العصر الثاني العظيم من عصور الفلسفة عصر الفلسفة الرومانية اليونانية،
6
وبهذا العصر انتهى دور البحث المنظم، وابتدأ الميل إلى وضع الشروح المطولة، وأهم مميزات هذا العصر أنه عصر تحصيل للعلوم وسعة في الاطلاع أكثر منه عصر بحث ونظر، وأنه عصر إقبال على العلوم المتميزة، وإذا كانت الفلسفة فيه قد اتخذت شكلا جديدا استمرت فيه بضعة قرون، فذلك ناشئ من حالة الرقي العامة ومن التغير الذي أحدثته الحياة السياسية والاجتماعية اليونانية.
كان اليونان قد نضجت عندهم الآداب والفنون لما أن وصل الإسكندر الأكبر الشرق بالغرب، وأزاح الفواصل بينهما، وأقام جسرا عبرت عليه المدنية والعلوم والمعارف من بلاد اليونان إلى آسيا وانتشرت فيها، ولكي يخلد اسمه أنشأ مدينة (الإسكندرية)، واختار لها ببعد نظره الفائق موضعا على أحد شواطئ النيل
7
أصبح لحسن موقعه الجغرافي محطة بين آسيا وأوروبا، ومركزا للتجارة بين الأمم، كما كان مركزا كذلك للعلوم والمعارف.
انتشرت المدنية والفلسفة اليونانية في كل العالم، وصارت أثينا وبعض بلدان أخرى في مملكة الإسكندر - وفي الإمبراطورية الرومانية من بعد - مركزا للمدنية والعلوم والمعارف.
بعد سقوط بلاد اليونان في أيدي الرومان اعترى البلاد تغير تام لا في السياسة وحدها بل في السياسة والعلوم معا؛ فإن الفتح الروماني الذي أزال كل الفروق السياسية ومحا الخلافات القومية، ووحد الأمم المختلفة بإخضاعها للحكم الروماني، وأتم بذلك العمل الذي بدأ به الفاتح المقدوني - لم يخل من تأثير في الأفكار والعقول، فالنظام السياسي للحياة اليونانية أخذ ينهار، وأدرك الوهن تلك المبادئ الأخلاقية التي وضعت لهداية الناس، والتي كان يمدها بالحياة الشعور بالواجبات الوطنية وحب الجمهورية، وخلي الإنسان ونفسه يبحث عن مبادئ لنفسه يتبعها في سلوكه، واهتزت الديانة اليونانية والأخلاق القومية من أساسهما، وتقوض أساس الاعتقاد بالآلهة الأولى وبالدين، فقامت الفلسفة تحاول أن تحوز المكان الذي خلا بسقوط دين الأمة، وابتدأ الإنسان يبحث عما يهديه في حياته فاعتقد - أو تخيل - أن الفلسفة هي الهادي الأمين، فكانت مهمة الفلسفة كما قال «فندلبند»:
8 «أن تسد مسد الاعتقاد الديني»، وأصبحت القضية الهامة التي يدور حولها البحث الفلسفي سلوك الإنسان للإنسان، وبذلك تشكلت الفلسفة بشكل عملي؛ إذ أصبح مقصدها وضع فن للحياة، وغلب عليها البحث الأخلاقي، وصارت بعد منافسة للدين ومعارضة له، ويتجلى لك هذا في ميول الرواقيين والأبيقوريين، وشجعت الدولة الرومانية هذه الأفكار؛ ذلك لأن الرومان كانوا أمة عملية لا تأبه للقضايا النظرية المحضة ولا تعيرها التفاتا، وإنما كانت تتطلب العلوم العملية أبحاث الفلسفة التي تهدي الناس في الحياة، وبهذا يظهر أن الميل إلى الحكمة العملية في هذا الزمن جعل البحث الفلسفي يتجه جهة خاصة.
أتى بعد ذلك حين تملك الناس فيه إحساس بالسخط ملأ قلوبهم، وكان ذلك أيام مجد الدولة الرومانية؛ فإن تلك الدولة مع اتساعها والتحام أجزائها حتى تكونت منها مملكة واحدة قوية لم تستطع أن تعوض على الناس ما أفقدتهم من استقلال، ولم يكن في قدرتها إرضاؤهم باطنا ولا إسعادهم ظاهرا، وكانت مدنية العالم الروماني اليوناني إذ ذاك متنافرة غير ملتئمة، فكنت ترى تناقضا تاما في الحياة الاجتماعية، فترف ورخاء بجانب سغب وشقاء، وكنت ترى ملايين من الناس قد حرموا حتى ما يحفظ حياتهم بين جنوبهم، فاستولى على الناس إحساس بظلم جائر وشعور بوجوب ثورة على النظام الاجتماعي الذي لا يسوي بين الناس، وظهر عليهم إذ ذاك أيضا أمل في حياة مستقبلة - آخرة - يجزى فيها الإنسان جزاء عادلا، ويعوض عما لقي من ظلم، فوجهت تلك الملايين التي حرمت كل شيء في العالم وجهتها نحو عالم أعلى، وتحولت الأفكار - بشوق - إلى عالم وراء عالمنا، إلى العالم العلوي لا العالم السفلي - إلى الحياة الأخرى لا الحياة الدنيا - وعجزت الفلسفة عن أن ترضي الناس، واعترف الإنسان بعجزه التام عن معرفة نفسه إذا هو اعتمد على قواه فحسب، ويئس من تحصيله هذه المعرفة إذا لم تعنه قوة علوية، وأعتقد أن السعادة الأبدية لا توجد في هذا العالم المحسوس، بل في عالم آخر وراء حياتنا الأولى، ولم يعد في وسع الفلسفة إقناع الرجل المهذب بما تقدمه من نموذج أخلاقي للحياة، كلا ولا بما تتعهد به من سعادة، فحولت وجهها نحو الدين تستمده المعونة.
Shafi da ba'a sani ba