نحو سلامش وفد من كبار المدينة وأمرائها، حتى إذا ما صاروا منه على بضع خطوات ركعوا له ووقفوا يطلبون الإذن بالكلام، فأذن لهم وهو معبس على عادته، لا تفارقه تلك النظرة الصارمة التي في عينيه. وجعلوا يتكلمون بلسانهم ورجل منهم يترجم ما يقولون، فطلبوا أن يمن عليهم القائد بالحرية وأن يهبهم نساءهم وذراريهم تقربا إلى الله الذي نصره، بعد أن وضعت الحرب أوزارها ودانت المدينة لحكم السلطان الأعظم. وقالوا له فيما قالوا: «حسبك من قتلت من شبابنا وكهولنا، وما خربت من ديارنا ومعاهدنا، فلئن كانت بنا كبرياء لقد ذلت، ولئن كانت فينا عزة لقد هانت، وكفاك من الحرب النصر، فلا تضم إليه دموع المساكين ولهيب الفراق بين الأبناء والوالدين.»
غير أن سلامش بقي على تعبيسه ووجومه، ولم يجب إلا بإشارة لجنوده أن يعيدوا الأسرى إلى معسكر السلطان حتى يرى فيهم رأيه الأخير، فلم يكن للوفد إلا أن يرتد كليلا حسيرا.
ثم أمر القائد جنوده بالمسير إلى مخيمه، وسار في الطليعة يتقدمهم، لولا أن استوقف نظره جماعة من الجند يجرون شخصا وهو يمانع ويجاهد. وتأمل الشخص فإذا هو امرأة من الأسرى. واقترب سلامش منها فرأى شابة جميلة ممشوقة فارعة، بوجهها صفرة قد غطتها حمرة، وفي عينيها حلاوة قد غشيتها صرامة، وهي تنظر إلى الجنديين اللذين يدفعانها مرفوعة الرأس كأنها تتحداهما جامدة العينين مضمومة الشفتين. وقد تمزق ثوبها وتلطخ من آثار الوسخ والدماء، فلا يكاد يستر من جسمها إلا ما يستر ظل أوراق الشجر من صفحة الجدول. وكان شعرها الفاحم الغزير يغطي كتفيها لامعا في ضوء الشمس الغاربة كأنه الحرير. فرق لها قلبه، وتمهدت عبسته ولانت نظرته، وأشار إلى الجنديين أن يكفا عنها. ثم نزل إليها وأخذ بذراعها مترفقا، فأسلمت له وسارت معه، حتى اقترب من شيخ فقيه من أهل المدينة كان في صحبة الجيش فأمره أن يترفق بها حتى تذهب إلى خيمته. ولما ركب جواده استعاد نظرته الصارمة وعبسته، وألقى الأمر بالمسير، وقضى سائر اليوم في شغل من أمر جيشه حتى انتصف الليل.
ولما أوى إلى خيمته تذكر الفتاة التي كانت أعمال اليوم قد أنسته ذكراها، فأمر غلاما أن يحضرها إليه، وجلس يستعيد صورتها، ويتمثلها وهي تناضل على ضعفها، وتتكبر على ذلها.
وغاب الغلام قليلا ثم عاد وحيدا، وقال له بعد التحية: «إنها لا ترد بكلمة ولا ترفع إلى أحد بصرها.»
فصرفه سلامش وجلس هنيهة يفكر، ثم نهض متثاقلا وسار إلى خيمتها، فرآها جالسة على الأرض وقد وضعت رأسها بين كفيها.
فدنا منها ووضع يده على رأسها، وتبسم ابتسامة ضئيلة وقال: يحزنني أنهم أساءوا إليك.
فانتفضت الفتاة رافعة رأسها وقامت تنظر إليه والحقد مرتسم على محياها والغضب يضطرم في عينيها، وكانت الملابس الرثة التي أتت بها قد بدلت وألبست حلة من الحرير جعلت وجهها المصفر وعليه آثار الدموع يبدو كالزنبقة المبللة بالندى، ودفعت يده عنها قائلة وفي صوتها بحة: أبعد يدك عني أيها القاتل السفاك. أدر وجهك الكريه عني. فأنت قاتل أبي وأخي، وأنت سافك دماء قومي، وأنت المعتدي على وطني. ابعد عني وافعل ما شئت من عذاب أو قتل، تكمل به وحشيتك وفظاعة جندك.
وكانت في ثورتها تقذف بنظرات كالسهام وصدرها يعلو ويهبط، وشعرها الطويل الأسحم يضطرب فوق كتفيها وعلى صدرها.
ودهش سلامش من قولها، ولم تفته فصاحة لفظها ولا رخامة صوتها. ولكنه لم يجب بكلمة، بل رفع حاجبيه وانثنى راجعا إلى خيمته يسير في بطء وفي قلبه شيء يشبه الحزن.
وأرسل إلى الشيخ الفقيه يستحضره، فلما أتى جعل يسأله عن المدينة وأهلها، وعن تلك الفتاة وبيتها، فعلم منه أنها ابنة تاجر من أهل أنطاكية قرأت أدب العرب كما قرأت أدب الفرس، وكان لها أخ قتل في أثناء الحصار ومات أبوها يوم الفتح عند أبواب المدينة تحت سنابك الجيش الظافر.
وسمع سلامش تلك القصة صامتا وقلبه يتكلم، وبات تلك الليلة والأحلام تتخلل نومه حتى لاح الفجر، فصحا وهو مضطرب النفس قلق البال.
ولكن أعمال اليوم لم تترك له متسعا للتفكير في الفتاة ولا في همومها، حتى إذا انقضى اليوم وعاد في المساء إلى خيمته بادر بالذهاب إليها. ولما اقترب منها هذه المرة تردد وترفق ووقف إلى جوارها هنيهة يتأملها في صمت، ثم قال بصوت خفيض: لعلك اليوم أهدأ مما كنت بالأمس.
فلم ترفع إليه بصرها، بل بقيت جالسة ورأسها بين كفيها.
ورأى قريبا منها مائدة صغيرة عليها طعام لم تمتد إليه يد، فقال وهو يتكلف الهدوء والجفاء: هل تريدين أن تموتي جوعا؟
فلم تجبه بحرف، وجعلت تبكي وتحاول كتمان نحيبها. فقرب منها وحاول أن يضع يده على رأسها وهو محترس متلطف، ولكنه ما كاد يلمسها حتى نفرت منه وصاحت به قائلة: أقول لك اتركني ...
فأبعد يده عنها، وتراجع ناظرا إليها لحظة، ثم خرج مسرعا وفي قلبه حزن وقلق.
وقضى ذلك اليوم موزع القلب كئيبا، وصرف أمور الحكم متبرما غاضبا، حتى عجب الناس أن تكون تلك حاله بعد ما أحرز من النصر وما بلغ من المجد والتوفيق. وما انتهى من عمله حتى أسرع إلى سرادقه ووقف هذه المرة مترددا وجلا، قبل أن يذهب إلى خيمة الفتاة. وكانت ما تزال على ما كانت عليه في الصباح، والمائدة الصغيرة عليها عشاء لم تمتد إليه يد .
ونظر إليها مليا ثم قال برفق: أما تكلمينني؟ إنني أرجوك أن تنظري إلي وتنطقي بما يجول في نفسك ولو كان قاسيا.
ثم مد يده إلى رأسها ومسح عليها متلطفا، فلم تثر هذه المرة ولم تغضب ولكنها بقيت ساكنة في مكانها كئيبة.
فجلس إلى جوارها يحاول أن يحادثها، وهي لا تجيب إلا بدمعة تثور بين حين وحين في عينيها فتمسحها بمنديل ثم تعود إلى وجومها وسكونها، فقال لها ولسانه ينم عن مقدار عطفه وحزنه: إنني لا أريد إيلامك، بل إني لا أحب أن أراك متألمة. ولو عرفت أن ألمك يزول بإبعادك عني لفعلت. ألك أهل في عكا أو في مدينة أخرى من المدن فأرسلك إليهم؟
فهزت رأسها وقالت: ليس لي أهل. قد قتلتهم جميعا، ويا ليتني قتلت معهم.
ثم شهقت بالبكاء واسترسلت في هزة مرة من الحزن.
ولم يملك سلامش قلبه من أن يجيش بالحزن، وقال لها في تأثر: إنني أرحمك في حزنك الذي لا أملك دفعه. كان أهلك أعدائي، وكنا معا في ميدان قتال يسعون فيه إلى قتلنا كما كنا نسعى إلى قتلهم. وهل للشجعان مصير إلا الموت في ميدان الحرب؟ ولو كان أهلك بين هؤلاء الأسرى لما ترددت في افتدائهم من أجلك، ولكنهم في غير حاجة إلي ولا إليك. إن حزنك يؤلمني وإن كانت كبرياؤك قهرت كبريائي. إذا شئت أن تبعدي إلى مكان تختارينه كان لك ما تشائين، وإن أحببت المقام هنا كنت في أعز مكان عندي.
فنظرت الفتاة نحوه وقد زال من عينيها ذلك البريق القاسي الذي كان يلوح منهما كلما نظرت نحوه من قبل، وأطالت نظرتها إليه حينا ثم أغضت صامتة.
ولم يذهب سلامش ذلك المساء إلى خيمته حتى كان قد قاسمها بعض الطعام الذي كان على المائدة.
وجاء بريد السلطان في الصباح يحمل إلى سلامش أمرا بالسير إلى دمشق بمن معه من الجند، ووهب له المدينة يتصرف في غنائمها كما يشاء اعترافا ببسالته وجزاء على انتصاره العظيم.
وقضى سلامش يومين كاملين في الاستعداد للمسير إلى دمشق . وبكر في يوم الرحيل إلى خيمة الفتاة، وهو خفيف الخطوة متهلل النفس، فرآها راقدة على أريكة. فلما وقع بصرها عليه جال على وجهها طيف ابتسامة واعتدلت في مكانها. ولما حياها تحية الصباح ردت تحيته، ثم جلس قريبا منها وأخذ يحدثها، وكان في حديثه خفيض الصوت مهتز النبرات.
قال لها: لقد أمرني السلطان أن أسير إلى دمشق.
فلم تجبه، بل نظرت نحوه كأنها تنتظر لحديثه تتمة، واستمر قائلا: وقد أراد السلطان العظيم حفظه الله أن يهب لي هذه المدينة، فهل لك مطلب فيها؟
فصاحت الفتاة ومدت نحوه يديها قائلة: إذا فالمدينة في يديك؟
فقال لها: هي كذلك، فاطلبي ما تحبين ...
فصاحت الفتاة قائلة: ماذا تفعل بالأسرى؟
فتبسم سلامش نحوها وقال: هم لك يا ... لم أعرف اسمك بعد.
فأجابت وصوتها يتهدج من الفرح: أونوريا!
فقام ومد يده نحوها وقال: هم لك يا أونوريا!
فمدت يديها وأمسكت بيديه الممدوتين وقالت: ما اسمك أنت؟
فقال باسما: سلامش ...
فنظرت إلى وجهه لحظة، ثم تركت يديه وأطرقت إلى الأرض. واستمر هو قائلا: وأحب أن أعرف أين تذهبين. لك أن ترجعي إلى دارك إذا شئت عزيزة في ظل السلطان العظيم. ولك أن تذهبي حيث شئت في دولته الفسيحة ...
فنظرت الفتاة نحوه وترددت قليلا، ثم قالت في حياء: وأنت؟ ...
فقال سلامش وهو يمانع نفسه من الاضطراب: اليوم أسير إلى دمشق.
فسكتت الفتاة لحظة ثم مدت يديها بحرارة وقالت: سلامش! وأنا كذلك إلى دمشق أسير.
ثم ارتمت بين ذراعيه.
الأمير بدر الدين بيليك
«عندما تعصف الأهواء بالحكمة، كم من ضحايا ذهبت في سبيل الأهواء الصغيرة التي مهدت طريق الأمم المنحدر نحو الفناء!»
سار الموكب العظيم عائدا من بلاد الشام، وكان فرسان المؤخرة يسوقون الأثقال من غنائم أرمينية وأذربيجان وآسيا الصغرى والقوقاز. ولكن السلطان العظيم بيبرس الذي عاد بتلك الغنائم لم يكن على رأس الجيش في صدر الموكب. كانت المحفة البديعة المزركشة بالأبنوس والعاج والصدف تسير متئدة فوق أعناق الإبل، والفرسان يرفعون نحوها أعينهم في خشوع إذ كان فيها قائدهم العظيم الذي صرعه المرض. وكان الأمير بدر الدين بيليك نائب السلطنة يسير مطرقا على ظهر جواده الأبيض إلى يمين المحفة، يلفت رأسه بين حين وآخر فيرمقها بحزن.
وكان الصمت يلف الصحراء إلا من وقع أخفاف الإبل وحوافر الخيل على الرمال الناعمة.
واشتد حر الظهيرة، وبدا الكلال على الخيل بعد أن واصلت السير إلى مطلع الفجر، فأمر بدر الدين بدق الكئوس مؤذنا بوقوف الركب للراحة. وأنزلت المحفة في رفق فوضعت فوق الرمل على قوائمها، وأشار نائب السلطنة إلى الفرسان المحيطين بها أن يذهبوا ليستريحوا ساعة. فلما بعدوا عنه رفع الستار عن المحفة وانحنى في خشوع كأنه يحيي مولاه، ولكن المحفة كانت خالية ليس فيها شيء.
وبعد قليل أتى إليه صديقه الأمير قلاوون صهر السلطان ومعه الطبيب، فدخلا إلى المحفة وانحنيا بالتحية كما فعل بدر الدين، ثم تراجعا إلى الوراء وأعادا التحية وأسدلا ستار المحفة الخالية. ثم جلسوا عند باب المحفة ليعدوا نشرة الطبيب معلنة أن السلطان يتماثل للشفاء.
وسار الموكب يوما بعد يوم، والمحفة الخالية محمولة في وسطه، والأمير بدر الدين يرفع عنها الستار في كل يوم مرتين، ويدعو الطبيب إلى زيارتها، ثم يذيع في الجيش أن الملك الظاهر يتنسم في هذا السفر نسيم العافية. وبلغ الموكب أرباض القاهرة، وخرج الناس إليه ألوفا ليستقبلوا بطلهم العظيم بيبرس. •••
وكان الأمير محمد بركة بن بيبرس جالسا في الإيوان الكبير في قلعة صلاح الدين ينتظر موكب والده ومن حوله أمراء الدولة. وكانت الشمس تطل في الإيوان فاترة من خلال النوافذ ذات الزجاج الملون، فشاع الضوء الرقيق في جنباته يكسو أرضه الرخامية بألوان متناسقة مختلفة، بين الأحمر والأزرق والأخضر والبرتقالي. وكان الأمير محمد ولي العهد جالسا فوق كرسي عال من الأبنوس المطعم بالعاج والصدف، إلى جانب كرسي السلطان الرخامي القائم في صدر الإيوان على هيئة المنبر.
وجلس إلى يمينه ويساره أهل الدولة في ترتيبهم المرسوم، ووقف من ورائه كبار الأمراء أصحاب المشورة، وتفرق الحجاب والمماليك في جوانب الإيوان الفسيح في ملابسهم المختلفة الألوان وأقبيتهم الصفراء الحريرية.
وبعد حين دقت كئوس الموسيقى تحت نوافذ الإيوان مؤذنة باقتراب طلائع الموكب، ثم سمعت ضجة الموكب، فوقف كل من في المجلس ليستقبلوا السلطان.
ودخل نائب السلطنة مطرقا يسير في بطء، حتى إذا ما صار على بضع خطوات من الأمير انحنى بالتحية حتى لمس بأطراف أصابعه بساط الإيوان، ثم رفع يده إلى فمه فقبلها ووضعها على رأسه، وتقدم خطوة أخرى وانحنى بالتحية مرة أخرى، وتقدم خطوة ثالثة وأعاد تحيته، ثم وقف متجها إلى الأمير خاشعا. فساد الصمت، وفتح الحاضرون أعينهم من الدهشة؛ إذ رأوا نائب السلطنة يحيي ولي العهد مثل تحية السلطان العظيم.
ورفع بدر الدين يديه بالدعاء قائلا: حفظ الله مولاي وأحسن عزاءه ...
ووقف مطرقا، وساد الصمت لحظة، ثم ضج المجلس ضجة الدهشة والمفاجأة، وشاعت الأنباء سريعة في القاهرة أن السلطان الفاتح بيبرس قد دفن في دمشق، وأن الموكب الذي أقبل إلى مصر إنما كان يحيط بمحفة خالية.
واعتكف الأمير بدر الدين بعد ذلك في داره لكي يذوق شيئا من الراحة بعد سفره الطويل، وما كان فيه من مشقة الجسم وكد القلب، فلم يذهب إلى دار النيابة، ولم يبكر إلى خدمة السلطان الجديد، ولم يذهب لعزاء السيدة الوالدة في زوجها العظيم. ولم يشعر بالراحة إلا بعد أيام، فاستطاع أن ينزل من دار الحريم ليجلس في البهو الفسيح من دار الرجال، وكان ذلك المكان آية من آيات الفن، تحليه النقوش الدقيقة بألوان متداخلة يمازجها الفضي والذهبي والقرمزي، وكان حول الجدران من أعلاها إطار كتبت فيه آيات من القرآن بأقلام نوابغ فن الخط، ووزعت حول البهو تحف مختلفة تتصل بذكريات الحوادث التي مرت بصاحب الدار في حياته المضطربة، وكان أثاث البهو يغطي كل جوانبه وأركانه، حتى لم يكن فيه موضع تظهر منه أرضه الرخامية التي كانت تحليها نقوش من الفسيفساء والأحجار الملونة. وكان في وسط البهو «فسقية» من الرخام الأبيض، رسمت في قاعها أنواع من الأسماك، فإذا امتلأت بالماء في فصل الصيف خيل إلى من ينظر إليها أن الأسماك تتلاعب في بحيرتها.
جلس الأمير بدر الدين على مقعد في الصدر، وجعل يجيل بصره في التحف التي تحيط به. فهذه ستارة من الحرير المذهب من غنائم أنطاكية، وإلى جانبها جوشن أهداه إليه السلطان اعترافا ببسالته في حرب التتار عند حلب، وذاك سيف يعيد إليه ذكرى قاسية، فهو سيف «ليفون» الشاب ابن ملك الأرمن الذي تصدى له في موقعة «سيس» على نهر الفرات وكاد يقضي عليه لولا أن عثر الجواد بالفتى فأوقعه على الأرض، واكتفى بدر الدين بأن أخذ منه السيف بعد أن أسره. وهناك غير ذلك كله حلل كثيرة زاهية الألوان مزركشة بالذهب علقت في كل منها منطقة من الذهب الخالص، وهي الجوائز الكثيرة التي أنعم بها السلطان العظيم عليه في مباريات الرماية ولعب الكرة بالصولجان وفي سباق الخيل.
جلس الأمير يستعيد أحداث ذلك الماضي المليء، ثم تنفس نفسا طويلا عميقا كأنه عاد من رحلة طويلة، وأحس في نفسه انقباضا شديدا وهو يستعيد ذكرى ماضيه؛ لأن السلطان الجديد لم يبعث إليه رسولا في هذه الأيام التي قضاها في داره يستريح، ولم يرسل في طلبه ليشارك في الموكب العظيم الذي يشق فيه السلطان الجديد عاصمة ملكه لأول مرة.
فخرج إلى حديقة قصره ليسري عن نفسه، وأخذ يتمشى في مسالكها الضيقة المتعرجة بين أحواض الورد الأصفر والأحمر وحصا البان والعتر وبين الأشجار النادرة التي نقلها من بلاد الشام من مشمش وبرتقال وتفاح.
وكان هواء الأصيل يهب باردا على غير عادة تلك الأيام من شهر أغسطس، فبعث فيه برد الهواء نشاطا أزال عنه كثيرا مما خيم على نفسه من الانقباض والغم.
ومال في ركن من الحديقة إلى أريكة تظللها فروع غزيرة من الياسمين، فاضطجع يستريح، فأتى إليه خادمه مسرعا يخبره أن السلطان بعث إليه رسوله يستدعيه.
وأسرع بدر الدين ليستعد للمثول بين يدي سيده وخفق قلبه سرورا لعطف مولاه الذي تذكره وبعث رسوله إليه.
ولما ذهب إلى القصر، لقي فيه ترحابا جديرا بقدره، واستقبله الملك السعيد باسما وبالغ في إكرامه، حتى إنه أذن له أن يذهب إلى قصر السيدة الوالدة ليعزيها بنفسه.
وذهب بدر الدين إلى قصر السيدة الوالدة وهو يكاد يسبح في الهواء من السعادة، حتى إذا بلغ موضع الستارة من القصر جاءت إليه السيدة العظيمة نفسها فرحبت به من وراء الستارة وشكرته على ما كان من ولائه وحسن بلائه. وأرسلت إليه كأسا ذهبية على صينية رائعة الحسن لم تقع عين على مثلها، وكان في الكأس شراب مثلج يفوح منه عطر ذكي، وقالت السيدة من وراء الستار: هذا شراب صنعته بيدي أيها الأمير العظيم، أقدمه لك إيفاء بحقك وآية مني على شكرك.
فدعا الأمير لها وقبل الأرض تحية لها، ثم شرب الكأس.
الكأس التي تعودت القصور أن تقدمها للذين يؤدون الخدمات الجليلة للسلاطين حتى لا يبقى على الأرض أحد يحس أن له فضلا على سيد البلاد.
وفي اليوم التالي ارتجت القاهرة لجنازة الأمير بدر الدين بيليك بطل الحرب وصاحب الفضل في المحافظة على ملك بيبرس. وكان يسير في طليعتها نائب من قبل السلطان الملك السعيد ونائب آخر من قبل السيدة الوالدة! إذ أرادا أن يظهرا جزعهما على موت خادمهما المخلص الذي حفظ لهما العرش!
آخر السلاطين
«مضت دولة وكان غروب شمسها تحيط به ألوان الشفق الزاهية. كانت دولة جديرة بالفناء، ولكنها كانت مثلا رائعا من عصر منقرض.»
