تقديم
تصدير
المقدمة
الليلة الثانية عشرة
شخصيات المسرحية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
تقديم
تصدير
المقدمة
الليلة الثانية عشرة
شخصيات المسرحية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الليلة الثانية عشرة
الليلة الثانية عشرة
أو ما شئت!
تأليف
ويليام شيكسبير
ترجمة
محمد عناني
تقديم
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية؛ فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي؛ فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة؛ ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره؛ فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي؛ فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكل مؤلف، سواء كان مترجما أو أديبا، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي
over my dead body » الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (It tolls for thee) ، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم اسم الفرس، وحطم أي شديد البأس، ووضم هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني
القاهرة، 2021م
تصدير
هذه هي الترجمة العربية الكاملة لمسرحية «الليلة الثانية عشرة» للشاعر الإنجليزي الأكبر وليم شيكسبير، وهي المسرحية الثالثة عشرة التي أترجمها له، وقد التزمت بالأصل التزاما مطلقا فترجمت النظم المقفى نظما مقفى، ومرسلا حين يكون مرسلا، ونثرا حين يكون نثرا، وقدمت للنص بمقدمة وافية، وذيلته ببعض الهوامش التي قد تعين غير المتخصص على إدراك الإشارات غير المألوفة له، واعتمدت على أحدث الطبعات المحققة والمنقحة بأقلام أكبر المتخصصين في شيكسبير في العالم، وعلى نحو ما فعلت في ترجماتي السابقة اعتمدت أساسا على طبعة آردن
Arden
الجديدة المنقحة الصادرة عام 2005م (وكانت الطبعة الأولى قد ظهرت عام 1975م)، وشارك في تحقيقها ونشرها ج. م. لوثيان (
J. M. Lothian ) وت. و. كريك (
T. W. Craik )، كما استعنت في دراستي للنص بالطبعة الرابعة في سلسلة نيوكيمبريدج من تحقيق ونشر إليزابيث ستوري دونو 2004م (
Elizabeth Story Donno )، وكانت الطبعة الأولى لها قد ظهرت عام 1985م، ثم أعيد طبعها «مزيدة منقحة» عام 2003م، وبها مقدمة جديدة بقلم الأستاذة بني جاي (
)، كما استعنت بطبعة سيجنت (
Signet ) الصادرة عام 1998م من تحقيق هرشيل بيكر (
Herschel Baker )، وطبعة فولجر (
Folger ) الصادرة عام 2004م من تحرير بربارا أ. مووات وبول ورستن (
Barbara A. Mowat &
). والطبعتان الأخيرتان تتضمنان ملاحق من الدراسات النقدية الكلاسيكية والحديثة، وهي التي تلقي الضوء على الكثير مما قد يلتبس معناه على القارئ المعاصر، إنجليزيا كان أم غير إنجليزي، في هذا النص.
وأما مذهبي في الترجمة فيعرفه كل من قرأ ترجماتي الأدبية، وأوجزه في أنني أحاول جهد طاقتي نقل شعر هذا الشاعر العظيم ونثره بأقصى قدر ممكن من الدقة، ملتزما خصوصا بفنونه البلاغية والأسلوبية؛ أي إنني لا أكتفي بالمعنى أو بأي تفسير قد يكون مقبولا أو جذابا، بل أجتهد لكي أجعل القارئ يدرك طبيعة الصياغة الشعرية أو النثرية الأصلية، مهتديا بعلوم الأسلوب الحديثة، حتى يحس القارئ العربي بإحساس يماثل (أو يقترب من) الإحساس الذي يحسه قارئ النص في صورته الأصلية؛ ولهذا حافظت على الصور الشعرية مهما تعقدت فبدت عسيرة المأخذ، وعلى الإيقاعات وتلونها، فنقلتها بما يقابلها في العربية من بحور الشعر العربي، ملتزما بشعر التفعيلة؛ فهو ما يناسب المسرح أكثر من غيره ، وخصوصا بأقرب البحور إلى النثر كما هو الحال في شيكسبير، وهما الرجز والخبب، وإن كنت في الرجز أسمح بمزجه بزميليه في دائرة الخليل (الرمل والهزج)، كما أسمح له أيضا بالتحول إلى الكامل، وقد قال لي من أثق في حكمه إن هذا ليس جديدا في العربية، وغايتي أن أشرك قارئ العربية معي في الإحساس بإيقاعات شيكسبير المتفاوتة.
وأما في النثر، فقد برزت صعوبة يعرفها كل دارس للكوميديا في شيكسبير، وهي ولعه بالتلاعب بالألفاظ، وخصوصا بالتورية، واقتضى ذلك إيجاد المقابلات العربية التي تنقل هذه الألاعيب اللفظية التي كان جمهور شيكسبير يفرح بها، وإن كان المخرجون في القرن العشرين، منذ نشر هارلي جرانفيل-باركر (
Barker-Harley Granville ) «لطبعة المخرج» من هذه المسرحية عام 1912م يفضلون حذفها، كلها أو بعضها، ما دام الجمهور المعاصر لم يعد يتذوقها؛ أي إنني حاولت في الترجمة أن أنقل ما يفعله شيكسبير لا «ما يقوله فحسب»؛ فأنا من المؤمنين بأن فن الفنان لا يقتصر على المعنى بل يتضمن المبنى أيضا، والحفاظ على المبنى لا يقل أهمية عن الحفاظ على المعنى، ونقل البناء كما هو معروف من لغة تختلف مبانيها عن اللغة الأصلية يتطلب حيلا خاصة أرجو أن أكون قد وفقت في اختيارها.
ولم يكن هذا كله ممكنا لولا المراجع الحديثة والمادة العلمية الغزيرة التي أمدني بها صديقي الأديب الناقد المترجم ماهر البطوطي من نيويورك، فلم يبخل علي بشيء، لا بالطبعات الحديثة للمسرحية، ولا بما طلبته من دراسات عنها؛ ولهذا أخصه بالشكر الجزيل، كما أتقدم بالشكر إلى كل من أعانني فزودني بفصول مصورة من بعض الكتب التي استعنت بها في كتابة المقدمة، وكل من قرأ النص العربي فاقترح تعديلات أو تنقيحات، وعلى رأسهم صديقي العلامة، الأديب المرهف والناقد المبدع ماهر شفيق فريد؛ ولهذا أعرب له عن أصدق امتناني وشكري.
وكنت أثناء العمل أدهش؛ لأن مشروع ترجمة شيكسبير بجامعة الدول العربية (بإشراف طه حسين) قد تجاهل هذه المسرحية، ولكن الدكتور ماهر شفيق فريد أخبرني أنها ترجمت منذ نصف قرن تقريبا، وأعارني نسخته من الترجمة «محمد عوض إبراهيم» فأنعمت النظر فيها، وكانت النفس تراودني بالتعليق عليها، ولكنني فضلت الاستمساك بما التزمت به من عدم التعرض لترجمات غيري، متمثلا بقول الدكتور ماهر، لله دره: «ترجمتك خير تعليق.»
وقد قررت عدم إضافة قائمة بأسماء المراجع والاكتفاء بذكرها في متن المقدمة والحواشي؛ إذ دلتني الخبرة على أنها غير مفيدة للقارئ العربي، وأما المتخصص فسوف يجد فيما أوردته مادة كافية قد تغريه بالرجوع إليها. أرجو أن أكون بهذه الترجمة قد أضفت شيئا مهما إلى تراث الترجمة الأدبية العربية الزاخر، وأرجو أن يجد القارئ فيها بعض ما وجدته فيها من متعة.
وعلى الله التوفيق.
محمد عناني
القاهرة، 2007م
المقدمة
«الليلة الثانية عشرة»، وعنوانها الفرعي هو «أو ما شئت» (من عناوين)، من أشهر مسرحيات وليم شيكسبير (1564-1616م)، شاعر الإنجليزية الأكبر على الإطلاق، وأكثرها تقديما على المسرح، وأشدها إثارة للخلاف من حيث النوع الأدبي أو «تصنيف النص» وطرائق الأداء على المسرح. والليلة الثانية عشرة هي ليلة 6 يناير، العيد المسيحي الذي يحيي ذكرى ظهور المسيح للمجوس من الأمم (وهبة)، ويسميه المسيحيون الغربيون (
Epiphany ) - الاسم الذي يطلقه الشرقيون على عيد الغطاس. وتنتمي المسرحية إلى الفترة الوسطى من حياة الشاعر المسرحي العملية؛ إذ كتبها بعد أن بلغ الخامسة والثلاثين من عمره، وذاع صيته، وخبر الكتابة في شتى مجالاتها، من المسرحية التاريخية إلى الكوميديا إلى مسرحية الرومانس (أي التي تعالج أساسا) ولكن قبل أن يبدع مأساواته الكبرى «هاملت» ثم «عطيل» ثم «الملك لير» و«مكبث»، فالأرجح كما أثبتت الدراسات الحديثة أنها كتبت وقدمت على مسرح الجلوب (
The Globe )، إما في عام 1600م أو 1601م (انظر البحث الدقيق الذي قام به أنطوني أولدريدج (
Anthony Aldridge ) ونشره في كتابه «شيكسبير وأمير الحب» (
Shakespeare and the Prince of Love, 2000 ))، وإن كانت الوثيقة الميسرة الوحيدة المتاحة لا تقطع إلا بأنها قد عرضت في مطلع عام 1602م (يوميات المحامي الشاب جون ماننجهام)، وهو الذي يقول إنها تشبه المسرحية الإيطالية
Inganni ، ومن المحتمل أنه يخلط بين هذه المسرحية التي كتبها نيكولو سيكي (
Nicolò Secchi ) عام 1547م وبين المسرحية الأخرى التي يؤكد المختصون أنها كانت المصدر «البعيد » لمسرحية شيكسبير وهي (
Gl’Ingannati )؛ أي «المخدوعون»، والتي كتبت عام 1531م ونشرت عامي 1537 و1554م. (1) مصادر الحبكة
يجمع الدارسون على أن المسرحية الأخيرة «المخدوعون» هي التي استقى شيكسبير منها حبكة مسرحيته، أو الحبكة الرئيسية، ولكنه لم يستند إلى تلك المسرحية نفسها بل إلى الملخص النثري الذي قدمه بارنابي ريتش (
Barnabe Riche ) في صورة حكاية يحكيها للنساء، وتنتمي إلى نوع رومانس (أو الرومانثة) (
Romance )؛ أي قصة الحب والمغامرات والأسفار والأخطار، بعنوان «أبولونيوس وسيلا» (
Apolonius and Silla )، وهي القصة الثانية في مجموعة قصصية بعنوان «وداع ريتش للاشتغال بالحرب» (
Riche his Farewell to Militarie
) (1581م)، والمعروف أن ريتش لم يستق مادته مباشرة من المسرحية المذكورة؛ إذ إن القصة الرئيسية للمسرحية كان قد أعاد كتابتها نثرا كاتب يدعى ماتيو بانديلو (
Matteo Bandello ) في مجموعة روايات له أصدرها بالإيطالية عام 1554م، وتلاه بيير دي بلفوريه (
) في مجموعة حكايات له أصدرها بالفرنسية عام 1570م، ومنه استقى ريتش مادة حكايته المذكورة عام 1581م. وقد اختلف كتاب النثر جميعا عن الأصل الإيطالي للمسرحية (التي تعتمد في حبكتها على الكاتب الروماني بلاوتوس (
)) في تطوير قصة الحب، وإن حافظ الجميع على فكرة اختلاط الشخصيات؛ فعند الجميع تتنكر فتاة في زي غلام وتلتحق بخدمة من تحبه، ولها أخ غائب يشبهها، تقوم بنقل رسائل غرام من تحبه إلى فتاة أخرى يحبها، ولكن هذه الأخرى المحبوبة تقع في غرام البطلة المتنكرة في زي الغلام، ويعود أخوها فتتعقد الحبكة إذ يظن الجميع أنه أخته، وأخيرا تنجلي الحقيقة ويتزوج العاشقون جميعا، على نحو ما يحدث في شيكسبير.
ويدين شيكسبير لقصص ريتش بدين آخر يتعلق بالخدعة التي يدبرها عدد من الشخصيات للسخرية من مالفوليو في «اللية الثانية عشرة»، وهي الحيلة التي نجدها في القصة الخامسة من مجموعة ريتش القصصية المذكورة، وفيها يدبر زوج حيلة للسخرية من زوجته السليطة اللسان حتى يسخر منها الجميع. وقد يكون التشابه وليد المصادفة، ولكن احتمال التأثر قائم.
وأما الفارق بين قصة ريتش المذكورة (أبولونيوس وسيلا) وبين «الليلة الثانية عشرة» فهو الفارق حقا بين الحكاية التراثية الأوروبية المغرقة في التصوير الواقعي لدوافع السلوك المادية، كالجنس والانتماء الطبقي، وبين مسرحية عصر النهضة الشعرية التي تطلق العنان للخيال وتعلي من شأن الحب، وتؤكد التعقيدات الكثيرة للانتماء إلى أحد الجنسين، وكيف يؤثر الدور الاجتماعي للمرأة في الحياة العاطفية للمرأة والرجل على حد سواء، وهكذا فعلى الرغم من الاشتراك في الحبكة، أو في فكرة الحبكة، فإن مسرحية شيكسبير تتناول المادة تناولا شاعريا يكفل لها التسامي والعمق الإنساني الذي يربطها بالعصر الحديث. (2) النوع الأدبي
لا خلاف على أن هذه المسرحية كوميديا. والكوميديا جنس أدبي عام يضم عدة فروع تشترك جميعا في أنها تؤكد ما يسميه نورثروب فراي (
Northrop Frye ) «الاحتفال بانتصار الحياة على الأرض الخراب» (1949م)، أو ما يسميه وايلي سايفر «الاحتفال بالحياة» وحسب (1967م) (انظر كتابي «فن الكوميديا» 1980م وكتابي «من قضايا الأدب الحديث» 1994م)، بمعنى أن الكوميديا فن يركز على افتراض وجود تناغم أساسي في الحياة، وهو من ثم ينشد إبراز هذا التناغم من خلال مقارعة القوى التي تعوقه أو تعارضه أو تخفيه، وسبيله في المقارعة هو إبراز التناقضات في الإنسان وفي مواقفه وفي مجتمعه، من خلال أبنية تدفع إلى السخرية منها، أو الضحك منها، حتى ينتهي نشدان التناغم الحق بتحقيقه، وعودة الصفاء الذي يلازم كل تناغم حق. ومن وسائل إبراز التناقضات وسيلة التورية الدرامية الساخرة (
Dramatic irony ) وشتى ألوان السخرية أو المفارقة الأخرى (
varieties of irony )، ومن وسائله أيضا إبراز جو الاحتفالية (
festive feeling ) الذي يصاحب من يشعر حقا بنبض حياته، أو فرحة حياته، وعادة ما تنتهي أمثال هذه الأعمال الكوميدية بالزواج، رمز الرفاء، وبشير التكاثر؛ فالكثرة تعتبر من سمات الخير، والخير ذو جمال.
ولكن «الليلة الثانية عشرة» تضم أيضا عناصر تنتمي إلى نوع أدبي آخر هو ما أسميته الرومانس؛ ففيها الحب والمغامرات والأسفار والأخطار، والرومانس فيها يمتزج امتزاجا وثيقا بالكوميديا وفق التعريف السابق، بحيث يصعب الفصل في المسرحية بين الخط الكوميدي الصريح الذي يمثله الصاخبون اللاهون في منزل الكونتيسة، وضحيتهم أو هدف سخريتهم مالفوليو (الذي يعمل حاجبا لديها ورئيسا للخدم، ويشتط به خياله بسبب ما يبديه من التزمت الديني وحبه لذاته أو مبالغته في تقدير قيمته، فيتصور أنه يمكنه الزواج من مولاته، وهكذا يخدعه هؤلاء المعربدون الذين يستغرقون في اللهو رقصا وغناء وشرابا)، وبين قصة الحب المزدوجة التي تدور حول محور يعتبر كوميديا كذلك؛ ألا وهو تظاهر فيولا بأنها غلام حتى تظل بقرب حبيبها، والتظاهر أو التنكر من السمات التي تقترن ببعض المثالب الاجتماعية التي قد تقوم على جهل الفرد ذاته أو ادعائه ما ليس فيه، ومن ثم فهو مادة للكوميديا، وينطبق ذلك على نرجسية الدوق الذي تحبه البطلة، وتصور أوليفيا التي يحبها الدوق بأنها قد نبذت الرجال وكرهتهم، والصورة الزائفة التي يرسمها مالفوليو لنفسه، وتصوره إمكان وقوع مولاته في حبه، مثل السير أندرو الذي جاء خاطبا لها هو الآخر، وهلم جرا؛ أي إن المحور الذي يدور حوله ما يسمى ب «الحبكة الثانوية» لا ينفصل عن المحور الذي تدور حوله «الحبكة الرئيسية» أي قصة أو قصص الغرام.
ويؤدي هذا الامتزاج إلى إضفاء جو خاص على الكوميديا، بحيث يبتعد بها عن الكوميديا الهجائية (
satiric )؛ أي كوميديا السخرية الصريحة من بعض أنماط السلوك المعيبة وما تنم عنه من تناقضات أو مثالب بشرية، ويقترب بها مما يسمى الكوميديا الغنائية (
Lyrical ) التي تتوسل بالشعر والموسيقى، وإن كان الجمع بينهما قائما بوضوح على امتداد المسرحية كلها، وهكذا سمعنا من يصفها بأنها غنائية أولا، ما دامت تبدأ بالموسيقى وتنتهي بالموسيقى وتتخللها الأغاني في المشاهد النثرية (الخاصة بالحبكة الثانوية)؛ وهجائية ثانيا، ما دامت تصب بمحوري الحبكة في آفة واحدة، وإن كان لها بعد أو أبعاد فلسفية ونفسية، مدارها قدرة الفرد على تخطي حدود ذاته وتجاوزها بالامتزاج بالآخر، أو قل بالخروج من الذات إلى البشر (الآخر)، والاستعداد لقهر تقاليد الرومانس التي تجعل المحب منحصرا في حبه استنادا إلى أنه يمثل (الذات) أو قل بتخطي الذاتية إلى الموضوعية!
ولكن هذا المزج يتميز بسمات أخرى تضفي مذاقا آخر على الكوميديا، وعلى رأسها مرارة العقاب الذي ينزله المتآمرون (توبي وماريا وغيرهما) بمالفوليو، فهو عقاب لاذع حاد يدفع الكثيرين إلى الإشفاق عليه، بل ويثير لونا من الأسى، وهكذا وجدنا من يضيف إلى وصف هذه الكوميديا بالهجاء أو الغنائية أو الرومانسية وصفها بالشجن العميق (
wistful ) أو الحزن الصريح (
sad ) أو المرح الصاخب (
romping )، بل ومن حاول أن يجمع بين هذا وذاك كله فوصفها بأنها حلوة مرة معا (
bittersweet )، وقد وجدنا في العصر الحديث من رأى في المهرج (
clown ) مفتاح مفهوم المسرحية؛ فهو يؤكد لنا في ثنايا المسرحية ومن خلال تفاعله مع باقي الشخصيات أن الدنيا قائمة على التهريج الذي يحمل هنا دلالتين لا تنفصلان؛ أولهما: ضرورة الهزل ما دامت الحياة الدنيا أليمة لا تحتمل الجد، وتقوم على المراءاة، والتظاهر. وثانيهما: ضرورة التخلي عن الثقة في قدرة الألفاظ عن التعبير عن الحقيقة؛ فالألفاظ خائنة، وهي عاجزة إلا عن خلق الأوهام، ما دام كل فرد يستخدمها بمعنى مختلف، وما دامت معانيها تتلون دائما وتتحور، الأمر الذي يذكرنا بمذهب التفكيكية النقدي، وإنكاره لوجود حقيقة أو أي شيء خارج الألفاظ! (3) الجغرافيا الخيالية
تقول الناقدة بني جاي (
Gay ) إن التشابه الوثيق بين الفتى والفتاة في المظهر من الدلائل على أن المسرحية تنتمي إلى نوع الرومانس، وإن الدقائق العشر الأولى من المسرحية تختط لها طريقا دقيقا في هذا النوع الأدبي؛ فالجمهور يرى ويسمع شابا غنيا نبيلا، يحيط به الموسيقيون والأتباع الذين يصغون بانتباه إليه وهو يقدم «تنويعاته» العذبة على القوالب اللفظية المألوفة في شعر الحب البتراركي:
أواه عندما رأت عيناي أوليفيا لأول مرة،
أحسست أنها تطهر الهواء من أدرانه؛
وعندها استحلت ظبيا واستحالت الأشواق سربا
من كلاب الصيد ذات رهبة وقسوة،
ولم يزل طرادها للآن لي!
فلتمض قبلي نحو رفات من الزهر الجميل،
فخاطرات الحب تزهو اليوم في ظل الخميل.
1 / 1 / 19-23، 40-41
وهكذا ندخل منطقة غير محددة من «العالم المصطنع للرومانس في عصر النهضة». ويبدأ المشهد التالي بصورة لا يقل طابعها الرومانسي عن ذلك؛ إذ نرى فتاة تحطمت سفينتها، وعادة ما نراها على المسرح وقد انسدل شعرها الطويل على كتفيها، وارتدت «بقايا» رداء مغرق في الأنوثة (وهو ما كانت عليه جودي دنش
Judi Dench
في العرض المسرحي الذي قدمته فرقة شيكسبير الملكية عام 1969م من إخراج جون بارتون
John Barton ). وتثير الكلمات الأولى في هذا المشهد إحساسنا بالبلاد البعيدة «للرومانس الكلاسيكي»:
فيولا :
يا أصحاب .. في أي بلاد نحن الآن؟
الربان :
هذي إلليريا يا مولاتي.
وتضيف بني جاي إن اسم إلليريا قد يوحي بكلمة «إللوجن» (
illusion )؛ أي الوهم، وكلمة ليريكال (
Lyrical )؛ أي الغنائي، وإن كان في الواقع الاسم القديم للمنطقة الواقعة في بلاد اليونان شمالي خليج كورنثه (
Corinth ) والمطلة شرقا على البحر الأدرياتيكي، وهي التي اشتهرت بوجود القراصنة فيها. وهو ما يشير إليه الدوق فيما بعد عند مواجهته لأنطونيو في الفصل الخامس، وما جعل الفرقة المسرحية المذكورة تقدم في عرض المسرحية عام 1987م ديكورا مسرحيا يمثل قرية يونانية يقوم فيها مالفوليو بدور «موظف» في الكنيسة لم يعد المجتمع «المنحل» يوليه أدنى احترام.
وتؤكد هذه الناقدة دور الخلط الجغرافي هنا، المصاحب لقرار فيولا بالتنكر؛ أي إن قرارها بأن تتنكر في زي خصي معناه وقوفها على الحافة ما بين الرجل والمرأة، بحيث لا تغدو هذا أو ذاك، فالاسم الذي نعرف فيما بعد أنه اسم موطنها الأصلي اسم يوحي بإيطاليا (ميسالين)، وهي الآن على تخوم الدولة العثمانية، فهي «على الحدود»، ومحايدة جنسيا وجغرافيا. لكننا سرعان ما ننسى ذلك حين نراها في بلاط الدوق في صورة خادم، وهو بلاط ذو طابع إنجليزي واضح لا شك فيه، والحوار في المشاهد التالية يؤكد ذلك، الأمر الذي يجعل المشاهد في المسرح يرى ما هو غريب وبعيد في الحدث الرومانسي في ثوب مألوف في إنجلترا، بحيث «يختلط» الحلم بالواقع. ويستعين شيكسبير في ذلك باستحداث شخصية أنطونيو (صديق سباستيان) الذي يؤكد «الطابع الواقعي لهذه المدينة الخيالية»؛ فهي تنتمي افتراضيا إلى عالم الرومانس العجيب، وتتضافر فيها عناصر الخلط الجغرافي، ولكنها لندن أيضا في عيون المشاهدين!
ويؤكد كثير من المخرجين رأي هذه الناقدة في تقديمهم تصورا «للمكان» الذي تحدث فيه المسرحية، يقوم على الخلط بين الوهم والواقع، على نحو ما قدمه مخرج العرض المسرحي لفرقة الجلوب الجديدة في لندن عام 2002م، وهذا الخلط هو الذي يؤكد التزاوج الحميم بين الرومانس وبين الكوميديا التي لا بد لها من أسانيد ثابتة في عالم الواقع.
