Tare da Kiɗa: Tunanin da Nazari
مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
Nau'ikan
والحق أننا لو بحثنا في الأمر من الناحية المنطقية البحتة لتبين لنا أن صفة «الشعبية» لا ينبغي بالضرورة أن تكون مرادفة للامتياز والتفوق؛ ففي ميدان العلم النظري، لم يستطع العقل الإنساني أن يتقدم إلا بعد أن تغلب على الاعتقاد «الشعبي» بأن الشمس تدور حول الأرض، وبأن عناصر الطبيعة هي نفس العناصر الأربعة التي تظهر لحواسنا المجردة ... إلخ. وفي ميدان الطب، لم يستطع الباحثون أن ينقذوا البشرية من كثير من آلامها إلا بعد أن تخلصوا من الفكرة «الشعبية» القائلة إن الحياة تتولد تلقائيا، وإن أسباب الأمراض أرواح شريرة تتقمص الناس، وإن اليد التي تبدو نظيفة لا يمكن أن تكون محتوية على عناصر تجلب المرض (جراثيم) ... إلخ. وفي ميدان الفن والأدب ذاته، لا يجد المرء غضاضة في أن يحكم على رواية بوليسية «شعبية» بأنها أدب رخيص، برغم أنها تقرأ على نطاق أوسع بكثير من أروع نواتج الأدب العالمي؛ أي إن هناك بالفعل حالات كثيرة لا تكون فيها صفة «الشعبية» تعبيرا عن فضيلة أو ميزة كامنة. وهذا ما ينبغي أن نضعه نصب أعيننا ونحن بصدد تحليل أهمية الاتجاهات الشعبية في الموسيقى. •••
ولنحاول الآن أن نفهم ما يحدث حين يقوم فنان موسيقي كبير ببناء أعمال فنية كاملة على أساس من التراث الشعبي؛ لكي ندرك الدور الحقيقي الذي يقوم به هذا التراث في أعماله. إن الأمر المؤكد في نظري هو أن الفنان الكبير يستطيع أن يخلق إنتاجا فنيا رائعا بأبسط المواد التي تتاح له. وفي هذه الحالة تكون روعة إنتاجه راجعة إلى مقدرته الخاصة، لا إلى طبيعة المادة التي يستخدمها. وبعبارة أخرى، فاللحن الشعبي البسيط الذي يتخذه فنان مثل بارتوك أو إنيسكو أساسا لعمل فني كبير، ليس هو الذي يضفي قيمة على عمله، بل إن دور هذا اللحن لا يزيد عن دور قطعة الحجر في يد المثال، أو كلمات اللغة في يد الشاعر. وكما أن هذا الحجر نفسه يمكن أن يظل مهملا في الطريق، يمر به المارة فلا يجدون فيه إلا عقبة يتمنون لو أزيلت من طريقهم، وكما أن كلمات اللغة ذاتها يمكن أن تكون موضوعا لثرثرة تافهة أو هلوسة مجنونة، فكذلك لا يكتسب اللحن الشعبي قيمته إلا من براعة الفنان الذي يصوغه، على حين أنه، لو نظر إليه في ذاته، لما كان إلا مادة قابلة للتشكل فحسب.
إن اللحن الشعبي، في أيدي هؤلاء الموسيقيين العباقرة، إنما هو «مناسبة» فحسب. ومن المعروف أن الجمل اللحنية الأصيلة، في الأعمال الموسيقية الكبيرة ، ليست هي أهم عنصر في هذه الأعمال، بل إن مدى قدرة الفنان على تنميتها وتطويرها وتعديلها هي التي تتحكم في تحديد مستوى عمله الموسيقي. والمؤلف الموسيقي الذي يتقن عملية التطوير والتعديل وتطويع اللحن المتاح له، يستطيع أن يمارس عمله هذا على أية مادة موسيقية، بل إن من الموسيقيين من يقومون بهذا العمل بطريقة «استعراضية»؛ لكي يثبتوا مقدرتهم على أن يصنعوا من أبسط المواد أعمالا ضخمة شامخة. وليس من الصواب أن نصف اللحن الشعبي في هذه الحالة بأنه «بذرة» صغيرة ينشأ منها نبات كامل؛ إذ إن البذرة تتميز، على أية حال، بأن لها القدرة على النمو التلقائي إذا توافرت بعض الشروط الضرورية لنموها بالطبع. أما في حالة اللحن البسيط الذي يرتكز عليه عمل موسيقي كبير، فإن النمو لا يمكن أن يكون تلقائيا، ولا يصدر عن قوة كامنة في اللحن ذاته، أو عن استعداد فيه للتطور في اتجاه معين، بل إن كل شيء يتوقف على تدخل الفنان وطريقة صياغته للمادة البسيطة المتاحة له.