كانت رءوس النخيل الباسقة تميل في كبرياء، وتختلج بسعفها في عنف، كأنها عمالقة تجاهد في معركة أمام رياح الخماسين الخانقة.
وتناثرت سحب الرمال تغطي صفحة السماء وتحجب قرص الشمس الغاربة، فلا يظهر منه إلا مثل جمرة متقدة، وتبدت ألوان الشفق الزاهية مترددة خافتة، تتمسك بأذيال السحب الداكنة.
وسار الركب الصامت في موكب واجم، والخيل تتعثر في الأخاديد التي خطتها سيول الشتاء المنصرم في تلك الصحراء الجرداء، التي لم يبق على وجهها أثر من النبات إلا هشيم تذروه الرياح، يزيد السهل القفر وحشة. وسار الفرسان يلفون اللثم حول وجوههم ليتقوا الرمال السافية، ولكن الحر الكامن في الهواء كان يجعل الأنفاس كثيفة كأنها تلج إلى الصدور قطعا صماء.
ولاح عند الأفق الغربي تل أغبر، يقطع صفحة السماء ثقيلا كأنه يهم بالنهوض ولا تسعفه الهمة.
ورفع الفارس المطرق الذي كان في أول الموكب الحزين رأسه في بطء، وقلب وجهه فيما حوله حتى استقر نظره على قرية فوق التل البعيد، والتفت إلى صاحبه الذي يسير في أثره وقال له: أتعرف ما هذه المدينة يا شاد بك؟
فأجاب صاحبه: هي قرية تروجة يا مولاي.
فقال له الفارس وهو مطرق: نعم، هي تروجة، آخر قرية على حدود الصحراء. اسمع نصيحتي يا صديقي واتركني لشأني واذهب أنت وهؤلاء الأصدقاء لتجدوا لأنفسكم متسعا للحياة.
فقال شاد: وهل كنا لننكث عهدنا ونغدر بك؟ إن لك في أعناقنا عهدا قطعناه على أنفسنا منذ مات الملك قانصوه الغوري شهيدا ... لقد حلفنا أن نكون جنود السلطان طومنباي أينما كان، ولن نزال جنودا لسلطان مصر حتى نسفك آخر ما بقي من دمائنا.
فأطرق طومنباي حينا ثم تنفس وقال: ما كنت أؤثر يا شاد أن تمتد بي الأيام حتى أرى نفسي طريدا مع هذه الفئة القليلة من الفرسان البسلاء، الذين جررت عليهم الشقاء معي. إنني أحس يا صديقي أن طالعا من النحس يتبعني، ولست أدري كيف ينقلب نصري خذلانا، وكيف ينفلت الأمر من يدي كما ينفلت نور الشمس من بين الأصابع. كلما ظننت أن النصر قد أقبل وأصبح في قبضة يدي، وجدت الشؤم يطاردني وصحوت على هزيمة طاحنة كأنني كنت في كابوس ثقيل.
وعاد الفارس إلى صمته وجعل ينظر نحو التل البعيد، وسار الموكب واجما يقتفي أثره صامتا، لا تسمع فيه إلا خشخشة حوافر الخيل إذ تخبط في سيرها كليلة تمتد أعناقها نحو الأرض من الإعياء. ثم لفت الفارس رأسه فجأة نحو صاحبه وقال له: أتعرف ماذا كان هذا التل من قبل يا شاد؟
فتمتم الرجل قائلا: هذه أول مرة أراه.
فكشف الفارس رأسه وأزاح اللثام عن وجهه الذي لوحته الشمس، وقال في صوت حزين: هذا التل بقية مدينة عظيمة كانت هناك في أيام القدماء، عندما كانت هذه الأرض سلسلة من البساتين الظليلة. هكذا الدنيا يا شاد، يفنى عزها ويطوى مجدها فلا يبقى منها إلا أثر مثل هذا التل القائم في الصحراء. لقد كنت أقف في مصر إلى جانب الأهرام، فأتصور الذين بنوها وما كان لهم من المجد والغنى والفن، ثم أحس قلبي يخفق كأنه يريد أن يقف ويخمد في صدري إذ أتأمل ما نحن فيه اليوم من ضعف وخمود. هذا التل يقوم في وسط الصحراء مناديا بأن الأبناء قد يرثون المجد ولا يحافظون عليه.
وكان شاد بك يسمع هذا القول الحزين وهو مطرق.
واستمر طومنباي قائلا: إن قلبي مظلم يا صديقي. أواه! إنه في مثل ظلمة السجن ويطويني في جوفه.
فقال شاد بك متأثرا: لا تستسلم لهذا الهم يا مولاي، والأمل ما يزال أمامنا فسيحا. هناك منازل صديقك حسن بن مرعي شيخ عرب البحيرة، وستجد عنده بلا شك ما تحب من النصر على هذا الدخيل ابن عثمان، وسيجتمع لك بعد حين جيش من العرب يتحفز لقتال هؤلاء الغرباء، وسنكون في صدر الجيش نمزق الجموع الهزيلة التي أتت إلينا كالذئاب من وراء الصحراء ... لم ينتصر الترك علينا إلا بخيانة الخونة، وسنمزق جموعهم في المعركة المقبلة ونعود إلى مصر التي تردد اسمك في حنايا قلوبها.
فأطرق السلطان صامتا، وكان يحس في نفسه شعورا مبهما من اليأس يرده إلى الحزن كلما حاول الفكاك منه، وكلما حاول أن يعلل نفسه بما سوف يجده عند صديقه الأمير العربي من المعونة والحماية أحس برودة تشبه برودة الثلج تغوص إلى أعماق قلبه وتكاد توقف دقاته.
ثم لاحت بعد حين عند الأفق ربوة تخفيها سحابة من الضباب والغبار، وانحدرت الشمس للمغيب ولمعت من قبل الربوة أنوار تخفق ضئيلة خافتة. واستمر الموكب سائرا في طريقه يخيم عليه الصمت والكآبة. •••
وخرج الأمير حسن بن مرعي وابن عمه الأمير شكر ومن ورائهما طائفة من فرسان العرب على خيول شعثاء خفيفة ضامرة، لاستقبال السواد المقبل من بعيد.
والتفت حسن إلى ابن عمه فسأله: لا أظن هؤلاء إلا بعض المماليك المنهزمين يا شكر .
فقال شكر مبادرا: أرجو ألا يكون ذلك أيها الأمير.
فقام حسن في ركابه واستشرف حينا ثم قال: إنها خيولهم يا شكر بغير شك. إنها خيول هزيمة تسير وئيدة مطرقة.
فصمت شكر حينا ثم قال: وهل يجرؤ المماليك على المجيء إلينا؟
فقال الأمير مسرعا: ولم لا يجرءون يا شكر؟ وهل بقي أمامهم سوى ذلك بعد هزيمتهم الطاحنة؟
فصاح شكر في غيظ: أتراهم يجرءون على ذلك بعد ما أصابنا من ظلمهم وبطشهم؟ أنسيت الأعوام السبعة التي قضيناها في سجن قانصوه؟
فأطرق حسن حينا ثم رفع رأسه وقال بصوت خافت: وكيف أنسى ذلك يا شكر وقد قاسيت في السجن ما قاسيت؟ ولكن المهزوم ليس قانصوه بل طومنباي. إنه صديقي، وهو الذي خلصنا من السجن، وهو الذي حالفته على الوفاء والولاء.
فقال شكر في شيء من الحنق: إنك لن تنصر طومنباي وحده يا ابن عم، إنها دولتهم التي عرفناها وعرفها آباؤنا من قبلنا، وما ينبغي لك أن تنصرها وهي مدبرة محطمة، بعد أن أذاقتنا ألوان العذاب والذل وهي في عزها وقوتها.
فقال الأمير: ولكن طومنباي صديقي، ولا بد لنا من أن نؤدي له واجب الضيف يا ابن عم.
فقال شكر وهو يحاول أن يكتم غيظه: لك أن تختار ما تراه يا ابن عم، فإنا نسير وراءك حيث تسير.
فأطرق الأمير واجما، وامتلأ قلبه حيرة منذ سمع قول ابن عمه، ووقع في نفسه هاجس من الخوف؛ لأنه لن يخاطر بنفسه وحدها بل بكل قومه إذا وقف بهم في جانب دولة محطمة. ورفع رأسه بعد حين وقال في تردد: لقد كان السلطان منذ الصغر صديقي، عرفته منذ صباي وكنا أخوين في العهد على الشيخ المبارك أبي السعود الجارحي.
فضحك شكر ضحكة عالية ساخرة، ثم ملك نفسه وبادر قائلا في لهجة الاعتذار: إنني أول من يطيعك يا ابن عم.
فنظر إليه الأمير متألما وقال له بلهجة العتاب: ولكن ما الذي يضحكك يا شكر؟
فقال شكر جادا: معذرة يا ابن عم إن كنت قد آلمتك، ولكني لا أكتمك أنني لا أظن خيرا في ذلك الشيخ، ولا أرى للعهد الذي قطعته عليه شيئا من القدسية.
فرفع الأمير حاجبه صامتا ومضى ابن عمه فقال: إنه شيخ لبيب يعرف حقيقة مصلحته.
أليس هو الذي كتب على أبواب القاهرة طلاسمه وأسراره زاعما لطومنباي أن ابن عثمان لن يستطيع أن يدخل من تلك الأبواب ما دامت طلاسمه عليها؟ لقد اعتقد طومان المسكين في ولايته، ولم يتحول عن اعتقاده بعد، مع أنه قد رأى ابن عثمان يدخل القاهرة من تلك الأبواب المطلسمة. وها هو ذا ابن عثمان يخترق ريف مصر، ويهزمه في موقعة بعد موقعة حتى أتمها ست هزائم طاحنة، وطومنباي مع ذلك مستمر على اعتقاده في شيخه المبارك.
فقال الأمير ولم يخف ما أصابه من ألم: إنك لا تحب الشيخ يا شكر، فدع هذه السخرية المرة فإني لا أحب أن يصيبك منه أذى.
فعاد شكر إلى الضحك وقال في عناد: أما أنا فلست أبالي أذاه. إن الشيخ الصالح في زاويته بالقاهرة عند كوم الجارح يقيم حلقات الذكر لأتباعه المخلصين، فليس يسمع سخريتي.
فلم يجب حسن، بل عبس ومضى في سبيله صامتا. ولكن ابن عمه قال جادا: أما بلغك أنه كان يستقبل رسل ابن عثمان في زاويته؟ لقد أخبرني بذلك أحد مريديه. وكان الشيخ على عادته حريصا لبيبا؛ لأنه طلب من أتباعه ألا يذيعوا سر ذلك الرسول. وها هو ذا ابن عثمان قد زاره في زاويته أول شيء بعد دخول مصر.
فقال حسن في جفاء: دعنا من هذا الآن، فها هو ذا الركب يعرج نحو منازلنا، فأسرع بنا لنلقاه.
وهمز فرسه فانطلق به مسرعا، ووثبت وراءه أفراس أصحابه تثير غبار الصحراء.
ولما استطاع حسن أن يتبين الوجوه والملابس في غبش المساء قال في شبه صيحة: إنه السلطان طومنباي.
ولما صار على خطوات من ركب طومنباي، ترجل وألقى عنان فرسه على عنقه وصاح مرحبا: شرفت البلاد يا مولاي!
فترجل السلطان وفتح له ذراعيه وتعانق الصديقان.
وكان الليل قد لف الصحراء ولمعت الكواكب في السماء الصافية بعد أن رها الهواء وسكنت العاصفة، وبلغ الفرسان ساحة النجع، فنزل المماليك أتباع السلطان يختارون المواضع لإقامة خيامهم، في حين سار السلطان وأمراؤه الستة نحو خيمة الأمير العربي.
ومد السماط بالطعام بعد حين واجتمع عليه شيوخ العرب من قبائل محارب وكبار الأمراء، وشبان أسرة الزعيم البدوي حسن مرعي.
ودار الحديث بعد العشاء في سيرة الحروب، ولكن الأمير حسن كان يتحاشى المناقشة؛ لأن أقوال ابن عمه شكر تركته في حيرة.
ولم يستطع أن يذوق النوم في ليلته من الأفكار المتضاربة، ثم قام مبكرا في الصباح فذهب إلى خيمة أمه ليستشيرها.
وكانت السيدة جالسة في صدر خبائها تنتظر أن تصلي الفجر، وما كادت تراه حتى بادرته قائلة: لقد سمعت أن السلطان عندك يا ولدي.
فأجابها الأمير مسرعا: نعم، هو هنا يا أماه.
فقالت الأم: لا شك في أنك تعرف ما يجب عليك يا ولدي.
فأطرق الأمير كأن صدمة عنيفة أصابته، ووقف مرتبكا ينظر إليها، وقال: لقد جئت إليك يا أماه لاجئا إليك في حيرتي.
وجلس إلى جوارها يحدثها ويراجعها ويفضي إليها بما قاله ابن عمه شكر، ولكنها كانت ترده كلما راجعها وتدور به إلى كلمتها الأولى كلما أراد أن يتفلت منها. وكانت آخر كلمة منها إليه قولها: إذا لم تشأ أن تقف مع ضيفك وتسبل عليه حمايتك كما يقضي عليك واجبك، فلا يجمل بك إلا أن تصرفه الآن عن جوارك.
فخرج من خبائها يتعثر في خطاه، ويمسح القطرات الباردة عن جبينه الملتهب، ويستقبل نسيم الفجر مستروحا، وسار إلى الشمال في الفضاء الساكن ينظر في أعقاب النجوم الغاربة، والأفكار الثائرة تضطرب في ذهنه الكليل.
وجال بين الكثبان مطرقا يناجي خواطره المضطربة، فلم يعد إلى نفسه حتى علت الشمس فوق الأفق، فتلفت حوله ليرى موضعه من منازله، فما راعه إلا أن رأى على الأفق الجنوبي سوادا يتحرك. فوقف ينظر إليه ذاهلا لا يدري ماذا يكون ذلك المقبل الجديد، ثم عاد إليه وعيه شيئا فشيئا، وفتح عينيه من الدهش والرعب. فقد كان ذلك السواد بغير شك جيشا عظيما يثير حوله سحابة من الغبار يغمرها ضوء الصباح.
فعاد مسرعا إلى الحي وقصد إلى منازل ابن عمه شكر، وناداه في فزع وانتحى به في ناحية ليخبره عن ذلك الجيش الذي طلع به اليوم الجديد.
وأسرعا معا نحو خيام السلطان.
ومضت لحظات طويلة قبل أن يخرج إليهما السلطان من خيمته، إذ كان يصلي الصبح قضاء بعد هجعة نوم ثقيل. فتقدم نحوه الأمير حسن وحياه تحية قصيرة ثم أنبأه باقتراب جيش الأعداء.
وقال له في آخر الحديث: فليس لك يا مولاي إلا أن تحتال لنفسك، ولا تخاطر بالبقاء في وجه هذا الجيش الكبير.
فقال السلطان ثابتا: أتريد أن نسير عن جوارك أيها الأمير؟
فأدرك الأمير ما في سؤال السلطان من لوم، وبادر قائلا: إذا شئت يا مولاي أن تبقى فنحن معك. ليس علينا إلا أن نموت معك إذا شئت أن تجعل الوقعة الأخيرة هنا.
فأطرق طومنباي مليا، ثم نظر حوله نحو خيام أتباعه القلائل، وقال في صوت متهدج: ليس لي أن أتحكم في مصير هؤلاء؟
ثم أعلى صوته قائلا للأمير البدوي: لم ألجأ إليك يا صديقي لأجر عليك وعلى قومك الهلاك، وقد صدقت في نصحي إذ أشرت علي ألا أواجه هذا الجيش.
فقال حسن: إذا شئت يا مولاي فاخرج إلى البراح وأوغل في الصحراء، فإن الجيش لن يستطيع اللحاق بك في هذه القفار.
فقال طومنباي: إننا لا نستطيع الهرب من القضاء يا صديقي. فقد طالما وقفنا في وجه الجيوش الجرارة، ومزقنا صفوفها بصدمة حملاتنا المفردة. كنا أفرادا نقاتل الألوف ونفتك بها، ونخرج من تحت الغبار بغير أن تصل أيدي العدو إلينا. إني أرد عليك جوارك يا صديقي، وسأذهب من هنا.
فرد الأمير حسن والخجل يثير الدماء في وجهه: لن نتخلى عنك يا مولاي إذا شئت البقاء. إنني ما أزال على العهد الذي قطعته لك، ولن يخذلني عن نصرتك ما أراه من قوة عدوك. إنني نصحت لك ناظرا إلى سلامتك، ولكني واقف معك إذا شئت حتى تحكم الأقدار حكمها.
فأطرق السلطان حينا وبدت على وجهه ظلال من التردد، ثم رفع رأسه وقال هادئا: أليس هناك موضع نستطيع أن نتحصن فيه؟
فقال الأمير مبادرا: نعم يا مولاي. هذا وادي الغابة على بعد قليل، هو واد حصين لن يستطيع جيش أن يدخل إليه. إن له مدخلا لا يتسع لأكثر من راكب واحد، وتحف به رمال تغوص فيها الدابة وتغرق في المستنقع الوخيم. ولن تجرؤ الجموع على اقتحامه ما بقي عند ذلك المدخل عدد قليل يحميه.
فقال السلطان في وجوم: إذا شئت فسر بنا إليه أيها الأمير.
ثم أسرع نحو الخيام ليأمر أصحابه بالاستعداد ليسيروا سراعا إلى الوادي الحصين. •••
وكان اليوم مثل سابقه قاتم السماء قلق الريح، يثور غباره مع هبات الهواء التي تسفي الرمال.
واعتلى السلطان طومنباي ربوة في الوادي الذي دخله مع أصحابه في أول الصباح، وأطل على المدخل الضيق يتأمل الرمال السمراء التي تحف بجانبيه.
وكان قلبه ثقيلا يكاد يغوص في أعماق صدره وهو ينظر في حسرة إلى الفئة الضئيلة التي بقيت له من فرسانه ومماليكه.
وتمنى لو انصرف هؤلاء عنه وتركوه حيث هو على تلك الربوة ليقاتل في المعركة الأخيرة وحده. ورأى عند الأفق البعيد جيش ابن عثمان يملأ الفضاء، فعرف أن الأمير العربي أخلص له النصيحة عندما أشار عليه أن ينجو مع أصحابه إلى الصحراء الفسيحة قبل أن يحيط به عدوه بألوفه المؤلفة. واندفع هابطا من الربوة إلى الوادي الأغبر، ثم استمر حتى بلغ الساحل وهو ذاهل عما يريد أن يصنع. وهناك وقف حينا ينظر إلى الموج الهائج ويستمع إلى صوت هديره العنيف، كأنه وجد في ثورة البحر الصاخب ما يواسي ثورة قلبه الحانق. وتصاعدت الشمس نحو كبد السماء وهو ثابت في مكانه وحيدا لا يملك من ملك مصر كله سوى الدرع التي عليه والطبر الفولاذي الذي طالما صاحبه في المعارك وسيفه الباتر الذي ورثه عن سلسلة السلاطين الأبطال. وخيل إليه أنه يسمع صوتا يناديه من ثنايا الموج: «ها قد قضي الأمر، فلا تقاوم القضاء.»
فوثب كالمخبول يتلفت حوله في فزع، واستولى عليه شعور غامر من اليأس والذعر، وأحس برأسه يتصدع وبعزمه يتحلل. وطن الصوت في أذنيه مرة أخرى: «لقد قضي الأمر ولا حيلة في مقاومة القضاء.» فاندفع يخوض الموج لا يدري ماذا يريد، ثم توقف وتراجع. ولم يدر ما هو فاعل عندما نزع درعه فقذف بها في الماء، ثم ألقى فيه بعد ذلك طبره الفولاذي وخوذته النحاسية، ثم قذف بالجراب الذي كان في منطقته مملوءا بالجواهر التي ادخرها لتكون له إسعافا إذا احتاج إلى مال. وهم أن يلقي بسيفه وراءها، ولكنه تردد وأعاده إلى حمائله قائلا في صوت ذاهل يشبه حشرجة الذبيح: هذا ما بقي لي من ملك ضائع.
وتراجع من بين الأمواج متخاذلا كسيفا، فاتجه نحو الوادي حيث كان أصحابه. وما كادوا يلمحونه حتى أسرعوا إليه في قلق والتفوا حوله يأتنسون بوجوده بينهم. واتجه شاد بك إليه يريد أن يحدثه فإذا ضجة ترتفع من ناحية مدخل الوادي، فالتفت الجمع وراءهم يحسبون أن جنود الترك أقبلت تناوشهم، فإذا الأمير حسن بن مرعي عند المدخل ينادي قائلا: انج بنفسك وبمن معك يا مولاي قبل أن تهلكوا ونهلك معكم جميعا.
ثم لوى عنان فرسه وعاد يركض مسرعا.
فنظر طومنباي إلى أصحابه قائلا: أما سمعتم القول؟
فصاح الأمير قانصوه العادلي في غيظ: لقد علمت أن هؤلاء العرب لا يغنون عنا شيئا.
وصاح الأمير يحيى: هلموا إلى الخيل فلنمت كراما.
وتوالت صيحات أخرى والأمراء يتسارعون إلى خيولهم ليستعدوا للصدمة اليائسة. ولكن السلطان بقي ثابتا في مكانه وهو مطرق في حزن. فصاح به شاد بك: هلم يا مولاي فالدقائق معدودة.
فقال السلطان في ضعف: انج بنفسك وبمن معك أيها الأمير. لا تنظر إلي واذهب بأصحابك.
فعاد شاد بك إليه يريد أن يجذبه معه، ولكن نظرة السلطان الهادئة كانت تنم عن عزيمة صارمة. فقال شاد بك في ضراعة: إنك لن تهجرنا في هذه الساعة يا مولاي. إن وجودك بيننا يبعث فينا الأمل والقوة. إننا في حاجة إليك فلا تخذلنا بحق سيفك. إننا في حاجة إلى سيف البطل طومنباي.