ويؤكد ما قلته عن تضافر عناصر الرومانس مع عناصر الكوميديا هذا المزج بين العالم الشاعري الذي تدور فيه قصة الحب المعقدة وبين العالم المادي الذي نشهد فيه نزلاء منزل الكونتيسه أوليفيا وما يدبرونه من مكائد لبعضهم البعض، فالسير توبي يخدع السير أندرو ويقترض منه الأموال دون أن ينتوي سدادها متعللا بتمكينه من الزواج من ابنة أخيه، وهو يشترك مع فابيان وماريا في خداع مالفوليو خداعا يصفه فابيان قائلا: لو كان ذلك يحدث على المسرح الآن لأنكرته باعتباره خيالات خرافية. (3 / 4 / 129-130) وهكذا نجد التقابل بين الخيال الرومانسي الذي يصور إنسانية صادقة حقيقية، وبين الواقع المادي الذي يقترب في شططه وجنوحه من عالم الخيال، ويتمكن شيكسبير من تحقيق التضافر من خلال التتابع الزمني الوثيق لأحداث الحبكة الرئيسية الشعرية وأحداث الحبكة الثانوية النثرية. (4) التقابل والتضاد
إننا ما إن نفرغ من المشهدين الشعريين اللذين يضعاننا في قلب عالم الرومانس (1 / 1 و1 / 2) حتى نقابل الصورة المضادة في المشهد التالي (1 / 3)، حيث نجد سير توبي عم أوليفيا، الذي أحضر السير أندرو خاطبا لابنة أخيه، فنهبط بذلك إلى عالم الواقع، ولكنه ليس واقعا كئيبا ولا مؤلما؛ فالسير توبي يمثل للجمهور الإليزابيثي ما كان يمثله في بلاط اللوردات في ذلك العصر رجل يسمى مدير الألاعيب المرحة (
Master of merry disports )، ويشار إليه باسم غريب هو «رب الفوضى» (
Lord of Misrule ) بمعنى مدير الحفلات واللعبات التي تتيح للناس (في الفترة السابقة على الصوم الكبير
Lent
وما يصاحبه من زهد وتقشف) أن ينطلقوا فيتحرروا من قيود المجتمع الصارمة، وهو ما كان يسمى «الكارنيفال»، أو ماردي جرا (
Carnival or Mardi Gras )، والصوم الكبير يتلوه «الفرج» بمقدم الربيع. والسير توبي إذن يجسد صورة مألوفة لدى أبناء العصر الإليزابيثي؛ فهو تجسيد للحياة الناعمة أو طيب العيش (
The good life )، ولم تكن تعني آنذاك أكثر من الملاذ الجسدية، ومن ثم فهو يقدم صورة أبيقورية مناقضة للفضيلة التي يمثلها «البيوريتاني» مالفوليو. فالسير توبي يستنكر أن يخفي السير أندرو «فضائله» فلا يرقص علنا في غدوه ورواحه، «هل علينا أن نخفي فضائلنا في هذه الدنيا؟» (1 / 3 / 130-131) وعندما يلومه مالفوليو في الفصل الثاني على الرقص والسكر والعربدة يقول له سير توبي «هل تظن أن استمساكك بالفضيلة سيحرم الناس من الفطائر والجعة؟» (2 / 3 / 114-115). أي إننا نواجه على أرض الواقع صورتين متضادتين للفضيلة ؛ الأولى: صورة استغراق في الملاذ الحسية وعلى رأسها المهارة في الرقص، الغناء، والشراب، و«أطايب العيش». والثانية: صورة زهد وامتناع عن إجابة نوازع الجسد، وهي التي كانت تمثل رمزيا صورة الصوم، وتمثل اجتماعيا نزعة كانت قد بدأت تنتشر في مطلع القرن السابع عشر، هي الضيق ب «مثالب» الكنيسة الإنجليزية في عهد الإصلاح الديني؛ إذ كان الكثيرون يرون أنها كانت لا تزال تتسم بملامح كاثوليكية ويطالبون بالعودة إلى صورة دينية أشد «نقاء» أو «طهرا» (
purer ) وهذه هي الكلمة التي أتت فيما بعد بمصطلح «المتطهرين» أو «دعاة النقاء» أو البيوريتانيين، والمعروف أنه لم تنقض ثلاثون عاما على تقديم مسرحية «الليلة الثانية عشرة» حتى كان هؤلاء قد دخلوا البرلمان وأثبتوا سلطانهم فيه، وكانت النتيجة هي الثورة الإنجليزية التي تزعمها أوليفر كرومويل المتعصب، وبلغت ذروتها في الإعدام العلني للملك تشارلز الأول في عام 1649م الأنجليكاني الذي كان يؤمن بضرورة الاستمساك بالطقوس والشعائر. وأقول بالمنسابة إن الشاعر المسرحي الفذ بن جونسون (
Ben Jonson ) قد سخر في عام 1614م، في مسرحية «سوق بارثولوميو»، من شخصية البيوريتاني الديني الذي أطلق عليه اسم «زيل - أوف - ذا - لاند بيزي» (
Zeal - of - the - Land Busy )، ومعناها «حمية البلد المشغول»، وهو أبيقوري منافق يتحدث برطانة الواعظ، ولكنه يفتقر إلى التركيب النفسي والاجتماعي المعقد الذي نراه في مالفوليو؛ فماريا تصفه بأنه «في بعض الأحيان .. بيوريتاني» (2 / 3 / 140)، ثم تسرع فتوضح ما تعني قائلة:
ما أبعده عن الاستمساك بالأخلاق أو البيوريتانية أو أي شيء على الدوام؛ فليس سوى انتهازي مداهن، وحمار يتصنع الحكمة، ويردد ما يحفظه من كلام الكبراء، بل ويكرر مقتطفات طويلة منه! وهو مغرور يزهو بذاته زهوا لا يدانى؛ إذ إنه (في ظنه) مفعم بالمناقب، إلى الحد الذي يؤمن معه أن كل من ينظر إليه لا بد أن يحبه ... (2 / 3 / 146-151)
والهجوم على مالفوليو من الثيمات الكوميدية المألوفة؛ فجوهر هذا الهجوم هو إذلال الغبي المتكبر ذي الألفاظ الطنانة الذي يظن أنه أفضل مما هو عليه في الواقع، ولم يكن شيكسبير يقصد بكلمة بيوريتاني إلا إرضاء الجمهور الذي شاهد المسرحية أول ما كتبت، ولكن الممثل الذي كان يلعب هذا الدور على امتداد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كان يوحي للمشاهد بجو «الرفعة الإسبانية» أولا قبل أن يتحول بسبب أوهامه إلى شخصية فكاهية ذات خبل يذكرنا بدون كيشوت (كيخوته). وسوف أقتطف هنا بعض ما قاله من تناولوا المسرحية من كبار النقاد والأدباء إيضاحا لطبيعة التناقض الذي يولد الكوميديا عند شيكسبير، خصوصا في هذه المسرحية. ولأبدأ بفقرة قصيرة من حديث الدكتور صمويل جونسون (
Johnson )، الكلاسيكي ابن القرن الثامن عشر، عن «الليلة الثانية عشرة»:
تتميز هذه المسرحية في الجوانب الجادة منها بالرشاقة والسلاسة، وفي المشاهد الخفيفة بالهزل الجذاب؛ فشيكسبير يصور شخصية السير أندرو إجيوتشيك تصويرا مناسبا إلى أبعد حد، ولكن شخصيته تفصح إلى درجة كبيرة عن غباء فطري، وليست من ثم الموضوع الملائم للهجاء الساخر. والحديث المنفرد الذي يقوله مالفوليو لنفسه كوميدي حقا، ولا يجعله عرضة للسخرية إلا غطرسته. وأما زواج أوليفيا ومشاهد الخلط التي تتلوه فإنها - على الرغم من إحكام بنائها وصوغها بدقة تكفل التسرية والإمتاع على المسرح - تفتقر إلى المصداقية، ولا تقدم الدرس المناسب الذي لا بد منه في الدراما؛ لأنها لا تعرض صورة صادقة للحياة. (من طبعة جونسون لأعمال شيكسبير، 1765م، يوردها ه. ه. فيرنس
H. H. Furness
في طبعته للمسرحية مع آراء النقاد عام 1901م)
ولننظر ثانيا إلى ما قاله وليم هازلت (
Hazlit )، الناقد الرومانسي، في القرن التاسع عشر عن هذه المسرحية في كتابه «شخصيات مسرحيات شيكسبير» (الطبعة الثانية 1818م):
تعتبر هذه المسرحية بحق من أمتع كوميديات شيكسبير؛ فهي حافلة بالعذوبة والجمال، وربما يكون بها من «طيب النفس» ما يجعلها غير ملائمة للكوميديا. فالهجاء فيها محدود، وتخلو تماما من مشاعر الحقد، وهي ترمي إلى إبراز ما يضحك لا ما يثير الاستهزاء؛ لأنها تجعلنا نضحك من حماقات البشر ولا نحتقرها، بل ولا تجعلنا نضمر أي سوء لها؛ فالعبقرية الكوميدية لدى شيكسبير تشبه النحلة في قدرتها على استخراج الحلاوة من الأعشاب الضارة أو السامة لا في قدرتها على اللدغ؛ إذ إن شيكسبير يقدم إلينا أشد ما يمتعنا من سمات الضعف والنقص في الشخصية «في صورة مبالغ فيها»، ولكنه يرسم هذه الصورة بأسلوب يكاد يدفع أصحابها إلى المشاركة في الضحك عليها، بدلا من الاستياء من هذه الصورة، ما دام يدبر من المواقف ما يجعل الشخصيات تبدو لنا في أبهى حلة ممكنة بدلا من دفعنا إلى احتقارها فيما يدبره الآخرون من مكائد وما يطلقونه من فكاهات مؤلمة عليها.
وإشارة هازلت إلى المبالغة، في العبارة المطبوعة بالبنط الأسود، تتفق مع ما ذكرته عن كوميديا الكاريكاتير («من قضايا الأدب الحديث»، ص268)؛ فالمبالغة في تضخيم عيب من العيوب في مسلك الإنسان أو طبعه؛ تؤدي إلى إبرازه بصورة تكفل تأكيد تناقضه مع ما نتوقعه من كل رجل سوي، أو مع المعايير السائدة عن السلوك الطبيعي أو السوي ومدى إفصاحه عن «سلامة» نفس صاحبه. ويشرح هازلت ما يقصده بذلك في الفقرة الطويلة نفسها من كتابه قائلا:
ولقد مر المجتمع بفترة كانت عيوب السلوك ونقائصه لدى الأفراد من غرس الطبيعة لا ثمرة لنمو العلم أو الدرس، فهم غير واعين بهذه المثالب، أو قل إنهم لا يأبهون لمعرفتها، ما داموا يرضون بها أهواءهم، وهنا نجد أنه ما دام المؤلف لا يحاول أن يفرض شيئا، فإن المشاهدين يستمتعون بمسايرة ميول الأشخاص الذين يضحكون عليهم دون أن يؤذوهم بفضح حمقهم. ولنا أن نطلق على هذه اللون اسم كوميديا الطبيعة، وهي الكوميديا التي نجدها بصفة عامة في شيكسبير؛ فإن روح كوميدياته تتفق في جوهرها مع روح سيرفانتس (ثيربانتيس) ونصادفها كثيرا في موليير، وإن كان هذا أشد انتظاما في مبالغاته من شيكسبير. فكوميديا شيكسبير ذات قالب رعوي وشاعري، والحماقة أصيلة في تربتها، وشجرتها تنمو وتترعرع فتزهر وتثمر. والمتعة التي يجدها الشاعر في تورية لفظية، أو في الفكاهة العجيبة التي يجدها في شخصية «منحطة»، لا تفسد بهجته وهو يصف صورة جميلة أو أسمى ألوان الحب . ففكاهات المهرج المقتسرة لا تفسد عذوبة شخصية فيولا؛ فالمنزل نفسه يتسع لمالفوليو والكونتيسة وماريا وسير توبي وسير أندرو إجيوتشيك. ولننظر مثلا إلى هذه الشخص الأخير الذي لا مثيل لانحطاطه في العقل أو الخلق، وانظر كيف يحول السير توبي مظاهر انحطاطه إلى صور جذابة ممتعة! إن شيكسبير يبث روح الرومانس والحماس بمقدار ما يرسم الأشخاص في صور طبيعية وصادقة، وأما في أسلوب الكوميديا المتصنعة فلا نجد إلا الزيف والبعد عن المصداقية. (من طبعة سيجنت للمسرحية ص133-135)
أي إن «الغباء الفطري» الذي يجده جونسون في سير أندرو ويرى أنه غير جدير بالمعالجة الساخرة في الكوميديا يراه هازلت نبتا طبيعيا جديرا بتأمله والاستمتاع به؛ وذلك عن طريق مجاورته للمشاعر الصادقة في قصة الحب الرومانسية، فالتجاور يؤكد التقابل ويبرز التناقض في صورة أخاذة، وما يراه جونسون بعيدا عن الواقع بمعنى أنه لا يقدم صورة صادقة للحياة، ينسبه هازلت إلى الشعر، أو ما يسميه الطابع الرعوي. وهذا دليل على تغير الحساسية النقدية في مطلع القرن التاسع عشر، وهو التغير الذي أدى إلى قبول كل ما في الطبيعة باعتباره جديرا بالتصديق ما دام «في الطبيعة»، ولضرب لهذا مثلا من شخصية مالفوليو، وشخصية المهرج. (5) مالفوليو والمهرج
سبق أن قلت في القسم السابق من المقدمة إن مالفوليو لم يصف بالبيوريتاني إلا بهدف إرضاء الجمهور الذي شاهد المسرحية أول ما كتبت، ولكن هذا الجانب من شخصيته قد دفع الكثيرين إلى إغفال ما فطن إليه المحدثون، وكان سباقا إلى ذلك الناقد الرومانسي تشارلز لام (
Charles Lamb ) في كتابه «مقالات إيليا» (وكان إيليا هو الاسم المستعار الذي يوقع به مقالاته النقدية في مجلة «لندن مجازين» في مطلع القرن التاسع عشر). فالنظرة الحديثة تقول إن مالفوليو ليس شخصية مضحكة بطبيعته؛ أي إنه ليس هزأة أو مثار سخرية في ذاته، ولكن أحلامه الخبيئة قد استغلها العابثون فجعلوه يعيش في وهم يثير الضحك والاستهزاء، وهي أحلام ليست موهومة تماما بل تقوم كما يقول النص على واقع صلب، فهو حاجب لصاحبة المنزل ورئيس الخدم، ومعنى هذا أنه يشعر بالمسئولية عن كل ما يحدث في المنزل، وتزمته الأخلاقي أو«بيوريتانيته» ليست في ذاتها مثيرة للسخرية أو الاستهزاء، فلقد كان من واجبه ضمان التزام جميع من في المنزل، زوارا ومقيمين، بالسلوك الحسن، والحفاظ على النظام والأمن في المنزل، وفقا لما تقوله كتب السلوك في القرن السادس عشر، حسبما جاء في دراسة م. سانت كلير بيرن (
M. St. Clare Byrne ) بعنوان «الخلفية الاجتماعية» في كتاب بعنوان:
A Companion to Shakespeare Studies, (eds.) H. Granville-Barker and G. H. Harrison, 1946, (second ed. 1985, p. 204).
وهذا يعني أنه يمارس حقه في تأنيب الصاخبين المعربدين فيما يسمى «مشهد المطبخ» (3 / 2). والواضح أيضا أنه لا يرتاح للمهرج الذي يكسب رزقه بالتلاعب اللفظي الفكاهي هنا وهناك، فمثل هذا التهريج يفسد جو الوقار السائد، خصوصا وأوليفيا تلبس ثوب الحداد حزنا على وفاة أخ لها، وتقول الناقدة بني جاي إن لنا أن نعتبره يمثل صورة الأب أو الاخ الذي يتوقع منه التحكم في سلوك أفراد الأسرة من النساء. وقد تصادف أن يصبح أقوى رجل في منزل تديره اسميا امرأة لا زوج لها ولا أب ولا أخ يستطيع أن ينهض بدور رب الأسرة والمتحكم في نفقاتها (ص11). ويؤكد هذه النظرة ما ورد في دراسة الأستاذة فاليري تروب (
Valerie Traub ) بعنوان «النوع والحياة الجنسية في شيكسبير»، المنشورة في كتاب عنوانه:
The Cambridge Companion to Shakespeare, (eds.) Margreta de Grazia and Stanley Wells, 2001.
خصوصا في الصفحات 129-134 المكرسة لدراسة «الأيديولوجية الذكورية» وتأثيرها في النساء في العصر الإليزابيثي، فمالفوليو، وفقا لما تقوله هذه الباحثة، يريد السيطرة على المنزل ويرى نفسه الرئيس «الطبيعي» للأسرة، فبهذا تقضى المعايير الاجتماعية السائدة في ذلك الزمن. وقد يكون حلمه الدفين بالزواج من أوليفيا غير واقعي ولا يمثل إلا طموحا غير مشروع بسبب التفاوت الطبقي، ولكنه حلم مشروع من الزاوية الإنسانية المحضة، مهما أضحكنا اشتطاطه في الخيال وانغماسه في هذا الوهم، وانظر إلى ما قاله تشارلز لام المشار إليه في هذا الصدد:
ليس مالفوليو في جوهره مثيرا للضحك. وهو يصبح فكاهيا بالمصادفة. إنه بارد، مثقف، ولكنه وقور متسق مع ذاته، وحسبما يظهر لنا، متزمت أخلاقيا ... ولكن أخلاقه وسلوكه لا مجال لهما في إلليريا؛ فهو يعارض ألوان النزق والطيش الخاصة بالمسرحية، ويسقط في الصراع غير المتكافئ، ومع ذلك فإن كبرياءه أو وقاره (سمه ما شئت) أصيل أو فطري في نفسه، بمعنى أنه غير متكلف أو متصنع. وهو غير جذاب، إن شئنا التلطف في التعبير، لكنه ليس مهرجا مبتذلا أو يثير الاحتقار. ومسلكه يوحي بالرفعة التي تتجاوز موقعه الاجتماعي ولكنها لا تتجاوز ما هو جدير به. ولا نرى ما يمنع من أن يكون قد فعل ما يثبت شجاعته وشرفه وثقافته. فإن إلقاءه الخاتم على الأرض في غير اكتراث (عندما كلف بإعادته إلى سيزاريو) يفصح عن كرم المحتد وكرم الإحساس. واللغة التي يستخدمها في جميع الحالات لغة سيد ولغة شخص متعلم. ويجب ألا نخلط بينه وبين شخصية القهرمان الوضعية القديمة الشائعة في الكوميديا منذ الأزل. فإنه رئيس منزل أميرة عظيمة، وهي منزلة بلغها لشمائل فيه لا تقتصر قطعا على طول الخدمة. وهذه أوليفيا تقول عندما يلمح أول من يلمح إلى أنه أصيب بلوثة، إنها لا تريد أن يصيبه أذى، ولو فقدت نصف مهرها (3 / 4 / 61) فهل يبدو من هذا أنه شخصية قصد بها أن تكون حقيرة أو لا وزن لها؟ ... وربما كان مالفوليو يشعر بأنه مسئول بصورة ما عن شرف الأسرة؛ إذ لا يبدو أن لأوليفيا إخوة أو أقارب يتولون هذه المسئولية ...
ويفيض لام في تبيان مظاهر السلوك التي تبرر وصفه السابق لمالفوليو، مثل إجاباته الرزينة وهو في الحبس على المهرج المتنكر في هيئة كاهن، والأمر الذي يصدره الدوق بمحاولة استعطافه ومصالحته في النهاية، ويقول إن فابيان وماريا كانا يريان في شخصيته ما يبرر خداعه بحب أوليفيا وإلا لكانت الخدعة أعظم من أن تجوز عليه أو على أي أحد. وينتهي لام في مقاله الطويل بوصف أداء الممثل روبرت بنسلي (
Robert Bensley ) لهذا الدور في أواخر القرن الثامن عشر (لأنه تقاعد عام 1796م) قائلا:
لقد كان رائعا من البداية، ولكنه عندما بدأت مظاهر الوقار الأصيلة في الشخصية تنهار، وبدأت سموم حب الذات تفعل فعلها، في توهمه بحب الكونتيسة له، فلربما أحسست أنك ترى بطل لامانشا بشخصه على المسرح ... لم يكن ثم مجال للضحك! أما إذا برز أي إحساس أخلاقي في غير موضعه ففرض نفسه، فلا بد أن يكون إحساسا عميقا بالضعف الجدير بالإشفاق والكامن في طبيعة البشر، فهو الضعف الذي جعله عرضة لضروب ذلك «الجنون» - ولكنك في الحقيقة تعجب بذلك «الجنون» أثناء حلوله ولا تشفق عليه - بل وتحس بأن ساعة تعيشها في ذلك الخطأ أكبر قيمة من عمر كامل وعيناك مفتوحتان ... وأعترف أنني لم أشاهد يوما تلك الكارثة التي أصابت تلك الشخصية، أثناء تقديم بنسلي لها، دون الإحساس بلذعه مأسوية.
ولقد اخترت في هذا القسم أن أجمع بين مالفوليو والمهرج (فسته)؛ لأنهما يؤكدان ما طرحته في القسم السابق من تقابل وتضاد؛ فالمهرج، حسبما يصفه هارلي جرانفيل-باركر في مقدمته لطبعة التمثيل من المسرحية عام 1912م.
William Shekespeare, Twelfth Night. An Acting Edition. With a Producer’s Preface by Harley Granville-Barker, London, 1912.
رجل طاعن في السن، فشل في حياته ولم يحاول إخفاء ذلك، ولكنه يستعين بلماحيته وقدرته على التلاعب بالألفاظ على كسب الرزق، ويضيف ذلك المخرج أننا نرى كثيرا من أمثال هؤلاء الذين يترددون على الأسر لإضحاكها دون أن يرتدوا لباس المهرج المتعدد الألوان! ونحن نعرف من نص المسرحية مدى ما يتمتع به المهرج من حرية في الحركة، فهو يعيش حقا على الحافة متنقلا ما بين منزل الدوق أورسينو ومنزل الكونتيسة أوليفيا، ويقيم كما يقول بعض الشراح في مكان ما بالبلدة، ويطوف بأكثر من مكان (حتى بالحانات كما يقول مالفوليو) وهو لا يخفي «تشرده» قائلا: «التهريج يدور حول الأرض يا سيدي مثل الشمس، فهو يسطع في كل مكان!» (3 / 1 / 40) وهو يتهم مالفوليو بالجنون (مع الآخرين)، وعندما يقول له مالفوليو إن قواه العقلية «في سلامة قواك العقلية أيها المهرج» يقول له المهرج إنه إذن مجنون حقا! (4 / 2 / 90-93).
والمشهد الذي يجمع بينهما على المسرح، مشهد «الغرفة المظلمة» (4 / 2) من أقسى المشاهد التي تؤكد التقابل بين قسوة المهرج وضعف الحبيس مالفوليو، والمعروف كما يقول مايكل بريستول في كتابه عن الكرنفال والمسرح:
Michael Bristol, Carnival and Theater: Plebeian Culure, and the Structure of Authority in Renaissance England, 1985.
إن المهرجين في الكوميديا الشيكسبيرية شخصيات تعيش على الحافة؛ فهم جوالون، ومراقبون، ومعلقون على الأحداث، ويتمتعون بالقدرة على التشكيك في عالم الرومانس والأسطورة، بل والسخرية من هذا العالم. ويضيف بريستول قائلا إن المهرج «يعبر الحدود ما بين العالم الذي تمثله المسرحية وبين الزمن الحاضر والمكان الذي تعرض فيه المسرحية، فهو يشترك مع الجمهور في هذا الزمن وهذا المكان ... وهكذا فإنه يقوم بالإضافة إلى دوره في القصة بدور الجوقة التي تقف خارج مجرى أحداثها» (ص140-142). وإذن فإن هذا المشهد يمثل المقابلة بين «المتشرد» الذي قد لا ينتمي إلى الحبكة انتماء حقيقيا بل يطل عليها من الخارج، وبين الضحية الذي وقع في براثن العابثين الصاخبين المعربدين، بحيث يتولد التوتر ما بين الضحك على محنة مالفوليو والإشفاق عليه، وما بين قسوة المهرج والضحك على فكاهاته التي لم تعد تضحك أحدا، كما يقول جرانفيل باركر (الذي يؤكد أنه لا بد من حذف الفكاهات اللفظية عند الأداء المسرحي، «وحذفها هي فقط دون غيرها» لانتفاء تأثيرها الفكاهي حتى في مطلع القرن العشرين). فالمهرج يتنكر في دور كاهن، مثلما تنكرت فيولا في دور سيزاريو، ثم يعود إلى صوته الحقيقي، وإن كان ذلك أيضا، كما نعرف، دورا يلعبه لكسب رزقه؛ فهو يتظاهر بالبله وحسب، ويلعب دورا لا ينتهي بنهاية المسرحية، ثم يختتمها بالأغنية التي ذاعت شهرتها حتى اليوم، ولا تمثل في الحقيقة إلا تعليقا ساخرا على الأحداث.
وربما استطعنا أن نجد في هذا التقابل عنصر تشابه آخر لو أنعمنا النظر في الموقع الذي يشغله مالفوليو والمهرج في المسرحية؛ إن كليهما من غير المنتمين إلى عالم الرومانس؛ إذ لا مكان فيه لمهرج أو بيوريتاني، وما يقولانه في المشهد المذكور لا علاقة له بالحدث الرئيسي إلا من قبيل التعليق الساخر على عبثية الحدث نفسه! وانظر إلى مشهد آخر يدور بين المهرج وبين فيولا (المتنكرة في ثوب سيزاريو) ويقع في بداية 3 / 1؛ أي في منتصف المسرحية تماما ويستغرق ستين سطرا من النثر، تجد تشابها غير متوقع بين موقف المهرج وموقف فيولا المتنكرة. فالمشهد لا يضيف شيئا إلى الحبكة؛ أي إلى الأحداث ولكنه مهم؛ لأنه يتناول قضية التهريج والمهرجين والتلاعب بالألفاظ وأخيرا هوية فيولا نفسها. والقضية التي يتناولانها؛ أي قضية غموض الألفاظ أو فسادها، تصب في قضية الظاهر والباطن، وكيفية التعامل مع الناس، بحيث توحي لنا بأن فيولا تؤمن بما يفعله المهرج، وأنها تتحايل هي الأخرى في عالم الواقع المادي الذي يقوم على المداهنة والنفاق حتى تفوز بما تريد، إذ ما إن ينصرف المهرج حتى تقول:
هذا لديه من سداد العقل ما يكفي التظاهر بالبله،
وحذق ذلك الدور العسير يقتضي اللماحية؛
فإنه لا بد أن يراعي حالة الذي يهجوه أو مزاجه
وطبعه الشخصي بل واللحظة المناسبة،
كالصقر لا ينقض إلا عند رؤية الفريسة المطلوبة،
وذاك جهد مرهق كجهد كل جاد عاقل!
تصنع البلاهة الذي يمتاز بالإحكام يقتضي الذكاء،
أما سقوط عاقل في هوة السفه .. فذا بعينه الغباء. (3 / 1 / 61 / 68)
أفلا نشعر بأن فيولا تتحدث عما تفعل هي الأخرى؟ ولنا في ضوء هذا «التمثيل» المحكم الذي تقوم به حتى آخر المسرحية أن نقول إن البيت الأخير من هذه الأبيات ينطبق على مالفوليو؛ فهو حقا عاقل سقط في هوة السفه، فاستحق أن يوصف بالغباء! (وفيولا تشير إليه قائلة إنه عاقل رزين 3 / 4 / 5-6)، ودوره إذن يتضاد إن لم يكن يتناقض مع دور المهرج، وأما الفرق بينهما من ناحية، وبين فيولا من ناحية أخرى، فهو أنهما لا يتغيران ولا يتبدلان؛ فالفاشل فسته يواصل حياته مهرجا حتى بعد لحظة تكشف الحقيقة (
anagnorisis )، ومالفيولو المتغطرس يخرج من المسرح وهو يرعد مهددا بالانتقام ممن دبروا المكيدة، ولكن فيولا تنجح في تحقيق مرادها والزواج ممن تحبه؛ أي إن خداعها ينجح فيربط بين عالم الرومانس وعالم الواقع! (6) الأساطير ومسخ الكائنات
أثبت الباحث جوناثان بيت في الفصل الأول من كتابه عن شيكسبير وأوفيد (
Jonathan Bate, Shakespeare and Ovid, 1993 ) مدى شيوع أعمال ذلك الشاعر الروماني في ثقافة العصر الإليزابيثي، وخصوصا كتابه «مسخ الكائنات»
Metamorphoses
الذي يتضمن حكايات مسخ الأرباب الوثنية اليونانية وأبناء البشر؛ أي تحولهم من صورهم إلى صور الحيوان أو الجماد أو النبات أو الأجرام السماوية. وكانت الترجمة التي أصدرها آرثر جولدنج (
Golding ) لكتاب أوفيد المذكور عام 1565م تحظى بشعبية هائلة، ولا شك أن شيكسبير كان يعرف ذلك الشاعر سواء كان قد قرأ ذلك الكتاب باللغة اللاتينية الأصلية أم مترجما؛ ففي «حلم ليلة صيف» نرى بوتوم ممسوخا في صورة حمار من خلال جهود العفريت بك (
) (أو روبين جود فيلو)، والقصيدة القصصية «فينوس وأدونيس» تثبت مدى إدراك شيكسبير للإمكانات الفكاهية الكامنة في فكرة المسخ حتى في مطلع حياته العملية. ولكن شيكسبير هنا يستخدم الثيمات الأوفيدية بحذق أكبر وصور غير مباشرة في حالات كثيرة؛ إذ إن فيولا تذكرنا بتلك الفكرة عندما تشير إلى نفسها في الفصل الثاني قائلة: «وأنا المسخ المسكينة .. أعشقه كل العشق» (2 / 2 / 33) ما دامت قد تنكرت فتحولت من جنس إلى جنس، ومالفوليو «يمسخ» نفسه حين يتحول من وقار القهرمان (مدبر المنزل) إلى عاشق طبقة الأسياد، فيبدو مسخا شائها في جوربه الأصفر ورباط ساقه الصليبي وبسماته الدائمة، فيبدو مجنونا؛ أي «يركبه» جني أو يسكنه عفريت، وهو ما يحدث لشخصيات كثيرة في أوفيد، حسبما يقول الباحث المذكور، عندما لا يحالفهم التوفيق في اختيار الحبيب المناسب.
ومنذ المشهد الأول للمسرحية نلمح ما يدل على هذا الولع بفكرة المسخ أو التحول عندما يقول أورسينو:
وعندها استحلت ظبيا واستحالت الأشواق سربا
من كلاب الصيد ذات رهبة وقسوة،
ولم يزل طرادها للآن لي! (1 / 1 / 21-23)
فالواقع أن أورسينو يستقي الصورة من أسطورة أكتيون (
Actaeon ) الصياد العظيم الذي تصادف أن رأى الربة أرتميس (
Artemis ) وهي تستحم فمسخته ظبيا (
stag ) وطاردته كلابه حتى مزقته إربا (أوفيد - «مسخ الكائنات»، 3 / 138 وما بعده).
وفي داخل هذه الصورة نفسها يشير شيكسبير بطريق غير مباشر إلى أن أوليفيا هي ديانا؛ إذ إن القدماء كانوا يوازون بين هذه الربة «الإيطالية» والربة أرتميس اليونانية، ودلالات ديانا (ربة القمر) معروفة بالعفة؛ فالصورة مركبة، وتستثمر في التركيب شعر أوفيد. ومع ذلك فالنقاد يجمعون على أن المثال الأوفيدي الذي اختاره لأورسينو هو نرجس (
Narcissuss )، ولو أن باحثا آخر يزعم أن أوليفيا أيضا شخصية نرجسية، وهو:
A. B. Taylor, Shakespeare re-writing Ovid. Olivia’s interview with Viola and The Narcissus myth’s Shakespeare Survey 50 (1970) pp. 18-9.
