Tare da Kiɗa: Tunanin da Nazari
مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
Nau'ikan
هذا التغير الأساسي الذي أدى إلى رد اعتبار الموسيقى الشعبية يمكن إرجاعه إلى جذور حضارية متعددة، أسهمت كلها في هدم النظرة الأرستقراطية إلى الفن الموسيقي، وفي ربط هذا الفن على نحو أوثق بالحياة الفعلية للناس، بعد أن ظل طويلا وسيلة تستخدمها الطبقات الاجتماعية المترفة في الترويج عن نفسها، ولا يوجد لها خارج نطاق هذه الطبقات مجال.
أول هذه الجذور الحضارية هي فكرة القومية. ومن الواجب منذ البداية أن نوضح أن الموسيقى القومية لا يتعين بالضرورة أن تكون موسيقى شعبية، وأن الفنان الذي يكتب موسيقاه بدافع القومية لا يستمد وحيه من الألحان الشعبية حتما؛ فقضية القومية في الموسيقى ليست هي ذاتها قضية الشعبية، ومع ذلك فإن مؤرخي الموسيقى لاحظوا ارتباطا وثيقا بين ظهور الطابع الشعبي في الموسيقى، أو على الأصح التنبيه إلى هذا الطابع والاهتمام به، وبين انتشار فكرة القومية؛ ففي العالم الغربي كان القرن التاسع عشر عهد ازدهار القوميات، وكان في الوقت ذاته عهد الاهتمام بالموسيقى الشعبية والرجوع إلى الألحان الأصيلة النابعة من وجدان الشعب، واتخاذها أساسا تبنى عليه أعمال موسيقية شامخة. ولقد كان الارتباط بين الظاهرتين طبيعيا؛ إذ إن الاهتمام بالقومية، على المستوى السياسي والاجتماعي والحضاري، لا بد أن يصحبه اهتمام بروح الأمة كما يتجلى في ألحانها المنبثقة عنها تلقائيا. كما أن السعي إلى تحقيق الأهداف القومية لا بد أن يستعين - ضمن وسائله المتعددة - بالقوة الروحية التي تثيرها في أفراد الأمة تلك الألحان التي ظلت تجمع بينهم، وتدعم وحدتهم المعنوية أجيالا طويلة. وربما ذهب بعض المفكرين إلى أن الروح القومية ترجع إلى عهد أقدم من القرن التاسع عشر بكثير؛ إذ إنها - في أوروبا الغربية مثلا - ترتد إلى ذلك العصر الذي انتشرت فيه لغات قومية مستقلة عن اللغة اللاتينية (التي كانت شاملة من قبل)؛ أعني العصر الذي كتبت فيه مؤلفات أدبية تعبر عن روح كل شعب على حدة. وهؤلاء يرون أن العناصر الشعبية في الموسيقى كانت موجودة - ربما بصورة غير واضحة كل الوضوح - منذ عهد النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر؛ أي طوال الفترة التي كان يشيع الاعتقاد بأنها فترة «عالمية» تتخطى حدود البلدان الخاصة ولا تخاطب شعبا دون غيره. وقد يكون لهذا الرأي نصيب من الصحة، ولكن الأمر المؤكد هو أن التنبه إلى هذه العناصر الشعبية في الموسيقى، وفهم دلالتها، واستغلالها استغلالا واعيا، كل ذلك لم يحدث على نطاق واسع إلا في نفس الفترة التي أخذت فيها القوميات الأوروبية تسعى إلى الاستقلال، وتبحث عن أصولها الروحية الكامنة وتلتمس الطريق إلى فهم شخصيتها المستقلة المميزة.