فأدار السلطان وجهه الحزين عن الأمير حتى لا يظهر له ما بدا عليه من الاضطراب. وأطرق الأمراء بقلوب موجعة إشفاقا أن يملئوا أعينهم من ذلك البطل الذي ينهار تحت نظراتهم. ثم قال طومنباي بعد تردد: إنني أحس ألما يطعن فؤادي طعنا أشد من وقع السيوف والرماح وأنا أنطق بكلماتي. ولكن هذا هو القضاء. نحن نجني الثمار المرة التي غرسها من قبل سوانا. لست أذكر مساوئ الموتى، بل إنني أطلب لهم الرحمة من الله. ولكن هي الحقيقة المؤلمة. إنني أنطق بها وليس في صدري أثر من الحقد أو اللوم. نحن نجني الأشواك التي بذرها أولئك الذين كانوا يتمتعون بالحكم ولا يبالون القيام بأعبائه.
فبسط شاد بك يديه ضارعا وقال: إنني أستحلفك بشرفك. إنني أتوسل إليك بالسيف الذي لن يجد يدا طاهرة تحمله بعدك. أستحلفك بكل ذلك أن تسير معنا لنلقى قضاءنا معا.
فقال طومنباي وقد عاد إليه الهدوء: لو علمت أنكم تطيعونني لأمرتكم بالبقاء معي هاهنا حتى نلقى قضاءنا معا في صمت. إن هذا أكرم لنا من أن نضرب في فجاج الأرض هربا من عدو يلحق بنا في غير هوادة.
فتحرك شاد بك في ضجر وهم أن يتكلم، فقاطعه السلطان قائلا: إنني أعرف أنكم لن ترضوا بالاستسلام وستسخرون مني إذا أنا طلبت منكم أن تستسلموا، ولعلكم تزدادون سخرية إذا علمتم أنني قد ألقيت سلاحي كله في البحر في هذا الصباح.
فصاح شاد بك: ألقيت سلاحك!
وردد الأمراء صيحته في يأس.
فقال طومنباي: نعم، ألقيت سلاحي كله في البحر. ألقيت درعي الفولاذية والحلي والجواهر التي كنت أدخرها، ولم أبق إلا على هذا السيف الذي أحمله رمزا لملكي الزائل. حتى الطبر الفولاذي الذي صنعه الأسلاف الأمجاد من صاعقة السماء، حتى هذا الطبر ألقيت به إلى البحر وعيني باكية.
وارتفعت عند هذا ضجة عالية من قبل مدخل الوادي، فأشار السلطان بيده إلى الأمراء وصاح بصوت أجش: اذهبوا، أسرعوا قبل أن تتعذر النجاة! إلى اللقاء في عالم البقاء. أسرعوا أيها الأصدقاء. إلى اللقاء يا قانصوه العادلي، يا يحيى الشجاع! يا أرزمك النبيل! يا برد بك! يا أبرك الباسل! إلى اللقاء يا شاد بك يا أشجع الشجعان!
ثم أطرق وسار يجر قدميه نحو الربوة الصفراء في جانب الوادي.
فنظر شاد بك إليه وجالت الدموع في عينيه، ثم أدار وجهه وأسرع نحو مربط الخيل وتبعه الأمراء يهرولون في صمت. وصعد السلطان في الكثيب وهو مترنح، حتى بلغ أعلاه فجلس ساهما يحملق في الفضاء.
وبعد ذلك علت ضجة أخرى عند مدخل الوادي ارتجت لها الأرض، وترددت أصداؤها بين سفوح التلال، فالتفت السلطان فإذا الأمراء فوق جيادهم يركضون لا يلوون على شيء، وهم في السلاح الشائك، واندفعوا نحو العنق الضيق المؤدي إلى البراح. وهمزوا الخيل في عنف فخرجت بهم تقتحم جموع الترك التي تغطي وجوه الرمال في أقصى الفضاء، ونظر السلطان من موضعه إليهم كأنه يرى منظرا في حلم، رأى صفوف الترك تضطرب وتنفرج والأمراء يخرجون من بينها وهم يحطمون فيها بضربات عنيفة مثل صواعق الإعصار. وبرزوا من بين الجموع واحدا بعد واحد وحول كل منهم دائرة ضيقة من المماليك، حتى بلغوا براح الفضاء، وانطلقت بهم الخيول تثير في أعقابها سحائب من الغبار الكثيف واتجهوا نحو الغرب.
وكانت الشمس قد مالت للمغيب وصبغت أطراف السحب بألوان الشفق الزاهية مرة أخرى، وكانت الرياح الحائرة الثائرة ما تزال تثير في الفضاء غلالة من الغبار يبدو من تحتها قرص الشمس أحمر مختنقا مثل جذوة نار تتقد من تحت الرماد. ووقف السلطان فوق الربوة ينظر إلى مدخل الوادي، وتبسم ابتسامة ضئيلة عندما رأى كوكبة من فرسان العرب مقبلة نحوه. ولما اقتربت منه رأى الأمير حسن بن مرعي على رأسها، فصاح به قائلا: حسبك أيها الأمير، لا تكلف نفسك عناء، فإني رجل واحد.
فرفع الأمير رمحه قائلا في حنق: يا مولاي لا تسئ بي الظن، فإنما جئت لأقف بينك وبين هؤلاء الترك.
فزالت الابتسامة عن وجه السلطان، ونظر حينا إلى الأمير العربي في دهشة وعيناه تطرفان، وأبصر جموع الترك وهي تتدافع في صف طويل من مدخل الوادي، ثم تنحدر كالسيل وتحيط بدائرة فرسان العرب من وراء. ومضت دقائق طويلة وفرسان العرب يقفون من وراء أميرهم، وعليهم مظهر التحدي ينتظرون ما تأتي به اللحظات المقبلة. وخشعت الأصوات. وخيم على الجموع الزاخرة صمت يشبه السكون الرهيب الذي يشمل الجو قبل العاصفة. فعرف السلطان أن صديقه العربي قد آثر الموت بمن معه في سبيل المروءة، وجالت في عينيه الدموع واختنق صوته عندما حاول الكلام، ولكنه جاهد نفسه وصاح في حشرجة: يا حسن بن مرعي! جزاك الله عني خيرا أيها الأمير. لقد كنت أستطيع النجاة لو أردت الحياة. دعني لقضائي فقد وفيت بذمتك.
فصاح الأمير العربي: لن أسلمك ما دام سيفي في يدي.
فنادى السلطان وقد عاد صوته إلى الصفاء: إني آمرك يا حسن بن مرعي. لا تسفك دما بعد هذا. إني أسلم نفسي. أين قائد الجيش التركي؟
فسكت الأمير حسن ولم يجب، وتقدم قائد الترك «إياس» من بين الصفوف، وأمر قواد جيشه أن يرتدوا بالجند إلى الوراء، ثم ترجل عن فرسه وأغمد سيفه وتقدم نحو الربوة يريد أن يخرق حلقة العرب التي حولها، فاعترض حسن بن مرعي سبيله متحديا.
فصاح السلطان من أعلى الربوة: أفسح له أيها الأمير، مر جندك أن يفسحوا له، إني آمرك إن كنت محتفظا بالولاء. تقدم أيها القائد فإني أنتظر.
فأطرق الأمير حسن إلى الأرض، وسار القائد «إياس» مصعدا في الربوة حتى بلغ موضع السلطان.
ولم يقو الأمير العربي على النظر إلى ورائه عندما علت صيحة الفرح من جنود الترك، فهمز جواده وانطلق مسرعا وفرسانه يركضون في أثره حتى خرجوا من الوادي إلى الفضاء.
وأخذ إياس بذراع طومنباي وهو محتفظ بسيفه ونزلا معا ليركبا عائدين إلى القاهرة، ليكون طومنباي آخر السلاطين.
المبارزة المؤجلة
«حيث لا قانون يكون قانون الغابة.»
كان عمر بك يعرف أنه من أسهل الأمور أن تدبر له مكيدة في أي وقت من الأوقات وفي أي ساعة من ساعات الليل والنهار. كانت القاهرة عند ذلك مدينة تنطوي على حياة خفية أشد اضطرابا من حياتها الظاهرة؛ فقصورها المغلقة النوافذ وحاراتها الضيقة ومنعرجات طرقها التي تشبه التيه توحي بأسرار غامضة لا يستطيع أحد أن يكشف حقائقها. قد يكون الإنسان سائرا في طريقه، أو راكبا، كما قد يكون نائما مطمئنا في فراشه، ثم يتنبه فجأة على صوت غدارة تنطلق عليه أو على لمعة خنجر يهوي نحو صدره. فإذا نجحت المكيدة وانتهت بصيد الفريسة، ظهر المتآمرون أمام أعين الناس وأعلنوا أنهم أصحاب الحق في الاستيلاء على الغنائم، فيذهب دم الضحية هدرا ويصبح الجناة سادة.
كان عمر بك يعرف هذه الحقيقة ولا ينكرها، ولا يجد فيها شيئا يستحق اللوم؛ لأنها كانت هي سنة الحياة في زمانه. هكذا استطاع هو أن يصبح أميرا من كبار السادة في البلاد، وهكذا فاز سيده الذي اشتراه مملوكا صغيرا، وهكذا كان السيد الأكبر الذي اشترى سيده مملوكا صغيرا من قبل. وما أكثر الحوادث التي كانت تذكر عمر بك بأنه يعيش في القاهرة كما يعيش الأسود والنمور والذئاب والضباع في الغابة، فالأسود لا تلوم النمور إذا هاجمتها ولكنها تدافع عن نفسها إلى الموت، ولا تحمل لعدوها حقدا بعد أن تتغلب عليه، ولكنها تقضي عليه.
وما أكثر الأعداء الذين كانوا يحيطون به ويتربصون له، ويدبرون له المكائد في كل ليلة!
فقد كانوا في وقت من الأوقات مماليك صغارا مثله عندما أتوا من بلادهم وراء البحار ونزلوا معا إلى وكالة «اليسيرجي» الذي جلبهم من الخارج، وكثيرا ما تصارعوا وتسابقوا وتباروا في الرماية بالقوس وتبارزوا بالسيف عندما كانوا شبانا يريدون أن يظهروا مواهبهم في فنون القتال. ولم ينس عمر بك مع تطاول السنين منذ تلك الأيام الأولى أنه كان دائما أبرع زملائه في كل هذه الفنون، إذ كان أسبقهم في الجري وأقواهم في المصارعة وأمهرهم في المبارزة بالسيف. وإذا كان أحيانا ينتصر وأحيانا ينهزم في حلبات سباق الخيل فقد كان ذلك تبعا لمقدرة الجواد على السبق، لا تبعا لمقدرته هو على الركوب؛ لأن الجميع يعلمون أنه كان أبرع المماليك في فنون الفروسية.
ولم يكن عجيبا أن يبلغ عمر بك مرتبة الإمارة قبل زملائه؛ لأن كبار الأمراء كانوا حريصين على تقريبه إليهم وكانوا يتنافسون على انضمامه إلى أحزابهم لينتصروا به في مؤامراتهم المستمرة. وقد استفاد هو بهذه المنافسة في كل مرة؛ لأنه كان يجني من كل مؤامرة ثمرة طيبة. استطاع عمر بك أن يكون أغنى الأمراء؛ لأنه كان يحصل على نصيب الأسد من الغنيمة بعد كل مؤامرة. واستطاع أن يكون أقوى الأمراء؛ لأنه حرص على أن يشتري لنفسه أكبر عدد من المماليك حتى صار له عدد عظيم من الأتباع المخلصين. كما استطاع أن يكون أعظم الأمراء مجدا وجاها؛ لأنه فتح بيته للقاصدين، وكان ينفق ما يبقى عنده من الأموال في الهدايا والعطايا والإحسان على أهل العلم والفقراء.
ولم ينس عمر بك نصيبه من السعادة المنزلية؛ لأنه كان يجمع في قصوره الكثيرة مجموعة من الجواري الحسان. كان تجار الجواري يعرفون شغفه بهن، فإذا ما عثر أحدهم بحسناء من بنات الجركس أو الصقالبة أو الروم أو الترك أسرعوا إليه ليبادر بشرائها حتى لا يسبق إليها أحد من منافسيه، وكان عمر بك يجازيهم على هذا الولاء بأن يجزل لهم العطاء ويبذل لهم ما يطلبون من الأثمان إذا وقعت الجارية عنده موقع القبول.
ولم ينس عمر بك فوق كل هذا أن يكرم الأولياء الذين كان الأمراء الآخرون يحتقرونهم ويسمونهم بلهاء أو مجذوبين، فهؤلاء كانوا يذهبون إلى بيت عمر بك كل يوم ليجدوا عنده أطايب الطعام، كما كانوا يقضون عنده السهرات في ليالي رمضان، ويفوزون بالملابس الثمينة من الجوخ والأطلس إذا جاءت أيام العيد. وامتاز عمر بك في القاهرة كلها بأنه من المريدين المخلصين للشيخ علي المجذوب الذي يعرف الجميع كراماته. لهذا كله كان عمر بك لا يحس شيئا من الجزع كلما بلغه أن زملاءه القدامى يحسدونه ويدبرون له المؤامرات، وكان دائما مطمئنا إلى أن أخبار مؤامراتهم تصل إليه عن طريق أعوانه وأتباعه ومحبيه قبل أن يستطيع منافسوه أن يحكموها وينفذوها.
وكان يحس نوعا من السرور عندما تبلغه أنباء مؤامرة جديدة؛ لأنه يجدها فرصة لمغامرة ظريفة يجد فيها متعة تشبه متعة السباق في حلبة الرهان ومتعة المصارعات والمباريات والمبارزات. وقد دلت الحوادث الكثيرة في مدى سنوات طويلة على أن عمر بك بطل لا يمكن أن يتغلب عليه أحد في المنازلات ولا يفوقه أحد في فنون المكر والخداع. ثم حدثت حادثة واحدة كادت تقضي عليه، لولا أنه نجا منها بأعجوبة، ثم كادت تقضي على شهرته بأنه بطل لا يقاوم، لولا أنه تذرع بالصبر والأناة حتى تمكن من استرداد شرفه وشهرته.
جاء إليه الحاج علي «اليسيرجي» تاجر الرقيق ذات مساء وأفضى إليه سرا بأنه قد جلب من بلاد الجركس فتاة لا تزيد على الثامنة عشرة، ولكنها كانت ذات مفاتن لا يمكن وصفها. وما كاد عمر بك يسمع بذلك حتى بادر بالذهاب مع الحاج علي إلى الوكالة بغير أن يفكر طويلا؛ لأن وصف الرجل للفتاة جعله يخشى أن تفوته الفرصة، ولا سيما عندما ذكر له أن أحد المماليك رآها عنده وذهب إليه منذ ساعة يساومه في ثمنها. ولم يأخذ معه أحدا من المماليك؛ لأن الليلة كانت مظلمة ولا يمكن أن يتصور أحد أنه يسير بمفرده في عطفات المدينة في مثل تلك الساعة. وركب جواده، وسار اليسيرجي على بغلته من ورائه، وفي ساعة قصيرة كانا في الوكالة. وهناك دخل عمر بك إلى الفناء الفسيح وأخذ يقلب بصره في أبواب الغرف المحيطة به، إذ كانت كل جارية تتمدد أمام باب غرفتها على أريكة مكسوة بالحرير تنسدل على جانبيها ستارتان من الأطلس الملون، وكانت الأضواء تنبعث من القناديل النحاسية المدلاة من سقف الرواق فتلقي أشعتها الخافتة على الألوان المختلفة الزاهية وتخلع على وجوه الفتيات ألوانا سحرية.
وأشار الحاج علي إلى الغرفة التي في صدر الفناء، فذهب الأمير نحوها ورأى هناك حوراء لم تقع عينه على مثلها من قبل. وماذا يستطيع الوصف أن يحمل في مثل هذه الألفاظ حتى يرسم صورة صادقة لتلك الفتاة الساحرة؟ ولما وقعت عليها عين الأمير ضمت غلالة ثوبها على صدرها في حياء، وأطرقت في خفر، فانسدل شعرها الفاحم يتدفق على كتفيها. أيوصف وجهها بأنه يشبه زهرة؟ أو يوصف جسمها بأنه يشبه دمية؟ عندما نظر إليها عمر بك خيل إليه أن بساتينه تخجل من محاسنها إذا خطرت بين أحواض زهرها، وأن عبير أنفاسها يزري بعبير المسك والعنبر. وسألها عمر بك عن اسمها فلم تجب، وقال له الحاج علي: لم تتعلم العربية بعد، وقد سميتها «جلنار».
فتبسم له الأمير قائلا: اطلب ما تشاء ثمنا لها.
وانصرف عائدا ليأمر بإعداد البيت الذي يليق بحسناء مثلها، ولكنه ما كاد يبلغ باب الوكالة حتى رأى مملوكا شابا يقبل نحو الحاج علي ويقول له: لقد دبرت لك الثمن الذي تريده.
فبهت الشيخ ولم يجبه، ونظر في جزع إلى الأمير.
ولم يتوقع عمر بك أن يفاجأ بمملوك شاب مثله يأتي في تلك الساعة لينافسه، فأراد أن ينصرف واثقا أن الفتى لا يمكن أن يتطلع إلى مثل تلك الجوهرة النفيسة. ولكن الشاب أدرك من نظرة الشيخ ومن صمته أن في الأمر شيئا، فصاح قائلا للشيخ: ها هو ذا الثمن الذي طلبته.
فقال الشيخ بغير احتراس: انتهى الأمر وبعتها.
فصاح المملوك في غضب: أيها النحس!
وارتد إلى الوراء قابضا على سيفه وقال يخاطب الأمير: ألم يقل لك إني اشتريتها؟
فنظر عمر بك إليه ولم يجبه، ولمح على وجهه ما جعله يتردد. كان وجه ذلك المملوك يدل على أنه شاب متهور لا يتردد في أن يخوض معركة.
واستمر المملوك قائلا: لن يخرج بها أحد غيري، لن أسمح لأحد أيا كان أن يأخذها.
ووقف في سبيل عمر بك متحديا.
فقال عمر بك في هدوء: وماذا تفعل؟
فقال الفتى مهددا: تكون لمن يبقى حيا منا. وجرد سيفه وارتد إلى الوراء مستعدا للمنازلة. فهم عمر بك أن يجرد سيفه هو الآخر، ولكنه تردد بعد لحظة، فإنه أحس لأول مرة في حياته أنه غير مستعد للمنازلة. وماذا يفيده إذا أغمد سيفه في صدر مملوك بائس مثل هذا؟ ثم خطرت له خاطرة في مثل لمح البصر، واتجه إلى الفتى قائلا في صوت خافت: سأتنازل لك عن الفتاة إذا عرفت من أنت.
فقال الفتى ساخرا: وماذا تريد مني؟
فقال عمر بك في نغمة سخرية: لعلنا نتلاقى مرة أخرى. فقهقه الفتى ورد سيفه إلى غمده قائلا: لك أن تختار وقتك يا سيدي.
فقال عمر بك: أما تخبرني من أنت؟
فقال متحديا: حسين مملوك عثمان بك.
فرفع عمر بك حاجبه مندهشا وقال: عثمان بك؟ والجارية لك أنت؟
فقال الفتى: وهل هذا يهمك؟
فقال عمر بك: أتعرفني؟
فأجاب المملوك: وهل يخفى عمر بك؟
فصمت الأمير ونظر إلى الحاج علي نظرة ارتياب، ثم أسرع إلى جواده فوثب عليه عائدا إلى بيته وهو يخشى في كل خطوة أن يواجهه كمين من الأعداء أو أن تنطلق عليه رصاصة غدارة عند زاوية الطريق؛ لأنه أحس أن هناك مؤامرة مدبرة. وهل يتعذر على عثمان بك أن يدبر مكيدة محكمة؟ من السهل عليه أن يبعث المملوك لشراء الجارية الحسناء ويعطيه ثمنها ثم يوعز إلى تاجر الجواري أن يعرضها في الوقت عينه على الأمير عمر بك. هي خطة متقنة تضمن وقوف عمر بك وجها لوجه أمام فتى متهور أعجبته امرأة ويخشى أن يخطفها منه الأمير.
ولما بلغ عمر بك داره استلقى على أريكة في الحديقة وهو يحس أنه ارتكب غلطة كبيرة عندما ذهب وحده إلى وكالة «اليسيرجي». وحاول أن يزيل من نفسه شعور الإهانة التي أحسها عندما اضطر إلى التراجع عن مبارزة المملوك الوقح الذي تحداه تحديا صريحا. ولكنه برغم محاولاته الكثيرة استمر ساعة طويلة في جلسته منقبض النفس، وهو يسائل نفسه: ماذا كان يستطيع أن يفعل؟ أكان يجمل به أن يقف بنفسه أمام فتى حانق يائس لا تهمه الحياة في شيء؟
تذكر الخاطرة التي خطرت له وهو واقف تجاه الفتى المتهور. بعد عام سيكون ذلك الفتى قد ذاق لذة الحياة مع جلنار، ولعله يكون قد أنجب طفلا أو طفلة، وعند ذلك سيكون أحرص على الحياة. سيواجهه بعد عام واحد يسترد منه تلك الوقفة التي وقفها أمامه، حتى يعرف الجميع أن أحدا في مصر لم يستطع إلى النهاية أن يقف في وجه عمر بك. ومع أن المقابلة التي حدثت بين الفتى المملوك وبين عمر بك كانت سرا لا يعرفه سواهما، فإن أخبارها ذاعت في أركان القاهرة، فتحدثت بها كل المجالس في أقصى المدينة وأدناها، وتندر الأمراء فيما بينهم وهم يتهامسون قائلين: لقد وجد عمر بك من يخيفه أخيرا.
وشجعهم هذا الفوز على تدبير مؤامرات جديدة.
وجاهد عمر بك طوال العام التالي ليكظم غيظه ويوهم زملاءه القدامى أنه لا يعلم شيئا من محاولاتهم، واكتفى بأن يفسد عليهم كل المؤامرات التي دبروها بغير أن يوجه إلى أحد منهم كلمة. وكان إذا لقيهم في أيام المواسم وإذا اجتمع بهم عند الباشا في مجالس الديوان لا يبخل عليهم بالتحيات الرقيقة التي تفيض مودة وعطفا.
ولما مضى العام اختار أن يضرب الضربة الحاسمة، وكان ذلك بمناسبة مؤامرة جديدة دبرها زملاؤه القدامى، فاختار أن ينازلهم فيها منازلة صريحة.