ففي الفصل الثالث من «مسخ الكائنات»، نجد ما لا بد أن شيكسبير قد قرأه عن الفتى نرجس: ... أثناء شربه رأى جمال وجهه في صفحة الماء الصقيل،
وإذ به في غمرة الوجد الشديد هائما يعانق الوجه الجميل،
ودون أسباب غذا في نفسه الأمل! إذ إنه بمطلق الغباء
ظن انعكاس ظله كيان شخص آخر يحيا بذاك الماء،
فظل راقدا كأنه بذهنه الشرود تمثال من الرخام،
محملقا في صورته .. بعينه التي تسمرت على الدوام ... كان الحبيب نفسه الذي يحبه والخاطب الذي يبثه الغرام،
كان اللهيب نفسه الذي يؤججه ... وقلب من أحرقه الهيام. (3 / 519-525، 536-537 عن ترجمة آرثر جولدنج 1565م، طبعة 2002م، تحرير مادلين فوري
Madeleine Forey )
وعجز نرجس عن الإقلاع عن حبه نفسه يؤدي إلى هلاكه؛ فالانغماس في الذات مهلك، أو على الأقل دليل على علة مهلكة، وهكذا نرى أن أورسينو (مثل مالفوليو «العاشق» الآخر لأوليفيا) «مريض بحب الذات» (1 / 5 / 89)، ويتضح لنا ذلك في حديثه الافتتاحي الذي يفصح عن الاستغراق الكامل في ذاته، وعندما يقول فالنتاين إنها اعتزلت الناس وعافت صحبة الرجال بسبب وفاة أخ لها، يرى أورسينو أنها إذا بادلته الحب فسوف يتربع هو وحده مليكا على عروش ملكها الثلاثة، وسوف يصير وحده مالكا لكل أوجه الكمال عندها، فكأنما كان وحده «أولا وأخيرا» في بؤرة الصورة لا يشاركه أحد (1 / 1 / 37-39). وأورسينو يعتز بقدرته على الحب ويلتذ بما يجده في نفسه من مشاعر:
من المحال أن تكون لامرأة
جوانح قادرة على تحمل الذي يدف في قلبي
من الخفق الشديد للمشاعر المشبوبة! (2 / 4 / 94-96)
أي إنه يجد في صورة الحبيبة البعيدة المنال وسيلة لتأكيد حساسيته الشديدة، بمعنى أنها وسيلة لا غاية، وهذه من السمات المألوفة في الرومانسات. ولكننا هنا نجد صورة مباشرة لها عند مالفوليو الذي «قضى نصف الساعة الماضية في التدريب على أساليب السلوك مع ظله في الشمس» (2 / 5 / 16)، ويقول بعض المخرجين إن مالفوليو هنا يخرج من جيبه مرآة صغيرة يتطلع فيها إلى وجهه وهو يقول «قالت إنها لو أحبت أحدا فسوف يكون مثلي في الصورة» (2 / 5 / 25)، وعلى عكس هذا تقدم فيولا صورة الحبيب قبل صورتها؛ أي تقول إنها سوف تشغل المكانة الثانية «ووراء من أحبه حبا يفوق هذه العيون والحياة كلها» (5 / 1 / 133)، وتؤكد غيرية الحبيب وحقيقته المستقلة عنها، فإن حبيبها «الخيالي» «من طبعك .. مولاي إنها في نحو سنك» (2 / 4 / 27-29).
وعندما تحين لحظة المواجهة بين التوأمين، نجد أن الذي يقر بالتشابه المذهل هو أورسينو نفسه:
الوجه واحد والصوت واحد بل الرداء واحد .. لكنه شخصان!
كأنني أمام مرآة مزاوجة .. لكنها من الطبيعة ..
تضم صدقا وخداعا! (5 / 1 / 213-215)
أي إن أورسينو هنا (الحاكم وأكثر الأشخاص ثقافة) قد غدا يواجه أسطورة مجسدة تعتبر صورة لنرجسيته الخاصة. وكلامه من هذه اللحظة وحتى نهاية المسرحية يدل على نضج مفاجئ، وإن كان ذلك مثار خلاف في النقد النسائي؛ إذ تنكره وتستنكره لندا بامبر (
Linda Bamber ) في كتاب لها بعنوان «شخصيات النساء الكوميدية وشخصيات الرجال التراجيدية» (1982م) قائلة إن تحول أورسينو من حب أوليفيا إلى حب فيولا تحول تقليدي تعسفي لا دوافع له (ص133)، متجاهلة أن أورسينو قد عرف فيولا خير المعرفة بعد أن صاحبها ذهنا وقلبا (حتى وهي متنكرة) ثلاثة أشهر، في حين أنه لم يعرف ولا يعرف شيئا عن أوليفيا التي لم تكن سوى الزاد الذي ظل يغذو نرجسيته فترة من الوقت في عالم الرومانس الذي يصوره شيكسبير، وشيكسبير هنا يؤكد الصورة الحديثة للحب القائم على المعرفة وتقارب المشارب لا القائم على فتنة الطلعة أو جمال المحيا! فذلك ينزله شيكسبير من عالم الرومانس إلى عالم الواقع، وما أسميته النضج المفاجئ ليس مجرد «تحول» كما تقول بامبر بل هو اكتشاف، بمعنى أن حقيقة مشاعر أورسينو نحو فيولا (تلك المشاعر التي لم يكن يجرؤ أن يفصح عنها ما دامت فيولا متنكرة في زي غلام)، قد ظهرت له وفتحت عينيه بعنف! وتؤيد ما أقول به هنا الباحثة المرموقة آن بارتون (
Anne Barton ) في دراسة لها بعنوان «معنى الختام في شيكسبير: كما تحب والليلة الثانية عشرة»، وهي منشورة في كتاب من تحرير مالكوم برادبري ودافيد بامر في سلسلة «دراسات ستراتفورد أبون آيفون 14: الكوميديا الشيكسبيرية» (1972م)؛ إذ تقول في صفحة 169 إن النهاية في كل من المسرحيتين تتضمن عناصر «اكتشاف للذات، وتعميق وتنمية للشخصية»، كما نجد دراسات أخرى تبحث في معنى التحول في الختام ودلالاته للفرد والمجتمع مثل دراسة شيرمان هوكنز (
Sherman Hawkins ) بعنوان «عالما الكوميديا الشيكسبيرية» المنشورة في (1967م)
Shakespeare Studies 3
ومثل المخرج هارلي جرانفيل-باركر الذي يعترض على المشهد الأخير اعتراضا شديدا من ناحية البناء قائلا إنه «سيئ التركيب وسيئ الكتابة إلى أقصى حد بحيث يربك أي مدير لخشبة المسرح إلى حد اليأس» (من مقدمة الطبعة المشار إليها آنفا ص3) على عكس بني جاي التي تقول إن «الدهشة هي اللحن الأساسي للحظة التنوير في المسرحية، وهي التي تأتي في الفصل الأخير الذي يدل على براعة فائقة في التركيب الدرامي» (ص19).
وسر هذا التضارب في الآراء هو أن من يعالج المسرحية في ضوء التقاليد المسرحية الواقعية ربما يصطدم بالتحول، ما دام قد صدق كلام أورسينو فآمن بعمق حبه لفيولا، وأما من يعالجها في ضوء تقاليد الرومانس ودنيا الخيال التي يبنيها الشعر ويرتكن فيها إلى التراث فلن يخدعه شعر أورسينو، وذاك موقف المخرجين المحدثين بلا استثناء، فالواقع هو أن شيكسبير لم يأخذ من قصة بارنابي ريتش «أبولونيوس وسيلا» إلا فكرة الحبكة، ولكنه اختلف عنه في المعالجة الدرامية اختلافا شاسعا؛ إذ جعل يبني صورة تعيد النظر في ذلك التراث أو تشجعنا على إعادة النظر فيه بحيث نقبل تحول أورسينو باعتباره نضجا دراميا ونفسيا أيضا. والصورة المسرحية القاهرة التي يواجهنا بها هي صورة التوءم التي تكاد تعلن في ذاتها تحرره من أسر النرجسية.
وليست صورة نرجس هي الصورة الوحيدة التي استقاها شيكسبير من أوفيد؛ فذلك الشاعر الروماني يصور في «مسخ الكائنات» حب ربة الصدى (
Echo ) لذلك الفتى الذي عشق نفسه، وكيف أصر على صدها فعوقب بحب ذاته، وذوت هي عشقا ووجدا حتى تلاشت ولم يبق منها سوى صوتها! ونلمح أول إشارة إلى ربة الصدى (الحورية التي عشقت نرجس عشقا يلقى الصد) في أول صورة ترسمها فيولا لما يستطيع العاشق أن يفعله ليستميل قلب حبيبته، قائلة لأوليفيا إنها لو كانت في موقف أورسينو لفرضت حبها بالإلحاح على أذن أوليفيا مستعينة بربة أصداء الجو!
أبني كوخا من أغصان الصفصاف على بابك،
وأنادي روحي في المنزل!
أكتب بعض أغاني الإخلاص فأبكي الحب المحروم وأنشدها،
وبأعلى صوت حتى في هدأة ساعات الليل،
وأردد تسبيحي باسمك حتى ترجعه كل تلال الأرض،
وتشارك ربة أصداء الأجواء
ترديد ندائي «أوليفيا»! ما كنت أتيح لك الراحة
ما بين هواء وتراب حتى تبدي الإشفاق علي! (1 / 5 / 271-279)
وفيولا تستخدم الكناية في الإشارة إلى ربة الصدى فتسميها «حاكية الصوت الثرثارة في الجو» (
the babbling gossip of air )، ومن الطريف أن فيولا تقلب الصورة الشعرية في الأسطورة فتجعل المحب (أورسينو هنا) لا يستسلم لليأس كما فعلت ربة الصدى بل يستعين بها في محاولة إثارة عطف المحبوبة ومبادلته حبه! وسرعان ما تفصح فيولا عن إدراكها لموقفها الذي يشبه ربة الصدى حين يطلب منها أورسينو إبداء رأيها في اللحن الشجي الذي يعزف في المشهد الرابع من الفصل الثاني فتقول:
كأنه الصدى الصدوق للمشاعر التي تدف في عرش الهوى! (2 / 4 / 21)
وعرش الهوى هو القلب، والجالس على هذا العرش من وجهة نظر فيولا هو أورسينو، أو نرجس؛ فهي هنا ربة الصدى التي تحبه حبا لا أمل له! وتواصل تقديم هذه الصورة المستقاة من ربة الصدى:
لا يدري أحد إذ أخفت عاطفة الحب تماما،
حتى أخذ الكتمان كمثل الدودة يلتهم الخد الناعم،
وازداد الهم لديها فذوت! وعراها الحزن بلون أخضر أو أصفر،
وغدت تجلس ذاهلة العين كتمثال الصبر المشهور
الباسم للأحزان. أفما كانت تلك العاطفة غراما حقا؟ (2 / 4 / 110-166)
ولكن فيولا توحي بجانب آخر من أسطورة نرجس، وهو الذي يرتبط بقضية الهوية، وهي قضية أوسع انتشارا من حب الذات. ووجود التوءمين من الأساليب المستخدمة في التراث الإنساني لإثارة هذه القضية، ونحن نعي وجودها عندما تقول فيولا:
ناداني باسم أخي وأخي يحيا في ذاتي،
كالصورة تحيا صادقة في مرآتي. (3 / 4 / 389-390)
وفكرة التوءمة قديمة في الآداب الكلاسيكية، وفيما يبنيه علم التنجيم أو علم الفلك القديم من «أنساق» خاصة بالكون، مثل نجمي الجوزاء، وفيما يزخر به التراث من قصص ومسرحيات رومانسية. ونحن ندرك دلالة التوائم عندما يشتركون في الجنس، في الحياة وفي الأدب جميعا، وقد سبق لشيكسبير استخدام هذه الفكرة في مسرحيته «كوميديا الأخطاء»؛ إذ زاد من تعقيد مشكلة الهوية (التي استقاها من مسرحية بلاوتوس بعنوان «الأخوان منايخموس» (
Menaechmi ) بأن أتى بتوءمين يواجهان توءمين آخرين. وأما وجود توءمين من جنسين مختلفين فهو موضوع ناقشته الباحثة كارولين هايلبرن في كتاب مستقل، وتقدم فيه تحليلا شاملا لتواتر هذه الظاهرة في الأساطير والأدب، بادئة بتذكيرنا أن شيكسبير نفسه رزق بتوءم هما هامنيت وجوديث، وتقول إن وفاة هامنيت في عام 1596م قد تفسر الإحساس العميق بالفقدان الذي تعبر عنه فيولا في المشهد الثاني من الفصل الأول:
Carolyn Heilbrun, Towards a Recognition of Androgyny, 1973, pp. 34-41.
والتماثل الكامل بين توءمين من جنسين مختلفين محال، بطبيعة الحال، من الزاوية البيولوجية، ولكن افتراض عالم الرومانس في هذه المسرحية يقتضي افتراض التماثل الكامل، لما تتيحه الفكرة من إمكانات مثيرة. ونحن نعرف أن بارنابي ريتش يؤكد هذا التطابق قائلا إن الناس لم تكن تستطيع التفريق بينهما إلا استنادا إلى ملابسهما وسلوكهما، وهو ما يدفعنا إلى مشاركة النقد النسوي في التساؤل عن حقيقة التمييز بين الجنسين استنادا إلى الدور الاجتماعي لكل منهما. وهذه قضية طريفة في ذاتها، وتستغلها المسرحية في تأكيد دلالة اختلاط الهوية استنادا إلى «الدور الاجتماعي» فقط؛ ولهذا تقول فيولا:
وجه أخي يشبه وجهي وأنا ألبس أردية أخي
وأحاكي زركشة الزي وألوان أخي! (3 / 4 / 391-392)
بعد أن قالت:
يا ليت خيالي يصدق فيكون الحق المرغوب،
وبأن الرجل يظن بأني بالفعل أخي المحبوب! (3 / 4 / 384-385)
وتورد الناقدة بني جاي إشارة إلى أحد المصادر المحتملة لم يوردها بولو
Bullough
في كتابه المعروف عن مصادر شيكسبير؛ ألا وهو كتاب كتبه رحالة عاش في القرن الثاني للميلاد ويدعى باوسانياس (
) بعنوان «وصف اليونان»، وكان الكتاب متاحا في القرن السادس عشر باللغة اليونانية الأصلية وكذلك بترجمتين؛ الأولى إلى اللاتينية والثانية إلى الإيطالية، ويقدم فيه المؤلف رواية مختلفة لأسطورة نرجس؛ أي صورة تختلف عما رواه أوفيد؛ إذ تستند إلى مصادر أدبية أخرى، تتناول الحب بين المحارم، وهي ما تقول الباحثة المذكورة إنه يفسر (أو يتطابق) مع عمق المشاعر المتبادلة بين فيولا وسباستيان، مقتطفة الفقرة التالية من ذلك الكتاب:
كان لنرجس (
Narkissos ) أخت توءم، وكانا يتماثلان تماما في المظهر، فيصففان الشعر بنفس الأسلوب ويرتديان نفس الطراز من الملابس، بل كانا يذهبان للصيد معا. وكان نرجس يحب أخته حبا جما، وعندما توفيت كان يزور الغدير ويتطلع إلى صورته في الماء، وكان يعرف أن ما يراه هو انعكاس صورته، ولكنه كان يجد الراحة في توهم أنها صورة أخته (ص24).
وتعلق جاي على ذلك قائلة إن حب الآخر المطابق (أو المماثل تماما) تؤدي إلى الهلاك، على نحو ما نرى في رواية أوفيد؛ «فالنسق السلوكي الصحي» هو إقامة علاقة مع الآخر المختلف، الذي يحقق للفرد الاكتمال (
wholeness ) بمفهوم أفلاطون الذي يفسر ما يجده المحب في المحبوب من «بهجة» بأنه بشير تحقيق الاكتمال، و«هذه الحكمة السيكولوجية» هي التي تحققها الزيجات في آخر المسرحية حيث ينشد كل من فيولا وسباستيان علاقات أنضج مع «الآخر» المختلف.
ولكننا نجد عند أوفيد أسطورة أخرى سابقة لأسطورة ربة الصدى، تصور تعقيد أمثال هذه العلاقات بين النظراء والمختلفين، بحيث يمكن تحقيق «الاكتمال» بين الجنسين إذا ذابا في بعضهما البعض، لا روحيا كما يقول أفلاطون فقط، بل مادي أيضا، وهو التعقيد الذي يولد عدة قضايا ويتعلق بقيام الصبي على المسرح بدور فتاة (تقوم بدور صبي!)، أو بفتاة في عصرنا الحالي تلعب دور فتى (قد يلعب دور فتاة!)، على نحو ما تناقشه الباحثة بربارا هودجسون في ص179-181 وفي ص186-190 من كتاب من تحرير ألكسندر ليجات
Legatt
عنوانه (
Cambridge Companion to Shakespeare-an comedy ) الصادر عام 2002م. أما الأسطورة الأوفيدية فتقول إن هرمافروديت (
Hermaphroditus ) كان غلاما في الخامسة عشرة أنجبه ميركوري (
Mercury ) من فينوس (
Venus ) (يقابلان باليونانية هرميس
Hermes
وأفروديت
Aphrodite )، وإن فتاة تدعى سلماكيس (
Salmacis ) تراه في بعض رحلاته فتقع في غرامه. والواضح من اسم هذا الفتى أنه يتكون من اسمي الأب والأم باليونانية، وكان يجمع بين صفات الذكر والأنثى، وله أتباع جعلوه ربا معبودا في القرن الرابع قبل الميلاد في أتينا، وأما أوفيد فيورد في «مسخ الكائنات» (4 / 285 وما بعده) كيف استجابت الأرباب لدعاء سلماكيس بألا يفصل بين حبيبها وبينها فاندمجا معا إلى الأبد. وأما في المعالجة القصصية الإنجليزية التي نشرت عام 1602م (العالم الذي شاهد فيه المحامي الشاب ماننجهام مسرحية «الليلة الثانية عشرة»)، وكتبها الكاتب المسرحي فرانسيس بومونت (
Beaumont )، فإن المؤلف يربط بين هذه الأسطورة الأوفيدية وبين الأسطورة نرجس، ربطا لا يورده أوفيد. والغدير الذي تتطلع فيه سلماكيس هو غدير نرجس نفسه، ولكن هرمافروديت يرى صورته أولا منعكسة في عيون سلماكيس ويقول لها:
وكيف لي ذاك الهوى؟ ما دمت ها هنا أرى
حورية خبيئة في العين أبهى؟
ويقول بومونت إنها اضطرت إلى إغلاق عينيها حتى لا يرى فيها صورة ذاته، واستمرت تحاول أن تخطب وده، وبعد ذلك، كما تقول الباحثة المذكورة، تقترب اللحظة الكوميدية كل الاقتراب مما تفعله أوليفيا في الفصل الثالث (المشهد الأول) مع فيولا:
وعندما علت شمس الصباح الرائعة
فأدفأت حورية المياه وهي راقدة،
إذا بها تهب فوق الشط واقفة،
وإذ بها تجردت من كل ما ترتدي
صاحت ملكته بل صار حقا في يدي،
وإذ بها في خفة الأرواح قد وثبت
في لجة الأمواج سابحة كما انطلقت ... ...
وقيدته في ذراعيها اللتين تلتفان كالإسار العاجي
وإن تملص الفتى يحاول الخلاص من هذا الرتاج،
لكنها غدت تداعبه،
وبالهوى تلاعبه،
كانت تقول: هل تريد أن تفر من يدي؟
وأن تعيش بائسا حياة فرد مفرد؟
فرانسيس بومونت: «سلماكيس وهرمافروديتوس» (السطور 865-869، 873-877، «من قاعدة بيانات النصوص الكاملة للشعر الإنجليزي»، تحرير تشادويك هيلي
Chadwyck-Healey )
ولكنه إذا كانت سلماكيس تدعو الأرباب بعد ذلك قائلة «أدعو ربي ألا يأتي يوم يشهد ما يفصلني عن ذاك الشاب إلى الأبد»، وهو ما استجابت الأرباب له فجعلوهما شخصا واحدا يجمع بين الذكر والأنثى، وهو المعنى الحديث لكلمة الخنثى أو هرمافروديت (
hermaphrodite ) باللغات الأوروبية الحديثة، فإن أوليفيا ترغم نفسها على الالتزام بمنزلتها الاجتماعية فتقول إنها لن تتزوج ذلك الخادم الصغير. ولكنها لا تلبث في المشهد نفسه ولما تمض لحظات على ذلك أن تقول إن حبها المشبوب لا يقدر على إخفائه (عقل أو أي ذكاء وقاد) (3 / 1 / 154). وفي هذه اللحظة التي تقع في منتصف المسرحية، لا بد لهذه العاطفة المشبوبة أن تجد الرجل المناسب لها، وهكذا، فبعد مشهد واحد يدخل سباستيان إلى خشبة المسرح، كيما يذكر الجمهور - وفقا لتقاليد الكوميديا - بإمكان حلوله محل أخته في قلب أوليفيا.
ولكن جانبا من سحر فيولا يكمن في جمعها بين حقيقة الأنثى ومظهر الذكر، وهو ما يوحي بما كانت تعتزمه ثم عدلت عنه من ادعاء أنها خصي والقيام بالغناء في قصر الدوق، وجمعها بين الذكر ظاهرا والأنثى باطنا (حتى ولو كان الذي يقوم بالدور في أيام شيكسبير غلاما) يجعلها لغزا شبيها بالهرمافروديت المذكور. وتذكرنا الناقدة كاثرين بلسي (
Belsey ) في دراسة لها بعنوان «الليلة الثانية عشرة: منظور حديث» (2004م) بمدى اهتمام شيكسبير بمسرحية الخصي للكاتب الروماني تيرنس (
Terence ) مقتبسة ما قاله ت. و. بولدوين (
Baldwin ) في كتاب أصدره عام 1947م عن تفضيل شيكسبير لها على كل ما عداها، وتطبق ما تتحلى به الطبيعة المزدوجة للخصي على فيولا قائلة:
لا يعود شيكسبير إلى ذكر الخصي في الدور الذي يلعبه «سيزاريو»، بل إن الجميع يعاملونه معاملة الخادم، والمهرج هو الذي يقوم بالغناء. ولكن ظلا من عدم تحديد الجنس، أو المنزلة الجنسية الوسطى التي يشغلها الخصي، يكسو فيولا حتى نهاية المسرحية؛ إذ يستمر أورسينو في تسميتها سيزاريو، ويؤجل إلى ما بعد انتهاء الحدث الخيالي لحظة عودتها إلى الملابس النسائية. (ص199 من طبعة فولجر)
وتفصل بلسي القول في الفارق بين كل شخصية من شخصيات المسرحية (إذ تتمتع كل منها بهوية محددة تماما) وبين فيولا التي تجمع بين هوية الذكر وهوية الأنثى، فيما تسميه بلسي باللغز الجسدي، وتتساءل: هل هذا اللغز هو الذي اجتذب أوليفيا وأخرجها من الحداد إلى الدنيا من جديد؟ إن أوليفيا تعي تماما صفات جسم فيولا، ولكنها تعي أيضا صفة أخرى هي الروح! أي إن المنزلة الوسطى تتيح للإنسان داخل جسم رجل أو امرأة أن يبدي معدنه الحقيقي أو روحه! أي إن إدراك أوليفيا الباطن أو اللاواعي للمنزلة الوسطى التي لا تتأثر فيها الروح بأنماط السلوك الاجتماعية هو الذي يدفعها دفعا إلى حب فيولا! فكأنما كانت تحس بلا وعي أنها منجذبة إلى شيء يتجاوز صفة الذكورة وحدها أو الأنوثة وحدها، بل يضمهما معا:
أوليفيا : ... ... أقسم إنك صادق!
فلسانك، وجهك، أطرافك، أفعالك، روحك؛
تشهد مرات خمسا لك بالرفعة! ...
إني ليهيأ لي أني أشعر
بمحاسن هذا الشاب وقد زحفت تسترق الخطو
وتسكن في عيني بمكر خلسة! (1 / 5 / 295-297، 300-302)
وتضيف بلسي أن المنزلة الوسطى نفسها، أو المنزلة الجامعة بين الأنثى والذكر، هي التي نحسها عندما تقص أوليفيا على أورسينو (وعلينا) قصة ابنة أبيها (2 / 4 / 108-121) التي تبدؤها بإشارة شبه صريحة إلى ذاتها:
فأبي أنجب بنتا عشقت رجلا عشقا لا حد له.
قل مثل غرامي بك لو كنت أنا بنتا مثلا ... (108-109)
وتختتمها بتأكيد جمعها بين صفة البنت والابن:
أنا كل بنات أبي .. وكذلك كل الإخوة! (121)
وإذن فإن حب أوليفيا لفيولا في ثوب سيزاريو حب من نوع خاص يقابله حب أورسينو لفيولا المتنكرة حبا يعتبره القدماء أفلاطونيا، بمعنى الصداقة بين أفرد الجنس الواحد أو الجنسين (كما يقول في حوارية المائدة / الندوة)، والمحدثون يرونه مشبعا بملامح الميول المثلية. فهل يماثل حبه لفيولا حب أوليفيا لها حقا؟ تقول بلسي إن لنا أن نعتبر أن مالفوليو وأندرو صورتان ساخرتان لأورسينو ما دام الحب لديهما يقتصر على الألفاظ؛ فهما يتكلمان دائما ويتلاعبان بالألفاظ (بقيادة المايسترو المهرج) وتقتبس تأكيدا لقولها ما تزعمه جوليا كريستيفا (
Kristeva ) من أن «الحب شيء منطوق، ويقتصر على ذلك وحسب، ولطالما عرف الشعراء ذلك» (من كتاب «حكايات حب»، 1987م)، وتختتم بلسي دراستها قائلة:
ربما كانت حقيقة الحب، إذا تجاوزنا اللغز الذي يمثله والشكوك المحيطة به، هدفا منشودا لا يتحقق مطلقا أمام مشاهدي «الليلة الثانية عشرة». وربما تكون كذلك دنيا الخيال نفسها؛ فهي دنيا عامرة بالرومانس والسخرية، وبالغناء والكوميديا. وبهذا يصبح للمهرج الكلمة الأخيرة ... إذ يغني أغنية حزينة عن الشتاء والزمن المتقلب (ص206). (7) الاتجاهات النقدية الحديثة
وقبل أن أقدم العرض الموجز الذي لا بد منه لكل من يريد أن يدرك تطور النظرة النقدية إلى المسرحية على مدى القرون الثلاثة الماضية، سأنتقل من حديثي عن اختلاط الهوية ما بين الذكر والأنثى إلى الطابع الذي لا بد أن يدركه كل قارئ، وهو طابع «الاحتفالية» في مسرحية تبدأ وتنتهي بالموسيقى كما سبق أن ذكرت وتقدم فيها أغنيات كثيرة، وينتشر الهزل في جنباتها. وقد قدم سي. ل. باربر (
Barber ) في كتابه العظيم (الذي صدر عام 1959م بعنوان: «كوميديا شيكسبير الاحتفالية» (
Shakespeare’s Festive Comedy ) وجهة النظر التي سادت في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي التي لا تقتصر على إقامة تعارض بسيط بين جو «الاحتفالية» (الذي تولى تحليله مايكل بريستول بعد ذلك في كتابه الصادر عام 1985م والمشار إليه آنفا)، وبين جو القمع والكبت الذي أتى بالثورة البيوريتانية فيما بعد في القرن السابع عشر، كما سبق أن ذكرت؛ إذ يتوسع بريستول في هذا الكتاب في تطبيق نظرية «الاحتفالية» التي وضعها باختين (
Bakhtin ) في كتابه عن راببليه وعالمه (
Rabelais and his World ) الذي ترجم إلى الإنجليزية عام 1968م، مثلما فعل بعده فرانسوا لاروك في كتابه الصادر عام 1991م بعنوان:
Francois Laroque, Shakespeare’s Festive World: Elizabethan Seasonal Entertainment and the Professional Stage.
أقول إن باربر لا يقتصر على رصد التعارض البسيط بين هذا وذاك، بل يؤكد «لحظات فشل» الاحتفالية وكيف ساهمت في تعديل مفهوم العلاقات القائمة بين اللغة والفعل باعتبارها مفتاح التعبير عن الشخصية، إذ يقول:
كان شيكسبير يكتب مسرحياته في الوقت الذي كانت فيه الطبقة المتعلمة من المجتمع تدخل بعض التعديلات على المفهوم الاحتفالي والطقسي للحياة الإنسانية؛ حتى تخلق مفهوما تاريخيا وسيكلوجيا. والحق أن الدراما التي أبدعها كانت من العوامل المهمة في إحداث التغيير والتحول من مفهوم إلى مفهوم؛ لأنها قدمت مسرحا يمكن النظر فيه إلى حالات فشل الطقوس نظرة مستقلة بحيث تبدو تاريخا في ذاتها، وقدمت أساليب جديدة لتصوير العلاقات بين اللغة والفعل ابتغاء التعبير عن الشخصية (ص15).
