63

فصاح به فارس طويل على رأسه عمامة حمراء: ما لك تخذلنا عن نصرة أهل القصر؟ ألسنا من خيول خراسان؟

وتبعه آخرون فإذا بالجمع يتصايح ويتناقش، منهم من يتوثب إلى القتال ومنهم من يؤثر الحذر والأناة، حتى كاد العقد ينفرط، والقول يتشعب، والخصام والجدال يصيران إلى تدافع ونضال.

فقام رجل من وسط الحلقة متكئا على سيفه، وأشار بيده يطلب الكلام، فالتفت إليه الناس بعد حين وهم يتنادون: أنصتوا إلى أميركم عثمان بن عبد الله ...

فقال الأمير بعد أن هدأت الثائرة وخشعت الأصوات: «أي قوم! هؤلاء إخوانكم في قصر الباهلي لا يزيدون على مائة أهل بيت يحرسون ثغرا بعيدا، ويحمون من نسائكم وذراريكم من هم في أعناقكم أمانة.»

فحاول شعبة أن يقاطعه، فعلت ضجة أسكتته، واستمر عثمان فقال: «ولسنا في حربنا نبالي ما يصيبنا. إن قصر الباهلي بمن فيه من نساء وصبية يستظلون بعلمكم، ويقيمون هناك ربيئة لكم. أتسلمونهم إذ تكاثر عليهم العدو؟ أتبيحون حرمكم لأنكم اليوم في قلة؟»

فعادت الضجة، وعلت الأصوات، وتهاتف الناس قائلين: إلى قصر الباهلي.

فتبسم عثمان راضيا، وعاد إلى الكلام فقال: «لست آمر ولست أنهي. إنكم إن أقدمتم استقبل كل فرد منكم عشرة أو عشرات من العدو، ولعلكم لن تستطيعوا غير أن تواسوا من هناك من المسلمين بأنفسكم، فتنالوا الشهادة إلى جوارهم، ولكني لا أمنع من أراد منكم النهوض للقتال.»

فما كاد يتم قوله حتى قام من جانب الجمع ذلك الفارس الطويل الذي تكلم من قبل، وهو المسيب بن بشر التميمي، فقال وهو يسوي على رأسه عمامته الحمراء: «لقد عرفتم أن السغد ما تحركوا إلا ليأخذوا عاتكة، امرأة هلال التميمي، وهو الذي عرفتموه فارسا في الحرب، كريما في الجوار، طالما دافع عن أحسابكم حتى قتل. أنترك امرأته سبيا ونسلم ابنه الصبي للعدو يبيعه رقيقا؟ لن أبيت الليلة هنا، ومن شاء أن يلحق بي فليفعل.»

وما طلع صباح اليوم التالي حتى كان سبعمائة فارس يتبعون المسيب في الطريق إلى قصر الباهلي، وقد بايعوا أنفسهم جميعا على الموت.

وسارت الكتيبة الصغيرة لا تهدأ في ليل ولا في نهار، حتى صارت بعد أيام على فرسخين من القصر، فنزل المسيب يستروح قليلا ويريح من معه، وانصرف الفرسان يلتمس بعضهم طعاما وبعضهم يستلقي استجماما، وتركوا جيادهم في سروجها وعدتها، وأقاموا في أطراف منزلهم ربيئة يحرسونهم من المفاجأة.

Shafi da ba'a sani ba