أولم المملوك حسين وليمة كبرى بمناسبة ميلاد ولده البكر علي، بعد أن ترقى فصار حسين كاشف. وذهب حسين إلى عمر بك في بيته يعتذر إليه ويرجوه الصفح عنه متظاهرا بأنه ندم على جرأته السابقة ووقوفه في وجهه متحديا، وسأله أن يتفضل عليه بتشريفه في داره الجديدة التي بناها على مقربة من قصر الأمير نفسه. وأرسل إليه عمر بك عدة أحمال من الهدايا ووعده بأن يكون أول السابقين إلى الوليمة الكبرى إكراما للسيدة جلنار نفسها أيضا.
وفي اليوم الموعود - يوم الأربعين لميلاد الطفل السعيد - استعد عمر بك للذهاب إلى الوليمة، وهو يعلم كل تفاصيل المؤامرة التي دبرت لاغتياله في ذلك اليوم.
سيقوم حسين كاشف بدوره الطبيعي عندما يتقدم إلى باب البيت لاستقبال الضيف الكبير بالحفاوة التي تليق به، ثم يميل على يده ليقبلها إجلالا له واعتذارا عن خطئه السابق. ولكنه لا يترك يده بعد أن يقبلها، بل يمسك بها بكلتا يديه حتى يمنعه من تجريد سيفه. وفي تلك اللحظة يتقدم المتآمرون الخمسة ليضربوه بسيوفهم في لحظة واحدة. وستكون قصور عمر بك وأمواله وجواريه ومماليكه بعد ذلك غنيمة للجميع، ويصبح حسين كاشف الأمير حسين بك مكافأة له على نجاح المكيدة.
وذهب عمر بك إلى البيت الجديد الذي أعدت فيه الوليمة الفاخرة. كانت الأنوار والأعلام تزين الحارة من مداخلها، وكانت الأرض مفروشة بالرمال الصفراء، وجلست فرقة الطبول والزمور تعزف بأنغامها الصاخبة عند مدخل الفناء، في حين كان الطباخون منهمكين في إعداد الأصناف البديعة للضيوف العظام. ونزل عن فرسه عند الباب وتولى زمامه اثنان من السراجين أتباع الكاشف، وكان الشيخ علي المجذوب هناك واقفا بقرب الباب ممسكا بنبوته الطويل ويطوح رأسه قائلا: الله! الله!
وكانت قلنسوته العالية ذات العمامة الخضراء تهتز مع حركة رأسه في عنف.
ولما أقبل حسين كاشف ليستقبل الأمير صاح الشيخ المجذوب: جرد السيف يا بطل!
فتبسم عمر بك عندما وجد الخطة التي رسمها مع الشيخ تسير في طريق النجاح.
وأسرع بتجريد سيفه ووقف ينتظر مجيء صاحب البيت لاستقباله.
وبهت الحاضرون جميعا وأوقفت فرقة الطبالين عزفها وقالوا: كرامة!
وبهت حسين كاشف أيضا من المفاجأة ووقف في مكانه ينظر نحو الضيف المتبسم.
وقال عمر بك: هذه كرامة الشيخ يا حسين كاشف، فتقدم.
ووقف الأمراء الخمسة ينظرون في دهشة وسيوفهم معلقة في حمائلها لم يجردوها بعد.
وقال عمر بك: تقدم يا حسين كاشف. كنت تريد مبارزتي منذ عام. تقدم وقبل يدي كما كنت عازما.
وسار خطوتين إلى الأمام حتى وقف تجاه المملوك الشاب وقال في صرامة: أنا أدعوك إلى المبارزة.
فقال حسين في ضعف: ألم أعتذر إليك؟
فضحك عمر بك مقهقها وقال: وقد قبلت اعتذارك، وها أنا ذا أجيء إليك مهنئا. خذ يدي واقبض عليها جيدا كما اتفقتم. كما اتفقت أنت وهؤلاء.
وأشار إلى الأمراء الخمسة الواقفين من ورائه.
ووقف الفتى أمامه ثابتا لا ينطق بكلمة.
وصاح عمر بك بالأمراء: دعوا هذا المسكين يحيا من أجل ولده، وتقدموا أنتم واحدا واحدا. أهذا طلب عادل؟
وصاح الشيخ المجذوب وهو يطوح رأسه: الله! الله!
وصاح الطبالون في حماسة: كرامة!
وتبسم عمر بك وأعاد سيفه إلى غمده قائلا: إلى اللقاء في ميلاد الطفل الثاني.
ثم قهقه في ضحكة طويلة، وأسرع فوثب على فرسه وهمزه فانطلق به يعدو.
وبلغته في الأيام التالية أحاديث الأمراء في مجتمعاتهم إذ يقولون إنه زعيم الأمراء بلا منازع.
وكان الشيخ علي المجذوب يسير في طرق حي قوصون وحاراته بنبوته الطويل وعمامته الخضراء، يصيح بأعلى صوته، متغنيا بزجل طويل في مدح البطل الذي وقف وحده أمام خمسة أمراء، ولم يجرؤ أحد منهم على مواجهته، وكان يقطع غناءه بين حين وآخر ويهز رأسه في عنف ويقول: الله! الله!
آخر الباشوات
«الشعب يتحرك فتولد أمة.»
لم يستطع السيد عمر مكرم أن يشق طريقه في ميدان الرميلة؛ إذ كانت الألوف هناك بالعشرات تحيط بالقلعة من جميع جهاتها التي تلي الميدان، ولم تنقطع الجموع كذلك من حولها صاعدة إلى التل المجاور للقلعة وإلى الهضبة التي وراءها. كان حصارا تاما ليس فيه فجوة يستطيع أحد أن يدخل منها إلى القلعة أو يخرج بغير أن يتعرض للموت المحقق.
وتزاحمت الجموع حول السيد عمر حتى إنه لم يتقدم إلا مسافة قصيرة نحو باب العزب حيث كان حجاج زعيم الجماهير يرابط بأعوانه الذين بايعوه على الموت. وكان حجاج الخضري قد آلى على نفسه أن يستمر على الحصار حتى يستسلم الباشا مهما تطاولت مدة الحصار، وأقسم له مئات من شبان الأحياء المختلفة على أن يبقوا معه إلى النهاية؛ فلا ينصرفون عن أسوار القلعة إلا بالانتصار أو بالموت. وأراد السيد عمر في ذلك اليوم أن يتحقق بنفسه أن جماهير أبناء القاهرة لم يتزعزعوا ولم يترددوا بعد أن تخلى عن مناصرتهم جنود الأرنئود الذين كانوا يساعدونهم في حصار القلعة في مبدأ الأمر. ولكنه رأى بعينه أن الجموع لم تتزعزع، بل ازدادت أضعافا عما كانت عليه من قبل. وشعر السيد عمر بغبطة شديدة عندما رأى تلك الجموع حوله؛ إذ عرف أن شعب القاهرة جاد في تصميمه على خلع خورشيد باشا، ذلك الطاغية العنيد الذي أبى أن يستسلم بالرغم من عزل السلطان له وأعلن عزمه الجريء على الاستمرار في المقاومة.
وأخذت أصوات الألوف الزاخرة تتعالى بالهتاف للزعيم العظيم الذي كان يمثل لهم كل معاني المقاومة، كما كان يمثل لهم كل الأماني الغامضة التي تكمن في أعماق صدورهم.
وسمع حجاج الخضري صياح الجماهير وهو مرابط مع أتباعه المخلصين أمام باب العزب، وسمع اسم السيد عمر مكرم يتردد في هتافهم الصاخب، فأسرع ليستقبل الزعيم الجليل ويفضي إليه بالأنباء الأخيرة للانتصارات المتوالية التي تمت على أيدي فتيانه البسلاء. وسار في صف طويل من أتباعه يشقون الصفوف المضطربة الصاخبة، وكان سيفه مسلولا في يده وهو ينادي قائلا: يعيش السيد عمر مكرم!
وزاد صياح الجماهير علوا عندما مر حجاج الخضري بينهم بسيفه المسلول ورددوا هتافه في حماسة وهم يتدافعون وراءه.
واستطاع حجاج بقوة جسمه ودفعه صف الفتيان الذين يسيرون معه أن يصل بعد مشقة إلى المكان الذي كان السيد عمر محصورا فيه بين الجماهير. ولما اقترب منه صاح بهتافه مرات متعددة وهو يلوح بسيفه المسلول فوق رأسه، ورددت الجماهير هتافه بأصوات مدوية هزت فضاء الميدان الفسيح. واستقبله السيد عمر باسما وقال له: أحسنت يا حجاج بالحضور إلى نجدتي.
فصاح حجاج بمن حوله في عنف ليفسحوا للسيد طريقه، وقال يخاطبه: تفضل يا مولاي لترى الغنائم التي وقعت في أيدينا هذا الصباح.
فقال السيد مستبشرا: ها قد صرت قائدا أيها البطل.
فقال حجاج في حماسة: هي بركة مولانا وفضل هؤلاء الشجعان. هي أنفاسك الطاهرة وشجاعة هؤلاء الأبطال. وهذا هو بطل اليوم.
وأشار إلى شاب واقف إلى جواره من بين صف الفتيان المحيط به قائلا: هذا أبو شمعة يا سيدي، هو الذي ترصد للأتراك الذين جاءوا خفية في مساء الأمس من ناحية حلوان ليأخذونا على غرة، وهو الذي أحاط بهم مع أصحابنا هؤلاء وقبضوا عليهم كما يقبض على الدجاج.
فقال السيد عمر ضاحكا: تقصد الدجاج الرومي!
فتعالى الضحك من الجميع واستمر حجاج قائلا: وهم هناك في قفص متين ليضعوا بيضهم على مهل. لهم على كل حال شكرنا؛ لأنهم أتحفونا بكثير من الأسلحة وبمقادير كبيرة من الماء وبقافلة كاملة من الجمال. أليست هذه أنباء سارة؟
فقال السيد عمر: هذه بشرى النصر يا سيد حجاج.
وهز حجاج سيفه فوق رأسه قائلا: وهذا نصيبي يا سيدي من الغنيمة. سأحارب بهذا السيف حتى ينزل الباشا في موكبه الذليل ونسوقه من القلعة ليعود إلى بلاده كما جاء. هذا ما أقسمنا عليه. الانتصار أو الموت. أليس كذلك أيها الرفاق؟
فتصاعدت صيحة عالية طويلة من الجموع الزاخرة: «الانتصار أو الموت!»
وأخذ حجاج بلجام فرس السيد عمر مكرم واتجه به نحو باب العزب وهو يصيح بالجموع المتراصة ليفسحوا الطريق للزعيم الكبير.
ولما وصل السيد عمر إلى باب العزب ساعده حجاج وصاحبه أبو شمعة على النزول، وسارا عن يمينه ويساره يسندانه من تحت ذراعيه حتى وصلا إلى خيمة كبيرة كانت منصوبة هناك. وكان في الخيمة أكداس من الأحمال التي غنمها الفتيان، وهي مزيج مختلف من المؤن والأسلحة والثياب وعدد كبير من صناديق مقفلة من الصاج مملوءة بالماء.
وجلس السيد عمر على أحد الصناديق الكبيرة وقال يخاطب حجاجا في صوت خافت: هل تخشى أن يضعف الحصار بعد اليوم؟
فقال حجاج: ولماذا نخشى؟
فقال السيد مترددا: ألم يخذلنا هؤلاء الأرنئود؟
فقال حجاج: وهل كان فيهم قوة لنا؟ نحن أقوى وحدنا وأقرب إلى الانتصار من غيرهم. لست تعلم كيف كانوا يسببون لنا المتاعب كل صباح وكل مساء.
فقال السيد عمر: أعرف أنهم كانوا يخالفوننا ولا تنقطع لهم شكوى. أعرف أنهم كانوا حملا ثقيلا علينا وعلى هذا الرجل الذي أخلص لنا.
فصاح حجاج: من هذا الرجل الذي أخلص لنا؟
فقال السيد عمر: أنت تعرفه بغير شك يا حجاج. ألا تعرف أنه محمد علي؟
فقال حجاج في حنق: والله يا سيدي لو كان الرأي لي ما قبلت مساعدة أحد. هؤلاء جميعا أبناء عم، ولا فرق عندي بين الأرنئود والأتراك. كلهم صنف واحد ولا فرق عندي بين جنس وآخر. هم جميعا يريدون أن يكونوا أسيادا ونحن لا نريد بعد الآن أسيادا . ما لنا نطلب منهم المساعدة ونحن قادرون على الانتصار وحدنا؟ أقسم لك مرة أخرى يا سيدي أننا لن نعود من هنا إلا بالانتصار أو الموت.
وأطرق السيد عمر لحظة، وعلا وجهه شيء من الحزن والقلق، ثم رفع رأسه إلى حجاج قائلا بصوت خافت: اسمع يا ولدي، لا تكن سببا في تفريق الكلمة الآن ونحن في حاجة إلى كل مساعدة. دع الأرنئود يذهبون وقف هنا أنت وأصحابك وأبناء بلدك حتى تنتصروا، فإذا تم الانتصار أمكننا أن نصفي حسابنا.
وما كاد السيد عمر يتم كلامه حتى سمعت ضجة من ناحية باب القلعة، فخرج حجاج مسرعا، وقام السيد عمر في لهفة ليرى ما هناك، وسرت في الجموع الواقفة حول الخيمة موجة اضطراب وتصاعدت منهم جلبة مختلطة، وبعد حين عاد حجاج يجري نحو السيد عمر قائلا: أبشر يا سيدي! هذا صالح أغا رسول السلطان ينزل من القلعة ذاهبا إلى محمد علي.
فقال السيد عمر في لهفة: أيكون قد نجح في إقناع هذا الباشا العنيد؟
فقال حجاج: وما لنا نحن إذا اقتنع أو أصر على المقاومة! نحن واقفون هنا حتى يستسلم وينزل مضطرا.
فقال السيد عمر: أرجو أن يكون قد نجح، فإن هذا يوفر علينا متاعب كثيرة. دعني أذهب إلى محمد علي يا حجاج لأعلم ماذا يحمل صالح أغا.
وذهب إلى فرسه فركب، وسار حجاج وأبو شمعة على جانبي الفرس يفسحان له طريقا بين الجموع الهاتفة الصاخبة حتى قطع ميدان الرميلة وهبط نحو المدينة من الطريق المجاور لجامع السلطان حسن.
واستمر السيد عمر في سيره وصاحباه حجاج وأبو شمعة يحفان به من اليمين واليسار ومن ورائه موكب كبير من عامة أهل القاهرة يهتفون باسمه وينادون بالانتصار أو الموت.
ولما وصل السيد عمر إلى بيت محمد علي بالأزبكية ترك الجمع الذي حوله ودخل وحده. وكان صالح أغا قد وصل إلى الدار من قبله، فلما دخل كان محمد علي في مجلسه مع الرسول، فقام يستقبله مرحبا وقال لصالح أغا: ألم تر السيد عمر قبل هذا؟ هذا هو صديقي الأعز وهو قائد هذه الألوف التي لا حصر لها.
وتبسم ناظرا إلى السيد عمر.
فقال صالح أغا متجاهلا كلمة محمد علي: قد صعدنا إلى الباشا في القلعة للمرة الثانية اليوم. وكنت عازما في هذه المرة أن أقرأ عليه فرمان العزل بغير تردد.
فقال محمد علي باسما: ولعلك لم تضطر إلى ذلك؟
فقال صالح أغا: لم أضطر إلى ذلك؛ لأنه كان في هذه المرة ميالا للمسالمة. هو رجل عنيد ومن حسن الحظ أنه استعد للتفاهم.
فقال السيد عمر: نحن لا ننكر عليه أنه رجل شجاع. أظنه قاوم حتى لم يبق عنده شيء يقاوم به.
فقال صالح أغا في شيء من الجفاء: على كل حال قد انتهى الأمر وأعلن خورشيد استعداده للتفاهم.
فبادر محمد علي قائلا: هذا حسن. هذا حسن. هل له شروط معينة؟
فقال السيد عمر في إصرار: وهل هناك شروط لمن يريد التسليم؟
فقال محمد علي: لا بأس يا صديقي أن نستمع إلى شروطه.
ونظر إلى صالح أغا قائلا: ما هي شروطه أيها السيد؟
فقال صالح أغا: يخرج هو ورجاله بغير أن يتعرض لهم أحد. وتدفع مرتبات جنوده من الخزينة. وتحمل أمتعة الجنود كلها على حساب الحكومة.
فنظر محمد علي إلى السيد عمر مكرم كالمستفهم، وقال بعد حين: لا أظننا نستطيع أن نصرف هذه المرتبات وإلا ثار علينا جنودنا يطالبوننا مثلهم.
فقال السيد عمر: هذا موضوع آخر يا سيدي. وما دام الأمر لا يزيد على مبلغ من المال، فهذا أمر سهل. أتعهد أنا بتدبير هذه المرتبات.
فصمت محمد علي، وقال صالح أغا: هل أبلغه هذا الرد؟
فقال محمد علي في تردد: لا بأس، على شرط أن ينزل من القلعة اليوم. لا شيء سوى المرتبات ونقل متاع الجنود!
فقام صالح أغا قائلا: سأعود إليه إذن.
واستأذن خارجا وبقي السيد عمر مع محمد علي يتحدثان في هذه الأموال المطلوبة وكيف يدبرانها.
وفي عصر ذلك اليوم ضربت المدافع من القلعة، وكانت علامة على دخول الجيش الجديد إلى القلعة، بعد أن نزل منها جيش خورشيد آخر الباشوات الذي اضطرته جموع أهل القاهرة إلى الاستسلام. واصطفت الجموع الزاخرة المنتصرة في ميدان الرميلة ينظم صفوفهم حجاج الخضري وأبو شمعة وفتيان الأحياء المتدفقون على ميدان الرميلة من كل أطراف القاهرة. وكان في وسط الصفوف طريق واسع لا يسمح لأحد من الألوف المتجمهرة أن يدخل فيه. ثم بدأت صفوف الأتراك تنزل من باب العزب خارجة من القلعة في طريقها الطويل نحو بولاق. كانت ملابسهم مختلفة وألوانهم متباينة، حتى أطوالهم وملامح وجوههم كانت تنم على أنهم أخلاط من شعوب شتى.
وساروا في صمت لا تتقدمهم موسيقى ولا يسيرون في خطى متناسقة. كانوا يحملون أحمالهم مربوطة وراء ظهورهم أو تحت أذرعهم، وتبدو على وجوههم آثار الإعياء والكآبة. وخرج في آخر الصف الطويل خورشيد باشا الوالي العنيد، وعلى وجهه ما يعبر عما في صدره من روح التحدي. كان رافعا رأسه في كبرياء، لا ينظر إلى يمين ولا إلى يسار، كأن الميدان الفسيح الذي يسير فيه صحراء خالية. ووقفت الجموع المتراصة تنظر إليه في صمت عميق، تكتم أنفاسها من شدة التأثر وروعة الموقف. وتوالى من وراء الباشا خروج كوكبة من فرسان الحرس الخاص في ملابسها البيض، كأنها رشاش موجة منحسرة بعد أن تحطمت على صخرة. كانت موجة عنيفة هجمت منذ ثلاثة قرون ثم انحسرت كما بدأت عنيفة!
المعركة المستمرة
«المعركة لا تنتهي ولكنها أسجال.»
عندما تقع مأساة لا يستطيع الضحايا أن يجعلوا أحكامهم عادلة إذا تحدثوا عنها؛ لأن كلا منهم يعكس آلامه الشخصية على أحكامه. هذه قاعدة عامة تصدق على كل ضحايا المآسي، سواء كانت من المآسي الخاصة أم العامة. ولا شك في أن موقعة التل الكبير وهزيمة المصريين فيها والاحتلال الأجنبي الذي أعقبها كانت من الكوارث القومية الكبرى التي خلفت وراءها ألوانا كثيرة من المآسي الخاصة والعامة. وقد كان رضوان أفندي أحد الذين أصيبوا في تلك المأساة الكبرى؛ لأنه كان جنديا في معركة كفر الدوار ثم رقي جاويشا قبل أن تنتقل فرقته إلى التل الكبير لما أبداه من الشجاعة والإخلاص في مواقف كثيرة. وكان المنتظر أن يكون بين المرشحين للترقي إلى رتبة ضابط ملازم بعد الانتصار في التل الكبير، ولكن الهزيمة الطاحنة التي أصابت الجيش هناك بددت آماله كما بددت آمال البلاد كلها. ولما عاد رضوان أفندي إلى قريته في الكوم الأحمر، كانت نفسه ممتلئة سخطا ويأسا وثورة على كل شيء. كان إذا اجتمع مع أهل القرية يشتد في العنف على كل من اشترك في المعركة، وكل من لم يشتركوا فيها. وكان في الوقت نفسه ينتهز الفرصة كلما خلا إلى أحد ممن يثق في إخلاصهم له فيأخذ في الطعن المر على الخديو توفيق والذين ناصروه وتآمروا معه على الالتجاء للإنجليز. وكان أهل القرية يحترمونه ويحبونه؛ لأنه كان في معاملاته رجلا عادلا، يحب أن يأخذ حقه كاملا، ويعطي الآخرين حقوقهم كاملة.
كما أنه كان من صميم أبناء القرية ومن أسرة من أكرم أسراتها. واشتغل بالتجارة بعد أن هدأت الأمور واستقر الحكم للخديو توفيق بمساعدة جيوش الاحتلال، ولقي في تجارته نجاحا عظيما حتى أصبح من أثرياء القرية. ولم يكن له أبناء من زوجته الأولى فتزوج بشابة فلاحة حتى تكون طوع أمره؛ لأنه كان رجلا صارما منذ أيام شبابه، لا يحب أن تسيطر عليه زوجة شابة معتزة بكرامة أسرتها. وبعد عدة سنوات رزقه الله ولدا أدخل على قلبه السرور وسماه إبراهيم باسم أبيه، فأنساه سروره بذلك الابن مرارة الحوادث الماضية. وكان يحاول نسيان ذلك الماضي المؤلم حتى إنه صار يغضب كلما أراد أحد أن يذكره به في أية مناسبة. وكان يواصل عمله بالليل والنهار ليجمع ثروة كافية لذلك الولد الوحيد حتى يكون غنيا عن الناس جميعا، واستطاع في أقل من خمسة عشر عاما من العمل المستمر أن يجمع من الأموال ما يكفل لولده حياة رغدا. واشترى فوق الأموال التي ادخرها في خزانة خفية عزبة لا تقل عن خمسين فدانا من أجود الأطيان في القرية، وكانت صفقة عظيمة اشتراها من رجل أجنبي عن القرية زهد فيها لأنها كانت لا تدر عليه ربحا. فلما اشتراها رضوان أفندي استطاع أن يؤجرها لأهل القرية بإيجار حسن وأن يحصل على ريعها كاملا من الفلاحين الذين كانوا يرهبون جانبه لصرامته.