والذي يقصده باربر بحالات فشل الاحتفالية والطقوس هو أن النظرة القروسطية التي كانت تعلي من شأن الألفاظ إلى الحد الذي يوحي بقطع علاقاتها بالأفعال، سواء في العبادة أو في الحياة اليومية، كانت تمثل عبئا أدركه رواد عصر النهضة الأوروبية، وحاولوا إحلال مفهوم جديد مكانه يشكك في قيمة الألفاظ ويدعو إلى إعادة النظر في قيمتها لا في دلالاتها فحسب، ولما كانت الاحتفالية تقوم على الألفاظ الطقسية (المحفوظة والمتوارثة دون غوص في معانيها) سواء في العبادات أو في الأغاني و«التهريج»، فإن شيكسبير يدعونا هنا أيضا إلى التشكك فيما يقوله المعربدون المحتفلون دائما، مؤكدا أن احتفالهم ليس احتفالا حقا بالحياة، بل هو كما يقول المهرج عبث وتهريج و«إفساد» للألفاظ! بل إن سير توبي يدرك أن الفخ الذي أوقع فيه مالفوليو مكيدة حقيرة، ويتمنى حتى أثناء حبس مالفوليو تخليصه من تلك الورطة (4 / 2 / 67-70)، فالحبس في غرفة مظلمة عقاب أقسى مما ينبغي على التزمت الأخلاقي، وإصابة السير توبي والسير أندرو بجروح في رأسيهما تنقل العبث والتهريج إلى مستوى الواقع الأليم، وتخرج ذلك العبث من جو المرح البريء الذي تفترضه الاحتفالية. وكما يقول باربر، فإن «الألعاب» و«سحر العطلات»، تتعرض للتعقيد بسبب ما يخرج من كوامن الشخصية الإنسانية على المسرح، وخصوصا نزوع الفرد إلى إطلاق خياله في التمثيل واستخدام الإيماءات والحركات الجسدية المعبرة، وهو ما قد «يفسد» الهزل إذ يحوله إلى جد مؤلم.
وربما كانت هذه النظرة الحديثة من وراء ميل المخرجين المحدثين في بريطانيا وأمريكا إلى الإيحاء بجو «خريفي» أو «شتوي» للمسرحية، وهو ما يوحي بإيمانهم بفشل الاحتفالية، واستعراض ألوان الإخراج المسرحي في الثلاثين عاما الأخيرة يدعم هذا القول، كما يبين سيلفان بارنيت (
Sylvan Barnet ) في دراسته عن إخراج المسرحية في المسرح والسينما (ص166-165). كما يؤكد بارنيت (ص171) المفهوم «القائم» للمسرحية الذي حل محل المفهوم القديم، فلم يعد في وسع أحد، كما يقول، أن يعتبر المسرحية لهوا خالصا، والنهاية «السعيدة» للعشاق ليست سعيدة لمالفوليو الذي يهدد من آذوه بالعودة للانتقام منهم.
ومثلما اكتشف المحدثون قصور أي مفهوم يزعم أن المسرحية لا تزيد عن احتفالية «كرنفالية» مرحة، اكتشفوا أن القول بأنها تدور حول الحب «الرومانسي» قول قاصر. و«ما الحب حقا؟» كما يتساءل فيسته في أغنيته التي تصب في جوهر موضوع المسرحية. الإجابة التي جاءت بها الأعوام الأخيرة من القرن العشرين تعتمد على عدة مذاهب فكرية مثل التاريخية الجديدة، والتمييز بين الجنسين، ونظرية المثلية الجنسية والأداء، ومن ثم فهي تقول إنه شيئا واحدا؛ أي لا يقتصر على الرومانس البتراركي بين الجنسين فحسب، بل هو التنويعات التي لا تكاد تحصى، فيما يبدو، للانجذاب الجسدي والروحي بين شخصين مهما يكونا؛ رجل وامرأة، أو رجل ورجل، أو امرأة وامرأة! وقد وجدت الناقدات النسويات في المسرحية مجالا لتأكيد ما ألمحت إليه حين عرضت وجهة نظر كاثرين بلسي آنفا، ووجدت التأكيد في الدراسة التي كتبها ستيفن جرينبلات بعنوان «الخيال والاحتكاك» في كتابه «مفاوضات شيكسبيرية» (1988م)، وهو الذي يتيح لنا اليوم الدخول بطرق غير مباشرة إلى عالم القرن السادس عشر، حتى ندرك كيف كان الناس ينظرون إلى قضايا التمييز بين الجنسين والحياة الجنسية، وأن نرى كيف يمكن ترجمة ذلك الفكر أو تلك النظرة، «للاستهلاك الجماهيري» كما يقول، إلى محاولات المسرحية استكشاف حقيقة الفروق المتخيلة بين الجنسين، و«تلاعبها بالألفاظ» تلاعبا يصب في هذه القضية (ص90).
والتلاعب بالألفاظ من مظاهر إبراز قضية اللغة وقدرة اللغة على التعبير أو عجزها عن ذلك، كما يقول المهرج فيسته (على نحو ما ذكرنا آنفا)، وكانت قضية عجز اللغة عن التعبير عن الحقيقة أو الواقع من القضايا التي شغلت عصر النهضة الذي قام على التشكك في العلاقة بين القول والفعل كما ذكرت في هذا القسم من المقدمة، وهو التشكك الذي أصبح يمثل فكرة شائعة لدى كل شاعر يرى أن رؤاه لا تستطيع التجسد كما يبغي (أو كما ينبغي) في الألفاظ، ومن منا لا يذكر ما قاله الشاعر الإنجليزي وليم وردزورث (
Wordsworth ) (1770-1850) في قصيدته «المقدمة» عن ذلك حين قال إنه يطلق اسم «الخيال» على قوة رهيبة تشرق في أعماق الروح؛ بسبب عجز لغة البشر عن وصفها عجزا يثير الأسى؟ وهذان هما البيتان:
Imagination - here the power so called
Through sad incompetence of human speech (الكتاب السادس، طبعة 1850م، 592-593)
وقد أوردت في أحد كتبي تحليلا موسعا للاحتمالات القائمة لما يقابل هذين البيتين بالعربية وما يليهما من أبيات وهو:
On Translating Arabic, a Cultural Approach, GEBO, 2000, P. 175 ff.
ووجدت الفكرة نفسها مطروحة بأسلوب آخر في كتب أخري ومطبقة على هذه المسرحية، خصوصا فيما ذكرته عن أقوال فيسته عن خيانات اللغة أو الألفاظ، وهو ما ذكرت أنه يذكرنا بالتفكيكية، وما أدرجته في كتابي المذكور في القسم الذي أسميته سحر التفكيكية (
The Lure of Deconstruction )، ولكن الذي يعنيني عند المحدثين ما أقامته الناقدات النسويات من رابطة بين اللغة وخصوصا براعة التعبير وحريته المرتبطة بفصاحة الرجال في المجتمع الذكوري، وبين تأكيد ما يزعمنه من أن إلغاء الفوارق بين الجنسين يقوم في هذه المسرحية على فصاحة فيولا، وهو ما سبق لشيكسبير تحقيقه في «تاجر البندقية» حيث وهب بورشيا في مشهد المحاكمة الأخير ما اتفق النقاد على اعتباراه «بلاغة سماوية» (
heavenly eloquence ) (وهي عبارة مقتطفة من «روميو وجوليت»). وأوضح من فصلت القول في ذلك الناقدة بني جاي (
) في دراسة لها بعنوان «حاكية الصوت الثرثارة في الجو في «الليلة الثانية عشرة»»، وذلك في كتاب عنوان:
The Blackwell Companion to Shakespeare: The Comedies, 2003.
وذلك في الصفحات 429-446؛ حيث تقول إن أهم ما يميز فيولا هو بلاغتها؛ فهي مصدر جاذبيتها، وخصوصا أنها أول بطلة يسند إليها شيكسبير أحاديث مفردة إلى الجمهور من نوع المناجاة (
soliloquy )، حيث تخاطب الجمهور مباشرة باعتباره يتكون من أفراد يشهدون مسرحية كوميدية؛ أي باعتبارهم يشاركونها الوعي بالتقاليد المسرحية التي تتبعها. وخصوصا في مناجاتها في الفصل الثاني التي تبدأ بالتساؤل «لم أترك أي خواتم لليدي؟ ما مقصدها؟» ثم تتساءل «ما آخر هذي القصة؟» وتفسيرها لما حدث موجه للجمهور: «لا شك بأن المرأة تهواني! ومشاعرها ابتكرت هذي الحيلة؛ كي تدعوني لزيارتها مرسلة ذاك المرسال الفظ!» «بل إني المقصودة بالخاتم»، ويلي ذلك إيضاح صريح للجمهور لا يقبل التأويل:
ما آخر هذا التعقيد؟ ما دمت الرجل أمام الدوق
فلا أمل لدي على الإطلاق بأن يهواني،
لكني امرأة في الواقع (وهو المؤسف)؛
ولذلك تذهب عبثا آهات أوليفيا المسكينة! (2 / 2 / 38-35 )
وتعلق جاي على ذلك قائلة إن فيولا تتخطى الحدود التي يفرضها عليها كونها امرأة، والمعروف أن تقاليد العصر كانت توجب صمت المرأة واحتشامها علنا، وهي تدخل إلى منطقة المهرج بأن تقول كلاما منظوما كالشعر المرسل المستمد أو الموحي بالجو الرسمي لبلاط أورسينو، وتقوم بتقديمه - بوعي ولماحية - باعتباره دورا تمثله؛ فهي تقول لأوليفيا مثلا «أكره أن تذهب كلماتي أدراج الرياح، فإلى جانب الأسلوب الممتاز الذي كتبت به، فإنني بذلت جهدا كبيرا في استظهارها» 1 / 5 / 172-174. وبهذا كما تقول جاي فإنها تقوض السلطة الثقافية التي تتمتع بها تلك اللغة الرفيعة الطنانة. وهي إذن تلعب دورا مزدوجا، وهو يتمثل في لماحيتها وقدرتها على الإلغاز مثلما يتمثل في الجمع ظاهرا وباطنا بين الجنسين، ويمكنها هذا الازدواج من الانتقال كثيرا من دورها باعتبارها نموذجا للبطلة الرومانسية التي تثير الشفقة في الأساطير، التي تخفي عاطفة الحب إلى الأبد (2 / 4 / 111) إلى دورها الآخر باعتبارها الممثلة الواعية بذاتها، والمستمتعة بأدائها ، والتي تتحدث دون تكلف إلى الجمهور، وتظهر اللماحية في عباراتها التي قد تصل إلى حد الإلغاز. وتقول جاي إن فيولا تحتفظ بعادة استخدام التوريات و«القفشات» حتى الفصل الخامس؛ حيث تلجأ إلى أسلوب النثر ولو كان في النظم المرسل.
وتختتم جاي دراستها الشائقة بإبراز أهمية البراعة اللغوية التي تبديها فيولا وهي متحررة نسبيا من الدور النمطي للمرأة (ما دامت متنكرة في ثياب رجل)، وتقول إن هذه البراعة تقع في قلب مسرحية تمتع الجمهور بثرائها اللغوي؛ ف «الليلة الثانية عشرة» حافلة بالتوريات اللفظية والألغاز، وتضرب أمثلة كثيرة على المتعة التي كان الجمهور يجدها في متابعة التراشق اللفظي، وسوف يلاحظ القارئ تواتر الأسئلة عن معاني ألفاظ بعينها، أو عن الفكاهة أو الاستعارة المقصودة، واهتمام السير أندرو بما يعتبره «لغة البلاط المنمقة»، فيحاول أن يحفظ العبارات المتصنعة في المشهد الأول من الفصل الثالث، مثل «الشذا والأريج»، و«المهيأة للاحتواء» و«المعربة عن الرضاء» (3 / 1 / 92-93) والمهرج يعلن بصراحة عن تذوقه للكلمات، فعندما يقول له سباستيان:
أرجو أن تجد مكانا آخر تنفث فيه حماقاتك؛
إذ إنك لا تعرفني! (4 / 1 / 10-11)
يجيب على الفور: «أنفث حماقاتي؟ لقد التقط التعبير من بعض العظماء ويطبقه الآن على المهرج» (4 / 1 / 12-13)، والواضح أنه يعرب بذلك عن إعجابه بالتعبير، وقبل ذلك كان قد قال: «أما من أنت وما تريد فأمور خارج سمائي، وكان يمكن أن أقول خارج «مجالي»، ولكن الكلمة أصبحت بالية» (3 / 1 / 58-60). أي إنه يريد «التجديد» ويتعمد الإتيان بالتعبير المبتكر! والمسرحية زاخرة بالألغاز اللفظية والأسماء التي تشترك في بعض الحروف مع تغيير ترتيبها، مثل فيولا وأوليفيا ومالفوليو نفسه! وقد يكون ذلك متعمدا؛ فإن اسم الأولى اسم آلة تشبه ألة الكمان وإن كانت أكبر قليلا، وإيحاؤها الموسيقي واضح، واسم مالفوليو يوحي بأصله الإيطالي بسوء النية، أو الشر، واسم أوليفيا يوحي بغصن الزيتون رمز السلام، وإن كانت الإيحاءات كلها مضمرة يفرح بها النقاد وقد لا يدركها الجمهور!
وأما الاتجاه الرئيسي للنقد النسوي فقد سبق لي أن ألمحت إلى أهم خصائصه، وهي التي سادت الساحة النقدية الحديثة، وعلى رأسها اعتبار أورسينو نرجسيا، والزعم (الخاطئ في رأيي) بأن أورسينو لا يتغير، بمعنى أنه ثابت دراميا، ومن ثم فهو شخصية نمطية، وهو الذي تقوله لندا بامبر (
Bamber ) في كتابها المشار إليه آنفا والصادر عام 1982م بعنوان:
Comic Women, Tragic Men (Stanford, Cal. Stanford Univ. Press, 1982) pp. 129-133.
إذا تنكر أن الكوميديا تؤدي إلى اكتشاف الذات، فهذا في زعمها خاص بالتراجيديا، كما تقول إن الشخصيات لا تتطور، وتعترض على التغير المفاجئ في نظرها الذي حدث لأورسينو، على نحو ما سبق أن شرحت، ناسية أن ثلاثة أشهر قد مضت عليه في صحبة فيولا.
وأما روبرت كيمبره (
Kimbrough ) فهو أفصح من أفصح عن موقف النقد النسوي الصادق؛ إذ يعرض في دراسة له نشرت في مجلة
Shakespeare Quarterly 33
عام 1982م وعنوانها الازدواج الجنسي من منظور التنكر في شيكسبير (ص17-33)
Androgyny Seen Through Shakespeare’s Disguise.
لمسرحيتين تتضمنان التنكر في زي الجنس الآخر هما «كما تحب» وهذه المسرحية، وحين ينتقل إلى الأخيرة في صفحة 28 يكون قد بلغ نقطة الذروة في حجته التي يقول فيها:
وهنا يجري شيكسبير مقابلة صريحة وواضحة بين الهوية الجنسية والهوية الجنسية الاجتماعية حتى يوحي بنجاح يفوق نجاحه في «كما تحب»، بأن على الفرد أن يقبل حالته الجنسية الوراثية (الجينية) قبل الوصول إلى الازدواج الجنسي النفسي. وهو يتناول حذرا موضوع الانجذاب بين أفراد الجنس الواحد وبين أفراد الجنسين حتى يقنع الجمهور بأن الازدواج الجنسي لا يرتبط ارتباطا حتميا بميل جنسي معين؛ أي إن على الجمهور، مثل فيولا، أن يعلم أن الازدواج الجنسي ليس حالة جسدية، بل حالة نفسية.
وهو يدلل على ذلك بقدرة فيولا على التدبير والتفكير بعد أن تحررت من دورها باعتبارها فتاة صغيرة، فتبدأ رحلة اكتشاف الذات. وهي تحدد منذ البداية ما تريده وتعمل على تحقيقه، وهي تجبر أورسينو على التغيير؛ ففي المشهد الرابع من الفصل الثاني حين تقول «لكني أعرف» (104) نعلم ويعلم الجمهور أنها تعرف شيئا لا يعرفه أورسينو، بل وسوف تعرف ما سوف تعرفه أوليفيا وأورسينو، ألا وهو أن الكثير من الفوارق الظاهرة بين الجنسين يمكن أن تتلاشى، وحين تقول إن المرأة تخلص في الحب مثلها أو مثل أورسينو، يدرك الجمهور أنها تقصد ذاتها وهي أنثى، رغم إدراكه في زمن شيكسبير أن الممثل الذي يلعب دورها غلام، ويفهم أورسينو أنها تقصد الرجال، ومن ثم يكون المقصود هو الإنسان، نحن البشر! (107) والدرس الذي تتعلمه وتعلمه لأورسينو هو ما أدركته حين ولدت توءما لصبي، وهو ما يعني أننا ما «إن نقر بالاختلاف الجنسي الجسدي، حتى يتساوى في نظرنا الجنسان إلى حد بعيد».
وخلاصة دراسة كيمبره هي أن أورسينو وأوليفيا كانا في بداية المسرحية حبيسين للدور الاجتماعي المحدد لكل من الجنسين، ولكن تنكر فيولا أتاح لهما مثلما أتاح لفيولا تحطيم أقفال ذلك المحبس؛ فلقد أتاح التنكر للجميع أن يستمدوا القدرة من «إمكانات الازدواج الجنسي» (ص32) على النمو الإنساني والتطور في طريق الذات الكاملة المكتملة!
وتعارض جين هوارد (
Jean E. Howard ) في دراستها عن ارتداء ملابس الجنس الآخر، والمسرح، والصراع بين الجنسين في أوائل العصر الحديث في إنجلترا، المنشورة في المجلة السابقة نفسها، العدد 39 لعام 1988م، ما تقوله بلسي وما يقوله جرينبلات وسبقت الإشارة إليه. “Crossdressing, The Theatre, and Gender Struggle in Early Modern England”, pp. 418-440.
فتقول إن المسرحية تبدو لها تجسيدا لحكاية خرافية ظالمة للمرأة، ترمي إلى «احتواء» دورها الاجتماعي، وقمع التمرد الطبقي، وإعلاء شأن «المرأة الصالحة» باعتبارها المرأة التي تؤمن، بغض النظر عن ملابسها، بالفروق الجوهرية بينها وبين الرجال، وبموقعها الثانوي بالنسبة له. وتقول صراحة إن المسرحية فيما يبدو تمجد المرأة التي ارتدت ملابس الرجال ما دامت لا تطمح في موقف من مواقع السلطة المخصصة للرجل، وتعاقب المرأة غير المتنكرة التي تطمح في موقع من هذه المواقع (ص437). فالمسرحية في رأيها تبين أنه إذا كان التنكر يؤدي إلى بلبلة من نوع ما، فإنه لا يمثل مشكلة في الواقع للنظام الاجتماعي ما دام (القلب) سليما قائلة:
أو بتعبير آخر، إذا لم تصحب ذلك التنكر الرغبة السياسية في إعادة تعريف حقوق المرأة وسلطاتها، وهدم النظام الهرمي لترتيب الجنسين ... وأعتقد أنه من الإنصاف أن أقول إن تصور فيولا ... يمثل إحدى لحظات ظهور الذات الأنثى في الحقبة البرجوازية؛ فهي امرأة تستند حريتها المحدودة إلى الإيمان بالاختلاف بين الجنسين، والقبول طواعية بتفاوت حظوظ التمتع بالسلطة وبالموارد الثقافية والاقتصادية (ص438).
وتقول إن المسرحية تعالج بنفس الوضوح تأديب امرأة تؤمن بأنوثتها، وهو التأديب الفكاهي التقليدي في الكوميديا، ألا وهي أوليفيا؛ إذ إنها تشكل خطرا اجتماعيا ما دامت قد قررت الاستقلال عن عالم الرجال، وخصوصا معارضة الحاكم الدوق أورسينو! وهي تتلقى عقابا مؤكدا في هذه المسرحية وإن يكن فكاهيا، ألا وهو الوقوع في حب خادم صغير! وهكذا تصبح فيولا المتنكرة أداة إذلال للمرأة المتمردة في نظر الجمهور، تماما مثلما عوقبت تيتانيا، ملكة الجان، في «حلم ليلة صيف»، بأن جعلها زوجها أوبرون، ملك الجان، تقع في حب حمار. وتختتم دراستها قائلة:
وإذا كان هذا النص، على نحو ما أقمت عليه الحجة، يعالج العلاقات بين الجنسين معالجة «محافظة»، فإن ذلك يصدق على معالجته لقضية الطبقات الاجتماعية. وإذا كانت النساء المتمردات والرجال المخنثون من مصادر القلق التي تحتاج إلى تصويب وتصحيح، فهذا ينطبق كذلك على محدثي النعمة المتطلعين إلى «العلا». وانظر إلى مالفوليو الذي يحاول تجاوز حدود طبقته فيرتدي جوربا أصفر ورباط ساق صليبيا! انظر كيف يعاقب عقابا وحشيا مهينا، وذلك يرجع أصداء العقاب الفكاهي الذي تتعرض له أوليفيا (ص439).
وليس من قبيل المبالغة أن أقول إن الدراسات الكثيرة المكتوبة من وجهة نظر النقد النسائي لا تتجاوز محور كمبره (ومن بعده بلسي) ومحور هوارد، سواء في هذه الدراسة الموجزة أم في كتابها الموسع وعنوانه المسرح والصراع الاجتماعي في أوائل العصر الحديث في إنجلترا، الصادر عام 1994م، والذي تكرر فيه ما قالته هنا مع الإفاضة في ضرب الأمثلة من هذه المسرحية ومن مسرحيات أخرى:
Jean E. Howard, The Stage and Social Struggle in Early Modern England, 1994.
وكان قد سبقها في هذا المضمار كتاب يركز تركيزا أقل على هذه المسرحية في عام 1983م، وهو الذي تجمع فيه ليزا جاردين بين وجهة نظر كمبرة ووجهة نظر هاوارد، وإن لم تول المسألة الطبقية الأهمية التي توليها إياها هاوارد، وعنوان الكتاب:
Lisa Jardine, Still Harping on Daughters: Women and Drama in the Age of Shakespeare, 1983.
وأما أعلى أصوات النقد النسائي فنسمعها في دراستين نشرتا في كتاب يجمع دراسات جديدة عن «الليلة الثانية عشرة»، وصدر عام 1996م بعنوان:
R. S. White, New Casebooks: Twelfth Night, 1996
والدراسة الأولى تتحدث عن قضية المرأة وما يسمى بالحراك الاجتماعي، فتعيد ذكر ما ذكرته هوارد بتفصيلات أكبر وأمثلة أكثر، بقلم كريستينا مالكومسون (
Cristina Malcolmson ) وعنوانها: “What you will”: social mobility and gender in Twelfth Night, pp. 160-193.
والثانية تتحدث عن رمزية المظهر الخارجي ودلالته في المسرحية، وتربط بين تنكر فيولا وبين حقيقة تمتع الرجل ب «السلطة» في المجتمع في عصر شيكسبير، فهي تتفق إلى حد كبير أيضا مع هوارد، وهي بقلم ديمينا كالاهان وعنوانها:
Dympna Callaghan, “And all is semblative a woman’s part: body politics and Twelfth Night”, pp. 129-159. (8) تطور النظرة النقدية
لم يكن القرن السابع عشر؛ أي القرن الذي قدمت فيه المسرحية أول مرة، يعرف النقد الأدبي بمعناه الحديث، ولم يبدأ النقد الحقيقي إلا في أواخر ذلك القرن على يدي جون درايدن (
John Dryden ) الذي يعتبر «أبا النقد الأدبي الإنجليزي» (انظر «درايدن والشعر المسرحي» - مجدي وهبة ومحمد عناني، الطبعة الثالثة 1994م)، وكان كما هو معروف كلاسيكيا، يؤمن ب «الأصول» والقواعد، فأرسى بذلك بعض التقاليد التي سادت القرن الثامن عشر كله، فأثرت في تعليقات ناشري أعمال شيكسبير كلهم، وبلا استثناء تقريبا. وبلغ هذا الاتجاه أوجه في طبعة الدكتور صمويل جونسون لهذه الأعمال عام 1765م، وقال ما قاله عن المسرحية على نحو ما أشرت إليه في القسم الرابع من هذه المقدمة. ولكن جونسون، رغم اعتراضه على بعض مظاهر المسرحية، كان معجبا بفن الكوميديا عن شيكسبير؛ ولذلك أحببت أن أقدم للقارئ العربي بعض ما قاله في هذا الصدد، مقتبسا إياه من مقدمته للطبعة نفسها. يقول جونسون:
بدأ شيكسبير يكتب الشعر المسرحي وقد فتحت الدنيا أبوابها أمامه، فلم تكن قواعد القدماء معروفة إلا لقلة قليلة، ولم تكن الأحكام النقدية قد تشكلت بعد لدى الجمهور ، ولم يسبقه مثال بلغ من الشهرة حدا ربما أرغمه على محاكاته، ولم يزامنه نقاد بلغوا من رسوخ القدم ما قد يكبح جماحه، ومن ثم فقد أطلق لميوله الفطرية العنان، ودفعه طبعه إلى الكوميديا ... ففي المأساة يكتب كتابة يوحي مظهرها بالجهد والدرس العميق، وإن كانت في نهاية الأمر لا تبلغ الجودة المتوقعة. وأما في مشاهده الكوميدية فيبدو أنه يكتب لنا دون جهد كتابة رائعة لا تحتاج إلى جهد يزيدها حسنا. وحين يكتب المأساة يجتهد دائما محاولا إيجاد فرصة لإثارة الفكاهة، وأما في الكوميديا؛ فإنه على ما يبدو، هادئ النفس، بل ويستمتع بما يكتب، باعتبارها القالب الفكري الملائم لطبيعته. وإذا تأملنا مشاهده المأسوية، وجدنا أنها تفتقر دائما إلى شيء ما، ولكن ملهاواته دائما ما تتجاوز ما نتوقعه أو ننشده. ومصدر المتعة في الملهاة الفكر واللغة، ومصدرها في المأساة الحادثة والفعل. ويبدو لي أن الكتابة المأساوية لديه مهارة مكتسبة، والكتابة الملهوية لديه مهارة فطرية.
ولم تتعرض قوة مشاهده الملهوية لما ينتقص من قدرها على مدى قرن ونصف من التغيير في أنماط السلوك ودلالة الألفاظ، فما دامت أفعال شخصياته تستند إلى مبادئ نابعة من مشاعر صادقة أصيلة لا تكاد تتغير إطلاقا بتغير الأشكال المكتسبة، فإنها تنجح في «توصيل» مسراتها وضروب استيائها إلى الناس في كل زمان ومكان؛ أي إنها طبيعية؛ ولذلك فهي ثابتة دائما. أما الخصائص العارضة للعادات الشخصية فهي أصباغ سطحية، قد تكون براقة ومبهجة لفترة محدودة، ولكنها سرعان ما تخبو لمعتها فتصبح شاحبة معتمة، بعد أن فقدت تلألؤها القديم. ولكن ضروب التمييز بين المشاعر الصادقة تمثل ألوان الطبيعة، وهي متغلغلة في ثنايا الكيان كله، ولا يمكن أن تفنى إلا بفناء الجسد الذي ينم عليها. وهذا يعني أن التراكيب العارضة لحالات نفسية غير متجانسة تتشكل مصادفة في مناسبة ما، وتزول بزوال هذه المناسبة، ولكن البساطة المتسقة للصفات الأولية لا تسمح بزيادة أو تتعرض لنقصان. فقد يهيل نهر ما بعض الرمال على صخرة ما، فيزيل الرمال اندفاع مياه نهر آخر، ولكن الصخرة تظل ثابتة دوما. وهكذا فإن نهر الزمن الذي يتدفق فيذهب في كل وقت بالصناعة الرثة للشعراء الآخرين، يمر دون أن ينال من صخرة شيكسبير. (من طبعة فيرنيس
Furness
للمسرحية عام 1901م، ص378)
والواضح أنني ما كنت لأقتبس هاتين الفقرتين الطويلتين إلا بسبب تأثيرهما في الكثيرين ممن جاءوا بعده وخصوصا في القرن الثامن عشر، ولم يبدأ التغير في النظرة إلى المسرحية إلا في القرن التاسع عشر بظهور الحركة الرومانسية التي كانت عموما أقل احتفاء «بالقواعد» (التي يشير إليها جونسون هنا) من أرباب الكلاسيكية، وكان الشعراء الرومانسيون يفضلون المأساوات على الملهاوات، بل وحاول بعضهم محاكاتها، ومع ذلك فنحن نجد أن شليجيل (
Schlegel ) الشاعر والناقد الألماني (1767-1845م) يصف كيف تلتحم في المسرحية ما يسميه جونسون «الأجزاء الجادة» بالمشاهد الهازلة التحاما وثيقا بسبب وحدة «الموضوع» وهو خطبة أوليفيا، والواضح من قراءة محاضرة شليجيل (التي ترجمت إلى الإنجليزية عام 1815م، ويوردها فيرنيس في طبعته المشار إليها للمسرحية) أنه كان أول من أدرك ذلك الالتحام بين «جانبي» المسرحية، وإن كان تعبيره يشبه الرصد العلمي للحقائق (المرجع السابق، والصفحات 378 وما بعدها). وبعد نحو نصف قرن بدأ ما يشبه الرد على جونسون (انظر الجزء المقتطف من تعليقه على هذه المسرحية والوارد في ص20 من هذه المقدمة)؛ إذ قال كريسيج (
Kreyssig ) في عام 1862م إن المسرحية تعلمنا حقا درسا مفيدا لأنها «تصور الحب العميق الصادق عند ذوي الطبع السليم»، وهي الصورة التي تمثل اللحن الأساسي الذي يشنف آذاننا من خلف نشاز «الحماقة المتوددة أو التودد الأحمق» عند البعض، من سير أندرو إلى أورسينو وأوليفيا (المرجع نفسه ص381).