هذا الحكم ينطبق، بصورة عامة، على الموسيقى العالمية التي ترتكز على ألحان شعبية، ولكن للمسألة أوجها أخرى ذات طابع أكثر خصوصية، إلى جانب هذا الوجه العام؛ فمن المعروف أن الشعوب تتفاوت في درجة خصوبتها الفنية، أو في درجة حساسيتها لفنون معينة، وهذه حقيقة أخرى ينبغي أن نتنبه إليها ونحن في معرض تحليل أهمية الألحان الشعبية من حيث هي مصدر من مصادر الفن الموسيقي؛ ذلك لأن عبادة «الشعب»، على المستوى السياسي والاجتماعي، قد ترتب عليها خطأ آخر في الميدان الفني، هو الاعتقاد بأن كل النواتج الفنية الشعبية قيمة لمجرد كونها نابعة عن الشعب. ولم يحاول أصحاب هذا الرأي أن ينزعوا عن فكرة «الشعب» تلك الهالة الصوفية الرومانتيكية التي يحيطونها بها، أو أن يكونوا لأنفسهم صورة عينية واقعية عن «الشعب» المعين الذي يتحدثون عنه، والذي قد يكون شعبا فقيرا، مقهورا، حزينا، لم يستطع أن يكون لنفسه تراثا موسيقيا عميقا لانشغاله الدائم بالبحث عن لقمة العيش أو بالتخلص من بطش حاكم مستبد . والأمر المؤكد أن تجارب الشعوب تتفاوت في هذا الصدد تفاوتا شديدا، وأن هناك شعوبا لديها بالفعل تراث خصب يمكن أن يكون أساسا قويا لبناء موسيقي متين. على حين أن هناك شعوبا لا تملك إلا تجارب موسيقية هزيلة، أو بدائية ساذجة، لا تصلح دعامة ترتكز عليها نهضة موسيقية حقيقية.
وليس من حقي أن أصدر حكما على نوع الموسيقى الشعبية السائدة في بلادنا، وأقرر إن كانت تمثل بالفعل تراثا خصبا أم تراثا بدائيا هزيلا. ولكني أود فقط أن أشير إلى أن تسعة أعشار الإعجاب الذي يبديه المتحمسون لهذا التراث عندنا لا يرجع إلى أسباب فنية أو جمالية؛ قد يكون ذلك إعجابا متأثرا بنزعات قومية، أو ديمقراطية شعبية، أو بنزوع لا شعوري إلى التواضع والتنازل والتقارب مع «القاعدة» الشعبية، وقد يكون إعجابا مبنيا على اعتبارات «أدبية» بحتة، ولكنه في معظم الحالات ليس إعجابا ناتجا عن إدراك للقيمة الجمالية الكامنة في هذه الموسيقى.
وأكاد أقول إن عددا غير قليل من مثقفينا، ممن يحيون بالفعل حياة متميزة تميزا كاملا - في مستواها المادي والمعنوي - عن حياة الطبقات الشعبية، يدافعون بحماسة عن الشعبية في الموسيقى، لا لشيء إلا من أجل محاولة إزالة الفوارق بينهم وبين «الشعب» في ميدان لا تكلفهم فيه هذه «الإزالة» شيئا. وقد تكون هذه المحاولة، في أحسن حالاتها، تعبيرا لا شعوريا عن نوع من تأنيب الضمير. أما في أسوأ حالاتها فهي مظهر واع من مظاهر نفاق السعداء المنعمين حين يتقربون زيفا إلى التعساء المطحونين. ولكنها في كلتا الحالتين تناقض نفسها تناقضا شديدا؛ إذ تنسب إلى «الشعب» مزايا لا يتصف بها، وتوهمه بأن لديه كمالا هو أبعد ما يكون عنه، وبذلك تساعد - من الوجهة العملية - على بقاء الشعب في حالة السذاجة والسطحية التي يزعمون أنهم يريدون انتشاله منها.