ولما كبر ابنه عني بتعليمه، فأدخله المدرسة الأميرية الوحيدة في عاصمة المديرية، واشترى له بغلة هادئة سريعة وأعد له سرجا فخما من نسيج الصوف الأحمر، فكانت تحمله كل صباح إلى المدرسة ثم تنتظر في وكالة البهائم حتى ساعة العصر فتحمله إلى القرية سالما في رعاية خادم خاص كان يقطع المسافة كل يوم بين القرية والعاصمة ذهابا وإيابا إلى جانب البغلة.
ومن شدة حبه لولده كان يرحب بأصدقائه من زملاء الدراسة إذا أتوا لزيارته في أيام الجمع، وكثيرا ما كان يعد لهم الولائم الزاخرة بألوان الطعام الريفي الذي كانت الأم تتفنن فيه. ولما كبر ولده وانتقل إلى الإسكندرية ليكون بالمدرسة الثانوية أعد الأب له بيتا خاصا به ليستطيع أن يستقبل فيه أصدقاءه إذا أتوا لزيارته في أيام الصيف ليقضوا عنده بضعة أيام بين حين وآخر. ولشدة محبة الأب لولده واغتباطه بأنه قد صار شابا كان يتخفف من أعماله الكثيرة حتى يقوم بواجب الترحيب بهؤلاء الأصدقاء. وكان من الطبيعي أن يعرف هؤلاء الشبان من أحاديثه معهم ومن أحاديث صديقهم إبراهيم ابنه أنه كان «ضابطا» في جيش الثورة العرابية التي قرءوا حوادثها في دروس التاريخ، فجعلهم ذلك ينظرون إليه كأنه قطعة من الآثار التاريخية الجديرة بالاهتمام. فكانت أحاديثهم تتجه دائما إلى ذكر حوادث تلك الثورة رغبة منهم في سماع بعض الطرف التي يحكيها الجنود القدماء دائما عن مغامراتهم في المعارك. ولكن رضوان أفندي كان يحس كراهة شديدة لتلك الأسئلة ويحاول بقدر طاقته أن يتجنب الإطالة في الإجابة عنها، حتى لا تعود إليه ذكرى الحوادث المؤلمة التي تثير في نفسه مشاعر مرة حانقة. ولكن الشباب في شغفه بالمجهول لا يهتم بأن يفكر في آلام غيره، فلم يفطن أصدقاء إبراهيم إلى مظاهر الألم والحزن التي كانت تظهر على وجه الرجل عندما كانوا يوجهون إليه تلك الأسئلة، وكانوا يلحون عليه في السؤال ويأخذون في سرد الحوادث التي تعلموها ويمزجون أحاديثهم بكثير من عبارات الوطنية الحماسية، فكان رضوان أفندي ينتحل لنفسه عذرا آخر ليخرج من مجلسهم حتى لا يستمر في الاستماع إلى أحاديثهم.
وفي يوم من الأيام في إحدى تلك الزيارات ضاق صدر رضوان أفندي بتحمس ابنه لآراء أصدقائه عندما كانوا يتحدثون عن الحركة الوطنية التي أثارها الشاب مصطفى كامل في جريدة اللواء، وبلغ منه الحنق مبلغا عظيما حتى إنه وجه إلى ولده العزيز عبارات شديدة من التأنيب على الحماقة التي ظهرت منه. ولم يتعود إبراهيم أن يسمع من أبيه منذ الطفولة سوى عبارات التكريم والإعزاز، فوقعت عليه تلك الكلمات الشديدة كأنها صفعات مهينة، وقام من مجلسه غاضبا وترك أصدقاءه في أشد حالات الارتباك والخجل. ولاحظ الوالد بعد قليل أنه أساء إلى ضيوفه وضيوف ولده وأنه قد تجاوز الحدود التي تقتضيها واجبات صاحب البيت، فبدأ يعتذر عما فرط منه واستأذن الشبان ليخرج ويعود بولده الغاضب. وبعد دقائق قليلة عاد الأب مع ابنه، وكان منظر إبراهيم يدل على أنه غسل وجهه من آثار الدموع قبل عودته.
وبدأ الوالد يتكلم، وكان صوته متهدجا من التأثر، فقال: «أحب أيها الأبناء أن أقص عليكم قصة حياتي أمام ولدي هذا الذي ليس لي أمل في الحياة إلا أن يكون رجلا سعيدا؛ لأنه وحيدي الذي أحب له من السعادة أكثر مما أحب لنفسي. وقد عشت حياة طويلة ومرت علي حوادث كثيرة ووقفت في مآزق شديدة علمتني كثيرا من الحكم التي لا يعرفها هؤلاء الذين لم يعرفوا الشقاء. لقد بلغت اليوم من السن أكثر من الستين عاما، قطعتها سنة بعد سنة في جهاد وعرق وآلام.
تركني والدي وأنا صبي، وكان لي شقيقان أصغر مني، وأنتم لا تعرفون معنى مسئولية صبي صغير عن أخوين أصغر منه. كان علي أن أبحث عن عمل يمكنني من القيام بأحمال أسرتي، وأنا لا أعرف بعد ما هي الأعمال التي يمكنني أن أبحث عنها. ولكن إذا كان أبي قد تركني للحياة وحيدا فإنه خلف لي اسمه المحبوب بين أصدقائه الكثيرين؛ لأن إبراهيم أفندي كان عند الجميع رجلا كريما محترما، ولهذا بادر أهل القرية جميعا ليمدوا إلي يد المساعدة، وذهب بي العمدة عليه رحمة الله إلى مأمور الناحية ليساعدني على أن أجد وظيفة في الحكومة؛ لأني كنت أجيد القراءة والكتابة. وكان المأمور رجلا كريما، فرق قلبه لي عندما عرف أني أعول شقيقي الصغيرين، فتوسط لي لأكون كاتبا في الدائرة السنية، وذلك - كما هو معلوم - في مدة الخديو إسماعيل. وفرحت فرحا شديدا بهذا الحظ السعيد الذي هيأ لي مرتبا لا يقل عن ثلاثة جنيهات في الشهر. أراكم تبتسمون أيها الأبناء لأني أقول عن هذا المرتب أنه حظ سعيد، ولكن الجنيه في تلك الأيام كان يساوي خمسة جنيهات على الأقل من قيمة نقودنا اليوم.
وماتت أمي بعد بضع سنوات، وكبر إخوتي واستقلا عني واشتغل أحدهما بالتجارة وذهب الآخر ليكون جنديا في السودان مع حملة الحبشة. وتنقلت في وظائف الدائرة السنية وزاد مرتبي حتى استطعت أن أتزوج، واتخذت لنفسي منزلا صغيرا على النيل في إحدى القرى التابعة للدائرة السنية. كنت إلى ذلك الوقت لا أعرف من الحياة إلا أعمال وظيفتي وبيتي، ولم تكن عندنا صحف تحمل إلينا الأخبار كما هو الحال الآن؛ ولهذا لم أكن أعرف شيئا من أمور السياسة سوى أن مولانا الخديو هو ولي النعم.
وقمت في الصباح الباكر في يوم من الأيام ذاهبا إلى مزرعة الدائرة كعادتي، فإذا سفينة كبيرة راسية على الشاطئ. فاقتربت محترسا نحو النهر وتداريت في ظل ساقية قريبة لأنظر ما هناك، فإذا جماعة من البحارة تهبط من السفينة وهي تحمل شيئا يشبه جثة ملفوفة في ملاءة بيضاء، وساروا بعيدا عن شاطئ النهر يحملون حملهم وهم يتعثرون، حتى صاروا على نحو مائة متر من النهر، فوضعوا الحمل وبدءوا يحفرون في الأرض. وكان قلبي قد امتلأ رعبا من المنظر، فبقيت ساكنا في مكاني أنتظر في لهفة أن يفرغ البحارة من عملهم وينصرفوا. ومرت الدقائق علي بطيئة كأنها ساعات طويلة، حتى فرغت الجماعة من إعداد الحفرة ووضعوا فيها ما معهم، ثم أعادوا فوقها الكوم الكبير الذي استخرجوه وداسوا التراب بأرجلهم حتى سووه بما حوله، ثم انصرفوا إلى السفينة. وبعد بضع دقائق أخرى تحركوا نحو الصعيد. وكان العلم الأحمر يرفرف فوق السارية مع النسيم الذي ملأ قلوع السفينة ودفعها نحو الجنوب. وكتمت السر الذي عثرت عليه في ذلك الصباح طي أعماق صدري فلم أطلع عليه أحدا، مع أن الفلاحين في القرى المجاورة كانوا يتحدثون في ذلك اليوم عن السفينة الذاهبة إلى الصعيد تحمل إسماعيل باشا المفتش لتغيير الهواء في أسوان. لم أقل لأحد أني رأيت السفينة راسية على بعد كيلومتر واحد من القرية، ولا أني رأيت بحارتها ينزلون منها يحملون جثة دفنوها على مقربة من الشاطئ؛ لأني لو قلت كلمة من ذلك لذهب الجميع إلى الحفرة وأخرجوا الجثة وأحدثوا فضيحة كبيرة. وماذا كان يحدث لي لو حدثت تلك الفضيحة؟ فكرت في ذلك طويلا وعزمت على أن ألتزم الصمت فلا أنطق بكلمة واحدة عما رأيت.
ولكني منذ ذلك اليوم أخذت أتتبع أخبار تلك السفينة، فكنت أذهب كل يوم إلى بيت المأمور لأقرأ «الجرنال» الرسمي الذي كان يرسل إليه، وصرت إليه أتتبع السفينة في سيرها نحو الجنوب بلهفة شديدة كأني أقرأ قصة مثيرة. وقرأت آخر الأمر أن السفينة وصلت إلى أسوان وأن المفتش أصيب بمرض، وأنه كان يكثر من شرب الخمر فساءت حالته وزادت عليه العلة. ثم قرأت أن طبيبين أجنبيين زاراه في أسوان وصرحا بأن حالته خطيرة، ثم أعلنت وفاته ونشر تقرير الطبيبين أنه مات من تأثير الخمر الذي أضعف صحته. أأقول لكم ماذا شعرت به عند ذلك؟ شعرت بأني أعيش في مسرح تمثل فيه مهزلة. رأيت بعيني جثة الرجل تحمل من السفينة وتدفن، ثم رأيت الحكومة السنية تمثل رواية هزلية أمام الشعب. وترددت الإشاعات بعد ذلك تقول إن الخديو قتل إسماعيل المفتش شريكه في الحكم ونديمه في مجالس اللهو وساعده الأيمن في اقتراض الأموال من المرابين؛ لأنه تخلى عنه وخانه مع مندوبي المرابين الفرنج. ولكني التزمت الصمت ولم أقل شيئا . كان كل شخص يتحدث بالإشاعات التي سمعها من غيره؛ لأنه لم ير شيئا بعينه، وأما أنا فلو قلت شيئا فإني أقول إني رأيت بعيني، وهنا تقع الكارثة.
ومن ذلك الوقت دب في أعماق صدري شعور عميق بالكراهة والحقد والمقت للخديو إسماعيل، لا لأنه قتل شريكه، بل لأنه سخر منا، سخر من الناس جميعا. كان في إمكانه لو أنه شجاع شريف أن يحاكم المفتش ويوقع عليه العقوبة التي يستحقها. ولكن ارتكاب الجريمة في الظلام، وتمثيل المهزلة أمام الأنظار، كان كافيا لملء قلبي حنقا، سواء كان المفتش مجرما أم بريئا.
من ذلك الوقت امتلأ قلبي ثورة على الحكم الفاسد، ولكني كظمت الثورة في صدري فتعمقت وأصبحت بعد قليل تشبه الوسواس أو الجنون.
ثم صودرت أموال إسماعيل لتسديد ديون المرابين، وصفيت الدائرة السنية، ووجدت نفسي في الطريق بغير وظيفة. أتفهمون شعوري عند ذلك وتدركون السبب الذي حملني على الخطوة التالية؟ أقول لكم إنني بدأت أبحث عن الأفراد الآخرين الذين يحملون في صدورهم ثورة مثل ثورتي. وهكذا قضيت سنتين من التشرد والجوع والثورة. وعزل الخديو إسماعيل واتقدت النيران في قلوب كثيرة، فاتصلت بالشيخ عبد الله نديم وبدأت أكتب في الجرائد التي يصدرها وأصبحت من أتباع الثورة العرابية.»
وأخرج رضوان أفندي منديلا وأخذ يمسح قطرات العرق عن جبينه، كما أخذ يمسح قطرات من الدموع في عينيه. ثم استأنف الحديث وكان الشبان ينظرون إليه في تلهف، فقال: «بالاختصار لا أطيل عليكم، فإني لم أقنع بالكتابة في الجرائد، بل تطوعت في الحرب عندما ارتمى الخديو توفيق بن إسماعيل في أحضان الإنجليز، وكنت كلما جاء ذكره أبصق على الأرض وأطلق لنفسي العنان في سبه وسب أبيه وأصفهما بأوصاف لا أحب أن أعيدها على أسماعكم لأنها شنيعة. كنت أسب كما تعود الجنود المحاربون أن يفعلوا.
وكانت النيران المتقدة في قلبي تدفعني إلى أعمال جنونية، فاشتركت في حريق الإسكندرية، وتهورت في معارك المدينة كما تهورت في معركة كفر الدوار، حتى إني رقيت إلى صف ضابط. وصدرت الأوامر إلينا بالانتقال إلى الشرقية، وهناك عسكرنا في التل الكبير. ولا تسألوا أيها الأبناء عن الحقائق الأليمة التي بدأت تنكشف لي عند ذلك. كان الجميع يعرفون مقدار تهوري، ولهذا كان لي في كل يوم مفاجأة جديدة؛ إذ كان الكثيرون يطلبون مني أن أقوم بأعمال أشم فيها رائحة الخيانة. جاءوا يعرضون علي هدايا ثمينة لإغرائي، فكنت أزداد يقينا بأنهم يريدون مني الخيانة، فكنت أبصق على الأرض وأسبهم سبا شنيعا. ولكني لم أتكلم وكتمت في نفسي الغيظ حتى لا أثير فضيحة. وماذا يحدث لو ثارت فضيحة؟ لا شيء أكثر من تلويث سمعتي وانشغالي عن الجهاد في أمور تافهة. وكانت أكبر مفاجأة لي عندما جاء إلي أحد مشايخ الصوفية الذين يسيرون مع الجيش لإقامة الأذكار والابتهال إلى الله بالنصر، وطلب مني الشيخ أن أترك الدرك الذي كنت مرابطا فيه لأشترك في ذكر هام محقق الفائدة لانتصار الجيوش الوطنية. ولم أفهم معنى قوله بل إني تعجبت منه وشممت رائحة الخيانة. ولما رفضت أخذ الرجل يلح علي إلحاحا شديدا وانتهى أمره بأن عرض علي كيسا مملوءا بالذهب قائلا: هذه هبة من سلطان باشا لشدة إخلاصه وحرصه على قيامنا بالدعاء في هذه الليلة.
وكنت قد سمعت بعض إشاعات عن انشقاق سلطان باشا واتصاله بحزب الخديو والإنجليز، فصرخت في الشيخ صرخة حانقة وبصقت على الأرض وسببته سبا مقذعا كما سببت الخديو وسلطان باشا والشيطان. ومضى الرجل عني غاضبا يدعو علي، وفضلت أن أبقى في مكاني لأحافظ على الدرك الذي كنت فيه. ولكن لم أتكلم بكلمة، وعزمت على الذهاب بنفسي إلى عرابي باشا لأطلعه على الشكوك التي ساورتني. ولكن المفاجأة حدثت أسرع مما كنت أتوقع. فإن الموقعة بدأت بعد قليل وبادرت إلى مكاني لأقاتل. وكان معي في الموقع الذي كنت فيه سرية من عشرين رجلا؛ لأني كنت قائما بأعمال ضابط ملازم وكنت على وعد بالترقية بعد المعركة. أتدرون ماذا حدث؟ لم يكن هناك رجل واحد؛ لأن الجميع ذهبوا ليقيموا الأذكار، واضطررت إلى أن أقاتل وحدي.
وبعد عشرين دقيقة من بدء المعركة رأيت عرابي باشا راكبا متجها إلى محطة السكة الحديد، وصدرت الأوامر بالرحيل إلى القاهرة.
عند ذلك بصقت على الأرض مرارا وأنا أسب وألعن الجميع، ولم يخل من حنقي أحد سواء كان عسكريا أم ملكيا، وسواء كان شيخا أم شابا. وسرت مع السيل المضطرب نحو القاهرة لا أدري أين أذهب. انفرط العقد ولم يبق في البلاد حكومة.
ثم رأيت الإنجليز يدخلون إلى القاهرة، وكدت أجن من الغيظ والحنق عندما وجدت الجميع يقفون لينظروا إليهم وهم يسيرون في سلاحهم في الشوارع. ولعنت نفسي أيضا لأني وقفت معهم. وسرت كالمجنون أبحث عن أحد أسأله عما حدث.
وفي اليوم التالي سمعت الخونة يتكلمون بأصوات عالية، الذين كانوا بالأمس يستمعون إلى خطابات عبد الله نديم وقصائد البارودي ويصفقون حتى تدمى أيديهم بدءوا يلعنون الثوار ويسمون عرابي خائنا. وبدأت أنا وأمثالي نتوارى. فماذا تنتظرون مني أيها الأبناء بعد كل هذا؟ ماذا تنتظر مني يا إبراهيم يا ولدي؟ أنت إبراهيم على اسم أبي لأني أحبك وأضع فيك أملى الذي فقدته بموت أبي. ماذا تريد مني؟ أتقولون بعد هذا إن هناك شيئا اسمه الوطن؟»
فصاح إبراهيم: بحق أبيك يا أبي لا تقل هذا!
وصاح الشبان: بحق ولدك يا عم لا تقل هذا!
ونظر إليهم رضوان أفندي في دهشة وقال: وماذا تقولون أنتم؟
فقال إبراهيم بصوت مختنق: ماذا كنت تفعل لو استمرت المعركة؟
فقال رضوان أفندي في ضجر: ولكن أين هي المعركة؟
فقال إبراهيم: ماذا كنت تفعل لو ناداك عرابي للنضال بعد عودته إلى القاهرة؟
فقال رضوان أفندي في حماسة: ليته فعل يا ولدي.
فقال إبراهيم في عناد: وماذا تفعل لو ناداك غير عرابي ووجدت إلى جانبك رجالا؟
فقال رضوان أفندي: كنت أقاتل معهم إلى آخر رمق، إلى آخر رصاصة. وإذا لم أجد رصاصا فإلى آخر عظمة في رأسي وجسمي وآخر ضرس في فمي.
وكان يقذف بألفاظ سريعة واحمر وجهه من التأثر، ثم بصق في غيظ على الأرض قائلا: «إخص» لعنة الله ...
وتمالك نفسه فلم يستمر في أقواله الحانقة وأوقف اللعنات التي كاد يقذف بها.
فقهقه الشبان بضحكة عالية وقال إبراهيم: ألا تحب أن تبدأ معركة جديدة يا أبي؟
فنظر رضوان أفندي إلى ولده مبهوتا، ثم نقل بصره إلى الشبان يفحص وجوههم واحدا واحدا ثم قال في بطء: لماذا تضحكون هكذا؟
فقال أحدهم: لأنك ما زلت تحمل قلب جندي.
فانفرجت أساريره وأطرق حينا ثم قال: نعم ما زلت أحمله، وما يزال يغلي من الغضب. الغضب الذي أحاول أن أخمده بلعناتي.
فقال الشاب: ولماذا لا تصوبه إلى العدو؟ لماذا لا تستأنف المعركة؟
فقال رضوان أفندي بصوت امتزجت فيه الدهشة بالشك: أتقول أستأنف المعركة؟
فقال الشاب في حماسة: هي معركة قد تطول. قد تطول لعدة سنوات، وقد يشترك فيها جيل بعد جيل. قد يشترك فيها جنود لم يخلقوا بعد. ولكنها معركة مستمرة. لماذا لا تشترك فيها أنت ونحن، ثم يشترك فيها أبناؤنا وأبناء أبنائنا حتى النهاية؟ هي معركة أمة، تتجدد مع الأجيال حتى يتم النصر.
وكان رضوان أفندي قد وقف على قدميه من شدة التأثر وهو يستمع إلى الشاب الذي وقف هو الآخر وأخذ يلوح بقبضته في الهواء كأنه يقاتل.
فلما فرغ الشاب من قوله اندفع رضوان أفندي إليه وأخذه بين ذراعيه قائلا: أعاهدك على أن أستأنف المعركة!
وتحمس الشبان لهذا التغير المفاجئ فقاموا يهتفون بحياة الوطن والحزب الوطني الجديد، وتعهد رضوان أفندي أن ينشئ في الكوم الأحمر شعبة من ذلك الحزب لينشر الدعوة لاستئناف المعركة.
والذين يعرفون أخبار الحوادث التي وقعت في مصر في ثورة سنة 1919 يعرفون أن الأستاذ إبراهيم رضوان كان اليد المحركة والقلب الدافع للحركة القوية التي عمت مديرية البحيرة كلها في إبان تلك الثورة. ولكن الذين يعرفون الأسرار الخفية التي كانت تنطوي وراء تلك الحوادث، يعلمون حق العلم أن القوة الحقيقية التي كانت تحركها إنما تنبعث من شيخ جاوز السبعين من عمره ولا يغادر بيته في قرية الكوم الأحمر، وهو الجندي القديم رضوان أفندي!