ومن الغريب أن نجد بين نقاد هذه الفترة من تنبه إلى «علة» أورسينو، مثل ج. ج. جيرفينوس (
G. G. Gervinus ) الذي كتب في عام 1850م يقول إن أورسينو «يحب الحب أكثر من حب أوليفيا»، فكان بذلك أول من لفت الأنظار إلى نرجسيته المضمرة، وإن لم يصرح بالمصطلح الذي أصبح لا يغيب اليوم عن أقلام النقاد، خصوصا بعد أن رسخه النقد النسوي (المرجع نفسه ص379). ولنا أن نتوقف هنا بعض الشيء عند النقاد الآخرين الذين رأوا في ذلك العصر (عصر الشك في الغيب والانبهار بداروين) أن المسرحية تدين بجمالها لطابعها الدنيوي المحض، وقدرتها على تصوير متع الدنيا الطليقة، مثل الكاتب الفرنسي أ. مونتيجي
E. Montégut (1867م) الذي ركز على عنصر التنكر، والاحتفالية، و«التشقلب»، والغموض، وأعلن معارضته لدعاة الأخلاق والدروس. فلقد كتب يقول إن «الفلسفة» الوحيدة في المسرحية هي «أننا جميعا مجانين، ولو بدرجات متفاوتة»؛ فنحن عبيد إما لبعض عيوبنا وحماقاتنا الخاصة، أو لأحلامنا وآمالنا؛ «فبعضنا يتمتع بجنون شاعري جميل، والبعض لديه جنون مضحك تافه»، والذين يحققون أحلامهم لا يحققونها برزانة عقولهم، ولكن لأن أحلامهم تقبلها الطبيعة؛ لأنها أحلام بديعة وشاعرية وجميلة (المرجع نفسه 382-384) فكأنما كان مونتيجي قد أحب ما كرهه صمويل جونسون.
وأما في القرن العشرين فقد بدأ الاتجاه الحديث إلى إدراك طابع الشجن فيها، وربما كان الناقد كويلر-كوتش (
A. T. Quiller - Couch ) هو الذي استهل هذا الاتجاه عام 1930م في مقدمته لطبعة المسرحية؛ إذ قال إنها تمثل «وداع شيكسبير للكوميديا» (ص11). وتلاه جون ميدلتون مري (
J. Middleton Murry ) عام 1936 الذي قال إن بها نغمة «فضية» خافتة من الحزن (في كتابه «شيكسبير» ص225) مثلما قال ت. م. باروت (
T. M.
) عام 1949م «إنها تكاد تكون ذات طابع مأسوي» (في كتابه «الكوميديا الشيكسبيرية» ص187).
ولا بد أن نلاحظ إذا أنعمنا النظر في اتجاهات النقد «التفصيلي» في النصف الأول من القرن العشرين كيف برز المهرج فسته لأول مرة في هذا الإطار التراجيدي. ويبدو أن «روح» تلك الفترة قد استجابت لكونه هرما فاشلا يعيش على التلاعب بالألفاظ ويغني الأغاني الحزينة؛ إذ إن أ. س. برادلي كتب عام 1916م دراسة كاملة يبدي فيها تعاطفه معه وإعجابه به بعنوان «فسته المضحك» (
Feste the Jester ) في كتاب عنوانه «تكريم لشيكسبير»
A Book of Homage to Shakespeare (وأعيد نشر الدراسة مرتين؛ الأولى في 1929م، والثانية عام 1972م في كتاب عنوانه (
Twelfth Night: A Casebook ) من تحرير د. ج. بامر (
D. J. Palmer ) وهو الذي رجعت إليها فيه). كما يقارن ميدلتون مري، في كتابه المشار إليه (ص228)، وقوف المهرج وحيدا على المسرح في آخر المسرحية بالخادم الهرم «فيرس» في مسرحية «بستان الكرز» للكاتب الروسي تشيخوف مقتبسا في وصفه العبارة التي يصف به آدم في مسرحية «كما تحب» الإحساس بالوحشة في آخر العمر عندما ينفض الناس عن رجل فاشل بلغ من العمر أرذله، وهي و«الشيخ تخلى عنه الناس فألقوه بركن منبوذا» (2 / 3 / 42)، وتأثير هذا التفسير لا يزال قائما لدى الكثيرين الذين يذكرون أغنية المهرج الحزينة (أقبل يا موت الآن وأدركني) (2 / 4 / 51) عندما يستمعون إلى أغنيته الأخيرة، ويقول ت. و. كريك (
Craik ) في مقدمته لطبعة آردن الأخيرة إنه يجد صعوبة في تذكر دور المهرج عندما يتنكر في دور الكاهن توباس، بسبب غلبة المسحة الحزينة التي كست هذه الشخصية بسبب هؤلاء النقاد (ص53).
وقد نشأ في القرن العشرين رأي يمثل أقصى ما وصلت إليه هذه النظرة الحديثة؛ ألا وهو الرأي الذي لا يكتفي باعتبار المسرحية «وداع» شيكسبير للكوميديا، بل يجد فيها رفضا حقيقيا للمرح والرومانس، وهو الذي بدأ في النصف الثاني من القرن على يدي و. ه. أودن (
W. H. Auden ) في مقال له نشر في مجلة إنكاونتر (
Encounter ) عام 1957م (وأعيد نشره في كتاب صدر عام 1962م هو
The Dyer’s Hand
ص520) ويان كوت (
Jan Kott ) في كتابه «شيكسبير: معاصرنا» (1965م) (الطبعة المنقحة 1967م ص229). يقول أودن بصراحة ووضوح: «لم يكن مزاج شيكسبير يميل في تلك الفترة إلى الكوميديا، بل إلى النفور البيوريتاني من جميع تلك الأوهام الممتعة التي يعتز بها الناس ويعيشون عليها.» ومعنى ذلك أنه يصور اللهو الذي يقدمه المعربدون مثلما يصور أوهام الحب الرومانسية تصويرا مبالغا فيه حتى يدفع الناس إلى النفور منها، لا إلى قبولها مهما يكن استمتاعهم بها على خشبة المسرح، وهو ما يقوله كوت تقريبا؛ إذ يؤكد أن المسرحية «بكل مظاهر المرح فيها، ليست سوى كوميديا بالغة المرارة تدور حول حياة الترف والمتعة في العصر الإليزابيثي، أو حول المتعة والترف، على أية حال، على جميع المستويات وفي كل جناح من أجنحة قصر ساوثهامتون.»
وقد سبق لي الإلماح إلى التيار النقدي المعاصر الذي يؤكد «وحدة» المسرحية بحبكتيها، والتماسك الذي تتميز به الكوميدية الشيكسبيرية عموما، ولا داعي إذن للإفاضة في ذلك. كما سبق لي إيضاح ما يسمى المدخل «المعنوي» أو «النفسي»، وهو الذي يتعلق بخداع النفس الذي تمارسه بعض الشخصيات الرئيسية والثانوية، والتساؤل عما إذا كانت هذه الشخصيات قد تمكنت من معرفة ذواتها آخر الأمر أم لا. ويجدر أن أذكر من بين أبرز من ركزوا على وحدة المسرحية الناقدة ج. ويلسون نايت (
G. Wilson Knight ) في كتابه «العاصفة الشيكسبيرية» (ص126)، ومن بين الذين ركزوا على خداع النفس ومعرفة الذات ج. ه. سمرز (
G. H. Summers ) عام 1955م، الذي نشرت دراسته فيما بعد في كتاب من تحرير ل. ف. دين (
Dean ) عام 1961م بعنوان «شيكسبير: مقالات حديثة في النقد». كما سبق لي أن تحدثت عن تعريف فراي للكوميديا واعتباره المسرحية لونا من «انتصار الحياة»، وأضيف هنا قوله إن الكوميديا الشيكسبيرية تعبر عن هذا الانتصار بنقل الحدث «من الدنيا المعتادة «السوية» إلى الدنيا «الخضراء» ثم إعادته إلى موقعه الأول»، ويقصد بالدنيا «الخضراء» صورة أو رسما مثاليا للحياة، وقد يكون غابة، إذا كان بالمسرحية غابة، فإذا لم يكن بالمسرحية غابة كانت الخضرة «استعارية» أو رمزية، مثل بورشيا وضيعتها في بلمونت (في مسرحية «تاجر البندقية»)، وهكذا فإن «الليلة الثانية عشرة» «تقدم لنا مجتمعا احتفاليا يمثل دنيا دائمة الخضرة، لا مجرد خضراء» (من دراسة بعنوان «الحجة على أهمية الكوميديا» عام 1949م).
ولكن فراي عاد في الكتاب الذي أشرنا إليه آنفا وصدر عام 1965م فقال إن الأهمية الرمزية لا تكمن في المجتمع الاحتفالي بل في البحر الذي تخرج منه فيولا وسباستيان، وهو يتفق بذلك مع ج. ويلسون نايت الذي يؤكد أنهما يخرجان من البحر باعتبارهما كائنين غريبين غامضين، وإذا بهما يعيدان المجتمع إلى الحياة الحقة.
ولكن ذلك لا يعني أن القرن العشرين قد تخلى تماما عن النظرة التقليدية للمسرحية باعتبارها من ملاهي شيكسبير السعيدة، على نحو ما وصفها جون دوفر ويلسون (1962م)، وكما أوردت في وصفي لها في القسم الثاني من المقدمة. فالواقع أن معظم قراء المسرحية ومشاهديها سوف يوافقونه ويوافقونني على ذلك، مهما تعددت وجهات النظر المعارضة. كما تميز القرن العشرون بإبداء اهتمام بالغ بفن الصنعة الدرامية عند شيكسبير، وخصوصا التورية الدرامية الساخرة، وهي التي يوليها برتراند إيفانز اهتماما بالغا في كتابه عن كوميديات شيكسبير، كما سار على الدرب نفسه اثنان من أعظم نقاد شيكسبير هما: ل. ج. سالينجر (
L. G. Salinger ) وهارولد جنكنز (
Harold Jenkins ).
ولا أظن أنني بحاجة إلى أن أزيد من ذكر الآراء التي تدور في الأفلاك نفسها، فلقد اقتصرت على أهم النقاد وأبعدهم تأثيرا، وأعتقد أن الصورة الآن قد اكتملت، ولن يفيد القارئ العربي المزيد من الإطالة، فإذا صادف إشارة إلى شيء خارج نطاق ثقافتنا العربية المعاصرة، وربما يكون مستقى من الحياة في عصر شيكسبير، فله أن يرجع إلى الحواشي التي أورد فيها شرح ما قد يلتبس فهمه بسبب ذلك، وإن كنت قد بذلت جهدا كبيرا في جعل النص قائما بذاته شارحا لنفسه.
الليلة الثانية عشرة
شخصيات المسرحية
أورسينو
1
Orsino :
دوق إلليريا.
فالنتاين
Valentine
وكيوريو
Curio :
اثنان من السادة من أتباع الدوق.
الضابط 1
First Officer :
من العاملين في شرطة الدوق.
الضابط 2
Second Officer :
من العاملين في شرطة الدوق.
فيولا
Viola :
تتنكر فيما بعد باسم سيزاريو.
سباستيان
Sebastian :
شقيقها التوءم.
ربان
Captain :
قائد السفينة الغارقة، وصديق فيولا.
أنطونيو
Antonio :
ربان بحري آخر، صديق سباستيان.
أوليفيا
Olivia :
كونتيسة.
ماريا
Maria :
وصيفة أوليفيا.
سير توبي بلش
2
Sir Toby Belch :
قريب أوليفيا.
سير أندرو إجيوتشيك
3
Sir Andrew Aguecheek :
رفيق سير توبي.
مالفوليو
4
Malvolio :
حاجب لدى أوليفيا.
فابيان
5
Fabian :
موظف في منزل أوليفيا.
المهرج (فيسته)
6
Clown (Feste) :
مضحك لدى أوليفيا.
خادم أوليفيا .
كاهن .
موسيقيون، لوردات، بحارة، أتباع .
المكان:
7
إلليريا، ودولة أخرى على مسافة منها، على ساحل البحر الأدرياتيكي.
الفصل الأول
المشهد الأول (موسيقى. يدخل أورسينو، دوق إلليريا، وبصحبته كيوريو ولوردات آخرون.)
1
الدوق :
إن كانت الأنغام قوتا للغرام فاعزفوا ثم اعزفوا
كي تتخموا شهيتي فربما تعتل من تخمة،
وربما تموت! فلتعيدوا ذلك اللحن علي!
2
إنه قد ذاب في آخره رقة!
3
وانساب في أذني .. كأنه صوت جميل
4
مرت الأنفاس فيه فوق أزهار البنفسج،
فانسل يسترق الخطى وينشر الشذا! كفى! توقفوا!
فلم يعد عذبا كما كان!
أواه يا روح الغرام ما أشد قوتك .. ونهمك!
5
وما أشد قدرتك .. على ابتلاع كل شيء 10
مثل لجة المحيط!
6
فكل ما يغوص فيه - مهما علا قدرا فلامس الذرا
7 -
ينحط فورا ثم يغدو سعره زهيدا!
ما أكثر الصور التي يوحي بها ذلك الغرام؛
إذ لا يموج غيره بمثل هذه الأوهام!
8
15
كيوريو :
مولاي هل تصيد اليوم؟
الدوق :
أصيد ماذا يا كيوريو؟
كيوريو :
الظبي
9
يا مولاي!
الدوق :
أصيده بقلبي الذي أراه أشرف الأعضاء!
أواه عندما رأت عيناي أوليفيا لأول مرة
أحسست أنها تطهر الهواء من أدرانه، 20
وعندها استحلت ظبيا واستحالت الأشواق سربا
من كلاب الصيد ذات رهبة وقسوة،
ولم يزل طرادها للآن لي! (يدخل فالنتاين.)
ماذا وراءك؟ ماذا حملت من أنبائها؟
فالنتاين :
مولاي، عفوا إنني منعت من رؤيتها،
لكنني حملت من وصيفة بالباب هذه الإجابة: 25
لن تكشف الحسناء حتى للسماء
10
عن محياها
إلا إذا مرت بها سبعة أصياف؛
11
إذ تنتوي إبقاء ذلك النقاب في مسيرها كأنها راهبة
12
كيما تروي مرة في اليوم أرض الغرفة
بملح قطر يجرح العينين .. كي تحفظ الذكرى 30
لذلك الأخ الذي قضى .. ذكرى حبيب
لا تريد أن تزول بل تظل حية وناضرة
ودائما شجية في الذاكرة.
الدوق :
إن كان عندها من رقة الفؤاد ما يجعلها
تبالغ السداد في دين من الحب الذي تكنه لذلك الشقيق،
فكيف يغدو حبها إذا أصاب قلبها سهم الغرام المترف الذهبي
13
35
كي يقتل المشاعر الأخرى
14
التي تدف عندها جميعا؟
أي إن تربع المليك نفسه على عروش ملكها الثلاثة؛
عرش الفؤاد ثم عرش العقل فالكبد!
15
وصار مالكا لكل أوجه الكمال عندها؟
فلتمض قبلي نحو رفات من الزهر الجميل، 40
فخاطرات الحب تزهو اليوم في ظل الخميل.
16 (يخرجون.)
المشهد الثاني (تدخل فيولا، مع ربان سفينة، وبعض البحارة.)
17
فيولا :
يا أصحاب .. في أي بلاد نحن الآن؟
الربان :
هذي إلليريا يا مولاتي.
18
فيولا :
ماذا أفعل في إلليريا
وأخي في جنات الخلد؟
19
ولعل أخي لم يغرق .. ما رأيكم يا بحارة؟ 5
الربان :
لولا المصادفة .. لما نجوت أنت نفسك.
فيولا :
وا أسفا لأخي المسكين! فلعل مصادفة أنجته كذلك!
الربان :
هذا حق يا مولاتي .. ولسوف أعزيك بذكر مصادفة أخرى،
فلتثقي في قولي .. حين انشق مركبنا نصفين ..
حين تشبثتم، أنت وبعض الناجين على قلتهم، 10
بالقارب حيث ركبنا ومضى تدفعه الريح،
شاهدت أخاك وقد أبدى في وقت الخطر رباطة جأش وحصافة؛
إذ ربط رباطا أوثقه بالسارية الطافية على وجه الماء (درس كان تعلمه من وحي شجاعته والأمل الدافق في قلبه)؛
فالسارية قوية! وهنالك كان كمثل الموسيقي البارع أريون؛
20
15
إذ وثب على ظهر الدولفين! ولقد شاهدت أخاك
وقد أبدى معرفة بالأمواج .. حتى غابت صورته عن عيني.
فيولا :
خذ هذا الذهب مكافأة لكلامك،
ونجاتي تحيي أملي في أن ينجو،
ويؤكده ما صرحت الآن به. هل تعرف هذا البلد إذن؟ 20
الربان :
بل خير معرفة .. فقد ولدت ها هنا ونشأت ..
في بلدة على مسافة ليست تزيد عن ثلاث ساعات سفر.
فيولا :
من الذي يحكمه؟
الربان :
دوق نبيل .. اسما وطبعا! 25
فيولا :
وما اسمه؟
الربان :
أورسينو!
فيولا :
أورسينو! سمعت والدي يذكره،
وكان عندها عزبا.
الربان :
ولا يزال .. أو كان من عهد قريب؛ 30
فمنذ شهر واحد وحسب .. غادرت ذلك المكان
وكان قد أشيع عندها (وأنت تعلمين أن أفعال الكبار
تصير مضغة في بعض أفواه الصغار)،
أقول قد أشيع أنه يريد أن يحظى بقلب أوليفيا الجميلة.
فيولا :
ومن هيه؟ 35
الربان :
ذي فتاة فاضلة .. وبنت كونت مات من سنة ..
وكان يرعاها شقيقها الذي سرعان ما توفي،
وقيل إنها من فرط حبها له غدت تعاف صحبة الرجال، 40
بل رؤية الرجال.
فيولا :
يا ليتني أكون من وصيفات الفتاة،
بحيث أخفي ما أنا عليه من مكانة عن الدنيا
حتى تحين الفرصة المناسبة.
الربان :
ذاك عسير يا مولاتي! إذ لن تقبل طلبا من أي أحد 45
حتى من لدن الدوق!
فيولا :
أخلاقك يا ربان حميدة،
وإذا كان الطبع كثيرا ما يخفي الخبث بمظهر حسن،
فأنا واثقة أن الفكر لديك
يوافق ما تبديه من الأخلاق الحسنة. 50
أرجوك إذن (وسأجزل فيض عطائي لك)
أن تخفي أمري وتساعدني أن أتنكر
كي أتخذ الشكل اللازم لنوال مرادي.
أبغي أن ألتحق بخدمة هذا الدوق. 55
قدمني من ثم إليه
وكأني كنت خصيا
21
ذا صوت حاد النبرات،
ولسوف تكافأ قطعا .. فأنا أحذق كل غناء .. وسأطربه
بكثير من ألوان الألحان المختارة؛
كي يدرك أني من أجدر من قام على خدمته.
أما ما قد تأتي الأيام به فأنا أتركه للزمن، 60
ورجائي الأوحد أن تلتزم الصمت إزاء تحايلي الفطن.
الربان :
فلتصبحي الخصي في خدمته .. وسوف أغدو التابع الأخرس،
22
ولتفقد الإبصار عيني إن أراد ذلك اللسان أن يهمس.
فيولا :
شكرا لك. خذني الآن إليه. (يخرجون.)
المشهد الثالث (يدخل سير توبي بلش وماريا.)
23
سير توبي :
ما الذي تعنيه بنت أخي
24
بذلك الحزن الشديد على وفاة أخيها؟
لا شك عندي أن الهم عدو للحياة.
ماريا :
بالحق يا سير توبي! لا بد أن تبكر قليلا ولا تأتي في هذا الوقت
المتأخر من الليل، فإن قريبتك - مولاتي - تعترض اعتراضا 5
شديدا على هذه المواعيد السقيمة.
سير توبي :
لا اعتراض على ما سبق الاعتراض عليه!
25
ماريا :
نعم ولكن لا بد أن تلتزم بحدود اللياقة وتكتسي رداء الذوق!
سير توبي :
أكتسي؟
26
لن أكتسي أردية أجمل مما أكتسيه الآن؛ فهذه الملابس
لائقة للشراب، وكذلك هذا الحذاء. فإن لم يكن فليشنق الحذاء 10
نفسه في رباطه!
ماريا :
هذا الشراب والسكر سوف يقضي عليك، وقد سمعت مولاتي
تشير إلى ذلك بالأمس. وسمعتها تتحدث عن فارس أحمق
أحضرته ذات ليلة حتى يخطبها لنفسه. 15
سير توبي :
من؟ سير أندرو إجيوتشيك؟
ماريا :
نعم، هو.
سير توبي :
إنه من أشجع الرجال في إلليريا كلها. 20
ماريا :
وما شأن ذلك بالموضوع؟
سير توبي :
إن دخله ثلاثة آلاف دينار في السنة.
ماريا :
لن ينقضي العام حتى يقضي على رأسماله كله. إنه أحمق فعلا
ومسرف.
سير توبي :
تبا لك على هذا القول! إنه يعزف الفيولنشلو، ويتكلم ثلاث 25
لغات أو أربع .. كلمة كلمة ودون كتاب
27 .. وقد منحته الطبيعة
كل مواهبها الحسنة!
ماريا :
كل المواهب حقا ..
28
ومنها موهبة البلاهة! فإلى جانب حمقه، تجده
مولعا بالشجار، ولولا موهبة الجبن التي تخفف من مذاقه للشجار،
لوهبته الطبيعة بسرعة هبة أخرى - وهي القبر - في رأي 30
الحكماء.
سير توبي :
أقسم
29
إنهم أوغاد وناقمون .. أي من ينتقصون أي شيء فيه . من
هؤلاء؟ 35
ماريا :
الذين يضيفون أنه يسكر كل ليلة في صحبتك.
سير توبي :
نشرب أنخاب ابنة أخي! ولسوف أشرب نخبها ما دام في حلقي
فتحة، وما دام في إلليريا شراب! من لا يشرب نخب ابنة أخي
حتى يدور عقله حول أصبع قدمه مثل النحلة الدوارة
30
جبان حقير! 40
هيا يا فتاة! علينا بالخمر المعتقة!
31
فها قد أتى السير أندرو
إجيوتشيك. (يدخل السير أندرو إجيوتشيك.)
سير أندرو :
سير توبي بلش! كيف حالك يا سير توبي بلش؟
سير توبي :
سير أندرو الرقيق! 45
سير أندرو :
مرحبا يا فأرتي الجميلة!
32
ماريا :
مرحبا بك يا سيدي.
سير توبي :
داعب
33
يا سير أندرو داعب.
سير أندرو :
ماذا تقصد؟
سير توبي :
وصيفة ابنة أخي. 50
سير أندرو :
الآنسة كاعب
34
الكريمة .. أريد أن أتعرف بك .
ماريا :
اسمي ماري يا سيدي.
سيد أندرو :
الآنسة ماري كاعب الكريمة ...
سير توبي :
لقد أخطأت يا فارس. داعب لا كاعب. والمعنى أن تغازلها، 55
تلاطفها، تخطب ودها، تقتحمها.
سير أندرو :
أقسم إني لا أستطيع اقتحامها أمام النظارة. هل هذا معنى داعب؟
ماريا :
وداعا لكمها أيها السيدان.
سير توبي :
لو تركتها ترحل هكذا يا سير أندرو فليتك تعجز عن سل سيفك
مرة أخرى! 60
سير أندرو :
إذا رحلت هكذا يا آنسة .. فليتني أعجز عن سل سيفي مرة
أخرى. يا سيدتي الجميلة .. هل تظنين أن بين يديك حمقى؟
ماريا :
سيدي .. لست بين يدي أو في يدي! 65
سير أندرو :
أقسم إنك سوف تنالين يدي .. وهذه يدي ممدودة إليك! (يمد يده إليها.)
ماريا (تصافحه) :
اسمع يا سيدي! أنا حرة في تفكيري. أرجوك مد يدك
إلى قبو النبيذ ودعها تشرب!
سير أندرو :
لماذا يا حبيبتي؟ أين استعارتك؟ 70
ماريا :
إنها جافة
35
يا سيدي.
سير أندرو :
حقا أعتقد كذلك. لست بهذا الغباء ولكني أستطيع أن أحافظ
على جفاف يدي. ولكن ما فكاهتك؟
36
ماريا :
فكاهة جافة يا سيدي. 75
سير أندرو :
هل امتلأت
37
بهذه الفكاهات؟
ماريا :
نعم يا سيدي .. حتى لقد فاضت من أطراف أصابعي .. والآن
إذا تركت يدك .. أصبحت عقيما. (تخرج ماريا.)
سير توبي :
أيها الفارس! أنت في حاجة إلى كأس من النبيذ .. متى رأيتك
مهزوما
38
إلى هذا الحد؟ 80
سير أندرو :
لم ترني من قبل قط .. على ما أعتقد .. إلا إذا كنت شاهدت
النبيذ يهزمني.
39
أتصور أحيانا أنني لا أتمتع بذكاء يزيد عن ذكاء
المسيحي
40
أو الرجل العادي. ولكنني آكل الكثير من لحم البقر،
وأعتقد أنه يضر بذكائي.
41
85
سير توبي :
لا شك.
سير أندرو :
لو تصورت ذلك
42
لأقلعت عنه. سأركب غدا عائدا إلى منزلي يا سير توبي.
سير توبي :
بوركوا
43
يا فارسي العزيز؟
سير أندرو :
وما بوركوا؟ افعل أو لا تفعل؟ ليتني قضيت في تعلم اللغات 90
الوقت الذي قضيته في المبارزة والرقص وصيد الدببة. ليتني
تعلمت الفنون وحسب!
سير توبي :
إذن لأصبح شعر رأسك ممتازا!
سير أندرو :
عجبا! وهل دراستها تصلح شعر الرأس؟ 95
سير توبي :
بلا جدال! فأنت ترى أنه لن يتموج بطبيعته!
سير أندرو :
لكنه يناسبني تماما .. ألا ترى ذلك؟
سير توبي :
ممتاز. إنه يتهدل مثل الكتان على المغزل، وأرجو أن أرى ربة
منزل تضع المغزل
44
بين قدميها فتغزل شعرك وتخلصك منه! 100
سير أندرو :
حقا سأعود غدا إلى المنزل يا سير توبي؛ إذ لن يرى ابنة أخيك
أحد، وإذا رآها أحد، فأراهن بنسبة أربعة إلى واحد أنها
سترفضني. كما إن الدوق الذي يقيم بالقرب من هذا المكان
يريدها لنفسه. 105
سير توبي :
لن تقبل الدوق؛ فهي لا تريد أن تتزوج شخصا أرفع منها، أو
أغنى أو أكبر سنا أو أذكى. لقد سمعتها تقسم على ذلك.
لا يزال الأمل قائما يا رجل.
45
سير أندرو :
سأقيم هنا شهرا آخر؛ فأنا شخص ذو مزاج غاية في الغرابة؛ فأنا 110
أستمتع كثيرا بالحفلات التنكرية والحفلات عموما في بعض
الأحيان.
سير توبي :
وهل أنت بارع في هذه التفاهات يا فارس؟
سير أندرو :
مثل أي رجل في إلليريا، أيا كان، ما لم يكن أرفع مكانة مني،
ومع ذلك فأنا لا أداني براعة الخبراء.
46
115
سير توبي :
ما وجه امتيازك في رقصة الجاليارد
47
يا فارس؟
سير أندرو :
الحق أنني أستطيع أن أقفز قفزة الصلصة !
48
سير توبي :
وأنا آتيك بلحم الضأن الذي تلزمه الصلصة!
سير أندرو :
وأظن أنني ماهر في القفزة الخلفية مثل أي رجل في إلليريا. 120
سير توبي :
لماذا تخفي هذه الأمور؟ لماذا تسدل الستار على هذه المواهب؟ هل
تخشى أن يعلوها التراب مثل لوحة السيدة مول؟
49
لماذا لا تذهب
إلى الكنيسة راقصا رقصة الجاليارد، وتعود إلى المنزل راقصا رقصة
العدو السريع؟ لو كنت مكانك لجعلت الخطوات في المشي نفسه 125
قفزات، وحتى لو ذهبت للمرحاض لذهبت أرقص الرقصة
الخماسية! ماذا تعني بهذا الموقف؟ هل علينا أن نخفي فضائلنا في
هذه الدنيا؟ والحق أني أعتقد أن ساقك الرياضية الممتازة قد 130
تشكلت تحت تأثير نجم الجاليارد!
