105

وأحس الأستاذ عطية بقبضة شديدة في نفسه عندما سمع اسم الأستاذ صعبان، وتلفت حوله بغير وعي كأنه يريد أن يجد سبيلا إلى الخروج، ولكنه كان سجينا في سيارة تجري بسرعة الريح الشديدة التي تصفر بين الأشجار التي على جانبي طريق الجزيرة المؤدي إلى بيت صعبان بك بالزمالك. وأخذ جابر بك يصف له الدار العظيمة التي يقيم فيها صعبان بك التاجر الكبير، ويطنب في وصف ما فيها من أثاث ورياش، ويتحدث عن الثروة الواسعة التي جمعها ذلك الرجل العصامي في مدة الحرب. ثم أخذ يتغنى بمحاسن الآنسة «بسمة» هانم التي ستكون نجمة الليلة في الاحتفال الذي أقامه البك بمناسبة عيد الميلاد.

وكان الأستاذ عطية في أثناء ذلك مطرقا ينظر إلى البطاقة ذات الحروف الذهبية، وهو شارد الفكر لا يكاد يسمع شيئا من أقوال صاحبه.

وعادت إليه صورة قديمة عرفها عندما كان محمود صعبان جارا قديما منذ اثنتي عشرة سنة، وعندما كان يقيم في الشقة الأرضية من منزل قديم مجاور لبيته. وتمثل صورة «بسمة» وهي صبية صغيرة تحمل السلة لتشتري الخضر من الباعة المتجولين في الحارة. كانت تعجبه لبساطتها ومحاسنها الساذجة كطفلة وديعة سوداء الشعر واسعة العينين، تتدلى ضفائرها الغليظة على ظهرها معقودة بشريط من الحرير. فكيف أصبح محمود صعبان سعادة البك وكيف أصبحت بسمة نجمة لحفلة عيد الميلاد؟ هذا ما لم يعرف سره. وأخذ يسأل نفسه: هل يعرفهما إذا رآهما؟ وهل يعرفانه إذا وقعت أعينهما عليه؟ وهل يخاطبانه كما كانا يفعلان بالاحترام الذي كان أهل الحي جميعا يوجهونه إليه؟

وقال لصاحبه في صوت خافت: كان ينبغي أن أستعد للذهاب إلى هذه السهرة.

فأجابه جابر مبتسما: ما شاء الله! ستكون أكثر المدعوين أناقة.

واستمر يتحدث عن صعبان بك منذ اشتغل بتوريد المؤن للجيوش المحاربة في السنوات العشر الماضية، وعن الحيل البارعة التي كان يحتال بها على أخذ أثمان بضائع لم يورد منها شيئا، وعن ذكائه الخارق في اختراع الوسائل التي يقدم بها الرشى إلى أصحاب المناصب العالية بغير أن يجعلهم يسمونها رشى. ثم أخذ يطنب في تواضعه وكرمه ومحاسن أخلاقه، كما أطنب في وصف محاسن الآنسة «بسمة».

ووقفت السيارة في وسط الحديث، وكان القصر المنيف الذي وقفت أمامه مطلا على النيل في قطعة خالية من المساكن، والأنوار الملونة المنبعثة من البستان المحيط بالقصر تخلع على المنظر ألوان الربيع وتتحدى السحب السوداء التي تغطي وجه السماء.

ودخل الضيفان من باب البهو الفسيح وكان المرح يشيع في الجو الدافئ، ولمعت من وجوه الحسان بسمات عذبة كأنها منظر ثغور الأقاحي. وكان عبير العطور يخفق في الهواء ويبعث رسائل غامضة من الفتنة. وصافح جابر بك أصدقاءه من الجنسين، وأما الأستاذ عطية فإنه اكتفى بالتحية من بعيد وكان يبدو عليه شيء من الوجوم. وبعد دقائق مضى الجمع من أحاديثه السابقة وكانت كل مجموعة تختلس النظرات إلى الأخرى. وأقبل صاحب الدار يتدحرج بقامته المكورة ووجهه السمين، وكان يفيض بشاشة ورقة، ولما حيا الأستاذ عطية انحنى له في أدب وشكره على قبول الدعوة، ثم استأذن ليستقبل عددا جديدا من الضيوف.

وجلس الأستاذ عطية في الحلقة التي اختارها جابر بك، وازداد في صدره شعور الانقباض الذي كان يحسه من قبل. رأى الضيوف في الحلقات المبعثرة في البهو الفسيح يتهامسون ويميل كل اثنين منهم في حديث خافت ضاحك. وأما الحسناوات فقد تعالت ضحكاتهن الوانية وهن يرسلن نظراتهن إلى الحلقات الأخرى. ورنت الضحكات المرحة في سمع الأستاذ عطية كأنها أنغام ناشزة، وزاده ضيقا منظر الظهور العارية والصدور البضة البارزة من بين البنائق الصغيرة.

كانت المناظر كلها فاتنة ولكن الأستاذ عطية رآها بعين صاحية، وكان وحده يجلس قابعا في مقعده بغير كأس في يده، وتمنى لو استطاع أن يتسلل خارجا.

Shafi da ba'a sani ba