ولكن، هل هذه السذاجة والسطحية طبيعة كاملة في «الشعب» أم أنها شيء مفروض عليه؟ يكفي أن يستمع المرء - مثلا - إلى جماعة من البنائين وهم يستعينون بلحن بسيط على أداء عملهم الشاق الرتيب ليجد الجواب البليغ عن هذا السؤال. إن خشونة اللحن وبدائيته ليست إلا المقابل الطبيعي لخشونة حياة هذا الإنسان وقسوتها. وليس مما يتمشى مع طبائع الأشياء أن نتوقع لحنا جميلا، رقيقا ، من إنسان يفتك به المرض ويظلم حياته الجهل. وكل تراث ينتقل إلى شخص كهذا لا بد أن يكون تراثا من البؤس والحسرة والإحساس الحاد بالاضطهاد، ينعكس على ألحانه، إذا كان لديه من الوقت أو من المزاج ما يجعله ينشئ لحنا، أو إذا جاز لنا أن نسمي زفرات الألم من خلال ثقوب قطعة البوص («الناي الحزين»، على حد تعبير كتابنا الرومانتيكيين) ألحانا. فكيف نتوقع من تلك الألحان ما نتوقعه من موسيقى شعوب تتغنى بجمال الطبيعة والحياة وتفيض بها البهجة فتنشد أنغاما مرحة متوثبة؟ هل يحق لأحد أن يلوم إنسانا لا يتذكره أحد على مر آلاف السنين، إذا كانت الألحان التي يتغنى بها صورة طبق الأصل لصحته المعتلة، ومعدته الجائعة، وملابسه المهلهلة، وبؤسه الذي لا أمل فيه؟
برغم ذلك كله فإن الأصوات ترتفع، في بلادنا، منادية بالعودة إلى تراثنا الشعبي في الموسيقى، على أساس أن في ذلك التراث حلا لكل ما نواجهه من مشكلات فنية، وكل ما نعانيه، في ميدان الموسيقى، من تردد وانفصام.
وقبل أن أختبر هذه الدعوة، علميا ومنطقيا، أود في البداية أن أقدم تحليلا بسيطا للفظ «العودة» إلى التراث الشعبي، حين يستخدم في بيئة ثقافية كبيئتنا. إن الدول المتقدمة في سلم الحضارة «تعود» إلى تراثها الشعبي لأنها ابتعدت عنه، ووصلت في موسيقاها إلى أبعد حدود التعقيد شكلا ومضمونا وأداء. وحين يصل المرء إلى قرب نهاية الطريق، فمن الطبيعي أن يشعر بالحنين إلى البداية البسيطة، ويرى في براءتها نجاة وخلاصا لروحه التي استبد بها التعقيد المفرط؛ فالدعوة إلى الموسيقى «الشعبية» مفهومة تماما في بيئة امتدت تجاربها الموسيقية «البوليفونية» (المتعددة الأصوات) إلى أكثر من ثمانية قرون، وتنقلت فيها هذه التجارب بين مختلف ألوان الموسيقى الأوركسترالية والمنفردة والغنائية حتى وصلت، في مظاهرها الأخيرة، إلى استخدام الآلات الإلكترونية في التأليف والموسيقى. عندئذ تكون العودة إلى الألحان الشعبية مظهرا من مظاهر حركة «العودة إلى الطبيعة»، التي تتردد في كل حضارة بلغت حدا مفرطا من التصنيع والتعقيد.
أما نحن، فهل انقطعت الصلات بين موسيقانا الحالية وأصولها الشعبية إلى الحد الذي يبرر «العودة إلى الجذور» في الموسيقى؟ إن من يتأمل الموسيقى التي تشيع حاليا في بلادنا بشيء من العمق لا يصعب عليه أن يهتدي، من وراء القناع الظاهري الذي لا تحسن الاختفاء وراءه، إلى قدر هائل من العناصر الشعبية. صحيح أن هناك محاولات ل «التفرنج» تتمثل في الالتجاء إلى بعض إيقاعات الرقص الغربية، وفي استخدام آلات غربية، من آن لآخر، بطريقة لا تخلو من النزوع «الاستعراضي» المكشوف، وصحيح أن «النحت» الشرقي الصغير قد تحول إلى «أوركسترا» كبير هو في حقيقة الأمر «تخت» مكبر الصوت؛ لأنه لا يفيد شيئا من قدرات الأوركسترا على التلوين أو على التعدد والتآلف الصوتي، ومع ذلك فإن الألحان تظل في صميمها قريبة كل القرب من الطابع الشعبي. والأهم من ذلك أن الجمهور ذاته لا يستجيب كثيرا لتلك «التجديدات» وما زال وجدانه متعلقا بطريقة الغناء الشعبية. وأبلغ دليل على ذلك حماسته الهائلة للغناء على طريقة المواويل، أو الليالي، عندما يتخلل أية قطعة من النوع الذي يصطبغ ظاهريا بطابع «التفرنج».
Shafi da ba'a sani ba