50
سير أندرو :
ساقي قوية، وهي تجيد الأداء كثيرا إذا ارتدت جوربا ملونا بديعا.
هل نقوم بتنظيم بعض الحفلات؟
سير توبي :
وماذا عسانا نفعل سوى ذلك؟ ألم نولد تحت تأثير الثور؟
51
135
سير أندرو :
الثور؟ إنه يحكم الجنبين والقلب.
سير توبي :
لا يا سيدي .. بل الساق والفخذ .. هيا .. دعني أراك تقفز!
برافو! إلى أعلى! ها ها! ممتاز! (يخرجان.)
المشهد الرابع (يدخل فالنتاين وفيولا في ملابس رجل.)
52
فالنتاين :
إذ استمر الدوق في إغداق هذه المكرمات عليك يا سيزاريو،
فالأرجح أن تزدهر أحوالك كثيرا. لم يعرفك إلا من ثلاثة أيام
لكنك غدوت قريبا كل القرب منه.
فيولا :
إنك تخشى أن يتبدل طبعه، أو أن أبدي إهمالا في عملي؛ 5
ولذلك تتشكك في استمرار حبه. هل هو ذو طبع متقلب في إبداء «مكرماته»؟
فالنتاين :
لا يا سيدي. صدقني.
فيولا :
شكرا لك. ها قد أتى الدوق. (يدخل الدوق أورسينو مع كيوريو والحاشية.)
الدوق :
من رأى اليوم سيزاريو؟ أنتم! 10
فيولا :
بل إنني هنا .. في الخدمة يا مولاي.
الدوق (إلى كيوريو والحاشية) :
فليبتعد عني الجميع لحظة واحدة! (إلى فيولا) يا سيزاريو!
لقد أحطت الآن بالأمور كلها .. فقد فتحت الآن لك
كل المغالق .. حتى كتاب روحي الكتوم.
وهكذا يا أيها الغلام الطيب .. وجه إليها خطو أقدامك.
53
15
لا تقبل الرفض الذي تبديه للقاء. بل قف على أبوابها،
وقل لهم بأنك انتويت أن تظل مغروسا هناك،
ولو نما قدماك أثناء انتظارك .. حتى تقابل الفتاة.
فيولا :
لكنه بالحق يا مولاي إن كانت (كما يقال) في الأحزان غارقة،
فلن ترضى بأن تراني أبدا! 20
أورسينو :
أكثر من الضجيج والصخب .. كي لا تعود خاوي الوفاض
حتى ولو تجاوزت حدود الأدب!
54
فيولا :
لنفترض بأنني حادثتها .. مولاي ماذا أقول؟
الدوق :
إذن فأفصح عن غرامي المشبوب للفتاة!
خذها على غرة ..
55
بهجمة من دافق الهوى العميق! 25
وشرح آلامي يليق بك .. وأنت يافع صغير ..
أشد من إتيانه على لسان مرسال وقور طاعن في السن.
فيولا :
بل لا أظن ذاك يا مولاي.
الدوق :
صدق حديثي أيها الفتى المحبوب،
لسوف ينكرون ذلك الشباب الغض فيك إن دعوك رجلا، 30
ليست شفاه من نسميها «ديانا» أكثر احمرارا أو نعومة،
وصوتك الحاد الجميل مثل أصوات العذارى ..
فإنه يسيل رقة! وكل ما لديك من خصال ينتمي للمرأة،
وإنني لواثق من أن طالعك
56 .. لخير ما يؤهلك .. لهذه المهمة! 35
ليصحب الفتى هنا أربعة أو خمسة .. أو يذهب الجميع في صحبته؛
فأجمل الساعات أقضيها إذا اعتزلت الناس!
أما إذا وفقت في المهمة .. فسوف تحيا في ثراء مثل مولاك،
وسوف يغدو ما لديه ملك يمينك.
فيولا :
سأبذل الجهد الجهيد في استمالة الحبيبة 40 (جانبا)، لكنها مهمة عسيرة وشاقة!
مهما تكن تلك التي يريدها زوجة،
فإنني أريد أن أكون زوجته! (يخرج الجميع.)
المشهد الخامس (تدخل ماريا والمهرج.)
57
ماريا :
لا! لا بد أن تقول لي أين كنت ..
58
وإلا لن أفتح فمي بمقدار شعرة
واحدة في التماس الأعذار لك. لسوف تشنقك مولاتي بسبب غيابك
عنها هذه الفترة!
المهرج :
فلتشنقني! من يشنق الشنق الجميل في هذه الدنيا .. لن يخشى أية 5
رايات.
59
ماريا :
أثبت صحة ما تقول.
المهرج :
لن تشهد عيناه إنسانا يخشاه.
ماريا :
إجابة جميلة .. وهزيلة.
60
سأقول لك أين ولد ذلك المثل؛ أي «لا أخشى أية رايات». 10
المهرج :
أين يا ماري الكريمة؟
ماريا :
في الحرب!
61
وقد تواتيك الجرأة لتزعم ذلك في غمار تهريجك.
المهرج :
فليهب الله الحكمة للحكماء ..
62
أما المهرجون فعليهم أن يستخدموا
مواهبهم. 15
ماريا :
سوف تشنق بسبب غيابك الطويل ..
63
أو تطرد من الخدمة. أفلا يماثل
ذلك الشنق في نظرك؟
المهرج :
كم من شنق جميل
64
أنقذ المرء من زواج قبيح، وأما الطرد من الخدمة،
فليساعدني الصيف على احتماله.
65
20
ماريا :
أنت تصر على الكتمان إذن؟
المهرج :
ليس على الكتمان .. ولكنني أعتمد على ذريعتين.
ماريا :
حتى إذا فشلت إحداهما نجحت الأخرى .. وإذا فشلت الاثنتان فكأن
حمالة السراويل قطعت ... وسقطت سراويلك!
66
المهرج :
قول موفق، بالحق، بل بالغ التوفيق! أنت حرة فيما تفعلين. وإذا 25
أقلع سير توبي عن الشراب، فسوف تكونين أنسب زوجة في إلليريا
كلها له.
ماريا :
اسكت أيها الوغد. لا تزد الكلام في هذا الموضوع؛ فها هي ذي
مولاتي قادمة، والأفضل لك أن تستعد بذريعة مقبولة. (تخرج ماريا.) (تدخل الليدي أوليفيا مع مالفوليو وبعض أفراد الحاشية.)
المهرج (جانبا) :
يا أيتها اللماحية .. إن قضت مشيئتك .. ألهميني التوفيق في
67
30
التهريج! فالأذكياء الذين يظنون أنهم «لماحون» كثيرا ما يتضح أنهم
حمقى! وأنا الواثق من افتقاري إليك، قد يرى الناس عندي الحكمة!
إذ ماذا يقول كوينابالوس؟
68 «المهرج اللماح أفضل من اللماح
الأحمق!» بارك الله مولاتي! 35
أوليفيا :
أخرجوا المهرج من هنا!
المهرج :
ألم تسمعوا ما قالته يا أصحاب؟ أخرجوا الليدي من هنا!
أوليفيا :
خسئت! لقد جف نبعك. لن أقبل المزيد منك. كما أنك أصبحت خائنا.
69
المهرج :
هذان عيبان يا مولاتي .. والشراب والمشورة الصائبة تصلحانهما. فإذا 40
سقيت المهرج الذي جف نبعه شرابا، لم يعد يعاني من الجفاف.
ولنطلب من الخائن أن يصلح حاله، فإذا انصلح حاله، لم يعد
خائنا. أما إذا لم ينصلح، فلنطلب من مرقع الثياب إصلاحه؛ فكل
ما نصلحه نرقعه. فالفضيلة التي تأثم يظهر فيها خرق مرقع من
70
45
الخطيئة، والخطيئة التي تنصلح تبدو فيها رقعة الفضيلة. فإذا كانت
هذه الحجة
71
سليمة، وثبت الترقيع في كل شيء، فبها، وإلا كيف
نداوي الحال؟ فمثلما يقال إن المصيبة أصدق ديوث،
72
يقال إن الجمال
زهرة ما تفتأ أن تذوي. لقد طلبت الليدي إخراج المهرج من هنا، 50
وهكذا أقول من جديد: أخرجوها!
أوليفيا :
لقد طلبت منهم إخراجك أنت من هنا!
المهرج :
سوء تفاهم من الطبقة الأولى! مولاتي: لا يصبح الراهب راهبا
بارتداء قلنسوة الرهبان،
73
وهذا يماثل قولي إن رداء عقلي ليس متعدد
الألوان مثل رداء جسدي. يا مولاتي الطيبة، اسمحي لي أن أثبت
أنك مهرجة! 55
أوليفيا :
هل تستطيع ذلك؟
المهرج :
بكل براعة يا مولاتي الكريمة.
أوليفيا :
قدم برهانك.
المهرج :
لا بد لي من استجوابك يا مولاتي. يا فأرة الفضيلة الكريمة ..
74
60
أجيبيني!
أوليفيا :
ما دامت هذه هي التسرية الوحيدة المتاحة .. سوف أقبل براهينك.
المهرج :
مولاتي الكريمة، علام تلبسين ثياب الحداد؟
أوليفيا :
على وفاة أخي أيها المهرج الكريم. 65
المهرج :
أظن أن روحه في النار يا مولاتي.
أوليفيا :
أنا واثقة أن روحه في الجنة يا مهرج.
المهرج :
إنه تهريج أشد يا مولاتي أن تحزني هذا الحزن على روح أخيك،
وهي في الجنة. أخرجوا المهرجة من هنا أيها السادة. 70
أوليفيا :
ما رأيك في هذا المهرج يا مالفوليو؟ ألم يتحسن مستواه؟
مالفوليو :
نعم. وسوف يزداد تهريجا حتى ينتفض جسمه في سكرات الموت؛
فالضعف الذي يجعل الحكماء يذوون، يزيد المهرجين تهريجا. 75
المهرج :
فليصبك الله يا سيدي بضعف عاجل حتى تزداد تهريجا وحمقا!
لسوف يقسم السير توبي على أنني لست ثعلبا ماهرا (مثلك)،
75
ولكنه
لن يراهن بمليمين على أنك لست مهرجا أحمق!
أوليفيا :
ما ردك على هذا يا مالفوليو؟ 80
مالفوليو :
أدهش كيف تستمتع مولاتي بهذا الوغد العقيم. لقد شهدت هزيمته
من عهد قريب على يدي مهرج عادي يعمل في إحدى الحانات،
76
ولا
يزيد عقله على قطعة من الحجر! انظري إليه الآن وقد نفدت كل
ألاعيبه فعلا، فإذا لم تضحكي وتهيئي الفرصة له، فلن يستطيع فتح
فمه. وأزعم أن العقلاء الذين يضحكون ملء أشداقهم على هذا النوع 85
من المهرجين، لا يزيدون عن كونهم مساعدين لهم.
أوليفيا :
أنت مريض بحب ذاتك يا مالفوليو، وتتذوق الأشياء بشهية معتلة.
فالكريم البريء سليم الطوية يرى أن هذه القذائف اللفظية من السهام 90
التي نصيد بها الطيور،
77
وأنت تراها من قنابل المدافع. والمهرج المسموح
له بالسخرية لا يقذف بالباطل،
78
ولو اقتصر على السخرية طول
الوقت، والرجل المشهود له بالحصافة لا يأتي بالبهتان أبدا، حتى لو
اقتصر على اللوم والتأنيب. 95
المهرج :
فليهبك ميركوري رب الغش القدرة على الكذب، ما دمت تناصرين
المهرجين!
79 (تدخل ماريا.)
ماريا :
مولاتي! بالباب سيد شاب يرغب بشدة في محادثتك. 100
أوليفيا :
مرسل من دوق أورسينو؟
ماريا :
لا أعرف يا مولاتي. إنه شاب جميل، ومعه صحبة رفيعة.
أوليفيا :
من من رجالي يمنعه من الدخول؟
ماريا :
سير توبي .. قريبك يا مولاتي. 105
أوليفيا :
مريه أن يتركه ويحضر .. أرجوك؛ فحديثه جنون في جنون.
تبا له! (تخرج ماريا.)
واذهب أنت يا مالفوليو. فإن كان مرسال خطبة من الدوق، فقل
إني مريضة، أو لست في المنزل، أو أي شيء تريد؛ حتى
تصرفه عنا. 110 (يخرج مالفوليو.)
أرأيت يا سيد كيف أصبحت فكاهاتك
80
قديمة، وكيف ينفر منها
الناس؟
المهرج :
لقد دافعت عنا يا مولاتي كأنما سيصبح ابنك الأكبر مهرجا.
وأدعو الرب جوف أن يملأ رأسه بالمخ. ها هو ذا يأتي! قريب لك
ذو مخ بالغ الضعف. 115 (يدخل سير توبي.)
أوليفيا :
أقسم بشرفي .. إنه نصف مخمور. من الذي بالباب يا ابن العم؟
سير توبي :
سيد مهذب.
أوليفيا :
سيد مهذب؟ أي سيد مهذب؟ 120
سير توبي :
سيد مهذب هنا (يتجشأ). لعن الله الرنجة المخللة! ما أحوالك
أيها السكير؟
81
المهرج :
مرحبا بالسير توبي الكريم!
أوليفيا :
يا ابن العم يا ابن العم! كيف أبدلت بالصبوح الغبوق؟
82
125
سير توبي :
الفسوق؟ إنني أتحدى الفسوق. بالباب شخص ينتظر.
83
أوليفيا :
نعم. حقا. فما منزلته؟
سير توبي :
فليكن الشيطان إذا أراد! لست أهتم! وأقول: المهم هو الإيمان!
84
على أي حال، يستوي هذا وذلك! 130 (يخرج السير توبي.)
أوليفيا :
ماذا يشبه السكران يا مهرج؟
المهرج :
يشبه الغريق، والمهرج، والمجنون. فإذا تجاوز «الانبساط»
85
بكأس
واحدة أصبح مهرجا، والكأس التالية تجعله مجنونا، والثالثة تغرقه.
أوليفيا :
اذهب فاستدع محقق الوفيات، ودعه يفحص حالة ابن عمي؛ فقد 135
وصل إلى المرحلة الثالثة من الشراب .. وغرق! اذهب للاعتناء به.
المهرج :
إنه في مرحلة الجنون فقط يا مولاتي، وسوف يقوم المهرج برعاية
المجنون. (يخرج المهرج.) (يدخل مالفوليو.)
مالفوليو :
مولاتي، بالباب شاب يقسم أن يحادثك. قلت له إنك مريضة، فقال 140
إنه يعرف ذلك، وأتى حتى يحادثك لهذا السبب. ثم قلت له إنك
نائمة، فبدا أن لديه علما سابقا بذلك أيضا، وهكذا أتى ليحادثك. 145
ماذا أقول له يا مولاتي؟ إنه محصن ضد أي صد أو رد.
أوليفيا :
قل له لن أسمح له بمحادثتي.
مالفوليو :
قلت له ذلك فقال إنه سوف يقف على بابك مثل العمود المقام أمام
مكتب المأمور، أو مثل الوتد الذي تقام عليه الأريكة؛ حتى تحين له
محادثتك. 150
أوليفيا :
أي نوع من الرجال هو؟
مالفوليو :
عجبا! من البشر!
أوليفيا :
أقصد أي شكل من الرجال؟
مالفوليو :
أخلاقه بالغة السوء؛ يقول إنه سوف يحادثك إن شئت أم أبيت. 155
أوليفيا :
ما شخصيته وما عمره ؟
مالفوليو :
لم يبلغ مبلغ الرجال بعد، وإن كان قد تخطى مرحلة الطفولة، مثل
قرن البسلة الذي لم ينضج، أو التفاحة التي ما زالت خضراء. كأنه
ماء البحر بين المد والجزر،
86
بين الغلام والرجل. وهو بالغ الوسامة، 160
وصوته بالغ الحدة في الكلام، فكأنه ما زال يرضع لبن أمه.
أوليفيا :
اسمح له بالدخول، واستدع وصيفتي. 165
مالفوليو :
أيتها الوصيفة، مولاتك تدعوك. (يخرج مالفوليو.) (تدخل ماريا.)
أوليفيا :
أحضري الآن خماري واجعليه فوق وجهي:
87
من جديد سوف نصغي لرسول من لدن أورسينو. (تدخل فيولا.)
فيولا :
ربة البيت الكريمة، أيكن؟
أوليفيا :
كلمني وأنا أتكلم باسمها.
88
ماذا تبغي؟ 170
فيولا :
يا ذات الجمال الوضاء الخلاب الباهر الذي لا يجارى، أرجوك أن
تخبريني إن كانت هذه ربة البيت؛ إذ لم أشاهدها من قبل، وأكره
أن تذهب كلماتي أدراج الرياح، فإلى جانب الأسلوب الممتاز الذي
كتبت به، فإنني بذلت جهدا كبيرا في استظهارها. فيا أيتها
الجميلات الكريمات، أرجو ألا تستهزئن بي؛ فأنا بالغ الحساسية 175
لأدنى كلمة جارحة.
أوليفيا :
من أين أتيت سيدي؟
فيولا :
لا أكاد أستطيع أن أقول كلاما خارج النص الذي حفظته، وهو
لا يتضمن هذا السؤال. أيتها الرقيقة الكريمة، أريد تأكيدا معقولا بأنك 180
ربة المنزل؛ حتى أواصل إلقاء كلامي.
أوليفيا :
هل أنت ممثل ؟
فيولا :
كلا وبكل إخلاص!
89
ومع ذلك، فإنني أقسم بأنياب أفعى الخبث
90
إنني 185
لست الشخص الذي ألعب دوره. هل أنت ربة المنزل؟
أوليفيا :
إذا لم يكن لي أن أغتصب ذاتي،
91
فأنا هي.
فيولا :
المؤكد قطعا أنك إذا كنت هي، فأنت تغتصبين ذاتك؛ فما يجب
عليك أن تمنحيه يجب عليك ألا تمنعي الدنيا من نواله. ولكنني
أخرج بذلك عن نص مهمتي. سوف أتابع حديثي في امتداحك، ثم 190
أطلعك على قلب رسالتي.
أوليفيا :
انتقل إلى ما هو مهم فيها، وسوف أعفيك من المدح.
فيولا :
وا أسفا! لقد بذلت جهدا كبيرا في استظهاره، وهو شعر. 195
أوليفيا :
والأرجح إذن أن يكون كاذبا. أرجوك لا تنشده. سمعت أنك كنت
سليط اللسان عند بابي، وقد سمحت بمقابلتك بدافع الفضول
والدهشة، لا لأستمع لما تقول. فإن كنت مجنونا فانصرف، وإذا كنت 200
عاقلا فأوجز مقالك. ولست مجنونة حتى أشاركك في حوار خبل.
ماريا :
هل تنشر شراعك يا سيد؟ طريق الرحيل أمامك.
فيولا :
لا يا من تتولى تنظيف السفينة،
92
سيظل شراعي مطويا فترة أطول. 205 (إلى أوليفيا) وأرجو أن تخففي قليلا من حدة صاحبتك الحلوة
العملاقة!
93
فهل أنت على استعداد لسماع رسالتي .. فأنا رسول.
أوليفيا :
لا بد أن لديك رسالة رهيبة تريد الإدلاء بها، ما دمت قد قدمت لها
هذا التقديم الرهيب. هات رسالتك. 210
فيولا :
لن تسمعها سوى أذنيك. لم آت بإعلان حرب، ولا بطلب خضوع،
لكنني أحمل غصن زيتون في يدي، وكلمات يعمرها السلم مثلما
تعمرها المعاني.
أوليفيا :
ولكنك بدأت بسلاطة اللسان، فما أنت وماذا تريد؟ 215
فيولا :
سلاطة اللسان التي بدت مني جاءت ردا على سوء استقبالي، وأما ما
أنا، وما أريد، فهما من الأسرار مثل العفة! مقدسة في أذنيك، ومدنسة
في آذان الآخرين. 220
أوليفيا :
فلتخرجن جميعا. سوف نختلي به لنسمع القداسة! (تخرج ماريا والوصيفات.)
والآن يا سيد، ما نص الرسالة؟
فيولا :
يا أعذب الفتيات ..
أوليفيا :
مذهب يبث العزاء والسلوى، ويمكن الإطالة، فيه لكن أين النص 225
الذي جئت به؟
فيولا :
في صدر أورسينو.
أوليفيا :
في صدره؟ في أي فصل من فصول ذلك الكتاب؟
فيولا :
إذا أجبت بنفس الأسلوب قلت: في الفصل الأول من قلبه. 230
أوليفيا :
قرأت ذلك الفصل، وهو يقوم على الزندقة. هل فرغت من حديثك؟
فيولا :
مولاتي الفاضلة، دعيني أشاهد وجهك.
أوليفيا :
هل كلفك مولاي بأن تتفاوض مع وجهي؟ لقد خرجت الآن على 235
النص، ولكننا سوف نرفع الستار ونريك الصورة (ترفع النقاب).
انظر سيدي! هذه اللوحة تمثلني. ألم يتفوق مبدعها؟
فيولا :
إنها فائقة التصوير إن كان الله قد أبدعها كلها.
94
أوليفيا :
إنها ذات ألوان ثابتة .. لن تمحوها الريح وتقلبات الجو! 240
فيولا :
هذا جمال الامتزاج الحق للألوان في اللوحة
95
إذ خطت الفرشاة في يد الطبيعة الجميلة المبدعة
96
ألوانها الحمراء والبيضاء! قد تصبحين يا فتاتي
أقسى فتاة فوق هذه البسيطة
إذا اصطحبت ذلك الجمال كله إلى الثرى 245
ولم تخلفي في الأرض صورة
97
له بين الورى.
أوليفيا :
لا يا سيدي! لن أكون بهذه القسوة! بل سوف أوزع على الناس قوائم
كثيرة تتضمن وصف جمالي، فسوف أجري له جردا، وأرفق القوائم
التي تتضمن وصفا لكل جزء وأداة بوصيتي في ملحق خاص؛ فمثلا
عندك شفتان قانيتان، عينان عسليتان، ولهما أجفان، ورقبة واحدة، 250
وذقن واحد، وهلم جرا. هل أرسلت إلى هنا لتقدير قيمتي؟
فيولا :
الآن أستطيع أن أرى حقيقتك!
فأنت ذات كبرياء فاقت الحدود،
لكنه حتى إذا كنت الشيطان ..
98
فأنت فاتنة، 255
وسيدي يكن أعمق الغرام لك .. ولا مناص من وصاله
حتى وإن لبست تاجا للجمال لا يبارى!
أوليفيا :
وكيف يبدي الحب لي؟
فيولا :
يبديه في آيات تقديسه .. في أغزر الدموع!
يبديه في أناته التي بالحب تهدر .. وفي تنهداته الملتهبة!
أوليفيا :
مولاك واثق من موقفي فإنني عاجزة عن حبه.
ورغم ذاك قلت إنه لذو فضيلة كما عرفت فيه النبل!
ثراؤه عريض، شبابه ذو نضرة ولم تشبه شائبة،
وصيته يفيض بالثناء والحديث عن سخائه وعلمه وجرءته!
كما عرفت أنه حباه الله بسطة في الجسم فاستوت رشاقته! 265
لكنني لا أستطيع أن أحبه، وكان ينبغي له
قبول هذه الإجابة التي أسوقها من زمن.
فيولا :
لو كنت أكن غراما لك مثل لهيب غرامه
99
وأعاني مثل معاناته .. وأكابد عيشا صنو الموت كمثله
ما كنت لأفهم أي جحود عندك، بل أستنكره أو أنكره! 270
أوليفيا :
عجبا! ماذا كنت ستفعل؟
فيولا :
أبني كوخا من أغصان الصفصاف على بابك،
وأنادي روحي
100
في المنزل!
أكتب بعض أغاني الإخلاص فأبكي الحب المحروم وأنشدها،
وبأعلى صوت حتى في هدأة ساعات الليل، 275
وأردد تسبيحي باسمك حتى ترجعه كل تلال الأرض،
وتشارك ربة أصداء الأجواء
101
ترديد ندائي «أوليفيا»! ماكنت أتيح لك الراحة
ما بين هواء وتراب حتى تبدي الإشفاق علي!
أوليفيا :
أي كنت تفعل الكثير! ما نسبك؟ 280
فيولا :
فوق حظوظي .. لكني ذو منزلة لا بأس بها؛
فأنا من منزلة الأسياد.
أوليفيا :
اذهب إذن إلى مولاك قل له بأنني لا أستطيع أن
أحبه، واطلب إليه أن يكف عن إرسال رسله،
إلا إذا أردت أن تكرر الزيارة .. فربما 285
أردت أن تحيطني علما برد فعله .. وداعا!
شكرا على جهودك. إليك هذا الكيس أنفق ما به! (تعرض عليه مالا.)
فيولا :
مولاتي! لست رسولا مأجورا فاحتفظي بنقودك.
أما من يطلب ترضية فهو رئيسي لا شخصي!
وليجعل رب الحب فؤاد حبيبك حين تحبين من الحجر القاسي،
102
290
وليجعله ينكر نار غرامك إنكارك لغرام رئيسي،
ووداعا يا أجمل، بل أقسى الناس! (تخرج فيولا.)
أوليفيا (تردد لنفسها أقوال فيولا أولا) : «ما نسبك؟ فوق حظوظي! لكني ذو منزلة لا بأس بها؛
فأنا من منزلة الأسياد». أقسم إنك صادق! 295
فلسانك، وجهك، أطرافك، أفعالك، روحك؛
103 -
تشهد مرات خمسا لك بالرفعة! لا! ليس بهذي السرعة!
فلأتمهل! فلأتمهل! إلا لو كان المرسال هو السيد!
104
ماذا أفعل؟ هل يعقل أن تسري عدوى المرض
إلى الإنسان بتلك السرعة؟ إني ليهيأ لي أني أشعر 300
بمحاسن
105
هذا الشاب وقد زحفت تسترق الخطو
وتسكن في عيني بمكر خلسة! فليكن الأمر كذلك!
مالفوليو! أين ذهبت! (يدخل مالفوليو.)
مالفوليو :
موجود يا مولاتي طوع بنانك.
أوليفيا :
اذهب فأدرك المشاكس الذي أرسله الدوق؛
فقد أصر أن أنال ذلك الخاتم .. إن شئت ذاك أم أبيته! 305
أخبره أنني لن أقبله .. وقل له ألا يشجع سيده
على التمادي في الطلب! ألا يطيب خاطره
بخوادع الآمال! فلن أكون من نصيبه!
وإن أتى ذاك الفتى إلى هنا غدا،
فسوف أشرح الأسباب له! أسرع إذن مالفوليو! 310
مالفوليو :
مولاتي لن أتواني! (يخرج مالفوليو.)
أوليفيا :
لا أدري ما أفعل، بل أخشى أن العينين الآن
قد ضللتا عقلي شر ضلال يعرفه إنسان.
106
أظهر يا قدر إذن جبروتك إذ إنا لا نملك أنفسنا.
ما سطر في لوح الغيب يكون، ولا مهرب مما كتب علينا.
107
315 (تخرج.)
الفصل الثاني
المشهد الأول (يدخل أنطونيو وسباستيان.)
1
أنطونيو :
ألا تود أن تمكث معي مدة أطول؟ ألا تريد أن أذهب معك؟
سباستيان :
لا لا أرجوك! فطوالعي عابسة
2
في وجهي، وقد يضر سوء طالعي
بطالعك؛ ولذلك أرجو أن تأذن لي أن أتحمل هذا النحس 5
وحدي . فإن أصابك كنت أجازي حبك لي شر جزاء.
أنطونيو :
اسمح لي على الأقل أن أعرف مقصدك.
سباستيان :
لا! حقا يا سيدي! إذ اعتزمت ألا يكون لي مقصد محدد. لكنني 10
أرى أنك جم الأدب، ولن تقبل أن تنتزع مني أسرارا أريد أن
أحفظها. ولذلك فإن أدبي يلزمني بأن أطلعك على بعض أموري.
اعلم إذن يا أنطونيو أن اسمي سباستيان، وليس رودريجو
3
كما
زعمت من قبل. وكان والدي هو سباستيان الشهير، من مدينة 15
ميسالين،
4
وأنا واثق أنك سمعت عنه. وقد توفي تاركا إياي مع
أخت لي، وكلانا مولود في ساعة واحدة. ولو رضي الله عنا
لأماتنا كذلك في ساعة واحدة! ولكنك تدخلت فأنقذتني من عباب 20
البحر قبل أن تغرق أختي بنحو ساعة!
أنطونيو :
يا لليوم الأيوم!