ومن الجذور الأخرى التي نبع منها الاهتمام بالموسيقى الشعبية، الاتجاه الحديث إلى تحقيق الديمقراطية، واتساع قاعدة الجمهور الذي يخاطبه الفنان. ولا جدال في أن هذا الاتجاه يرجع إلى عهد أسبق بكثير من القرن التاسع عشر؛ إذ إنه يرتبط في الواقع بانتهاء عهد الإقطاع السائد في العصور الوسطى، وببداية ظهور الطبقات البورجوازية والتجارية الحديثة. غير أن القرن التاسع عشر هو الذي شهد لأول مرة ازدهارا سريعا للروح الديمقراطية، وهو الذي أخذت فيه الجماهير العريضة من الناس تبدي اهتماما كبيرا بالفن الذي كان تذوقه من قبل مقتصرا على فئات محدودة تحتل أعلى درجات السلم الاجتماعي. ولقد كان طبيعيا، في هذا الوقت الذي أخذت فيه الدعوة إلى الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية تنتشر انتشارا سريعا، والذي أحست فيه الطبقات المنسية لأول مرة بكيانها، وطالبت لنفسها بالمكانة التي تستحقها داخل المجتمع، كان طبيعيا أن يتجه اهتمام المؤلفين الموسيقيين إلى تلك المنابع اللحنية التي يشترك فيها أكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع، والتي هي أقرب ما تكون إلى روح الشعب الأصيلة، وهي الأقدر على التعبير عن أحاسيس الطبقات الشعبية التي لم تعد تعيش على هامش المجتمع؛ فالموسيقى الشعبية هي، بمعنى معين، تعبير عن اصطباغ الفن الموسيقي بالصبغة الديمقراطية، واتجاهه إلى مخاطبة نفس الجماهير العريضة التي كانت الدعوة إلى الديمقراطية تسعى إلى تحريرها اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.
على أن هناك حركة أخرى كان لها نصيب غير قليل في توجيه الاهتمام إلى الأصول الشعبية للموسيقى، هي الحركة الرومانتيكية، التي ازدهرت بدورها في القرن التاسع عشر، وما زالت لها آثار باقية في نظرة الإنسان إلى الفن حتى اليوم؛ ذلك لأن هذه الحركة هي التي مجدت - لأول مرة - التراث الشعبي في الأدب والتصوير والموسيقى، وهي التي نبهت الأذهان إلى تلك القوة الغامضة الخفية التي تكمن في أعماق الروح الشعبية، وتتيح لهذه الروح أن تعبر عن نفسها تعبيرا أصيلا صادقا مخلصا في أعمال فنية لا يمكن أن توصف بأنها نتاج لفرد معين، بل هي نتاج لشعب أو مجتمع كامل، أو هي على الأصح نتاج القوة الخلاقة الكامنة في هذا الشعب. وليس من العسير أن يدرك المرء مدى وثوق الارتباط بين مقومات النزعة الرومانتيكية وبين هذا الاهتمام بالفن الشعبي؛ إذ إن ما تتسم به تلك النزعة من اتجاه صوفي غامض، يغلب المشاعر والانفعالات، ويميل إلى الجانب الخفي للأشياء، مرتبط أوثق الارتباط بفكرة القدرة الخلاقة ل «روح الشعب» التي تعبر أصدق تعبير عن أعمق «أحاسيسه»، وبهذا الأصل «المجهول» الذي يقال إن كل فن شعبي ينبثق منه.
