في دار صحيفة السياسة يتحدث الدكتور طه حسين مع صديقه الدكتور محمد حسين هيكل رئيس التحرير عن خطته في تحرير الصفحة الأدبية، إنه سوف يستأنف فيها أحاديثه التي كان يمد الصحيفة بها كل يوم أربعاء، سيحدث قراءه عن بعض شعراء العرب في القرنين الثاني والثالث الهجريين وعن العصر الذي عاشوا فيه، وعن ثقافته كيف كانت وكيف تكونت، إنه يريد أن يصل قراء العربية المعاصرين بتراثهم الضخم الذي يجب أن ينفض عنه التراب، وأن يحبب إليهم لغتهم الجميلة التي أخذت بعض الأصوات تدعو إلى هجرها واستخدام العامية مكانها. وهو كذلك ينوي أن يتحدث في صفحة «السياسة» الأدبية عن بعض روائع المسرح الفرنسي المعاصر كل يوم أحد إن أمكن. إنه يريد أن يصل القراء من جهة بالتراث العربي الذي يحرص على جلائه وعلى صيانته، ومن جهة أخرى بأدب الغرب المعاصر الذي لا يجوز جهله ولا تجاهله.
هيكل يوافق طه حسين ويتحمس له، وهما يتذكران كيف تعارفا، حين كانا ناشئين، في مكتب الأستاذ لطفي السيد مدير «الجريدة»، كيف كانا يختلفان إليه في الضحى بين حين وحين فيراقبان عمله في إدارة الجريدة وتحريرها، ويسمعان أحاديثه في السياسة والفلسفة والمنطق وفي الأدب العربي أيضا. يقول طه: «كنت أنت طالبا في مدرسة الحقوق عند ذلك، وكنت أنا مجاورا في الأزهر ثم طالبا في الجامعة المصرية، وسافرت أنت إلى فرنسا لإتمام دراسة الحقوق وتركتني في مصر.» ويقول هيكل: «نعم، وعلينا نحن الآن إدارة صحيفة السياسة وتحريرها، ونرجو أن نكون قد استفدنا من ترددنا على «الجريدة» ومن علم وتجربة أستاذنا لطفي السيد.»
ويقول هيكل إنه تلقى رسالة طريفة من طنطا، يقرأ نصها وهو:
سيدي الفاضل الدكتور حسين بك هيكل
أرسل إلى السياسة هذه الرسالة، عاتبت بها ظريفا من أدباء الشام، كنت كتبت إليه فتفتر في رد كتابي؛ لأن جماله ظرف وظرفه جمال، وهما إذا اجتمعا كان لهما حكم خاص في قانون الرسائل، وقد كتبتها من النمط الأول الذي هو فن من زينة البلاغة العربية يشبه فنون الزخرفة والتنسيق، وهو حين يكون في مثل هذه الرسالة لا يكون أبدع منه شيء من الأساليب الأخرى. فأرجوكم الحفاوة برسالتي هذه في «السياسة» الغراء والتمهيد لها بما يبين عن سبب كتابتها، حفظكم الله للمخلص الأمين مصطفى الرافعي.
ويطلب طه إلى هيكل أن يقرأ عليه الكلمة المطلوب الحفاوة بها ونشرها، فيقرأ هيكل: ... فإن كان قلبك شيئا غير القلوب فها نحن شيء غير الناس، وإن كنت هندسة وحدها في بناء الحب فما خلقت أيامنا في طولها وقصرها للقياس، وهب قلبك في هذه الهندسة مربعا أفلا يسعنا ضلع من أضلاعه؟ أو مدورا أفلا يمسنا محيطه في انخفاضه وارتفاعه؟ وهبه مثلثا فاجعلنا منه بقية في الزاوية، أو مستطيلا ...
ويقول طه ، بعد أن يستمع إلى الرسالة بكاملها: «سننشر هذه الرسالة، وسأعلق عليها تعليقا قصيرا جدا.» ثم يملي التعليق وهو:
أما أنا فأعتذر للكاتب الأديب إذا أعلنت مضطرا أن هذا الأسلوب الذي ربما راق أهل القرنين الخامس والسادس للهجرة، لا يستطيع أن يروقنا في هذا العصر الحديث الذي تغير فيه الذوق الأدبي تغيرا كبيرا.
وتنشر «السياسة» كلمة الأستاذ الرافعي مع تعليق طه حسين، ويرسل الأستاذ الرافعي تعليقا على التعليق، وتنشب معركة أدبية يتوالى الأخذ والرد فيها بين أنصار القديم وأنصار الجديد. ويدخل المعركة كتاب ومفكرون آخرون، منهم الأستاذ سلامة موسى والأستاذ أحمد زكي أبو شادي مؤيدين لطه حسين، ومنهم الأستاذ عباس محمود العقاد الذي كتب رسالة قال عنها طه حسين: «إن فيها خيرا وشرا وفيها ثناء وذما.» ويكتب آخرون يدافعون عن الرافعي ويهاجمون طه حسين.
ويقول طه لهيكل: «إننا إذا وافقنا أنصار القديم على الكتابة بلغة القرون الماضية المعقدة، فإن الشباب سينصرف عن اللغة العربية الفصحى، سوف يجدها قديمة لا تلائمه ولا تؤدي ما يحس به، إننا لا بد أن نلائم بين اللغة والحياة، لا بد ألا تتخلف اللغة العربية عن عصرها، وأن تكون قادرة على التعبير عما يريده أهلها تعبيرا صادقا واضحا.»
Shafi da ba'a sani ba