سباستيان :
كانت فتاة يعدها الكثيرون جميلة يا سيدي، على الرغم من أنها
كانت تشبهني إلى حد بعيد، وإذا كنت لا أميل إلى تصديق ما
يقوله الناس وأقدره وأعجب منه،
5
فلا بد لي أن أقر واثقا بأنها 25
كانت ذات نفس يشهد لها حتى الحساد بالصفاء والنقاء! لقد
أغرقها ماء البحر الملح، ويبدو أنني سأغرق ذكراها بملح العبرات.
6
30
أنطونيو :
أرجو أن تغفر لي يا سيدي تواضع ضيافتي لك!
باستيان :
بل أرجو أن تغفر لي يا أنطونيو الكريم ما كلفتك من عناء!
أنطونيو :
فلتقبل إذن أن أعمل خادما لديك، وإلا قتلتني لقاء حبي لك! 35
سباستيان :
إذا لم تكن تريد أن تنقض ما فعلت؛ أي أن تقتل من أنقذته، فلا
تطلب ذلك مني. الوداع الآن،
7
وعلى الفور؛ إذ إن صدري مفعم
بالمشاعر،
8
وتغمرني رقة الأم حتى لأكاد أبكي فتفضح مشاعري
عيناي. لسوف أذهب الآن إلى بلاط الدوق أورسينو. وداعا! 40 (يخرج سباستيان.)
أنطونيو (وحده على المسرح) :
فلتشملك جميع الأرباب بعطف ورعاية،
لكن بلاط الدوق .. يوجد فيه كثير من أعدائي!
لولا ذلك كنت لحقت قريبا بك فيه! 45
لكن فليحدث ما يحدث؛ إذ إن غرامي بك لا حد له،
حتى إن الخطر ليبدو لهوا لي .. وإذن أتجه إليه. (يخرج أنطونيو.)
المشهد الثاني (تدخل فيولا ومالفوليو من بابين مختلفين.)
9
مالفوليو :
ألم تكن منذ قليل عند الكونتيسة أوليفيا؟
فيولا :
بل منذ لحظة يا سيدي، وقد سرت بسرعة معتدلة فوصلت لتوي
هنا.
مالفوليو :
إنها تعيد إليك هذا الخاتم يا سيدي. لو كنت أخذته بنفسك لوفرت
علي هذه المشقة. وهي تضيف بأن عليك أن تؤكد تأكيدا قاطعا لسيدك 5
أنها لن تقبله. وشيء آخر! ألا تتجاسر بعد الآن فتأتي كي تسعى
للدوق في أمر خطبته! اللهم إلا إذا أتيت لإبلاغها برد فعل الدوق
إزاء رفضها. خذ الخاتم إذن.
فيولا :
لقد أخذت الخاتم مني
10
ولن أستعيده! 10
مالفوليو :
اسمع يا سيدي! لقد أصررت على أن تلقيه لها، وهي الآن تريد أن
تعيده لك بنفس الأسلوب.
11
إن كان جديرا بأن تنحني لالتقاطه فبها!
ها هو ذا على الأرض أمامك! وإن لم تلتقطه، فليأخذه من يجده! 15 (يخرج مالفوليو.)
فيولا :
لم أترك أي خواتم لليدي. ما مقصدها؟
لا قدر رب الحظ بأن تعشق مظهري المتنكر!
فلقد جعلت تتأملني وتطيل النظر إلى وجهي
حتى خيل لي أن استغراق العينين .. أخرس منطقها؛
إذ كانت لا تتكلم إلا في نوبات متقطعة مفترقة! 20
لا شك بأن المرأة تهواني! ومشاعرها ابتكرت هذي الحيلة
كي تدعوني لزيارتها مرسلة ذاك المرسال الفظ.
لن تقبل خاتم مولاي؟ عجبا لم يرسل مولاي خواتم!
بل إني المقصودة بالخاتم! إن كان الأمر كذلك، وهو كذلك،
فالمرأة مسكينة! والأفضل أن تعشق حلما! 25
من يتنكر يرتكب الآثام .. أدرك ذاك الآن،
وبه ارتكب الشيطان المتنكر
12 (في ثوب الأفعى) أكبر آثامه!
ما أيسر أن يطبع خداع فتان الطلعة
13
صورته
في قلب فتاة ساذج! المؤسف أنا لم نخطئ؛
فالعلة ليست فينا، بل في ضعف فطري في المرأة، 30
والمرأة قد خلقت في هذي الصورة وتظل عليها.
ما آخر هذي القصة؟ مولاي يحب المرأة حبا جما،
وأنا المسخ
14
المسكينة أعشقه كل العشق
والليدي ضللها التمثيل فهامت بي فيما يبدو! 35
ما آخر هذا التعقيد؟ ما دمت الرجل أمام الدوق
فلا أمل لدي على الإطلاق بأن يهواني،
لكني امرأة في الواقع (وهو المؤسف )؛
ولذلك تذهب عبثا آهات أوليفيا المسكينة!
يا زمن، عليك بفك العقدة فأنا عاجزة فعلا،
والعقدة أصعب من أن أجد بنفسي الآن لها حلا. 40 (تخرج فيولا.)
المشهد الثالث (يدخل السير توبي والسير أندرو.)
سير توبي :
تفضل يا سير أندرو تفضل! عدم الهجوع حتى ما بعد منتصف
الليل معناه الصحو المبكر، وفي الصحو المبكر صحة،
15
كما تعرف.
سير أندرو :
كلا بالحق! لا أعرف! ما أعلمه هو أن السهر إلى وقت متأخر
سهر متأخر! 5
سير توبي :
استنتاج فاسد! أكرهه كراهيتي للكأس الفارغة؛ فالسهر إلى ما بعد
منتصف الليل، ثم الرقاد عند ذلك، يعني الصحو في وقت
البكور، وهكذا فالذي يأوي إلى الفراش بعد منتصف الليل يأوي
إليه في وقت البكور. ألا تتكون حياتنا من العناصر الأربعة؟
16
10
سير أندرو :
هذا حقا ما يقولون! لكنني أظن أنها تتكون من الأكل والشرب.
سير توبي :
أنت علامة!
17
دعنا إذن نأكل ونشرب! يا ماريان! أين أنت؟
18
إلينا
بزق من النبيذ! (يدخل المهرج.)
سير أندرو :
ها قد أتى المهرج .. فعلا! 15
المهرج :
كيف أنتما أيها العزيزان؟ هل رأيتما يوما صورة المغفلين الثلاثة؟
19
سير توبي :
مرحبا يا حمار! ابدأ الآن أغنية يشترك ثلاثتنا فيها.
سير أندرو :
الحق أن المهرج يتمتع بصوت ممتاز! أعطني قدمه الماهرة في الرقص
وصوته العذب في الغناء ولا تعطني أربعين شلنا.
20
الواقع أنك 20
أجدت التهريج إجادة عظمى ليلة أمس، عندما تحدثت عن
بيجروجروميتوس، وعن الفابيين الذين يعبرون خط الاستواء في
السماء عند كوكب كيوبوس!
21
كان لفتة بارعة حقا، وقد أرسلت
إليك ستة بنسات لتنفقها على حبيبتك. هل وصلتك؟ 25
المهرج (يتعمد الخلط في الألفاظ)
22 :
دسست في الجيب بقشيشك؛ إذ إن أنف
مالفوليو ليس مقبض السوط، ومولاتي يدها بيضاء، والزبانية
23
ليسوا حانات شراب!
سير أندرو :
ممتاز! هذا أفضل تهريج، في آخر المطاف. غننا الآن أغنية! 30
سير توبي :
هيا! سأدفع لك ستة بنسات.
24
غننا أغنية.
سير أندرو :
وسأدفع لك مثلها أيضا. فإذا دفع أحد الفرسان هذا المبلغ. 35
المهرج :
هل تريدان أغنية حب؟ أم أغنية عن لذائذ العيش؟
25
سير توبي :
أغنية حب، أغنية حب!
سير أندرو :
نعم نعم! أنا لا أكترث للذائذ العيش. (المهرج يغني.)
المهرج :
حبيبتي أين تهيمين على وجهك؟
26
40
فلتمكثي وتسمعي! حبيبك المخلص قادم إليك،
من يستطيع أن يغني كل لحن لك!
حبيبتي الجميلة! تكفي مشقة الترحال والعناء،
وكل رحلة للعاشقين تنتهي عند اللقاء،
وذاك ما يعرفه .. أبناء الحكماء!
27
45
سير أندرو :
جميل ممتاز، بالحق ..
سير توبي :
جميل جميل.
المهرج (يغني) :
ما الحب؟ ليس الحب وعدا قد يؤجل،
بل حاضر السرور حاضر الجذل.
وكيف يطمئن المرء للمستقبل؟ 50
وليس في التأخير خير مقبل!
هيا حبيبتي لقبلة جميلة ستنهل،
28
فإنما طبع الشباب أن يذوي ويرحل!
سير أندرو :
أقسم بفروسيتي إنه صوت حلو!
29
سير توبي :
بل صوت ينشر عدواه!
30
55
سير أندرو :
بالغ الحلاوة والعدوى .. بالحق!
سير توبي :
من يسمع بأنفه، يجد عدواه حلوة! هل نغني حتى نجعل السماء
نفسها ترقص؟ هل نطرب بومة الليل بأغنية يشترك في أدائها
ثلاثتنا،
31
حتى كأننا ثلاثة أرواح في جسد نساج واحد؟ هل نغني
إذن؟ 60
سير أندرو :
إن كنت تحبني .. فهيا نغني؛ فأنا بارع براعة الكلاب، كما يقال،
في الأغاني الثلاثية!
المهرج :
قسما بالبتول سيدي .. بعض الكلاب تلتقط
32
ثلاثة أشياء معا!
سير أندرو :
مؤكد! فلتكن أغنيتنا «يا وغد!» 65
المهرج :
تقصد أغنية «اخرس يا وغد» أيها الفارس؟ لسوف يؤذيني أن
أقول لك يا وغد، يا فارس!
33
سير أندرو :
ليست المرة الأولى التي أوذي فيها أحدا يدعوني بالوغد!
34
ابدأ أيها
المهرج ابدأ! (يغني) «اخرس اخرس ...» 70
المهرج :
لن أبدأ أبدا إذا أصابني الخرس.
سير أندرو :
جميل بالحق. هيا ابدأ. (يشترك الثلاثة في غناء الأغنية.) (تدخل ماريا.)
ماريا :
ما هذا العواء الذي يشبه مواء القطط الشبقة؟ إن لم تكن مولاتي
قد دعت حاجبها مالفوليو وأمرته بطردكم من المنزل فلا تثقوا في
بعد الآن. 75
السير توبي :
مولاتك لا تعني ما تقول ... مثل الصينيين!
35
فإننا نحن وأنت
أهل سياسية ..
36
ولدينا ما دبرناه معا .. وأما مالفوليو فناطور
لا يقبل مرحا!
37 (يغني) «إن ثلاثتنا مرحون»
38
ثم ألست قريبها؟
39
ألست من دمها؟ هراء هراء!
40
أتقولين «مولاتي»؟
41 (يغني ) «في
بابل كان يقيم رجل .. مولاتي يا مولاتي!» 80
المهرج :
أقسم إن الفارس بارع في التهريج!
سير أندرو :
نعم. يجيد التهريج، إذا اعتدل مزاجه، وكذلك حالي أيضا!
42
لكنه
يفوقني في فن الصنعة وأفوقه في الأداء الطبيعي.
سير توبي (يغني) : «في اليوم الثاني عشر .. من ديسمبر ...»
43
85
ماريا :
حلفتكما أن تسكتا! (يدخل مالفوليو.)
مالفوليو :
سادتي! هل أنتم مجانين؟ أم ماذا أنتم؟ أليست لكم عقول،
ولا أخلاق، ولا أدب، إلا ما يجعلكم تغمغمون غمغمة السمكري
السكران، وفي هذا الوقت من الليل؟ هل أحلتم منزل مولاتي إلى 90
حانة، فجعلتم تصدرون هذا الصرير القبيح بأغنيات الإسكاف
44
دون
أن تحاولوا خفض أصواتكم مراعاة لشعور الآخرين؟ أفلا تراعون
حرمة المكان والأشخاص وهذا الوقت؟
سير توبي :
تقصد الزمن يا سيدي؟ لقد راعينا الزمن في أداء أغنياتنا!
اخرس أنت!
45
مالفوليو :
اسمع يا سير توبي. لا بد أن أكون صريحا معك. لقد طلبت مني 95
مولاتي أن أخبرك بأنها إذا كانت تستضيفك باعتبارك قريبها،
فإنها لا توافق البتة على الصخب والفوضى التي تحدثها. فإن
كنت تستطيع الإقلاع عن هذا السلوك الشائن فمرحبا بك في
المنزل، وإن لم تستطع، وإذا شئت استئذانها في الرحيل، فإنها
على أتم استعداد لوداعك! 100
سير توبي (يغني) :
إلى الوداع يا فؤادي الحبيب؛
46
إذ إن موعد الرحيل حل!
ماريا :
لا لا يا سير توبي الأكرم!
47
المهرج (يغني) :
عيناه تشهدان أنه حان الأجل!
مالفوليو :
هل هذا هو الواقع؟ 105
سير توبي (يغني) :
لكني لن أهلك أبدا!
المهرج (يغني) :
تكذب يا سير توبي عمدا!
48
مالفوليو :
وذاك يزيدك فضلا كبيرا!
سير توبي (يغني) :
هل أطلب منه أن يرحل؟
المهرج (يغني) :
ما شأني إن كنت ستفعل؟ 110
سير توبي (يغني) :
هل أطلب منه أن يرحل وأطيل القول؟
المهرج (يغني) :
لا لا لا لا لن تجرؤ أن تفعل!
سير توبي :
ألم أراع الزمن
49
في الغناء يا سيدي؟ أنت كاذب! وهل أنت سوى
حاجب هنا؟ هل تظن أن استمساكك بالفضيلة سيحرم الناس من
الفطائر والجعة؟
50
115
المهرج :
أقسم بالقديسة آن! سوف يكون مذاق الزنجبيل في الجعة حريفا! (يخرج المهرج.)
51
سير توبي :
أنت محق! اذهب يا سيد فنظف سلسلتك (الذهبية)
52
بفتات الخبز!
يا ماريا! زق نبيذ!
مالفوليو :
يا ماري المحترمة! إن كنت تقدرين رضا مولاتك ولا تزدرينه، 120
فأرجوك ألا تساعدي هذين على هذا الصخب البذيء، ولسوف
أخبرها، قسما بهذه اليد! (يخرج مالفوليو.)
ماريا :
اذهب فهز آذانك الطويلة!
53
سير أندرو :
إن متعة الشراب للجائع لا توازي متعة تحديه للنزال ثم إخلاف
54
125
موعده حتى يصير هزأة بين الناس!
55
سير توبي :
عليك بهذا أيها الفارس! سوف أكتب خطاب التحدي لك، أو
أبلغ تحديك للرجل شفويا. 130
ماريا :
يا سير توبي الكريم! فلتصبر هذه الليلة فحسب! فمنذ أن اجتمع
المرسال الشاب من لدى الدوق بسيدتي اليوم، والقلق يعصرها.
أما عن المسيو مالفوليو، فسوف أختلي به. فإذا لم أخدعه حتى
يصبح هزأة، وإذا لم يتندر الناس به ويسخروا منه، لا تقولوا إن 135
عندي من الذكاء ما يكفي لأن أرقد مستقيمة في فراشي؛
56
فأنا واثقة
من نجاحي.
سير توبي :
أخبرينا أخبرينا! قولي لنا شيئا عنه.
ماريا :
الحق يا سيدي أنه يبدو في بعض الأحيان بيوريتانيا .. أي 140
متزمتا أخلاقيا!
سير أندرو :
لو ظننت ذلك لضربته ضرب الكلاب!
سير توبي :
تضربه لاستمساكه بالأخلاق؟ عجبا! ماذا لديك من أسباب جذابة
أيها الفارس العزيز؟ 145
سير أندرو :
ليس لدي أسباب جذابة، ولكن لدي أسباب مقنعة.
ماريا :
ما أبعده عن الاستمساك بالأخلاق أو البيوريتانية أو بأي شيء
على الدوام، فليس سوى انتهازي مداهن، وحمار يتصنع الحكمة،
ويردد ما يحفظه من كلام الكبراء، بل ويكرر مقتطفات طويلة منه! 150
وهو مغرور يزهو بذاته زهوا لا يدانى؛ إذ إنه (في ظنه) مفعم
بالمناقب، إلى الحد الذي يؤمن معه أن كل من ينظر إليه لا بد أن
يحبه. وهذه النقيصة فيه هي التي تدفعني إلى الثأر منه، وخير ما
يعينني على الثأر! 155
سير توبي :
ماذا ستفعلين؟
ماريا :
سوف ألقي في طريقه برسالة غرام غامضة الصياغة، لكنه سوف
يجد أنه موصوف بدقة فيها، من لون لحيته، إلى شكل رجله،
إلى أسلوب مشيه، إلى التعبير في عينيه وجبهته ووجهه.
وأستطيع الكتابة بخط يماثل تماما خط مولاتي ابنة أخيك. فإذا 160
طال الزمن على شيء كتبناه ونسيناه استحالت علينا معرفة كاتبته.
سير توبي :
ممتاز! أشم رائحة خدعة!
سير أندرو :
أنفي يشمها أيضا!
سير توبي :
ستجعله الرسالة الملقاة يظن أنها من بنت أخي، وأنها تهيم 165
به حبا.
ماريا :
غرضي حصان من هذا اللون.
57
سير أندرو :
وحصانك سوف يجعله حمارا.
ماريا :
حمار لا شك عندي.
سير أندرو :
سيكون ذلك رائعا! 170
ماريا :
فكاهة ملكية، أؤكد لكما. وأعرف أن دوائي سوف يعالجه.
وسوف أجعلكما تختبئان، وليكن المهرج ثالثكما،
58
في المكان الذي
يعثر فيه على الرسالة. وأريدكم أن تلاحظوا تفسيره لما فيها. فلنأو
هذه الليلة للفراش، ولنحلم بنتيجة هذه الحيلة. إلى اللقاء. 175 (تخرج ماريا.)
سير توبي :
طابت ليلتك يا بنتسيليا!
59 (يا ملكة المقاتلات!)
سير أندرو :
قسما
60
إنها فتاة رائعة.
سير توبي :
مثل كلب الصيد الصغير الأصيل! وهي تحبني حبا جما! لكن
ما الفائدة؟ 180
سير أندرو :
كان لدي من تحبني ذات يوم أيضا.
سير توبي :
فلنأو الليلة للرقاد أيها الفارس. وعليك أن ترسل في طلب المزيد
من النقود.
61
سير أندرو :
إن لم أفز ببنت أخيك ضاع وقتي ومالي! 185
سير توبي :
أرسل في طلب المال أيها الفارس، فإذا لم تظفر بها في النهاية،
فاحتقرني بعدها!
سير أندرو :
إذا فشلت لا تثق في أبدا. وافهم من ذلك ما تريد!
سير توبي :
هيا هيا! سأذهب لإعداد شراب دافئ؛ فقد جاوزنا الآن موعد 190
الذهاب للفراش.
62
هيا يا فارس! هيا يا فارس! (يخرجان.)
المشهد الرابع (يدخل الدوق، مع فيولا، وكيوريو، وآخرين.)
الدوق :
هيا اعزفوا بعض اللحون! عمتم صباحا أصدقائي!
63
والآن سيزاريو الكريم: تكفي هنا أغنية قديمة عجيبة
كنا سمعناها معا ليلة أمس! أحسست أنها
أزالت الكثير من آلام لوعتي! بل إنها
تفوق كل لحن طارف وكل ألفاظ منمقة 5
في عصرنا الذي يجري بخفة وإيقاع سريع
قد يصيب بالدوار! هيا! سأكتفي بفقرة واحدة!
كيوريو :
لكنه ليس هنا! أقصد يا مولاي الرجل الذي يستطيع غناءها!
الدوق :
ومن هو؟ 10
كيوريو :
فيسته! المضحك يا مولاي ! ذاك المهرج الذي كان والد الليدي أوليفيا
يستمتع كثيرا بفنونه. إنه في مكان ما بالمنزل.
الدوق :
أحضره إذن .. وليعزف لحن المقطوعة حتى يأتي. (يخرج كيوريو وتعزف الموسيقى.)
تعال أيها الغلام! إن كتب الحب عليك بقابل أيامك 15
فاذكرني في آلام الحب العذبة.
فأنا - مثل جميع العشاق الخلصاء -
أقلق بل أفزع من كل مشاعر إلا
الإحساس بطيف المحبوب الثابت أبدا في عيني.
ما رأيك في هذا اللحن؟ 20
فيولا :
كأنه الصدى الصدوق للمشاعر التي تدف في عرش الهوى!
الدوق :
تعبيرك محكم! وأراهن بحياتي أنك رغم يفوعك
قد وقعت عيناك على شخص همت به حبا!
هل ذاك صحيح؟
فيولا :
بعض الصحة يا مولاي. 25
الدوق :
ما طبع تلك المرأة؟
فيولا :
من طبعك.
الدوق :
ليست جديرة إذن بحبك. ما سنها؟
فيولا :
مولاي إنها في نحو سنك.
الدوق :
أكبر من أن تقترن بها قطعا! فلتقترن المرأة في كل الأحوال
بحبيب يكبرها سنا حتى تتكيف معه، 30
وتظل مكافئة لهواه المتأرجح في قلبه؛
فالواقع يا يافع أنا، مهما أطرينا أنفسنا،
لا نتمتع بثبات الأشواق وقوتها دوما،
فلقد تزداد وتتذبذب ثم تضيع وتذوي 35
قبل ذبول الحب لدى المرأة.
فيولا :
قول لا بأس به يا مولاي.
الدوق :
وإذن ليكن محبوبك أصغر منك وإلا
لن يقدر حبك أن يصمد للزمن!
فالمرأة وردة .. ما إن تتفتح كي تبدي السحر الفتان
حتى تسقط ذابلة في نفس الساعة من فوق الأغصان.
فيولا :
ذلك حال المرأة. وا أسفا للحال المضني 40
أن تذوي فور بلوغ الذروة وكمال الحسن. (يدخل كيوريو والمهرج.)
الدوق :
تعال يا فتى .. هيا فغننا إذن أغنية البارحة،
واسمع سيزاريو إنها
64
قديمة وساذجة؛
فغازلات الصوف بل والناسجات الجالسات في شمس النهار،
والخاليات البال ساعة التفاف الخيط حول البكرة 45
ينشدنها جميعا! وإنها تقدم الحقيقة المجردة
مدارها براءة الغرام في أيامنا الخوالي.
65
المهرج :
هل أنت مستعد سيدي؟
الدوق :
نعم. فغننا أرجوك. 50 (المهرج يغني.)
المهرج :
أقبل يا موت
66
الآن وأدركني
في نعش من خشب السرو الكاسف ضعني،
67
وقفي يا أنفاس العمر ابتعدي؛
إذ قتلتني قسوة حسناء نفرت للأبد
وأعدوا أكفاني البيضاء أعدوها، 55
وضعوا أغصان الدوح عليها .. صفوها.
ما من أحد قبلي
أهلكه الإخلاص كما أهلكني!
لا تضعوا فوق النعش الأسود زهرة،
لا تضعوا أي زهور غر نضرة، 60
وعلى أصحابي ألا يأتوا لتحية خاتمتي
فيروا جسدي المسكين وبعض عظامي النخرة،
ولتكتم آلاف الآلاف من الآهات،
ولأدفن وحدي معزولا في مقبرتي
كي لا يعرف أي حبيب أخلص أين رفاتي؛ 65
وبذلك لن يذرف قطعا أي العبرات.
الدوق :
هاك مقابل أتعابك. (يعطيه نقودا.)
المهرج :
لم أتعب يا سيدي بل تلذذت بالغناء يا سيدي.
الدوق :
هذا مقابل لذتك إذن.
المهرج :
والحق يا سيدي أن اللذة لها ثمن، يدفع عاجلا أو آجلا.
68
70
الدوق :
اسمح لي الآن بأن نفترق!
69
المهرج :
فليحفظك إذن رب الكآبة، وليصنع لك الحائك صدارا من القطيفة
المتقلبة الألوان،
70
ما دام مزاجك متقلب الألوان مثل بعض الأحجار
71
الكريمة، وإذا كان الأمر بيدي لجعلت كل ذي مزاج متقلب يركب 75
البحر، حتى تشغله تجارته عن كل شيء، وتذهب به إلى كل مكان،
فذلك هو الذي دائما ما يكفل الجودة للرحلة وإن ضاعت هباء! إلى
اللقاء! (يخرج المهرج.)
الدوق :
فليذهب الجميع الآن! (يخرج كيوريو والآخرون.)
72
ومن جديد سيزاريو عد إلى مليكة القسوة 80
وقل لها إن الغرام في صدري يزيد نبلا عن
جميع أهل الأرض!
73
وإنني بالحق لا أهتم بالذي لديها
من عقار أو أراض لا تزيد على تراب،
وإن كل ما حبتها ربة الحظ به من الضياع
أراه غير ذي قيمة .. كربة الحظ الحئول ذاتها! 85
لكن ما ازدانت به من الطبيعة -
جمالها الذي أراه درة على عرش الدرر -
74
هو الذي يشدني إليها.
فيولا :
فإن تكن لا تستطيع يا مولاي حبك؟
الدوق :
إجابة لا تقبل!
فيولا :
لكنه لا بد من قبولها!
لنفترض بأن ها هنا فتاة .. وربما تكون ها هنا فعلا .. 90
تكن في فؤادها حبا إليك لا تقل لوعته
عما تكنه لهذه التي هويتها!
ولنفترض بأنه من المحال أن تحب هذه الفتاة
وهكذا أخبرت هذه الفتاة بالحقيقة .. أهذه إجابة لا تقبل؟
الدوق :
من المحال أن تكون لامرأة
جوانح قادرة على تحمل الذي يدف في قلبي 95
من الخفق الشديد للمشاعر المشبوبة!
من المحال أن يكون لامرأة .. قلب كبير قادر على احتواء كل هذا!
فقلبها لا يستطيع الاحتفاظ بالمشاعر!
وللأسف! فحبها قد لا يزيد على شهية
لا تنتمي للكبد .. بل تنتمي للفم!
وذاك قد يصاب بالبشم .. فإن أتته التخمة 100
أتى السأم! أما غرامي فهو جائع كالبحر
ويستطيع هضم ما يهضمه البحر.
أرجوك لا تقارن حب أي امرأة لي
بما أكنه من الهوى لأوليفيا!
فيولا :
حقا لكني أعرف ...
75
الدوق :
ماذا تعرف؟ 105
فيولا :
أعرف كم يبلغ عمق الحب بقلب المرأة للرجل،
والواقع أن المرأة تخلص في الحب كمثلي أو مثلك؛
فأبي أنجب بنتا عشقت رجلا عشقا لا حد له،
قل مثل غرامي بك لو كنت أنا بنتا مثلا.
الدوق :
ماذا حدث لها؟ 110
فيولا :
لا يدري أحد إذ أخفت عاطفة الحب تماما
حتى أخذ الكتمان كمثل الدودة يلتهم الخد الوردي
76
وازداد الهم لديها فذوت! وعراها الحزن بلون أخضر أو أصفر،
وغدت تجلس ذاهلة العين كتمثال الصبر المشهور
77
115
الباسم للأحزان. أفما كانت تلك العاطفة غراما حقا؟
نحن رجال قد نكثر مما نحكي أو ما نحلفه من أيمان،
لكنا نبدي أكثر مما نشعر به؛
إذ تنبئ أيمان الرجل بحب غامر،
لكن الواقع ينبئ عن إحساس فاتر
الدوق :
أترى ماتت أختك يا ولدي من آلام الحب؟ 120
فيولا :
أنا كل بنات أبي ..
78
وكذلك كل الإخوة!
لكن مع ذلك لا أعرف. هل أمضي الآن لتلك المرأة؟
الدوق :
حقا ذلك ما أبغي!
أسرع لفتاتي من فورك. ضع هذا الجوهر في يدها.
أبلغها أن لن يتزحزح حبي أو أقبل إنكارا منها. 125 (يخرجان.)
المشهد الخامس (يدخل السير توبي، والسير أندرو، وفابيان.)
79
سير توبي :
هيا يا سنيور فابيان.
فابيان :
قطعا آتي. لو فاتتني ذرة من هذه اللعبة، فسوف أستحق السلق
80
حتى الموت من شدة الحزن!
سير توبي :
أفلا يسعدك فضح وتجريس ذلك الكلب
81
البخيل المنافق؟ 5
فابيان :
بل يبهجني كل البهجة! تعرف أنه أغضب مولاتي علي بسبب
لعبة الرهان على الدببة
82
هنا.