الرقصة المجنونة
«عندما كانت الحياة مجنونة.»
كان الأستاذ عطية يعتقد أن الحياة صارت مجنونة ، وذلك بعد أن بلغ سن الأربعين في عام 1951. حقا إنه من السخف أن يقول أحد إن الزمان فسد لأن الزمان تغير، فإنه لا مفر من تغير الزمان. ولكن من الضروري أن يكون الناس على اتفاق في شعورهم وآرائهم ما داموا يعيشون في وقت واحد، وإلا كانوا عرضة لسوء التفاهم. وهذا هو السر في اعتقاد الأستاذ عطية أن الحياة مجنونة؛ لأنه كان يخالف أهل زمنه في الآراء والشعور.
والأستاذ عطية مع غرابة أطواره جدير بأن يعد من الأفذاذ النادرين الذين بلغوا سن الأربعين في منتصف القرن العشرين. هو رجل ذو شخصية عجيبة تشبه الشخصيات الخيالية التي تتحدث عنها الأساطير، لا تهمه مظاهر الحياة بقدر ما تهمه حقائقها الجوهرية، ولا يعبأ بالأوضاع التي يتعارف الناس عليها إذا كانت في نظره أوضاعا سخيفة. وهو فوق كل هذا لا يعترف بالمقاييس الاجتماعية ولا المقاييس الأخلاقية إذا لم تكن قائمة على المبادئ التي يفهمها ويسلم بها: فهو مثلا لا يعترف بأن الإنسان جدير بالاحترام لأنه حصل على ثروة عظيمة فقط، وقد يكون احترامه عظيما لرجل بسيط فقير أكثر بكثير من تقديره لرجل من أصحاب الملايين، وذلك إذا كان صاحب الملايين من الذين لا يساوون مليما على حسب مقاييسه الخاصة.
ولكن الأستاذ عطية وإن كان غير راض عن الأوضاع والمقاييس التي في أيامه، فإنه كان محتفظا بالمرح وسعة الصدر، ولا يحمل لأهل زمانه ضغنا لأنهم يخالفونه في الشعور أو الآراء. هو لا يعرف المرارة ولا الحقد ولا الحسد، ويأخذ أمور الناس كما هي ويحتفظ بآرائه ومقاييسه لنفسه مع علمه بأنها تخالف مقاييس الناس وآراءهم. ولهذا كان محبوبا عند الجميع برغم اختلافهم عنه، بل كانوا يحبون أن يستمعوا إلى آرائه وانتقاداته التي يصوغها في أسلوبه الفكاهي الظريف.
وأما سبب اختلاف وجهة نظر الأستاذ عطية عن وجهة نظر أهل زمانه، فذلك ما يطول شرحه، ويكفي أن نقول إنه يرى أن العالم كله بوجه عام ومصر بوجه خاص قد أصبح عالما سخيفا مجنونا.
فالناس جميعا في نظره يسيرون نحو الهاوية بعيون مقفلة، بعد أن فقدوا أهم شيء في الحياة وهو أرواحهم. أصبح الناس جميعا في نظره حثالة يعيشون بلا أرواح يعبدون أصناما بغير أرواح، أو بقول آخر هم يعبدون الأصنام التي لا أرواح لها على شرط أن تكون من ذهب. ومن أجل عبادتهم للأصنام الذهبية، أصبحوا لا يعبئون بالحقائق وأغلقوا أعينهم عن معاني الحياة الكبرى، واتجهوا في لهوهم السخيف نحو الهاوية. هذه هي فلسفته التي كان يصوغها في أسلوبه الفكاهي اللطيف، بطريقة مضحكة مسلية مع أنها تنطوي على حكم نفيسة. والمثل الأعلى في الحياة للأستاذ عطية هو الشخصية الخيالية المعروفة: جحا، الذي بلغ من إعجابه بشخصيته أنه أوصى أحد الفنانين المشهورين بصنع تمثال نصفي له، ووضعه في صدر غرفة الجلوس في بيته.
والأستاذ عطية رجل وإن تخطى سن الشباب من زمن طويل يحتفظ بحيوية قوية، حتى إنه يبدو شابا في أعين الجميع. ومن فضائله أنه غير متزوج؛ ولذلك لا يجد سببا يحمله على المجاملة في إبداء آرائه. كما أنه يمتاز بفضيلة أخرى، وهي أنه لا يرى في الحياة سببا يستحق الأسف. لا تكاد الدنيا تزيد في نظره على مسرح شعبي تمثل عليه ملهاة مضحكة أو مهزلة، تتخللها أحيانا بعض مناظر مبكية ولكنها ملهاة لا يدرك معناها كثير من النظارة.
والممثلون في هذه الملهاة أو المهزلة هم الأحياء جميعا لا فرق فيهم بين من يسمونهم العظماء والحقراء، ولا بين العقلاء والحمقى، والجميع يقومون بأدوارهم على المسرح وينظرون إلى أنفسهم في الوقت نفسه. وهو يعتقد أنه هو الآخر يقوم بدوره في المهزلة العامة، كما يشترك في مشاهدة المناظر، والفرق بينه وبين غيره أنه لا يطلب أتعابا على القيام بدوره، في حين أن الآخرين يتقاضون أتعابهم بطرق مختلفة! بعضها يضحك وبعضها يبكي.
والأستاذ عطية يتعمد أن يؤدي دوره في الحياة بإخلاص وصراحة، ولذلك فهو يسير على سجيته بغير تكلف، ولا يحاول أن يغطي أعماله ولا آراءه بالغشاء المموه الذي يغطي به الناس أعمالهم وآراءهم لتبدو مقبولة. وله فلسفة خاصة في كل ما يتصل بالناس، وذلك أنه لا يقيد نفسه بالعرف الذي اصطلحوا عليه، ما دام لا يرى في الحدود والمقاييس التي وضعوها سوى حيل خبيثة وضعها المكرة ليستغلوا البسطاء ويفوزوا بما يشاءون من المنافع والمتع. ولهذا جعل شعاره الأول في معاملته للناس ألا يقف لحظة ليفكر فيما يقوله الغير عنه.
ومن العدل أن ننظر إلى الناحية الأخرى من شخصية الأستاذ عطية، إذا أردنا أن نعرفها على حقيقتها، فهو رجل يجمع في طباعه بين الأضداد، كما أنه يجمع في عقله بين المتناقضات. فبينما هو يعطي ما في يده سخيا فياضا، إذا هو يمد يده إلى أصدقائه في جرأة قد تبلغ حد التبذل أو الاعتداء. وبينما هو يأبى أن يستجيب إلى دعوة أحد العظماء إلى وليمة فاخرة، إذا هو يذهب إلى مجالس السوقة بغير دعوة ويقضي معهم الأماسي الطويلة في منتدياتهم الوضيعة.
وهو من سلالة أسرة قديمة عريقة في المجد، ولكنها من تلك الأسر التي لم يبق منها إلا الاسم، كما لم يبق من مجدها القديم إلا بيت فسيح متهدم في حي المنشية. وإذا كان للأستاذ عطية ميراث آخر من هذه السلالة القديمة، فذلك لا يزيد على بعض مبادئ يتمسك بها ويعتقد أنها هي الأمثلة العليا. وقد يبلغ به التحمس لهذه المبادئ إلى حد أنه يعتقد أن الحياة الحديثة صائرة بغير شك إلى الانحلال والفناء لأنها انحرفت عنها.
ومع أنه متصل بالقرابة والنسب إلى كثير من الأسر الكبيرة، فهو لا يعبأ بتلك الصلات ولا يحرص عليها، بل يتعمد أن يتبرأ منها؛ لأن تلك الأسر قد انحرفت هي الأخرى عن المبادئ التي يعتقد فيها. والأستاذ عطية مع كل بدواته وآرائه الغريبة يتمتع بمكانة عالية بين أهل المنشية، فإن أبناء ذلك الحي ولا سيما العامة والسوقة منهم يحبونه ويعتبرونه الرجل الأصيل المنحدر من بيت الشرف والمجد، فإذا مر في الطريق قام له أصحاب الدكاكين وقوفا وحيوه في بشاشة ورحبوا به في مودة، فإذا عرج على دكان أحدهم ليجلس معه ساعة قصيرة عد ذلك شرفا عظيما وتنازلا مشكورا.
وليس احترام الأستاذ عطية مقصورا على أصحاب الدكاكين وأهل السوق في حي المنشية، فهناك شخصية هامة محبوبة في ذلك الحي تعتبر الأستاذ صديقا عزيزا، وهي شخصية «كوكو» المهرج المرح الذي يعرفه الجميع، ويلتف حوله الأطفال والشبان ليستمعوا إلى فكاهاته الحلوة كلما مر في حواريهم. فكلما لمح كوكو خيال الأستاذ عطية من بعيد أسرع إليه ووضع يده على كتفه وأخذ يرقص ويغني له ويبادله الفكاهات، ثم يأخذ منه ما يعطيه من النقود الصغيرة إذا كان معه نقود.
وللأستاذ عطية أصدقاء كثيرون في القاهرة وغيرها لا يكادون يصبرون عنه إذا غاب عنهم، ويسعون إلى مرافقته والتمتع بمجالسه، وهم جميعا يميلون إلى مداعباته ويتعمدون أن يثيروا مرحه وطربه، وقد يبلغون معه حد العربدة إذا لعبت الخمر برءوسهم.
وأما هو فإنه لا يشرب الخمر ولا يضيق أبدا بهذه المداعبات ولا يغضب، بل يتحملها مسرورا، وكل ما يرد به عليها لا يزيد على بعض فكاهات تطلق الضحكات العالية وتزيد الأصدقاء تعلقا به. فلا يذكر هؤلاء الأصدقاء أنه خرج عن عادته في المؤانسة الظريفة الوديعة إلا مرة واحدة في ليلة واحدة كانت فلتة من الفلتات في كل حياته.
ففي تلك المرة وحدها، شرب الأستاذ عطية بعض كئوس من الخمر على غير عادته وعربد عربدة صارخة كانت موضع الدهشة عندهم جميعا، حتى إنهم ما يزالون يذكرونها ويتفكهون في مجالسهم بذكرها، ويسمونها فيما بينهم «ليلة عيد الميلاد».
وكان هو إذا سمع حديث هذه الليلة قام مسرعا؛ لأنها تثير فيه ألما شديدا، وهذا هو حديثها:
في ذات صباح دق جرس التليفون في بيت الأستاذ عطية، وكانت الساعة ما تزال السادسة، وهي ساعة يندر فيها رنين التليفون. وكانت دهشة الأستاذ عظيمة عندما سمع صوت صديقه جابر بك الذي كان معه في الليلة السابقة إلى قرب منتصف الليل.
فقال الأستاذ في ظرف: أوحشتنا يا سيد جابر!
فضحك جابر عند الطرف الآخر من التليفون وأجابه قائلا: وماذا أصنع؟ لم تصلني الدعوة إلا بعد عودتي إلى المنزل. اسمع يا أستاذ عطية! باختصار لا تقيد نفسك في هذا المساء بأي موعد.
فقال الأستاذ: عظيم! كتب كتابك؟
واستمر الحديث بعد ذلك بضع دقائق تخللتها بعض فكاهات طريفة.
ثم وضع الأستاذ السماعة. وكان مجمل ما قاله جابر بك أن أكد عليه ألا يقيد نفسه بموعد آخر، وأنه سيمر عليه في الساعة الثامنة مساء. وهز الأستاذ عطية رأسه متعجبا من غرابة أطوار صديقه وعاد إلى فراشه وهو يقول لنفسه: عظيم!
ثم أغمض عينيه.
ولما جاءت الساعة الثامنة مساء آخر الأمر سمع الأستاذ عطية بوق السيارة عند الباب، وكان ما يزال يستعد لاستقبال صديقه. فأسرع بلبس حذاءه وطربوشه ونزل يقفز فوق الدرج حتى خرج إلى الطريق.
وكانت الليلة باردة من ليالي الشتاء التي اشتدت فيها الريح، أو هي على التحقيق ليلة عيد الميلاد من سنة 1951. كانت الريح تهب في عنف، والظلام يغالب أنوار المصابيح الغازية الخافتة التي في الطريق الضيق. ووقف الأستاذ أمام السيارة حاملا طربوشه في يده حتى لا يقع من هبات الهواء.
وسأل صاحبه: إلى أين؟
فصاح به جابر من داخل السيارة: أسرع ولا تضيع الوقت. أيعجبك الوقوف في هذا الهواء؟
ولكن الأستاذ عطية أجاب: أحب أن أعرف أولا ...
ولم يتم جملته لأنه سمع من آخر الحارة صوتا يناديه بعبارة مألوفة عنده: «عطية بيه يدوم عزه!»
وفي لحظة كان كوكو المهرج يرقص ويغني وهو واضع ذراعه اليسرى حول كتفي الأستاذ عطية. فضحك الأستاذ ووضع طربوشه على رأسه ثم جعل يده على كتف المهرج وأخذا يتراقصان ويغنيان معا.
ودهش جابر بك من هذه المفاجأة ولم يملك نفسه من القهقهة وهو يصيح بصديقه أن يوقف تلك المهزلة ويسرع إلى الركوب معه.
ولكن الأستاذ عطية تقدم نحو نافذة السيارة قائلا لجابر بك: أقدم لك صديقي كوكو!
وكان منظرا يشبه في عيني جابر بك منظر اثنين فرا من مستشفى المجاذيب، فاستسلم للأمر الواقع وأوقف دوران محرك السيارة وانتظر حتى يفرغ صاحبه الغريب الأطوار من بدوته.
وكان الأستاذ عطية في ملابس أنيقة من قمة طربوشه إلى كعب حذائه اللامع. على حين كان كوكو حافي القدمين وليس عليه سوى سروال قصير من القطن الأبيض، وأعلى جسمه عار إلا من خطوط ملونة دهن بها جلده. وكان شعره الخشن الأشعت يعلوه طرطور من ورق ملون بين أحمر وأصفر وأخضر، وله ذؤابات من قصاصات الورق معلقة في خيوط وترف على كتفيه مع كل حركة من حركاته.
ولم ينس كوكو فوق هذا أن يرشق وردة كبيرة حمراء من الورق الملون في شعره الغزير فوق أذنه اليمنى، وكان بين حين وآخر يرفع يده إليها في تأنق ويحرك رأسه تيها وهو يرقص. وكانت حركات الراقصين رشيقة وغناؤهما مطربا، حتى إن جابر بك لم يتمالك أن ينسى حنقه ويكف عن الصياح منتظرا حتى يفرغا من تلقاء نفسيهما.
وكان أطفال الحارة قد سمعوا الضجة وأتوا مسرعين، فوقفوا في حلقة واسعة حول السيارة والراقصين وشاركوا في الفكاهة والضحك والزياط والتصفيق. وبعد أن مضت دقائق طويلة، توقف الرقص ورفع الأستاذ عطية يده عن كتفي صاحبه وتقدم إلى نافذة السيارة فخاطب صديقه جابر قائلا: أليس معك نقود صغيرة يا سعادة البك؟
فأخرج جابر بك ما في جيبه من القطع الصغيرة مستسلما وقدمها إليه في صمت، فألقاها الأستاذ عطية في كف المهرج الذي انطلق في رقصة جديدة تصحبها أغنية متجها نحو أقصى الحارة، وأسرع الأطفال يجرون وراءه ويصفقون ويضحكون.
وانطلق جابر بك بالسيارة في شيء من الغضب وقال في حنق: لقد هممت أن أنزل إلى هذا المجنون لأعيد إليه عقله بصفعة.
فقال الأستاذ عطية: ولماذا؟ ألم يعجبك؟
فقال جابر في غيظ: هذه رقصة مجنونة. إنه سخف. إنه هراء. وهذا التنازل الزائد عن الحدود! ثم تشجعه فوق هذا بإعطائه نقودي؟ إنها رحمة زائفة، وأولى بمثل هذا المهرج أن يوضع في إصلاحية أو سجن.
فقال عطية في هدوء: ولم كل هذا؟
فقال جابر في دفعة: ألا تعرف لماذا؟ ألا تراه يسير هكذا عاريا ويضيع وقته في الرقص الأبله؟ ألا تعلم أن أمثال هذا المهرج يجلبون على البلاد السخرية؟ توحش!
واستمر جابر بك في حنقه والأستاذ عطية مستمر في صمته.
وقال جابر: لم لا يلسع البرد هذا المخلوق فيقضي عليه ويريحنا منه؟ كيف يترك رجال البوليس هذا الرجل العاري يسير بغير حياء أمام الناس؟ وهذا السخف الظاهر - طرطور - وألوان، ولم ينس أن يضع وردة في شعره. هذه عودة إلى العصور المظلمة عندما كان الناس يتبركون بالبلهاء أصحاب الريالة ويتمتعون بمناظر السخرية.
ولما هدأ غضب جابر بك قال له الأستاذ عطية في هدوء: إلى أين تسير بي؟
فضحك جابر وقال في ظرف: لا مؤاخذة يا أستاذ عطية! دعنا من هذا الفصل البارد، لأننا ذاهبان إلى حفلة رائعة ... ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة. جمال وفن وظرف وأناقة. ألا تعرف محمود بك صعبان؟ هو يعرفك وبعث إليك بهذه الدعوة.
وأبرز بطاقة أنيقة في ظرف وردي اللون وقدمها إلى صاحبه قائلا: طبعا جيران قدماء. ولا شك أنك تذكر الآنسة «بسمة»، ومن حقي عليك أن تقدم لي الشكر على أني أخذت هذه البطاقة من محمود بك صعبان لأوصلها إليك. سترى حفلة رائعة.
وأحس الأستاذ عطية بقبضة شديدة في نفسه عندما سمع اسم الأستاذ صعبان، وتلفت حوله بغير وعي كأنه يريد أن يجد سبيلا إلى الخروج، ولكنه كان سجينا في سيارة تجري بسرعة الريح الشديدة التي تصفر بين الأشجار التي على جانبي طريق الجزيرة المؤدي إلى بيت صعبان بك بالزمالك. وأخذ جابر بك يصف له الدار العظيمة التي يقيم فيها صعبان بك التاجر الكبير، ويطنب في وصف ما فيها من أثاث ورياش، ويتحدث عن الثروة الواسعة التي جمعها ذلك الرجل العصامي في مدة الحرب. ثم أخذ يتغنى بمحاسن الآنسة «بسمة» هانم التي ستكون نجمة الليلة في الاحتفال الذي أقامه البك بمناسبة عيد الميلاد.
وكان الأستاذ عطية في أثناء ذلك مطرقا ينظر إلى البطاقة ذات الحروف الذهبية، وهو شارد الفكر لا يكاد يسمع شيئا من أقوال صاحبه.
وعادت إليه صورة قديمة عرفها عندما كان محمود صعبان جارا قديما منذ اثنتي عشرة سنة، وعندما كان يقيم في الشقة الأرضية من منزل قديم مجاور لبيته. وتمثل صورة «بسمة» وهي صبية صغيرة تحمل السلة لتشتري الخضر من الباعة المتجولين في الحارة. كانت تعجبه لبساطتها ومحاسنها الساذجة كطفلة وديعة سوداء الشعر واسعة العينين، تتدلى ضفائرها الغليظة على ظهرها معقودة بشريط من الحرير. فكيف أصبح محمود صعبان سعادة البك وكيف أصبحت بسمة نجمة لحفلة عيد الميلاد؟ هذا ما لم يعرف سره. وأخذ يسأل نفسه: هل يعرفهما إذا رآهما؟ وهل يعرفانه إذا وقعت أعينهما عليه؟ وهل يخاطبانه كما كانا يفعلان بالاحترام الذي كان أهل الحي جميعا يوجهونه إليه؟
وقال لصاحبه في صوت خافت: كان ينبغي أن أستعد للذهاب إلى هذه السهرة.
فأجابه جابر مبتسما: ما شاء الله! ستكون أكثر المدعوين أناقة.
واستمر يتحدث عن صعبان بك منذ اشتغل بتوريد المؤن للجيوش المحاربة في السنوات العشر الماضية، وعن الحيل البارعة التي كان يحتال بها على أخذ أثمان بضائع لم يورد منها شيئا، وعن ذكائه الخارق في اختراع الوسائل التي يقدم بها الرشى إلى أصحاب المناصب العالية بغير أن يجعلهم يسمونها رشى. ثم أخذ يطنب في تواضعه وكرمه ومحاسن أخلاقه، كما أطنب في وصف محاسن الآنسة «بسمة».
ووقفت السيارة في وسط الحديث، وكان القصر المنيف الذي وقفت أمامه مطلا على النيل في قطعة خالية من المساكن، والأنوار الملونة المنبعثة من البستان المحيط بالقصر تخلع على المنظر ألوان الربيع وتتحدى السحب السوداء التي تغطي وجه السماء.
ودخل الضيفان من باب البهو الفسيح وكان المرح يشيع في الجو الدافئ، ولمعت من وجوه الحسان بسمات عذبة كأنها منظر ثغور الأقاحي. وكان عبير العطور يخفق في الهواء ويبعث رسائل غامضة من الفتنة. وصافح جابر بك أصدقاءه من الجنسين، وأما الأستاذ عطية فإنه اكتفى بالتحية من بعيد وكان يبدو عليه شيء من الوجوم. وبعد دقائق مضى الجمع من أحاديثه السابقة وكانت كل مجموعة تختلس النظرات إلى الأخرى. وأقبل صاحب الدار يتدحرج بقامته المكورة ووجهه السمين، وكان يفيض بشاشة ورقة، ولما حيا الأستاذ عطية انحنى له في أدب وشكره على قبول الدعوة، ثم استأذن ليستقبل عددا جديدا من الضيوف.
وجلس الأستاذ عطية في الحلقة التي اختارها جابر بك، وازداد في صدره شعور الانقباض الذي كان يحسه من قبل. رأى الضيوف في الحلقات المبعثرة في البهو الفسيح يتهامسون ويميل كل اثنين منهم في حديث خافت ضاحك. وأما الحسناوات فقد تعالت ضحكاتهن الوانية وهن يرسلن نظراتهن إلى الحلقات الأخرى. ورنت الضحكات المرحة في سمع الأستاذ عطية كأنها أنغام ناشزة، وزاده ضيقا منظر الظهور العارية والصدور البضة البارزة من بين البنائق الصغيرة.
