24

فقال في ضجر: عزمت عليك يا أماه أن تحدثيني طويلا عن تويا!

فأخذت الأم تقص عليه قصة طويلة ... كانت تويا بغير شك كريمة النفس، لا تزال باقية على مودته حافظة عهده، وتبكي ليلا ونهارا في خلواتها حتى اعتراها السقم. وقد أصبحت طريحة الفراش، فلا الدواء يشفيها ولا مباهج الحياة تسليها. كانت تنحدر إلى الموت. ولكنها لم تستطع أن تقاوم إرادة أبيها. وهل كان أبوها يجرؤ على رفض مصاهرة السيد العظيم «مريي» الذي كانت البلاد تهتز إذا ذكر اسمه؟

ولما انتهت الأم من قصتها مرت بيدها على رأس ولدها المطرق لتواسيه، وكانت تتمنى لو استطاعت أن تبلغ بيدها شغاف قلبه فتمسحها من ذلك الحب الذي لا أمل فيه. ولم يتكلم ستنامر ولم ينطق بشكوى، ولكن أمه كانت تستطيع أن تقرأ ما في أعماق قلبه من شعور الخيبة والحنق. كان موعد زفاف تويا على القائد الكبير «مريي» بعد أسبوعين اثنين، وكان رئيس الكهنة نفسه يشرف على دقائق رسوم الاحتفال في معبد أمنحتب الرشيق القائم على الشاطئ الشرقي من طيبة. وقد أعد الزوج النبيل لذلك اليوم مهرجانا رائعا يليق بمكانته الكبرى. وهل كان هناك من هو أمجد من قائد الكتيبة اللوبية في جيش الملك؟ لم يكن في الجيش كله من هو أقرب منه إلى قلب الملك العظيم رمسيس الثالث، حتى لقد ائتمنه على إقليم العاصمة الكبرى وجعله حاكما عاما عليه.

وكان «مريي» عملاقا يرفع رأسه كالمسلة الباسقة، فإذا لبس سلاحه كان مثل إله الحروب. وكان يسير أحيانا في طليعة كتيبته اللوبية ليعرض هيبة الملك على رعاياه من أهل طيبة، فإذا رآه الناس خشعوا وتذكروا بأس فرعون العظيم.

وكان مريي يوقع الرعب في القلوب بهيبته وبعينيه الزرقاوين اللتين تشبهان عيني الفهد.

وكان أحيانا يبتسم إذا سمع تحية من بعض المتزلفين الذين كانوا يتقربون إليه بالهتاف والدعاء، ولكن الابتسامة كانت تلوح على فمه مرعبة كأنها على وجه نمر تظهر من تحتها ثناياه البارزة إلى الأمام، على حين تبقى عيناه الزرقاوان ناظرتين إلى الأمام في جمود مخيف.

وذهب ستنامر عقب سماع القصة المحزنة إلى مخدعه فاعتكف فيه، ولم تستطع أمه أن تخفف من وقع النبأ عليه برغم عطفها ومواساتها. حقا إنه لم يجهر بالشكوى ولم يظهر الجزع، ولكن منظره كان ينم على ما في قلبه من اليأس. ولقد ضاقت الحياة أمامه وخيل إليه أن الآفاق تريد أن تنطبق عليه من الشرق والغرب فلا تدع لأنفاسه متسعا فيما بينها. وغمر الشقاء أمه «حاتاسو» واتهمت نفسها بأنها كانت السبب في يأس ولدها الحبيب، وجعلت تحاسب نفسها حسابا عسيرا على أنها لم تخف عنه النبأ القاسي حتى لا تحطم قلبه، وأنها صدمته صدمة شديدة هدمت آماله في مثل لمح البصر. وأخيرا لم تجد الأم حيلة لتخفف بها من آلام نفسها وآلام ولدها إلا أن تذهب إلى معبد أمنحتب للصلاة عند محراب «آمون».

وكان الكاهن «أمنميس» رئيس المعبد شيخا مباركا يعرف الجميع أنه حبيب آمون وأنه قديس يوحى إليه بالرؤيا الصادقة ويكشف له الغيب في لمحات واضحة.

ولما قضت حاتاسو صلاتها عند محراب المعبد، جلست حزينة تناجي الإله الرحيم في حرارة، وتناشده أن يلطف بولدها في غمرة حزنه. وفيما هي في نجواها أقبل نحوها الشيخ الكاهن كأنه قد جاء يلبي نداءها. وما كادت تراه حتى أحست كأن نورا ينبعث إلى قلبها. وأفضت إليه بآلامها وآلام ولدها، وسألته أن يهديها إلى سبيل الخلاص بوحيه الميمون. وأخذ الشيخ يعبث بلحيته البيضاء وهو يستمع إلى حديثها في هدوء، فلما أكملت شكواها أطرق ساعة، ثم رفع رأسه في بطء ونظر نحوها مبتسما وهو صامت.

فمدت الأم يديها مبسوطتين نحوه في لهفة وضراعة، وأحست أن الشعاع الذي أضاء قلبها قد أخذ يسطع ويزهر، وقالت وقلبها يخفق: أيها الشيخ المقدس، هل من أمل في الخلاص؟

Shafi da ba'a sani ba