وأخيرا، فهناك سبب يمكن أن يعزى إليه - في القرن العشرين بوجه خاص - الاتجاه إلى إحياء التراث الشعبي في الموسيقى، هو البحث المحموم في هذا القرن عن الجديد بأي ثمن، وفي أية صورة. ولقد اتخذ البحث عن الجديد، في حالة الموسيقى أشكالا شتى، كان من بينها إحياء الألحان الشعبية واتخاذها أساسا لاتجاه كامل من اتجاهات الفن الموسيقي؛ أي إن البحث عن الجديد قد اتخذ في هذه الحالة - كما في حالات أخرى كثيرة - طابع الرجوع إلى القديم مع إضفاء صورة جديدة عليه. ولقد رأى البعض في سعي موسيقى القرن العشرين إلى الجديد علامة من علامات الإفلاس الفني، ومظهرا من مظاهر نضوب معين ذلك الوحي الذي أنتج في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من الروائع ما عجز القرن العشرون عن إنجاز قدر ضئيل منه. ومن هنا كان التجاؤه إلى التجريب الصوتي والتوسع في إدخال الآلات الجديدة واستحداث السلالم المعقدة، لا لشيء إلا لكي يداري العجز الأساسي الذي يتسم به. ورأى البعض الآخر أن هذا الاتجاه إنما هو تعبير صريح عن صفة كانت ملازمة للفن الموسيقي في أزهى عهوده، وأعني بها استلهام روح الأمة التي ينتمي إليها الفنان، فلم يزد القرن العشرون في هذا الصدد عن أنه كشف بصراحة ووعي عن مصدر للوحي الفني كان الموسيقيون من قبل ينهلون منه دائما دون وعي منهم في أغلب الأحيان. وسواء أكان هذا الرأي أم ذاك هو الصحيح، فالأمر المؤكد هو أن القرن العشرين يمثل قمة الاتجاه إلى الاعتراف بالموسيقى الشعبية بوصفها مصدرا أساسيا للفن الموسيقي، ووسيلة عظيمة القيمة لبعث روح جديدة في هذا الفن. •••
ولست أهدف من هذا البحث إلى إصدار حكم على الاتجاه إلى الاستعانة بالتراث الشعبي في الموسيقى؛ إذ إن أمثال هذه الأحكام تقوم في معظم الأحيان على أساس يفتقر إلى الموضوعية، وتتجه إلى فرض التفضيلات الذاتية لصاحبها على أذهان الآخرين وأذواقهم. ولكني أود أن ألقي بعض الضوء على الفكرة التي يرتكز عليها هذا الاتجاه الموسيقي في صورته العامة، وعلى الطريقة التي يطبق بها في بلادنا بوجه خاص.
وأول ما ينبغي أن أشير إليه وأؤكده للقارئ، هو أن حديثي هنا لا ينصب على الموسيقى الشعبية ذاتها، بل على محاولة الاستعانة بها في بناء موسيقى ذات طابع عالمي، أو في بعث نهضة موسيقية في بلد متخلف. والأمران مختلفان اختلافا واضحا؛ إذ إن الموقف الذي يمكن أن يتخذه المرء من الموسيقى الشعبية، كما هي في ذاتها، لا يعدو أن يكون موقف العالم الذي يسجل ويحلل، أو السامع الذي يتذوق ويقدر. أما في حالة المحاولات التي أود أن أتناولها بالبحث، فمن الممكن أن يتحدث المرء عن مدى مشروعية المحاولة ذاتها، ومدى اتساقها مع نفسها، ومقدار الدور الذي يسهم به الأصل الشعبي في الهدف الذي يضعه أصحاب هذه المحاولات لأنفسهم - وكلها موضوعات لا يجوز للباحث التعرض لها حين يكون بصدد الكلام عن الموسيقى الشعبية في صورتها الخالصة.
