111

فضمني إلى صدره قائلا: سنتلو الدعاء معا كل عام!

العودة

«العناصر واحدة والعبرة بالألوان، والحياة واحدة والعبرة بالروح.»

صديقنا الفنان «علي المصري » رجل فذ في شخصيته، وفذ في فنه. وكان يتخذ له مرسما في قلب حي من أحياء القاهرة القديمة، ويحيطه بجو غامض يناسب جو قاهرة العصور الوسطى الغامضة. فالحي القديم تحيط به من كل جانب بيوت متهدمة ومئات من المساجد الأثرية ذات المآذن العالية وأزقة ضيقة متعرجة تحرسها بوابات ضخمة ما تزال تحتفظ بقوامها الشامخ مع كل ما أصابها من خدوش السنوات الطويلة. والمرسم نفسه يمثل الحي أصدق تمثيل؛ إذ يحتوي على قطع مختلفة من أثاث قديم يجمعه الفنان قطعة قطعة من متاجر التحف البالية، ومن فوقها قطع مهلهلة من المنسوجات والسجاجيد التي مضت عليها مئات السنين وتناولتها مئات الأيدي.

وكنت أذهب مع صديقي إلى ذلك المرسم لأقضي يوما في جوه الغريب، فأنتقل فيه من عالم الحياة الحاضرة إلى عالم بعيد مندثر أقطعه عبر الأجيال وأجد فيه مجالا واسعا للتأمل. وكانت المناظر التي يرسمها صديقي تلائم جو المرسم والحي؛ إذ كان يختارها من الأطلال الدارسة والجدران المتهدمة، ويجعل أشخاصها من سكان الأحياء الفقيرة ذوي الوجوه المعروقة والثياب الممزقة.

ولست أدري لماذا كنت أشعر برغبة شديدة في الذهاب إلى ذلك المرسم برغم ما فيه وما حوله من المناظر المحطمة، وكنت - كلما ذهبت إليه - أستغرق في تفكير عميق عن الماضي والحاضر وعن الآلام والآمال، ويمضي اليوم فيه سريعا حافلا بالأحلام.

وأما الفنان نفسه، فقد كان عالما قائما بذاته، لا يشبه أحدا ولا يشبهه أحد، سواء في صورته الجسمية أم في تكوينه العقلي والنفساني. كان قصير القامة بدين الجسم، يتدحرج في مشيته السريعة ذات الخطى القصيرة، وأينما سار يتلفت حوله إلى الأشخاص والأشياء كأنه يريد أن يطبع في ذهنه كل ما يقع عليه بصره، ولكنه كان لا يقول شيئا كأنه لم يلاحظ شيئا. وكنت أحيانا أسأله لماذا لا يسير في طريقه بغير تلفت، فلا يجيبني إلا بابتسامته الساذجة قائلا: ولم خلق الله لنا عيونا؟

وكان من عادته أن يمسك في يده مسبحة سوداء من خشب اليسر كما كان دائما يلبس ثيابا قاتمة وربطة عنق سوداء. وكلما سألته عن السر في هذا السواد وهل هو حزين، أجابني بابتسامته المعهودة قائلا: إنه مزاج!

وأبرز ما يتصف به ذلك الفنان العجيب أنه يحمل في صدره أنقى قلب إنساني عرفته في حياتي، فكلما مر بالحارات الضيقة ورأى أطفالها المساكين وقف يتأمل وجوههم النحيلة في تأثر شديد وأخرج من جيبه كل ما يكون معه من النقود أو الحلوى، ووقف ينظر إليهم في عطف وهم يصفقون طربا ويحيطون به يطلبون المزيد. فإذا انصرف عنهم بلغ منه التأثر مبلغا شديدا وأخذ يتمتم لنفسه ببعض كلمات الرثاء. وله حس مرهف يدرك من المشاعر ما يخفى على أذكى الأذكياء، ولكنه قلما اهتم بأن يعبر عن تلك المشاعر بالأقوال، وإذا قال شيئا كانت أقواله غير مفهومة كأنه يستخدم لغة خاصة. وأما مقدرته على اختيار الألوان فقد كانت ممتازة، كأنه يدرك ببصره ما لا تدركه العيون الأخرى.

ومع كل إعجابي بصديقي الفنان ومحبتي له كنت في كثير من الأحيان أضيق بغرابة أطواره؛ لأنه كان يطيع بدواته إذا بدت له، ولا يعبأ برأي أحد من الناس. وكان لا يهتم بما تعارف عليه المجتمع، ويعتقد أن أهل العصر كلهم لا يستحقون أن يقام لآرائهم وزن. كان ثائرا بطبيعته على كل الأوضاع وكل القيم التي وضعها الناس في هذا الزمن، ولا يحاول أن يداري ما يشعر به مهما كانت الظروف. وكانت صراحته أحيانا تبلغ حد الإهانة والإيلام، وكثيرا ما أحرجني عندما كنا نجتمع في مجلس يضم بعض الأغراب الذين لا يعرفونه؛ لأنه كان لا يتردد في الجهر بآرائه وإن كانت مؤلمة لهم.

Shafi da ba'a sani ba