غير أن الناس في ذلك العهد أظلمت أفكارهم، واشتد شعورهم بنقصان ما عندهم من العلم وحاجتهم إليه، فطمع الدين أن يكون مقنعا لهم في شعورهم وعقولهم معا، وطمح أن يحول الحياة كلها إلى عقيدة دينية؛ لذلك نرى أنه بينما كانت الفلسفة تحاول حل مسائلها وقضاياها بمعونة الدين، وهي مع ذلك لا تهتدي إلى حل، كان الدين يبحث عن الفلسفة ونظمها ليجد له أساسا علميا يبني عليه عقائده، ويجعلها أكثر قبولا لقوم راقين، قال «فندلبند»: «إن الفلسفة استخدمت نظريات علوم اليونان لتهذب الآراء الدينية وترتبها ، ولتقدم إلى الشعور الديني اللجوج فكرة في العالم تقنعه، فأوجدت نظم دينية من قبيل ما وراء المادة تتفق مع الأديان المتضادة اتفاقا يختلف قلة وكثرة» (ص158).
لهذا كان امتزاج الدين بالفلسفة - الذي هو من خصائص التطور العقلي قبيل النصرانية وبعدها - ملموحا في الرأي العام وفي المدنية أيام الحكم الروماني؛ وكان من جراء هذا الامتزاج انحلال أخلاقي يشعر بالحاجة إلى الإصلاح.
كان الانقلاب في النظم السياسية والاجتماعية واختلاط الأمم المختلفة الأصل، والتغيرات التي شملت العوائد والدين سببا في ظهور روح جديد تغلب على الفلسفة ووجهها وجهة جديدة؛ ذلك أن أفكار اليونان ومدنيتهم لما عدت قوميتهم وتخطت حدود بلادهم أصبحت تميل إلى عد كل العالم - لا اليونان وحدها - وطنا لها، وصارت الفلسفة اليونانية - من جهة - تحاول أن ترضي الإنسان وتقنعه، لا من حيث إنه عضو في مجتمع أو أحد أفراد حكومة جمهورية، بل من حيث إنه فرد ما، يونانيا كان أو شرقيا أو رومانيا، وثنيا أو يهوديا، ومن جهة أخرى تحاول أن تملأ المكان الذي أخلاه دين الأمة بعد أن فقد برقي الناس ما كان له من قوة.
كانت نتيجة تلك الحالة العامة أن صارت الحكمة الرومانية اليونانية تنظر إلى الإنسان في سلوكه ومعاملاته كأنه فرد مستقل عن غيره،
9
وكانت الفلسفة التي تبحث في هذا السلوك مطبوعة بطابع أخلاقي أو ديني، ولم يكن للمسائل السياسية العامة شأن يذكر، إنما كان الشأن للقضايا التي تتعلق بالإنسان نفسه، ويتجلى هذا الميل في مذهب الرواقيين والأبيقوريين والشكاك ومحدثي الأفلاطونيين، وفي الفلسفة اليونانية اليهودية وفي الغنوسطية.
10
وكانت الإسكندرية هي المركز الجغرافي لمزج الدين بالفلسفة، فبعد أن كانت مدينة المتحف والمكتبة، والمدينة المعروف عن أهلها النقد وسعة الاطلاع، أصبحت مجمع المذاهب الفلسفية والطوائف الدينية، فسهل الاتصال والامتزاج، والتقى على ضفاف النيل رجال مختلفة آراؤهم، متباينة مذاهبهم، تبادلوا فيها الآراء كما كانت تتبادل فيها السلع، فاتسعت دائرة الفكر وقورن بين الآراء المختلفة، وكان من نتيجة ذلك ظهور روح جديد أسس على مبدأين متناقضين ممتزجين؛ أحدهما: الشك والنقد، والثاني: سرعة التصديق بالأشياء على علاتها. تقابلت في الإسكندرية آراء الشرقيين والغربيين (اليونان) فامتزجت روح اليونان بروح المشارقة، فأنتجتا عقائد ونظما دينية متأثرة بتأمل الأولين وإلهام الآخرين، بما لليونان من علم وما للمشارقة من أساطير. جاءت الروح اليونانية بما لها من ذكاء ودقة وقدرة على الشرح المبين فأصابتها شرارة من الشرق أشعلتها وأحيتها، كذلك أخرجت الروح الشرقية التي من خصائصها الطموح إلى ما وراء عالم الشهادة نظاما ملتئما ونظريات مرتبة لم تكن لتخرجها لولا مساعدة العلم اليوناني لها؛ فإنه رتب مأثور الشرقيين وحل من عقدة لسانهم، فاستخرجوا العقائد الدينية والنظم الفلسفية التي بلغت الذروة في مذاهب الغنوسطية والأفلاطونية الحديثة ويهودية «فيلون» ومذهب الإشراك الذي وضعه يولبان الصابي.
إن الشرقي بما له من ميل إلى الغيب وخوارق العادات، وما في طبيعته من تصوف وتدين، واليوناني بما له من فحص دقيق وبحث عميق، وإن شئت فقل: إن ما للأول من شعور، وما للثاني من تحليل منطقي امتزجا ونتج منهما فكر خاص انتشر في الإسكندرية في القرون الأولى للميلاد، وقد صبغ ذلك الفكر بصبغتين مختلفتين: صبغة الكماليين والصوفيين، وصبغة أهل البحث العلمي؛ ولذا امتاز هذا العصر بميل الفلسفة إلى الدين، وميل الدين إلى الفلسفة.
قال «بلدوين» في كتابه (معجم الفلسفة) عند كلامه على مادتي «فن» و«مدرسة الإسكندرية»: إن الشرق والغرب اختلطا في الإسكندرية، وامتزجت آراء رومة واليونان والشام في المدنية والعلوم والدين بآراء الشرق الأقصى في ذلك، فنشأت قضية جديدة عمل على إيجادها بحث الغرب وإلهام الشرق، واتصل الدين بالفلسفة اتصالا وثيقا كان من نتائجه ظهور عقائد لا هي من الفلسفة المحضة ولا من الدين الخالص، بل أخذت بطرف من كل، وجاء ذلك من عاملين:
Shafi da ba'a sani ba