كانت المناظر كلها فاتنة ولكن الأستاذ عطية رآها بعين صاحية، وكان وحده يجلس قابعا في مقعده بغير كأس في يده، وتمنى لو استطاع أن يتسلل خارجا.
ثم أحس فجأة بعطش شديد إلى كأس من تلك الكئوس التي تلمع بين الأنامل الأنيقة، فقام إلى البار وتشجع إذ لم يلتفت إليه أحد. ولما شرب الكأس الأولى أحس العطش يزداد به إلى أخرى، وما زال حتى دب في نفسه الأنس وبدأ ينظر إلى البهو بعينه النشوى. صار البهو في عينيه ملهاة صاخبة ضاحكة، وبدأ ينطلق من انطوائه ووحشته، وتردد على الحلقات التي يعرف من فيها والأخرى التي لا يعرف أحدا فيها، وأبهجها جميعا بفكاهاته وضحكاته العالية. وانطلقت أنغام الموسيقى تتردد جريئة مطربة، وسال البهو بالراقصين والراقصات، ولمعت جنباته بالوجوه الباسمة المشعة. وكانت القدود الرشيقة تتجاوب في نعومة مع الأنغام السريعة، كأنها تسبح فوق الهواء بخطواتها الخفيفة.
وتخاصر النساء والرجال، بين شباب وكهول، يتمايلون في ليونة ويتناظرون بلحظات وانية. وكانت ملابسهم تلمع تحت الأنوار كأنها قوس قزح مختلف الظلال، والوجوه المضيئة تبرق بالأذهان مثل لوحات في معرض فني. وأحاطت السواعد بالخصور، واستدارت الظهور البضة العارية إلى الصدور الغضة السافرة تتطلع إليها أطراف الحلل الحريرية مترددة كأنها تريد أن تتساقط. وتدفقت الهمسات الرقيقة في الأسماع واقتربت الأعناق من الأعناق.
وكان الأستاذ عطية قد عاد إلى ركن من البهو يرتشف من كأس أخرى في استرخاء، وعثرت عينه بصاحبه جابر بك يراقص غادة حسناء كأنها جنية خرجت من البحر في أقل ثيابها، وكان ظهرها العاري يكذب برد الشتاء، وقد لبست في يديها قفازين من الجلد الرمادي يغطيان معصمها وبعض ساعديها، وكانت يمينها معتمدة في رفق على كتف صاحبها، ويسارها في يمينه. ونظر جابر نحو الأستاذ عطية فتلاقت عيناهما وخيل إلى عطية أنه يبتسم. وكان على رأس الغادة طرطور من ورق ملون له ذؤابة تترجح بحركة ناعمة مع حركات الرقص، وقد عقدت في شعرها شريطا من الحرير الأحمر ورشقت فيه وردة حمراء كبيرة.
ووقف الأستاذ عطية ذاهلا يتطوح ويسأل نفسه: من هذه الساحرة الجريئة؟ ووثبت إلى ذهنه المخمور صورة صديقه كوكو المسكين وهو يراقصه بجسمه العاري وذؤاباته الملونة ووردته الكبيرة الحمراء. ثم لاحت له من ثنايا لمحات وجه الحسناء ملامح صورة قديمة يعرفها، صورة الفتاة الصغيرة الوديعة «بسمة» الدعجاء. وصرخ في مكانه صرخة خافتة، وكاد يعيد صرخة عالية يناديها باسمها. وفي مثل لمح البصر ملأ الغضب قلبه على صاحبه الذي غضب على كوكو عندما رآه يرقص معه في أول الليلة.
حقا كان كوكو عاري الجسم ولكن هذه أيضا عارية، وهي تلبس طرطورا أحمر وتضع في شعرها وردة حمراء، لا فرق بينها وبين كوكو. لا فرق بينهما سوى أنها حسناء وهو قبيح، وأنها ابنة محمود بك صعبان وهو المهرج المسكين. أي فرق بين هذه الحسناء التي ترقص بين ذراعي جابر بك وبين كوكو عندما كان يرقص إلى جانبه؟ ولماذا قال له جابر إنها رقصة مجنونة؟ ولماذا قال له إنه هم بأن ينزل ليعيد إلى كوكو عقله بصفعة؟ ولماذا أراد أن يضع كوكو في إصلاحية أو في السجن؟ فهل كوكو وحده المتوحش الذي يجلب على البلاد السخرية لأنه يسير عاريا ويرقص ضاحكا؟ ولم يدر ما هو فاعل عندما اندفع في ضحكة مخمورة واخترق الصفوف بين الراقصين حتى وصل إلى صديقه وصاحبته.
وقبل أن يفطن جابر بك إلى وجوده قريبا منهما، اندفع الأستاذ عطية نحو الآنسة صائحا: مساء الخير يا كوكو!
وبضحكة عالية انتزع الحسناء من بين يدي صديقه المذهول واندفع يراقصها كأن شيطانا يقهقه في جوفه. وفي لحظة قصيرة عم الاضطراب وانفلتت صرخة عالية من الفتاة الحسناء، وأسرع جابر إليها لينقذها من بين يديه، ولكن عطية اندفع في عنف يرقص ويغني كما كان يرقص ويغني مع كوكو.
كانت حقا رقصة مجنونة!
وسقطت الفتاة مغشيا عليها، وسقط الأستاذ عطية قريبا منها لا يسمع شيئا!
وفي تلك اللحظة انطفأت الأنوار بناء على برنامج الحفلة كما جرت العادة في نصف تلك الليلة، فتسلل جابر بك من البهو وهو يترنح، وكانت تلك آخر مرة دخل فيها إلى قصر الوجيه محمود صعبان، وآخر مرة سمحت له الآنسة بسمة بزيارتها كخطيبة.
وأما الأستاذ عطية فقد خسر صداقة جابر بك إلى الأبد، وكان فيما بعد لا يسمح لأحد أن يعيد ذكر تلك الحادثة على مسمع منه.
دعاء شعبان
«الكوارث قد تخفي في طيها النعم.»
هو شاب ساذج ضحى بكل شيء في الحياة ولم يطلب من أحد جزاء على تضحيته، وقليل هم الذين يعرفون قصته. كان حسين من رفاقي القدماء عندما كنا في مكتب القرية، وطالما اجتمعنا على اللعب في الليالي المقمرة في جرن القمح، لنلعب وننشد الأغاني القروية أو يقص أحدنا على الآخر ما سمعه من حكايات غريبة عن الجن أو مغامرات اللصوص. وطالما قضينا معا صدور الليالي فيما بعد عندما كبرنا، نستمع إلى قراءة القرآن في شهر رمضان في بيت العمدة أو من الراديو في المركز الاجتماعي. وكان حسين يحرص في كل عام على أن يأخذني معه إلى المسجد في ليلة نصف شعبان لنتلو الدعاء المعروف معا؛ لأنه كان يتيمن بقراءته، ويعتقد أنه يحمي من كل عثرات المقادير ويوسع الرزق. وكان شابا مرحا حلو الفكاهة كما كان قوي الجسم وضيء الوجه ممتلئ القلب بالشهامة.
ومرت سنوات طويلة شغلتني عنه المشاغل بعد أن تخرجت في الجامعة وفتحت عيادتي في القاهرة، غير أنه كان يزورني بين حين وآخر في عيادتي، كما كنت أزوره في بيته كلما ذهبت إلى القرية في بعض أواخر الأسابيع. وكان قد اشتغل بتجارة الألبان، واستطاع أن يشتري عددا كبيرا من الأبقار ليطمئن إلى جودة الألبان التي يوزعها على زبائنه. ومع أنه جمع ثروة كبيرة، لم يتكبر على أهل القرية ولم يغير طريقته الأولى في الحياة. فكان يطوف بدراجته مرة في الصباح وأخرى في المساء ليوزع الألبان الطازجة أو ليحمل الجبن والزبد إلى زبائنه من البقالين في المدينة المجاورة. وكان أهل القرية يكلفونه قضاء بعض حاجاتهم من المدينة فيقوم بتلك الخدمات راضيا ولا ينتظر من أحد شكرا. وكان نساء القرية أكثر جرأة عليه من الرجال، حتى إنهن إذا طلبن منه خدمة خاطبنه بلهجة الأمر أو وجهن إليه بعض الشتائم، وكن أحيانا يدفعنه في ظهره بقبضات أيديهن فوق تلك الشتائم، ولكنه لم يظهر لإحداهن يوما شيئا من التأفف، كما أنه لم يوجه إلى إحداهن نظرة أو لفظة تخدش المروءة. وكانت له في القرية خطيبة أخلص في حبها كل الإخلاص، وهي ابنة خالته واسمها «مبروكة»، عقد عليها وكان يجهد نفسه في العمل ليستطيع أن يبني لها دارا واسعة فيها زريبة كافية لكل أبقاره حتى يجمعها تحت رعايتها بدلا من تفريقها بين نساء القرية بالمشاركة.
وكانت مبروكة حقا أجمل فتيات القرية وأبرعهن يدا. كانت مشهورة بين لداتها بمهارتها في تطريز المناديل وعصابات الرأس وبتفننها في صنع أصناف الفطير والكعك وطواجن الأرز واللحم. وكان حب حسين لها أمرا معروفا يتحدث به نساء القرية وفتياتها فيما بينهن، ويتساءلن كلما مر قريبا من دارها هل عرج عليها وماذا حمل لها من الهدايا، وكن يتغامزن بها كلما مرت بهن بعد الغروب لتحمل الطعام لأبيها وأخيها في الغيط ويتهامسن قائلات: «إنه هناك في هذه الساعة يعزف على «سلاميته» عند منحنى الترعة.» ولم يكن ذلك افتراء منهن لأن حسينا كان يذهب حقا كل يوم إلى منحنى الترعة بعد فراغه من أعماله ويجلس في جوار الساقية التي تروي غيط أسرة مبروكة ينشد بعض الألحان القروية على سلاميته. وكان النسيم يحمل ألحانه العذبة إلى القرية الصامتة معلنا أنه هناك ينتظر مرور عروسه. وكانت مبروكة تعرف ما لها في قلب ابن خالتها وتعرف أن تلك الألحان العذبة موجهة إليها وحدها، ولكنها لم تشعر في وقت من الأوقات بشيء من التكلف. كانت إذا اقتربت منه ألقت عليه تحية المساء ووقفت حتى يجيء إليها ليذهبا معا إلى الغيط ويقطعا معا مسافة الطريق في حديث ساذج يفضي فيه كل منهما إلى الآخر بما عنده من أخبار اليوم. ومع أنها كانت تراه في كثير من الأحيان يتحدث مع نساء القرية وفتياتها ويقوم بأداء الخدمات التي يطلبنها منه، فإنها لم تقل له يوما كلمة تنم عن لوم أو غيرة، بل لعلها كانت تزداد تعلقا به وثقة بنفسها كلما سمعت عن الهمسات الغيرى التي كانت الفتيات يتهامسن بها من وراء ظهرها.
ومرت سنتان تمكن حسين في خلالهما من جمع المال الذي يكفي لبناء الدار الواسعة، وعزم على أن يحقق أمنيته العزيزة بالزواج من مبروكة، واختار قطعة أرض في جوار الساقية التي تعود أن يجلس عندها لينشد ألحانه، ولم يبخل بالثمن الغالي الذي طلبه منه زوج خالته صاحب تلك الأرض.
وفي يوم من أيام آخر الأسبوع ذهبت إلى القرية كعادتي، وأتى إلي كثير من أهل القرية بين أهل وأصدقاء وجلسنا نتسامر، وكان النسيم يرف بين أغصان الحديقة المزدهرة في فصل الربيع ويحمل إلى مجلسنا عطر زهر البرتقال ممتزجا برائحة دخان الخشب الذي يوقد به الخدم لإعداد الشاي المستمر لطائفة بعد أخرى من الضيوف. وجاء حسين محجوب بعد مضي ساعة طويلة من الليل، وكان وجهه ينطق فصيحا بأنه سعيد. وتحول حديث المجلس إليه سريعا وأخذ كل من هناك يوجه إليه كلمة مفاكهة فيها شيء من الخبث وشيء من الدعابة الخشنة. وكان حسين يجيب على تلك الكلمات بمرحه الطبيعي وبفكاهات طريفة تثير الضحكات العالية. وكانت أكثر المفاكهات دائرة حول زواجه القريب وليلة عرسه المنتظرة.
ولما انقضت السهرة قلت له معتذرا: أنا آسف لأني لن أستطيع أن أحضر ليلة زفافك لأني سأسافر بعيدا.
فقال حسين مبتسما: ولماذا لا ننتظر؟ لست مستعجلا لهذه الدرجة.
فقلت جادا: قد يطول غيابي شهرا، وقد يمتد إلى أكثر من ذلك.
وسكت لحظة ثم تبسمت قائلا: وقد يكون إلى الأبد!
فانتفض حسين قائلا: ماذا تقول؟
فقلت في صوت هادئ: سأذهب إلى فلسطين لمواساة المجاهدين. ومن يدري؟!
فانتفض حسين قائلا في دفعة: والله يا دكتور لن تذهب وحدك.
فشعرت بارتباك شديد وقلت في شيء من الضيق: وما معنى هذا؟
فقال حسين في ثبات: لن أحتفل بعرسي حتى نعود معا. سأذهب معك إلى فلسطين.
فقلت في رنة أسف: لم أقل لك إني مسافر لتفاجئني بهذا العزم السريع. إذا شئت فأجل العرس حتى أعود ولا حاجة بك إلى اتخاذ قرار سريع كهذا.
فقال في شدة: ولماذا تمنعني؟ أنت مسافر لأداء عمل تراه واجبا، ولماذا لا أذهب أنا كذلك لأؤدي واجبي؟ سأكون معك إذا شئت أن أرافقك، وإلا فإني أذهب وحدي.
فقلت باسما: ومبروكة!
فقال في حماسة: سأعود إليها، بل سأذهب من أجلها. سأحمل السلاح مع المجاهدين من أجلها. دعني أذهب معك لأسند لك الجرحى على كتفي أو لأخترق صفوف النار لأحملهم إليك. قلت لك إني ذاهب.
فمددت إليه يدي مصافحا وأنا صامت في تأثر شديد من إخلاصه وشهامته الساذجة. وانصرف على موعد ليقوم معي إلى القاهرة في صباح اليوم التالي.
ومن القاهرة بدأنا الرحلة إلى أرض فلسطين بعد أسبوع، وكان حسين محجوب سائق السيارة التي أقلتني مع رفاقي؛ لأنه كان من أمهر سائقي السيارات.
ولا حاجة بي أن أفصل مشاهد الحرب التي خضناها معا في فلسطين، فإنها تذكرني بآلام تدمي القلب وتثير الحقد والحنق، لا لما كان فيها من أعباء ومشقات في الجهاد، بل لسبب آخر يعرفه الجميع. لم نشعر في حرب فلسطين بالأعباء ولا بالمشقات؛ لأننا كنا نجاهد في سبيل خدمة إنسانية يرتاح الإنسان فيها إلى بذل كل تضحية. ولكن الذي يدمي القلوب هو رؤية ضحايا أرض فلسطين الذين جاء إليهم قوم من وراء البحار لينزعوا منهم وطنهم ويطردوهم منه. كنا نرى النساء والأطفال يسيرون في الفضاء بلا مأوى ولا طعام، والخوف يذهلهم عن المأوى والطعام. لم نشعر بألم ولا بمشقة ونحن نجاهد لنرجع هؤلاء المساكين إلى ديارهم التي طردوا منها حتى نزيل عن أهل هذا العصر معرة اعتداء شنيع لم يسبق للعالم أن شهد مثله. لم يسبق لجنكيزخان ولا لتيمورلنك ولا أثيلا أو أي همجي وحشي أن يغزو بجموعه أرضا لكي يطرد منها أهلها حتى يموتوا في العراء. كان الموت نفسه هينا في أنظارنا لو استطعنا أن نضحي بحياتنا في سبيل إعادة الأطفال والنساء المساكين إلى ظل المنازل التي أخرجوا منها وإلى حظائر أسراتهم التي شردت أبدادا.
ولا أريد أن أطيل في وصف مشاهد البطولة التي كانت تتكرر كل يوم في ميادين الجهاد، فقد كانت حرب فلسطين جهاد أبطال بالرغم مما يقوله الثرثارون في سخافاتهم. وحسبي أن أقول إن تلك الحرب كانت نعمة علينا وإن كانت في صورة كارثة، فإن الأمم لا تخلق على مهود السلام، والآلام وحدها هي التي تحفز الأمم لمواجهة الحياة. وقد أظهر حسين محجوب من آيات البطولة ما لا أستطيع وصفه إلا بقولي إن بطولته كانت جديرة بأرض الأنبياء.
ولكن بطولته كلفته ما هو أثمن من الحياة. وعدت من فلسطين وحدي وخلفت صديقي حسين في أرض فلسطين حيث لا أدري، فقد خرج وحده ذات ليلة إلى صفوف القتال ليسعف بعض المجاهدين الذين سقطت بهم طائرة وراء خط النار، ولكنه لم يعد ولم نقدر أن نعثر له على أثر في المكان الذي وقعت فيه الطائرة المحطمة.
ولا أستطيع أن أصف الحزن الذي أصاب القرية ولا أثر تلك الكارثة على قلب مبروكة المسكينة. لقد خلا مكان حسين في القرية وأحس كل فرد من أهلها وحشته، وأما مبروكة فإنها انطوت صامتة على قلبها الدامي، لم تصرخ البائسة ولم تلطم وجهها، بل كانت تئن أنينا متقطعا في صمت، واعتزلت وحدها فكانت لا تكاد تخرج من بيتها إلا لتحمل الطعام إلى أبيها وأخيها بعد الغروب إذا سهرا على الماء لري الزراعة. وحال لون وجهها وذبلت عيناها وفارقتها ابتسامتها، فأصبح وجهها ساهما يزيده كآبة لون ثيابها السود التي استمرت تلبسها.
وفي ليلة نصف شعبان ذهبت إلى القرية لأصلي وأقرأ الدعاء المعتاد في مسجد القرية ترحما على صديقي المسكين وحفظا لذكراه، وسمعت في تلك الليلة قصة عجيبة:
كان القمر يشرق على الفضاء من بين رءوس النخيل الذي يحف بالطريق الذاهب من القرية إلى منحنى الترعة حيث الساقية التي اعتاد حسين أن يجلس إلى جوارها لينشد ألحانه. وكان النسيم يهز أوراق أعواد الذرة التي في الحقول على جانبي الطريق فيسمع لها حفيف كأنها أرواح يوشوش بعضها بعضا. وخرجت مبروكة من القرية تحمل على رأسها طبقا من الخوص تبدو منه أطراف الأرغفة الواسعة التي أعدتها قبل المساء. وسارت تتلفت على الجانبين وحفيف الأوراق يخيل إليها أنها أصوات خافتة تناديها باسمها، وخيل إليها أن تلك الأصوات تشبه صوتا تعرفه عندما كان حسين يناديها وهي تمر من هناك. فأخذت تقرأ آية الكرسي لتثبت قلبها، ولكن الدموع طفرت من عينيها وغاص قلبها في أعماق صدرها. ولما مرت بقرب الساقية خيل إليها أنها تسمع صوت سلاميته تعزف لحنا حزينا كأنه ينبعث من العالم السماوي. وأسرعت مبروكة في خطاها لتصل إلى الحقل، وخيل إليها أنها تسمع صوتا يناديها باسمها مرة أخرى. وأسرعت أنفاسها من الخوف وصاحت تنادي أخاها من بعيد لتشعر بالأنس إذا سمعت صوته يرد عليها. ولكنها سمعت الصوت الذي يناديها يعود مرة أخرى، فالتفتت مذعورة نحو الساقية وخيل إليها أنها ترى شبحا يقترب نحوها في ضوء القمر وهو يتكئ على عكازة. كان بغير شك يشبه صوت حسين ابن خالتها، ولولا أن الشبح كان يتكئ على عكازة تحت إبطه ويقبل نحوها يعرج في مشيته لقالت إنه هو. وسمعت أو خيل إليها أنها تسمع صوته يقول: «أنا حسين يا مبروكة!» فخانها التجلد وانطلقت منها صرخة عالية شقت الليل الساكن كما يشق الشهاب الناري جوف السماء، وألقت الطبق عن رأسها وولت تجري نحو الحقل وهي تكرر صرخاتها وترتعد كورقة في مهب الرياح.
وأسرع الأب والأخ إليها، فأسنداها وهي تترنح حتى أقعداها على جانب المسقاة، واغترف لها أبوها حفنات من الماء لتشرب حتى يزول عنها أثر الذعر. وأخذ يمسح على رأسها ويقرأ اسم الله وسورة الفلق وبعض تعاويذ يحفظها. ولما استطاعت أن تنطق وقصت عليهما ما رأت وما سمعت أخذ الرجلان هراوتيهما وأسرعا بها نحو القرية وهما يقرآن اسم الله في أذنيها. ولما مرا بالساقية لم يكن هناك سوى البقرة تدور مغمضة العينين خاشعة تحت النير الغليظ، وقال الأب لابنته: «ليس هناك شيء يا مبروكة.» فلم تجب، بل سارت مطرقة حتى وصلت إلى القرية فرقدت على فراشها فوق الفرن، والتف حولها النساء يتحدثن عن قصص الأرواح التي تظهر أحيانا بعد الموت للأعزاء. وهل عجب أن يعود روح حسين محجوب من العالم الآخر ليزور معاهد حياته الأولى وينادي الذين تعلق بهم في هذه الدنيا؟ واعتقد الجميع أن تلك آية جديدة على صدق محبة حسين المسكين لابنة خالته مبروكة، وقالوا إنها زيارة قصيرة ثم عاد إلى عالمه السماوي.
ولكن الفتاة المنكوبة كانت أرهف بصرا وحسا من كل من هناك وقالت بصوت خافت: رأيته مرة أخرى على الطريق، كان يسرع وهو يعرج على عكازة.