إن من الواضح، بادئ ذي بدء، أن الانتقال بفكرة «الشعب » أو «الشعبية» من المجال القومي أو الديمقراطي - أي من معناها السياسي والاجتماعي - إلى المجال الفني، والموسيقي بوجه خاص، ينبغي أن يختبر بدقة، ويعالج بحذر شديد؛ ذلك لأن هناك احتمالا قويا في أن يكون إيمان الكثيرين ب «الشعب» و«الشعبية»، على المستوى السياسي والاجتماعي، قد دفعهم إلى الإيمان بهذه الفكرة ذاتها على المستوى الفني دون تمييز بين المجالين؛ فعندما نقول عن اتجاه معين إنه شعبي، بالمعنى السياسي، يكون لهذه الصفة في الأذهان التقدمية وقع مرغوب فيه إلى أقصى حد. ومن الطبيعي، تبعا لذلك، أن يكون لها مثل هذا الوقع حين تستخدم صفة لعمل فني. وبرغم ما قلناه من قبل، من أننا لا نهدف إلى إصدار حكم إيجابي أو سلبي على الموسيقى الشعبية في ذاتها، فمن الواجب أن ننبه إلى أن الخلط بين الارتباطات النفسية والذهنية للألفاظ، فيما بين المجالين السياسي والفني، هو في ذاته أمر غير مشروع، ومن الممكن أن يؤدي إلى أخطاء جسيمة، وحتى لو كان المرء ممن يبدون أشد الإعجاب بالاتجاهات الشعبية في الموسيقى، فإن هذا الإعجاب، لو كان مصدره هو التقدمية السياسية التي تجعل المرء متعلقا بكل ما هو «شعبي»، لكان بهذا المعنى أمرا غير مشروع من الناحية الفنية. ولست أعني بذلك أنه يوجد - أو ينبغي أن يوجد - انفصال قاطع بين مجالي السياسة والفن، بل إن ما أعنيه هو أن الأحكام التي يصدرها المرء في أحد المجالين لا ينبغي أن تكون لها بالضرورة نفس الدلالة في المجال الآخر، وأن الارتباطات النفسية المستمدة من عالم السياسة لا يصح أن تكون أساسا للحكم في عالم الفن؛ فإذا كان الشعب هو - من الناحية السياسية - مصدر كل القيم التي يعتز بها المفكر التقدمي، فإن هذا لا يعني - منطقيا - أنه في الوقت ذاته مصدر كل قيمة في الأعمال الفنية بدورها. وإذا كان الاتجاه الشعبي مرغوبا فيه في المجال السياسي، فليس من الضروري أن يكون هذا الاتجاه مرغوبا فيه في المجال الفني أو الموسيقي بدوره.
ولست أعني بذلك أن من الضروري أن يحكم المرء على الاتجاه الشعبي في الموسيقى حكما سلبيا، بل إن في وسع المرء أن يصدر من الأحكام الإيجابية على هذا الاتجاه ما يشاء. وكل ما في الأمر أن هذه الأحكام ينبغي أن تكون مبنية على أسباب جمالية، ويجب ألا تكون مجرد امتداد أو انعكاس للأحكام التي يصدرها على الاتجاهات الشعبية في مجال السياسة أو المجتمع. وفي مقابل ذلك، فمن الواجب ألا يخلط المرء بين نقد الاتجاه الشعبي في الفن وبين الرجعية السياسية أو الاجتماعية؛ إذ لا يوجد أي ارتباط ضروري بين هذين الأمرين.
وهكذا يمكن القول إن عبادة الشعب، على المستوى السياسي والاجتماعي - وهي سمة من أخص سمات المثقف في القرنين الأخيرين - قد انعكست بلا تمييز في المجال الفني فأصبحت بدورها عبادة لكل اتجاه شعبي في الموسيقى، حتى أصبح من الصعب أن يتخذ المرء موقفا نقديا موضوعيا إزاء هذه الاتجاهات، خشية أن يتهم بالترفع عن «الشعب»؛ أي بالأرستقراطية والرجعية بالمعنى السياسي. وأصبحت الآمال التي يعلقها الفكر التقدمي على انتصار القوى الشعبية في مجال السياسة، منعكسة على ميدان الفن في صورة آمال ممثلة تجعل الفنان موقنا بأن إحياء الفن في عصرنا الحاضر لن يكون إلا بالرجوع إلى تراثه الشعبي. ومرة أخرى أقول إنني لست ضد هذه الفكرة الأخيرة من حيث المبدأ، وكل ما في الأمر أنني ضد الخلط بينها وبين الفكرة السياسية الموازية، والاعتقاد الباطل بأن هذه الأخيرة ترتبط بالأولى ارتباطا وثيقا.
Shafi da ba'a sani ba