51

وذهبت السفن تتهادى مرة أخرى في مطلع الصيف إلى ذلك الشاطئ كما تتهادى القافلة على فدافد الصحراء. وكان الفتيان عند ذلك قد صاروا رجالا، وتبعتهم طبقة بعد طبقة من الفتيان الذين جذبتهم مغامرات البحر. ولكن أميرهم عبد الله كان دائما عند مقدم السفينة الأولى يرتاد لهم الطريق ويختار لهم مرافئ النزول.

وهبط بهم عبد الله على الساحل على مقربة من المرفأ الأعظم، وصفهم صفا على الخيل، ولكنه تردد عندما نظر إلى المدينة العظمى التي كانت تلوح من فوق التلال البعيدة، وهي ثغر الروم الأعظم الذي أودعوا فيه بقية شوكتهم.

كانت مخاطرة عظيمة أن يتقدم بفتيانه نحو المدينة الكبرى، ولكنه لم يطل التردد وعزم على أن يخوض المعركة. ورأى أن يذهب وحده ليرتاد ميدان المعركة قبل أن يقدم عليها.

فانتحى ناحية يصلي، وأعاد دعاءه أن يحفظ الله فتيانه وأن يجعله لهم الفداء. ثم نزل في سفينة صغيرة مع ملاح فرد ليتحسس الساحل ويستطلع ما فيه من حصون وجنود قبل أن يسير إليه بجيشه الصغير. ولبس ثياب تاجر ليخفي سلاحه ودرعه، وهبط بقاربه الخفيف إلى المرفأ حتى نزل في بقعة منعزلة من البر متواريا في الصخور. وجعل يتعرف معالم المدينة.

ولم يكن هناك سوى بعض نسوة يحتلن على اصطياد الرزق من قواقع الشاطئ، فلما رأين عبد الله وقفن يطلبن إحسانه، فمد إليهن يده بالعطاء وأسرع عنهن يثب فوق صخور الساحل، وتركهن ينظرن إلى ما ألقى في أكفهن من قطع الفضة والنحاس. وصاح النساء صيحات فرح، وهتفن به شاكرات، ووقفن ينظرن في أعقابه وهو يسير خفيفا على الشاطئ برأسه المرفوع وقامته المديدة، وجعلن يتحدثن عنه في إعجاب. وكانت فيهن امرأة طال تردادها على تلك السواحل منذ سنين وجابت أطرافها منذ كانت شابة، حتى ذهب شبابها وعصفت بها الأيام فلم تبق منها إلا أسمالها البالية وجسدها النحيل. فلما انصرف التاجر العجيب وقفت تنظر في أعقابه مشدوهة، كأنها تتفقد شيئا غاب عنها ... تنظر حينا إلى ما في يديها من العطاء وتسرح حينا في أخيلة الذكرى، ثم تنظر نحو الرجل وهو يتباعد عنها رويدا رويدا، فتذكرت أنها رأت تلك الصورة يوما. ثم سنحت لها الصورة من عالم بعيد، فصاحت صيحة مكبوتة، والنساء من حولها يتضاحكن ويتغامزن ويتهامسن عنها قائلات: «إنها لتنظر إلى الرجل الغريب ولا تكاد تثني عينيها عنه.»

فصاحت بهن المرأة: «ويحكن أيتها الخبيثات! فما بي من صبوة تحملني على النظر في أعقاب هذا الكهل، وأنا اليوم امرأة عجوز!»

فصاحت بها فتاة من بينهن: «فما خطبك إذن؟ وما لك تبرقين في أعقاب الرجل وقد انصرف عنك؟ أما سحرتك قامته السمهرية؟ أما خلب لبك ما يلوح عليه من خيلاء؟ أما أطمعك فيه كرمه، وحرك جشعك ما عليه من مخايل الثراء؟»

ولم تجب العجوز عليها بحرف، بل صاحت تقول: «إنه صاحب الصيحة الغريبة وقائد الفتيان. إنه صاحب الغارات التي روعت هذا الساحل منذ سنين. إنه هو الذي هزم هؤلاء الذين يزعمون أنهم أبطال الحروب.»

وجعلت تقص على صويحباتها ما شهدت من عبد الله وما سمعت عنه في غاراته التي شهدتها مرارا، وذكرت لهن صيحته العجيبة التي طالما ترددت أصداؤها بين أودية تلك السواحل بعد الانتصار. ثم جعلت تفيض في وصف الفتيان الذين كانت تراهم أحيانا كالجان فوق الخيول وأحيانا كالرهبان في الصلاة.

ولما انتهت من قصتها نظرت نحو الرجل الغريب، وكان ما يزال يضرب فوق الصخور بقامته العالية وخطاه الخفيفة، فصاحت مؤكدة: «أهذا أيها الحمقى تاجر السلع؟ أهكذا يمشي قعيد الحوانيت؟ أهكذا يثب على الصخر سعاة الأسواق؟ أما رأيتن عطاءه عطاء الملوك؟ أما وقعت عين إحداكن في عينه؟»

Shafi da ba'a sani ba