فصاح أبوها: اسكتي يا مبروكة.
وأخذ يقرأ الآيات في حزن ويده فوق رأسها.
وجاء أهل القرية إلى بيتي مسرعين ليحملوا إلي قصة مبروكة المسكينة وهم يتعجبون من المعجزة. غير أني كنت أعرف أن الأرواح تؤثر البقاء في عالمها السماوي ولا تعود متجسدة إلى القرى ومعها عكازاتها. وخطرت لي خاطرة سريعة، فقمت مبادرا إلى سيارتي وسألت عن الاتجاه الذي قالت مبروكة إنها رأت الشبح يسير فيه، وما هي إلا دقيقة حتى انطلقت إلى الطريق المؤدي إلى القرية المجاورة. وصدق حدسي آخر الأمر، لأني رأيت الشبح ما يزال يعرج على الطريق أمامي مقتربا من القرية، وكان حقيقة يتكئ على عكازة تحت إبطه. وأدركته بعد لحظة قصيرة، فنزلت من العربة لأفتح ذراعي لصديقي حسين محجوب، ومال كل منا على عنق صاحبه يبكي. وانتحينا جانبا من الطريق فجلسنا تحت أشعة القمر نتحدث، وقص علي قصته: نجا من الموت بعد أن انفجر فيه لغم وهو ذاهب لإسعاف الطائرة المنكوبة، وعثرت به «دورية» فحملته معها إلى غزة، وهناك أجريت له عملية مدت له الحياة بساق واحدة. ولما رجع إلى الوطن بادر إلى القرية وكانت ليلة نصف شعبان، فذهب ليصلي المغرب إلى جوار الساقية قبل أن يرى أحدا من أهل القرية، وقرأ الدعاء لعل الله يمحو عنه شقاوته وحرمانه وطرده! ولكنها عندما مرت به لم تعرفه. وناداها باسمها قائلا: «أنا حسين يا مبروكة.» ولكنها صرخت وولت هاربة مذعورة.
فقلت له وقلبي يسيل عطفا: لا تحزن يا صديقي، فسوف يمحو الله شقاوتك وحرمانك وطردك.
فهز رأسه في شك وقال: هيهات يا دكتور. ليتني مت في الموقعة.
ولم أشأ أن أطيل معه المناقشة ونحن هناك على الطريق، كما أني لم أشأ أن أعود به إلى القرية في تلك الليلة بالذات؛ لأن شعورا غامضا كان يوحي إلي بأن أذهب به من ساعتي إلى القاهرة.
وتحدثنا طويلا في الطريق، كما تحدثنا طويلا في الأيام التي أقامها في عيادتي تحت العلاج، وحمدت الله كثيرا على أن إصابته لم تكن يائسة كما كنت أحسب. واستطاع بعد شهر ونصف أن يسير على قدميه سويا بغير عكازة بفضل ساق مصنوعة اخترناها له من أجود الأصناف التي لا تكاد مشيتها تختلف عن المشية الطبيعية.
وعدنا إلى القرية في يوم من أيام عيد الفطر، وكانت حقا ليلة عيد عند أهل القرية جميعا. وجاءت مبروكة إلى بيتي لأول مرة منذ مدة طويلة لكي تقبل يدي على أني أعدت حسينا إليها. ولست أنسى أن أذكر هنا أنني لم أملك نفسي من البكاء وأنا أرى العروسين واقفين جنبا إلى جنب ومبروكة تضع يدها تحت ذراع زوجها وتبتسم سعيدة، لألتقط لهما صورة شمسية تذكارا للعودة.
ولما أقمنا العرس بعد ستة أشهر وجاء حسين ليسلم علي قبل الذهاب بزوجته إلى داره الجديدة بجوار الساقية سألته قائلا: أرأيت كيف محا الله شقاوتك وحرمانك؟
فضمني إلى صدره قائلا: سنتلو الدعاء معا كل عام!
العودة
«العناصر واحدة والعبرة بالألوان، والحياة واحدة والعبرة بالروح.»
صديقنا الفنان «علي المصري » رجل فذ في شخصيته، وفذ في فنه. وكان يتخذ له مرسما في قلب حي من أحياء القاهرة القديمة، ويحيطه بجو غامض يناسب جو قاهرة العصور الوسطى الغامضة. فالحي القديم تحيط به من كل جانب بيوت متهدمة ومئات من المساجد الأثرية ذات المآذن العالية وأزقة ضيقة متعرجة تحرسها بوابات ضخمة ما تزال تحتفظ بقوامها الشامخ مع كل ما أصابها من خدوش السنوات الطويلة. والمرسم نفسه يمثل الحي أصدق تمثيل؛ إذ يحتوي على قطع مختلفة من أثاث قديم يجمعه الفنان قطعة قطعة من متاجر التحف البالية، ومن فوقها قطع مهلهلة من المنسوجات والسجاجيد التي مضت عليها مئات السنين وتناولتها مئات الأيدي.
وكنت أذهب مع صديقي إلى ذلك المرسم لأقضي يوما في جوه الغريب، فأنتقل فيه من عالم الحياة الحاضرة إلى عالم بعيد مندثر أقطعه عبر الأجيال وأجد فيه مجالا واسعا للتأمل. وكانت المناظر التي يرسمها صديقي تلائم جو المرسم والحي؛ إذ كان يختارها من الأطلال الدارسة والجدران المتهدمة، ويجعل أشخاصها من سكان الأحياء الفقيرة ذوي الوجوه المعروقة والثياب الممزقة.
ولست أدري لماذا كنت أشعر برغبة شديدة في الذهاب إلى ذلك المرسم برغم ما فيه وما حوله من المناظر المحطمة، وكنت - كلما ذهبت إليه - أستغرق في تفكير عميق عن الماضي والحاضر وعن الآلام والآمال، ويمضي اليوم فيه سريعا حافلا بالأحلام.
وأما الفنان نفسه، فقد كان عالما قائما بذاته، لا يشبه أحدا ولا يشبهه أحد، سواء في صورته الجسمية أم في تكوينه العقلي والنفساني. كان قصير القامة بدين الجسم، يتدحرج في مشيته السريعة ذات الخطى القصيرة، وأينما سار يتلفت حوله إلى الأشخاص والأشياء كأنه يريد أن يطبع في ذهنه كل ما يقع عليه بصره، ولكنه كان لا يقول شيئا كأنه لم يلاحظ شيئا. وكنت أحيانا أسأله لماذا لا يسير في طريقه بغير تلفت، فلا يجيبني إلا بابتسامته الساذجة قائلا: ولم خلق الله لنا عيونا؟
وكان من عادته أن يمسك في يده مسبحة سوداء من خشب اليسر كما كان دائما يلبس ثيابا قاتمة وربطة عنق سوداء. وكلما سألته عن السر في هذا السواد وهل هو حزين، أجابني بابتسامته المعهودة قائلا: إنه مزاج!
وأبرز ما يتصف به ذلك الفنان العجيب أنه يحمل في صدره أنقى قلب إنساني عرفته في حياتي، فكلما مر بالحارات الضيقة ورأى أطفالها المساكين وقف يتأمل وجوههم النحيلة في تأثر شديد وأخرج من جيبه كل ما يكون معه من النقود أو الحلوى، ووقف ينظر إليهم في عطف وهم يصفقون طربا ويحيطون به يطلبون المزيد. فإذا انصرف عنهم بلغ منه التأثر مبلغا شديدا وأخذ يتمتم لنفسه ببعض كلمات الرثاء. وله حس مرهف يدرك من المشاعر ما يخفى على أذكى الأذكياء، ولكنه قلما اهتم بأن يعبر عن تلك المشاعر بالأقوال، وإذا قال شيئا كانت أقواله غير مفهومة كأنه يستخدم لغة خاصة. وأما مقدرته على اختيار الألوان فقد كانت ممتازة، كأنه يدرك ببصره ما لا تدركه العيون الأخرى.
ومع كل إعجابي بصديقي الفنان ومحبتي له كنت في كثير من الأحيان أضيق بغرابة أطواره؛ لأنه كان يطيع بدواته إذا بدت له، ولا يعبأ برأي أحد من الناس. وكان لا يهتم بما تعارف عليه المجتمع، ويعتقد أن أهل العصر كلهم لا يستحقون أن يقام لآرائهم وزن. كان ثائرا بطبيعته على كل الأوضاع وكل القيم التي وضعها الناس في هذا الزمن، ولا يحاول أن يداري ما يشعر به مهما كانت الظروف. وكانت صراحته أحيانا تبلغ حد الإهانة والإيلام، وكثيرا ما أحرجني عندما كنا نجتمع في مجلس يضم بعض الأغراب الذين لا يعرفونه؛ لأنه كان لا يتردد في الجهر بآرائه وإن كانت مؤلمة لهم.
وأذكر أننا اجتمعنا يوما في بيت صديق لنا وكان عنده ضيف من أعضاء حزب سياسي كبير، فلما تناول الحديث بعض المسائل العامة تدفق الأستاذ علي المصري حانقا يتهم فيه زعماء الحزب بأشنع التهم حتى أحرج الضيف وجعله يخرج من البيت غاضبا. وكثيرا ما كان يحرجني في مواقف كثيرة أخرى؛ إذ كان لا يعبأ بالأصول المرعية في السلوك، فقد يعرج في الطريق على بائع عرقسوس متجول ليشرب كوبا مثلجا إذا شعر بأنه عطشان، كما قد يعرج على دكان بائع أثاث قديم ليشتري آنية محطمة أو قطعة من نافذة مهشمة أو قنديلا من النحاس تعلوه طبقة كثيفة من الصدأ. ولست أذكر أني رأيته يوما عابسا أو غاضبا، وكان دائما عظيم الأمل في المستقبل. لم يشعر يوما بالقلق لأنه مفلس، بل كان يؤمن بأن رزق الغد سوف يأتي. ولم يشعر باليأس من صلاح أحوال الناس، بل كان يعتقد أن الأمور سوف تتغير. كان مؤمنا بأن في الجو ثورة لا بد من انطلاقها في يوم من الأيام؛ لأنها أصبحت ضرورة لازمة، فإذا سألته عن الأسباب التي تدعو إلى ذلك الاعتقاد تبسم وهز كتفه قائلا: «سوف ترى.»
وقلت له يوما على سبيل المزاح: إن مرسمك هذا يذكرني بهياكل الجثث في المتحف.
فاتسعت ابتسامته وأجاب قائلا: لأنك لا ترى الأرواح التي ترفرف فوقها.
وكنت في يوم من الأيام عنده وهو يرسم إحدى لوحاته، وكانت تشبه لوحاته الأخرى في منظرها، فكل ما فيها محطم مهلهل متهدم، كانت تمثل تلا من الأطلال في أعلاه دار متهدمة ليس فيها سوى جدار واحد قائم إلى اليمين مستند إلى مئذنة مسجد صغير. وإلى الجهة الأخرى كوخ صغير تقف عند بابه طفلة صغيرة تشبه الأطفال المساكين الذين يقدم لهم قطع النقود والحلوى في الحارات المجاورة للمرسم. كانت جميلة الصورة كأنها ملاك، غير أنها في ثياب ممزقة وتقف حافية القدمين. وأمام الكوخ شيخ كبير السن تبدو على وجهه علائم القناعة والحزن والطيبة، وهو يتحامل على نفسه ليرمم جدار الكوخ المتداعي للسقوط.
فجلست أتأمل الصورة وأنا خاشع، وامتلأ قلبي ظلاما من ألوانها القاتمة التي لا يتخللها شعاع مشرق إلا في وجه الطفلة الصغيرة. ولم أدر كم مضى علي من الوقت وأنا أتأمل الصورة وأتحدث إلى نفسي صامتا، فلم أنتبه إلا على صوت أذان المغرب الذي انطلق من المسجد الأثري المجاور. ورأيت صاحبي يقف مصغيا إلى صوت الأذان في اهتمام، حتى إذا ما انتهى رفع «فرشته» وأضاف بها بعض لمسات إلى صورة المئذنة فجعلها تشبه منارة تبعث شعاعا خافتا مترددا يجاهد في اختراق ضبابة رقيقة من الغبار المتصاعد من تلك الأطلال.
وشعرت برغبة شديدة في أن أحدث صاحبي عن الصورة، ولكنه كان منصرفا إلى إضافة لمسات جديدة إلى الضوء المنبعث من المئذنة.
فقلت له مداعبا: أراك ترسم صوت الأذان يا صديقي.
فالتفت إلي بابتسامته قائلا: ولم لا؟
فقلت له في اهتمام: ألا تخبرني عن معنى هذه الصورة؟
فضحك قائلا: المعنى دائما؟
فقلت في إصرار: أكاد أقول إنك تقصد بها شيئا أكثر من مجرد صورة. أنت ترمز بها إلى معنى في ضميرك.
فالتفت إلي في دهشة قائلا: ماذا تقصد أنت؟
وكان تعبير وجهه في دهشته صادقا حتى وقع في وعيي أنه لم يقصد شيئا سوى تلك الصورة، سوى الطلل والطفلة والشيخ والمئذنة، التي استرعت اهتمامه لسبب يجهله هو أيضا.
فسألته: بماذا تريد أن تسميها؟
وكنت أعرف أنه يحب أن يسمي كل صورة باسم غامض.
فهز كتفيه قائلا: ربما سميتها الانتظار.
فقلت: وما معناه؟
فهز كتفيه مرة أخرى قائلا: الانتظار؟!
ولم أفهم من قوله شيئا فعدت أنظر إلى الصورة واكتفيت منها بالأثر العميق الذي وقع في نفسي.
وكانت تلك آخر جلسة طويلة معه في المرسم؛ لأني نقلت من القاهرة بعد ذلك وقضيت عدة سنوات أجوب البلاد في الشمال والجنوب، وصرت لا أرى صاحبي إلا في مقابلات عابرة يفصل بين كل منها والأخرى سنة كاملة أو عدة أشهر.
واتفق لي أن رجعت إلى القاهرة لأشهد الاحتفال الكبير الذي أقيم فيها لذكرى الثورة، وذهبت إلى ميدان التحرير لأشترك مع الألوف المؤلفة التي جاءت من كل البلاد لتحتفل بالحادثة التاريخية الكبرى. وهناك قابلت صاحبي مصادفة وهو يجوس خلال الجموع المتزاحمة. وكان أول ما أدهشني منه أنه كان يمسك في يده سبحة من الكهرمان الأصفر اللامع، ويلبس ربطة عنق ذات ثلاثة ألوان، الأسود والأحمر والأبيض، وهي ألوان الثورة كما هو معروف.
وقال لي ونحن نتعانق: أنا سعيد بلقائك. ألم أقل لك إنها آتية؟
فقلت: من هي؟
فقال : الثورة.
وكان شوقي إليه عظيما، فسحبته من يده إلى أقرب قهوة وجدنا بها مكانا خاليا وجلسنا نتحدث، وكان مرحا مستبشرا أكثر من عادته. كان يتحدث عن الثورة كأنه هو الذي أحدثها، وأخذ يتكلم على غير عادته كلاما مفهوما. ودعاني إلى قضاء يوم معه في المرسم لنتغدى معا ونتحدث. وكنت مشتاقا إلى رؤية مرسمه مرة أخرى بعد غيبتي الطويلة عنه، ونحن نعرف مقدار حنين الإنسان إلى الأماكن التي تعود الذهاب إليها في شبابه.
وفي اليوم التالي تلاقينا في الصباح على موعدنا في قهوة الفيشاوي، ثم سرنا في الطريق إلى المرسم، وكنت أنا في هذه المرة أتلفت حولي إلى مناظر الناس والدكاكين التي لم تقع عيني عليها منذ خمسة عشر عاما، وإلى الأطفال في الأزقة الضيقة والمنازل القديمة المتهدمة، وشعرت بحنين يشبه حنين الذي يعود إلى وطنه بعد غربة طويلة. وسار صاحبي في نشاط بخطواته السريعة، يحيي أصحاب الدكاكين الصغيرة ويدعوهم بأسمائهم ويبادلهم الفكاهة، ثم عرج بي فجأة على دكان «مسمط» ليعد الوليمة التي دعاني إليها، واشترى شيئا من لحم الرأس واللسان والمخ، ولفه في كيس من الورق وسار يهزه في يمينه، ثم عرج على دكان بائع «طرشي» ثم على مخبز وعربة برتقال حتى جهز كل أصناف الغداء، وسرنا نحمل في أيدينا لفائف كثيرة. ولست أنكر أني شعرت بكثير من الحرج ونحن نعرج على جانبي الطريق لشراء طعامنا، إذ كانت الطرق مزدحمة بالمارة الذين ينظرون نحونا. وزاد حرجي حتى شعرت بأن الدم يتصاعد إلى وجهي عندما مر بنا أحد المعارف القدامى وسلم علينا من بعيد ونحن نشتري رطلا من السكر لإعداد الشاي بعد الغداء، وخيل إلي أنه يتبسم في شيء من السخرية عندما لمح القراطيس في أيدينا، فشعرت بكثير من الخجل، ولكن صديقي الفنان صاح به قائلا: تفضل معنا.
وجعل يكرر دعوته في إصرار حتى جعل ذلك الصاحب القديم يرفع يديه إلى رأسه شاكرا ويسرع متباعدا عنا. واخترقنا ما بقي من العطفات حتى بلغنا المرسم وصعدنا في سلمه ذي الدرجات العالية. وألقيت القراطيس التي كانت في يدي على منضدة عرجاء من الأبنوس المطعم بالصدف، وهي إحدى التحف العزيزة على صديقي. وجلست على الكرسي «الأربسكة» الذي تعودت أن أجلس عليه من قبل، وأخذت أنظر في دهشة إلى المرسم.
كان منظره العام مختلفا عن منظره الكئيب الذي عرفته، وكان جوه العام غير جوه الأول القاتم. وبعد لحظة فطنت إلى السر في ذلك التغيير الكبير؛ إذ رأيت في صدر الغرفة الكبيرة صورة تضيء بألوانها الزاهية. فوقفت أنظر إليها وأتعجب من الأثر الذي أحدثته في الغرفة. كانت الأركان هي الأركان التي عهدتها من قبل، وكان الأثاث هو الأثاث القديم، ولكن الصورة الجديدة خلعت على المرسم كله شخصية أخرى. وتأملتها طويلا، وخيل إلي أني رأيتها من قبل، ولكني لم أذكر أين رأيتها. كانت تمثل ربوة خضراء عليها خمائل ذات ظلال رائعة، وينحدر منها جدول من الماء المتألق منسابا إلى أحواض مزدهرة، وإلى جانب الربوة من اليمين صورة مسجد يصعد بمئذنته الرشيقة كأنها تبتسم لضوء الشمس، وإلى الجانب الأيسر كانت دار صغيرة متواضعة، ولكنها بديعة في بساطتها، وعلى جانبها تصعد كرمة تتدلى منها قطوف العنب.
ووقفت عند باب الدار طفلة متهللة الوجه كأنها ملاك يسبح في السماء، تفتح ذراعيها لجدها الشيخ الذي كان يميل أمامها ليرفعها بين ذراعيه. عند ذلك فقط هجمت علي ذكرى المنظر القديم الذي رأيته من قبل، وتذكرت تلك الأطلال المتهدمة والكوخ الحقير المتداعي والجدار المستند إلى المئذنة وشعاعها الخافت الذي يجاهد ليخترق سحابة الغبار، وقلت في شبه صيحة: إنها هي هي!
فقال صاحبي: ما هي؟
فقلت في حماسة: هذه الصورة. الطفلة هي الطفلة، والشيخ هو الشيخ، ولكن ماذا حدث؟ بعض الألوان يتغير فتصير الأطلال ربوة مزدهرة وتصير المئذنة المتصدعة رشيقة مبتسمة للضوء، ويصبح الكوخ الحقير دارا سعيدة! أليست هذه هي الصورة؟
فابتسم صاحبي ابتسامته العريضة الطيبة وقال: كانت الأخرى تملؤني انتظارا.
فقلت: وأين هي؟
فقال: لم أستطع الإبقاء عليها، طمستها؛ لأنها كانت كئيبة. ولماذا أبقي عليها؟
فقلت: هي أثر من أعمالك.
فقال: لم تكن سوى بداية كنت دائما أنتظر لأتمها. كنت دائما أعتقد أنه سيأتي يوم أستطيع فيه أن أتمها.
فقلت: لست أفهم.
فقال: أما قلت لك إنها ستتحدث يوما؟ أما قلت لك إن الثورة آتية؟ كنت أنتظرها وانتظرت طويلا، ولكنها حدثت. وكان لا بد لي أن أتم الصورة كما أردتها. كان عاما سعيدا قضيته في تجديدها منذ قيام الثورة، وانقطعت لها مدة عام من الصباح إلى المساء أضيف في كل يوم لمسة. بدأت في يوليو، ونحن الآن في يوليو. أليست تعجبك؟
فقلت في حماسة: إنها رائعة.
فقال وهو ينظر إليها في ارتياح: عندما أتممتها شعرت بأن عبئا ثقيلا أزيح عن صدري. كانت الصورة القديمة تملأ قلبي ظلاما، فلما جددتها شعرت بالسعادة تغمرني. انظر إلى المئذنة وإلى الشيخ، لم أضف عليهما إلا لمسات صغيرة ومع ذلك فقد تغيرت كما ترى.
توقفت أتأمل الصورة في نشوة، وكان منظر الشيخ والطفلة يجتذب بصري كأن فيه سحرا.
وقلت له بعد حين: وماذا سميتها؟
فتبسم قائلا: «العودة»؛ كانت الأطلال تنتظر أن يعود الروح إليها.
فقلت: ولم لا تسميها الثورة؟
فهز رأسه في ثبات قائلا: ليست ثورة. هكذا يسميها الناس، ولكني لا أسميها إلا «العودة». ألا تراه اسما طريفا؟ فتعال لنتغدى فإني لم أتناول طعاما في الصباح.
ونزعت عيني من الصورة وذهبت معه إلى المائدة الأبنوسية العرجاء، وأخذنا نفك اللفافات واحدة بعد واحدة ونحن نقتطع منها قطعا شهية.
Shafi da ba'a sani ba