سير توبي :
سوف نغيظه بإحضار الدب مرة ثانية، وسوف نسخر منه حتى
تظهر في جسده الكدمات الزرقاء والسوداء. هل نفعل ذلك يا سير
أندرو؟ 10
سير أندرو :
لو لم نفعل ستكون حياتنا عارا علينا! (تدخل ماريا.)
سير توبي :
ها قد أتت الماكرة القصيرة! كيف حالك يا ذهب الهند الإبريز؟
83
ماريا :
اختبئوا أنتم الثلاثة خلف هذه الشجيرات؛ إذ إن مالفوليو قادم من 15
هذا الممشى في الحديقة، بعد أن قضى نصف الساعة الماضية في
التدريب على أساليب السلوك مع ظله في الشمس. أرجوكم أن
تراقبوه إن كنتم تحبون السخرية؛ فأنا واثقة أن هذا الخطاب سوف
يجعله يخرج ما لديه من تأملات الحمق والبله! التصقوا واختبئوا
حتى تنجح اللعبة! (أثناء اختباء الرجال تلقي ماريا بالخطاب) انتظروا في 20
مكانكم؛ فها قد أتت السمكة التي لا بد من صيدها بدغدغتها! (يخرج.) (يدخل مالفوليو.)
مالفوليو :
إنه حسن حظي وحسب، والحظ يتحكم في كل شيء. إذ قالت
لي ماريا ذات يوم إن أوليفيا معجبة بي، وسمعتها بنفسي مرة
تكاد تعترف بذلك؛ إذ قالت إنها لو أحبت أحدا فسوف يكون
مثلي في الصورة والطبع.
84
كما إنها تعاملني باحترام بالغ يزيد عما 25
تبديه لأي فرد من العاملين لديها. ماذا عساي أن أرى في ذلك ؟
85
سير توبي (جانبا) :
إنه لوغد مزهو متكبر!
فابيان (جانبا) :
اسكت! إن تأملاته تجعله منتفش الريش مثل الديك
الرومي في أروع حالاته! وانظروا كيف يتبختر داخل الريش 30
المنتصب!
سير أندرو (جانبا) :
أقسم إني أريد أن أضرب هذا الوغد!
سير توبي (جانبا) :
اسكت أقول!
مالفوليو :
وعنها أصبح الكونت مالفوليو! 35
سير توبي (جانبا) :
أيها الوغد!
سير أندرو (جانبا) :
أطلق الرصاص عليه!
سير توبي (جانبا) :
اسكت اسكت!
مالفوليو :
ولدينا سابقة لهذا الزواج؛ إذ تزوجت ليدي ستراتشي الخادم
المعني بملابسها!
86
40
سير أندرو (جانبا) :
تبا له من مختال مثل إيزابل!
87
فابيان (جانبا) :
اسكت! الآن قد غاص في وهمه، وانظر كيف انتفش.
فانتفخ بفعل الوهم!
مالفوليو :
وبعد أن تمر ثلاثة أشهر على زواجي منها، وأنا جالس على
عرشي .. 45
توبي (جانبا) :
أين لي الآن بنبل تقذفه بحجر في عينه!
مالفوليو :
أستدعي أتباعي الذين يحيطون بي، وأنا أرتدي الروب الأخضر
المخملي الموشى برسوم الأغصان، بعد أن قمت من أريكة
الصباح، وتركت أوليفيا نائمة عليها ...
سير توبي (جانبا) :
النار والأحجار له!
88
50
فابيان (جانبا) :
اسكت اسكت!
مالفوليو :
وعندها أفعل ما يمليه علي مزاجي في هذه المكانة! وبعد أن
أتفحص متعاليا وجوه من حولي قائلا لهم إنني أعرف مكانتي،
وإنني أرجو أن يعرفوا مكانتهم. أطلب استدعاء قريبي توبي! 55
سير توبي (جانبا) :
الأصفاد والأغلال له!
فابيان : (جانبا) اسكت اسكت اسكت! أرجوك الآن!
مالفوليو :
وينطلق سبعة من رجالي في طلبه طاعة لأمري، وريثما يأتي أظل
عابسا وربما ملأت ساعتي، أو لهوت (وهو يتحسس سلسلته الذهبية)
89
60
بجوهرة ثمينة هنا! ويدخل توبي علي وينحني إجلالا لي ...
سير توبي (جانبا) :
هل نترك هذا الرجل يحيا؟
فابيان (جانبا) :
قد يكون الصمت عسيرا
90
ولكني أرجو أن تسكت! 65
مالفوليو :
أمد يدي إليه هكذا، وقد كتمت بسمتي المعتادة بنظرة جادة تدل
على الأمر والنهي ...
سير توبي (جانبا) :
أفلا يلكمك توبي عندها في شفتيك؟
مالفوليو :
وأقول «يا ابن العم توبي، ما دامت الأقدار قد زوجتني من بنت
أخيك، فإنها تمنحني حق مصارحتك في الحديث» ... 70
سير توبي (جانبا) :
ماذا؟ ماذا؟
مالفوليو : «لا بد أن تكف عن سكرك!»
سير توبي (جانبا) :
اخرس يا حقير!
فابيان (جانبا) :
أرجوك اصبر حتى لا تفسد خطتنا.
91
75
مالفوليو : «كما أنك تهدر وقتك الثمين بمصاحبة فارس أحمق» ...
سير أندرو (جانبا) :
ذاك أنا، أؤكد لكم!
مالفوليو : «رجل يدعى سير أندرو.» 80
سير أندرو (جانبا) :
كنت واثقا أنه يقصدني؛ فكثيرون يتهمونني بالحمق.
مالفوليو (يرى الخطاب) :
ماذا تفعل هذه الورقة هنا؟
فابيان (جانبا) :
اقترب ديك الغابة
92
الأبله من الفخ!
سير توبي (جانبا) :
صمتا! ليت عفريت المزاج
93
يدعوه إلى قراءته بصوت
مرتفع! 85
مالفوليو (وهو يلتقط الخطاب) :
قسما بحياتي هذا خط صاحبتي؛ فهذه
حروفها الكبيرة حرف «سي» و«يو» و«تي»،
94
وكذلك تكتب حرفي «بي» الكبير. إنه خطها دون أدنى شك. 90
سير أندرو (جانبا) :
حروفي «سي» و«يو» و«تي»؟ لماذا ؟
مالفوليو (يقرأ) : «إلى الحبيب المجهول، هذه الرسالة، وأطيب أمنياتي».
هذه عباراتها نفسها. اسمح لي يا شمع الخاتم أن أفض الخطاب.
مهلا! هذه صورة لوكريس
95
المطبوعة في الشمع! إنه الخاتم الذي
تستخدمه في ختم كل شيء! إنها صاحبتي! من يا ترى المرسل 95
إليه؟ (يفتح الخطاب.)
فابيان (جانبا) :
سوف يظفر هذا به تماما، كبدا وعقلا!
مالفوليو (يقرأ) : «الرب جوف عالم بحبي،
لكن من الذي غدا في القلب؟
حذار يا شفتاي من أن تنطقا، 100
لن يعرف الخبيء شخص مطلقا».
لن يعرف الخبيء شخص مطلقا! ماذا يجيء بعد هذا؟ إن بحر
الشعر يتغير! «لن يعرف الخبيء شخص مطلقا!» ... لو كان
ذلك أنت يا مالفوليو!
سير توبي (جانبا) :
قسما تستحق الشنق أيها الحيوان المنتن!
96
105
مالفوليو (يقرأ) : «لي أن آمر من أهوى قسماته،
لكن الصمت هنا يشبه خنجر لوكريس.
دون دماء شق القلب بطعناته.
إم. أو. آي. إيه. يتحكم في نفسي!»
فابيان (جانبا) :
لغز طنان!
سير توبي (جانبا) :
بل هي فتاة رائعة في نظري.
مالفوليو : «إم. أو. آي. إيه
97
يتحكم في نفسي» ... لا بل أتأمل ذلك أولا،
فلأنظر في ذلك، فلأنظر في ذلك.
فابيان (جانبا) :
ما أغرب الوجبة المسمومة التي أعدتها له!
سير توبي (جانبا) :
وأسرع انقضاض الصقر الحقير عليه!
98
115
مالفوليو :
لي أن آمر من أهوى قسماته.» عجبا! إن لها أن تأمرني؛ فأنا
أخدمها، وهي مولاتي. ذلك واضح لكل صاحب استدلال
عادي. لا توجد في ذلك عقبة. والنهاية؟ ما المقصود بهذه
الأحرف المتفرقة؟ ليتني أستطيع أن أجعل ذلك ينطبق على بعض 120
ما عندي! مهلا! «إم. أو إيه. آي.»
99
سير توبي (جانبا) :
أو. آي. نعم! فسرها بخيالك! إنه كالكلب الذي فقد
رائحة الثعلب!
فابيان (جانبا) :
الكلب «سوتر»
100
سوف ينبح على أية حال، ولو كانت 125
الرائحة قوية مثل رائحة الثعلب.
مالفوليو : «إم» .. «إم» .. مالفوليو! «إم»! هذا أول حرف في اسمي!
فابيان (جانبا) :
ألم أقل إنه سوف يحل اللغز؟ الكلب ممتاز عند ضعف 130
الرائحة!
101
مالفوليو : «إم» .. ولكن الحروف التالية لا اتساق فيها. هذا يقتضي بعض
الفحص. كان ينبغي أن تأتي إيه بعد «إم»، ولكن «إيه» لا تأتي
بل يأتي «أو»!
فابيان (جانبا) :
وآمل أن تكون النهاية على شكل
O .. أي المشنقة!
سير توبي (جانبا) :
أو أقوم بضربه حتى يصيح «أوه»!
102
مالفوليو :
وبعد ذلك يأتي حرف «آي».
103
135
فابيان (جانبا) :
نعم. ولو كانت لك عين
104
في قفاك، لشاهدت مصائب
تجري وراءك أكثر من الثروات التي تجري خلفها!
مالفوليو :
أم. أو. إيه. آي! هذا اللغز يختلف عن اللغز السابق، ومع
ذلك، فإذا اجتهدت قليلا استطعت حله؛ إذ إن كل حرف من هذه 140
الحروف في اسمي. مهلا! الآن يأتي النثر: (يقرأ) «إذا وقع هذا في يدك فتفكر فيه. حكمت طوالعي بأن أكون
أسمى منك منزلة، لكن لا تخف العظمة؛ فالبعض يولدون
عظماء، والبعض يكتسبون العظمة، والبعض تفرض العظمة 145
عليهم فرضا! أقدارك تبسط يديها لك،
105
فدع دمك وروحك
106
يعانقانها، وحتى تعتاد ما سوف تكونه على الأرجح، اخلع ثوب
تواضعك واظهر بمظهر قشيب. عارض أحد الأقرباء، وكن سليط
اللسان مع الخدم، ولتجر على لسانك
107
عبارات رجال الدولة،
وتظاهر بأنك شاذ السلوك. هذا ما تنصحك به من تتنهد غراما 150
بك. وتذكر من امتدحت جوربك الأصفر وتمنت أن تراك وأنت
تلبس رباط الساق الصليبي على الدوام. أقول لك: تذكر! دعني
أؤكد لك أنك بلغت العلا إن كنت تريد بلوغ العلا! وإلا فلتظل
108
حاجبا في عيني، ورفيقا للخدم، وغير جدير بأن تلمس أصابع ربة
الحظ. الوداع. من تلك التي تود أن تتبادل مكانتها معك.»
التعسة المحظوظة
لا يرى المرء في ضوء الشمس وفي الخلاء الفسيح بوضوح أكبر! هذا 160
كلام صريح!
109
سوف أتكبر، وأقرأ كتابات أهل السياسة، وأصعر
خدي للسير توبي، وأتخلص من معارفي البسطاء؛ حتى أصبح تماما
الرجل الموصوف في الخطاب. لا أخادع الآن نفسي حتى يلقيني 165
حصان الخيال عن ظهره! لا! فكل الدلائل تقطع بذلك؛ أي بأن
مولاتي تحبني. لقد سبق أن امتدحت جوربي الأصفر منذ عهد
قريب، وامتدحت رباط الساق الصليبي، وبذلك كشفت عن حبها
لي، وتكاد تأمرني بأن أرتدي الملابس التي تحبها. أشكر حسن 170
طالعي على هذه السعادة. سأكون مترفعا عزوفا مزهوا، بجوربي
الأصفر، ورباط الساق الصليبي، والأفضل أن أبادر بارتداء هذا
وذاك. أشكر الرب جوف وطوالعي! للخطاب تذييل. ماذا يقول؟ (يقرأ) «لا خيرة لك في أن تعرف من أنا. فإذا قبلت غرامي فعبر عن
ذلك بابتسامك؛ فالبسمات تناسبك تماما. وهكذا عليك أن تبتسم» 175
دائما في وجودي، يا حبيبي الغالي، أرجوك. شكرا لك جوف.
سوف أبتسم. وسوف أفعل كل ما طلبت مني أن أفعله. (يخرج مالفوليو.)
فابيان :
لا أقبل التخلي عن مشاهدة أي جزء من هذه الملهاة مقابل معاش 180
يبلغ الآلاف من أموال شاه الفرس.
110
سير توبي :
قد تدفعني هذه الحيلة إلى الزواج من الفتاة!
سير أندرو :
وأنا كذلك.
سير توبي :
دون أن أطلب مهرا آخر غير ملهاة جديدة! 185 (تدخل ماريا.)
سير أندرو :
وأنا كذلك.
فابيان :
ها قد أتت صائدة المغفلين الرائعة!
سير توبي :
هل تسمحين بوضع قدمك على رقبتي؟
سير أندرو :
أو رقبتي أنا؟
سير توبي :
هل أراهن بحريتي في شوط من لعب النرد لأخسر وأصبح عبدك؟ 190
سير أندرو :
وأنا أيضا؟
سير توبي :
عجبا! لقد أدخلته حلما قاسيا، حتى إذا أفاق من أوهامه جن
جنونه.
ماريا :
كلا، لكن اصدقني القول .. هل نجح تدبيري؟ 195
سير توبي :
نجاح ماء الحياة
111
مع الداية !
ماريا :
إن كنتم تريدون مشاهدة ثمار «المقلب» حقا، فعليكم أن ترقبوا
أول دخول له على مولاتي. سوف يكون مرتديا جوربا أصفر،
وهو لون تمقته، ورباط ساق صليبي، وهو موضة تبغضها، وسوف
يبتسم لها، وهو ما لا يلائم مزاجها الآن على الإطلاق، ما دامت 200
في فترة الحداد، إلى الحد الذي يدفعها إلى احتقاره احتقارا شديدا.
وإن أردتم مشاهدة ذلك فتعالوا معي.
سير توبي :
إلى باب الجحيم
112
يا أمهر شياطين المكر والدهاء! 205
سير أندرو :
وأنا أيضا. (يخرج الجميع.)
الفصل الثالث
المشهد الأول (تدخل فيولا مع المهرج وهو يعزف الناي ويضرب الطبل.)
1
فيولا :
حفظك الله يا صاحبي وحفظ موسيقاك! هل تعيش بضرب الطبل؟
المهرج :
لا يا سيدي
2
بل أعيش بدرب الكنيسة!
3
فيولا :
فهل أنت من رجال الكنيسة!
المهرج :
لا يا سيدي! لكنني أعيش بدرب الكنيسة؛ فأنا أقيم في منزلي، 5
ومنزلي يقع في درب الكنيسة.
فيولا :
إذن لك أن تقول إن الملك يقيم بدرب الشحاذ إذا كان الشحاذ يقيم
بالقرب منه، أو إن الكنيسة تعيش على طبلك إذا كان طبلك يقع
بالقرب من الكنيسة؟ 10
المهرج :
تماما يا سيدي. وانظر إلى عصرنا الحالي! أصبح التعبير يشبه القفاز
اللين في يد القريحة اللماحة .. ما أسرع ما تقلبه فتظهر باطنه الخشن!
فيولا :
حقا! ذاك مؤكد. فإن من يتمتع باللماحية في استعمال الألفاظ
يستطيع بسرعة إضفاء الغموض عليها فتفسد! 15
المهرج :
ولذلك أتمنى لو لم يكن لأختي اسم يا سيدي.
فيولا :
لماذا يا رجل؟
المهرج :
لأن الاسم لفظ طبعا، واللماحية في استعمال ذلك اللفظ قد تفسد
أختي! ولكن، بجد يا سيدي، الألفاظ أوغاد بالتأكيد، ما دامت 20
الوعود تجلب العار لها.
4
فيولا :
والسبب يا رجل؟
المهرج :
الحق يا سيدي أنني لا أستطيع تقديم سبب دون ألفاظ، وقد غدت
الألفاظ كاذبة زائفة إلى الحد الذي أصبحت أكره تقديم أسباب بها. 25
فيولا :
لا شك أنك رجل مرح، ولا يوجد ما تكترث له.
المهرج :
لا يا سيدي! بل يوجد ما أكترث له. ولكني في أعماقي لا أكترث
لك. فإذا كان ذلك يعني عدم وجود ما أكترث له، فأتمنى أن يجعلك
ذلك غير مرئي! 30
فيولا :
ألست مهرج الليدي أوليفيا؟
المهرج :
لا بالحق يا سيدي. فلم ترتكب الليدي أوليفيا بعد مثل هذه الحماقة،
ولن يكون لديها مهرج حتى تتزوج، والمهرجون يشبهون الأزواج
5
مثلما يشبه السردين أسماك الرنجة؛ أي إن الأزواج أكبر حجما! لست 35
حقا مهرج الليدي بل أنا أفسد ألفاظها وحسب.
فيولا :
شاهدتك أخيرا لدى الدوق أورسينو.
المهرج :
التهريج يدور حول الأرض يا سيدي مثل الشمس؛ فهو يسطع في كل
مكان. ويحزنني ألا يلازم سيدي بقدر ما يلازم سيدتي! وأظن أنني 40
شاهدتك يا صاحب الحكمة هناك.
فيولا :
لا! إذا تحولت بهجومك إلي فلن أواصل الحديث معك. خذ هذه
لتغطية نفقاتك. (تعطيه قطعة نقود.)
المهرج :
أدعو الرب جوف،
6
عندما يرسل في المرة القادمة شحنة من الشعر، 45
أن يمنحك لحية!
فيولا :
الحق أنني - وصدقني - أكاد أذوب شوقا للحية ما. (جانبا) ولو
أنني لا أرجو نمو الشعر في ذقني. هل مولاتك في المنزل؟
المهرج :
هل يستطيع هذا الدرهم إنجاب الأطفال إذا تزوج قطعة نقود أخرى؟
7
50
فيولا :
نعم إذا عاشا معا وانتفع الناس بهما!
المهرج :
إذن أريد أن أقوم بدور بانداروس
8 «الفريجي» وأجمع بين المحبوبة
كريسيدا وبين طرويلوس .. هذا الدرهم العاشق!
فيولا :
أدرك ما تعني! لقد أحسنت السؤال! (تعطيه قطعة نقود أخرى.)
المهرج :
أرجو ألا تبالغ في أهمية الأمر؛ فلم أسأل إلا سائلا، بل أصبحت 55
كريسيدا نفسها سائلة! نعم يا سيدي. مولاتي في المنزل، وسوف
أبلغ من في المنزل من أين أتيت، أما من أنت وما تريد فأمور خارج
سمائي،
9
وكان يمكن أن أقول خارج «مجالي»، ولكن الكلمة أصبحت
بالية. (يخرج المهرج.) 60
فيولا :
هذا لديه من سداد العقل ما يكفي التظاهر بالبله
وحذق ذلك الدور العسير يقتضي اللماحية،
فإنه لا بد أن يراعي حالة الذي يهجوه أو مزاجه
وطبعه الشخصي بل واللحظة المناسبة
كالصقر لا ينقض إلا
10
عند رؤية الفريسة المطلوبة، 65
وذاك جهد مرهق كجهد كل جاد عاقل!
تصنع البلاهة الذي يمتاز بالإحكام يقتضي الذكاء،
أما سقوط عاقل في هوة السفه .. فذا بعينه الغباء. (يدخل السير توبي والسير أندرو.)
11
سير توبي :
حفظك الله يا أستاذ. 70
فيولا :
وأنت سيدي.
سير أندرو (بالفرنسية) :
رعاك الله سيدي.
فيولا (بالفرنسية) :
وأنت سيدي. في خدمتكم!
سير أندرو :
أتمنى ذلك يا سيدي، وأنا في الخدمة أيضا!
12
سير توبي (بلغة متصنعة) :
هل تلاقي المنزل؟ بنت أخي راغبة في دخولك، إن 75
كنت تبغي التعامل معها!
13
فيولا (تحاكي تصنعه) :
مرامي ابنة أخيك سيدي! أقصد أنها أقصى تخوم
رحلتي!
سير توبي (بالتصنع نفسه) :
امتحن ساقيك إذن .. حركهما!
فيولا :
ساقاي تفهمان قصدي يا سيدي أفضل من فهمي ما تقصد حين 80
تطلب مني أن أمتحنها!
سير توبي :
أقصد أن تذهب، يا سيدي، أن تدخل.
فيولا :
سأجيبك بالذهاب والدخول. ولكنها سبقتنا إلى المجيء! ها هي
ذي! 85 (تدخل أوليفيا وماريا.)
يا امرأة اجتمعت فيها أقصى المناقب والمحاسن! فلتمطر السماء الشذا
والأريج عليك!
سير أندرو (جانبا) :
هذا الشاب يتحدث لغة رجال البلاط المنمقة: «تمطر الشذا
والأريج» ... واضح!
14
فيولا (بلغة متصنعة) :
لن «ينطق» ما جئت بشأنه أيتها السيدة إلا لأذنك 90
أنت، المهيأة للتقبل، المعربة عن الرضا.
15
سير أندرو (جانبا) : «الشذا والأريج»، «المهيأة للتقبل»، «المعربة عن
الرضا»! سوف أحفظ هذه التعبيرات الثلاثة كي أستعملها إذا دعت
الحاجة!
أوليفيا :
فليغلق باب الحديقة واتركوني أستمع لما يقول. 95 (يخرج سير توبي وسير أندرو وماريا.)
أعطني يدك يا سيدي.
16
فيولا :
ذاك واجبي يا مولاتي .. أن أخدمك بكل تواضع!
أوليفيا :
ما اسمك؟
فيولا :
سيزاريو اسم خادمك، أيتها الأميرة الجميلة.
أوليفيا :
هل قلت خادمي يا سيدي؟ قد غابت البهجة عن دنيانا 100
من يوم أن حل اصطناع ذلك التواضع .. باسم الأدب!
بل أنت خادم يا أيها الفتى للدوق أورسينو.
فيولا :
والدوق خادمك. وخادمه .. لا بد أن يكون خادمك!
أي إن خادم خادمك .. هو خادمك .. مولاتي!
17
أوليفيا :
أنا لا أشغل بالي بالدوق وأرجو ألا يشغل بي باله، 105
بل أن يصبح حرا وخلي البال.
فيولا :
مولاتي .. جئت لأشحذ بالك حتى ينشغل به عطفا وحنانا!
أوليفيا :
اسمح لي أرجوك! قد كنت طلبت إليك بألا
ترجع لتحادثني أبدا عنه،
أما إن كنت على استعداد للسعي بمسعى آخر،
فأنا بالحق أفضل أن أستمع إليك على 110
أن أستمع لموسيقى الأفلاك.
18
فيولا :
مولاتي الغالية ...
أوليفيا :
أرجوك اسمح لي أن اتكلم! كنت بعيد لقائي معك هنا
آخر مرة .. أرسلت إليك مع المرسال بخاتم ..
وبذلك كنت أسيء لنفسي، وخدعت الخادم 115
بل أخشى أني أخطأت كذلك في حقك.
ولذلك لا بد بأن تقسو في تفسيرك أو في حكمك،
ما دمت فرضت عليك بمكر مستهجن
شيئا تعرف أنك لا تملكه. ما ظنك بي في هذي الحال؟
أفلم تجعل شرفي مربوطا في وتد كالدب،
19
120
تحيط به كل الأفكار الشرسة تنبحه أو تنهشه
وقد انطلقت من قلب قاس في صدرك؟
إنك ذو ذهن لماح، ولعلك أدركت الواقع؛
ففؤادي لا يحجبه صدر ، بل لا يكسوه غير لثام شفاف.
وإذن دعني أسمع ردك.
فيولا :
أشعر بالإشفاق عليك.
أوليفيا :
ذلك من خطوات الحب. 125
فيولا :
لا ليس بخطوة!
20
فالعالم يعرف أنا
ما أكثر ما نشعر بالإشفاق على الأعداء.
أوليفيا :
ذاك يعيد البسمة في ظني لشفاهي الآن.
21
ما أحرى المحروم بأن يشعر بالعزة والفخر!
إن كان من المحتوم على المرء بأن يفترس ويؤكل،
فالأفضل أن يأكله ليث لا ذئب!
22
130 (تدق الساعة.)
في دقات الساعة تأنيب لي؛ إذ أهدر وقتي.
لا تدع الخوف يساورك هنا يا أكرم شاب، لن أحظى بك،
23
أما إن حان حصاد شباب العمر ووقدة ذهنه،
فالأرجح أن تجني زوجتك غدا رجل وسامة. 135
قد حان رحيلك. أبحر بسفينتك تجاه الغرب.
فيولا :
إلى الغرب أمضي!
24
ألا فليباركك ربي فيهدأ جنانك.
ألست تودين إبلاغ مولاي أي رسالة؟
25
أوليفيا :
اصبر! أرجو أن تخبرني ما ظنك بي. 140
فيولا :
ظني أنك تعتقدين بأنك ما لست عليه.
26
أوليفيا :
إن كان الأمر كذلك فأنا أعتقد بأنك ما لست عليه.
27
فيولا :
في هذا أنت على حق؛ فأنا حقا ما لست عليه.
28
أوليفيا :
يا ليت أنك الذي أرجوه أن يكون!
29
فيولا :
وهل يكون ذاك خيرا من كياني الآن يا مولاتي؟
30
145
يا ليته يكون؛ فإنني أحس أنني أضحوكة لديك الآن!
أوليفيا (جانبا) :
آه كم يزداد جمالا في إعراضه.
حتى في ذاك الصد وزم الشفتين!
31
ما أسرع ما انكشف الحب وإن كان خفيا فانفضحا
أسرع من إفصاح القاتل عن ذنب نضحا،
32
فالحب ولو في جنح الليل ضياء ضحى وضحا! 150
يا سيزاريو! قسما بربيع الورد وبالعفة والشرف وبالحق الصادق،
بل قسما بالدنيا إني أهواك هوى فائقا!
لا يقدر أن يخفي، رغم صدودك، حبي المشبوب الآن
عقل أو أي ذكاء وقاد في طوق الإنسان.
لا تقم الحجة في هذي الحال على أني 155
ما دمت أنا أطلبك عليك بأن تنكرني؛
فالحجة تنقضها حجتي الصائبة المرمى.
الحب المنشود جميل لكن الممنوح لنا أسمى.
فيولا :
إني لأقسم بالبراءة والشباب بأن قلبي واحد،
وبأن صدري واحد، وبأن ما أحكيه حق أوحد 160
وبأن ذلك ليس تملكه امرأة .. مهما تكن،
ولن يكون إلا لي أنا .. على مر الزمن.
هذا إذن وقت الوداع حان الآن يا مولاتي الأمينة،
ولن أعود كي أشير للدموع في عيون مولاي الحزينة،
أوليفيا :
لكن عد فلقد تنجح في إحلال الحب 165
بمحل نفورك يوما ما داخل ذاك القلب. (يخرجان.)
المشهد الثاني (يدخل سير توبي، وسير أندرو وفابيان.)
33
سير أندرو :
كلا! قسما لن أمكث لحظة أخرى.
سير توبي :
والسبب يا من تقدم السم الزعاف؟ ما السبب؟
فابيان :
لا بد أن تقدم لنا سببك يا سير أندرو.
سير أندرو :
والله لقد شاهدت ابنة أخيك تفيض بالعطف على خادم الدوق 5
بأكثر مما أولتني إياه من العطف حتى الآن. شهدت ذلك في
الحديقة.
سير توبي :
وهل رأتك في تلك الأثناء يا صديقي؟ أجب!
سير أندرو :
رأتني بوضوح كما أراكما الآن.
فابيان :
ذلك برهان قاطع على حبها لك. 10
سير أندرو :
هراء! فهل تظنني حمارا؟
فابيان :
سأثبت لك أنه برهان قانوني، وسوف يحلف على صدق ذلك
القياس الصائب والحكم المنطقي.
34
سير توبي :
وهما من أعضاء هيئة المحلفين الكبرى من قبل أن يصبح نوح
ملاحا! 15
فابيان :
لقد تعمدت أن تبدي العطف على الشاب، على مرأى منك؛ حتى
تغيظك، حتى توقظ شجاعتك من بياتها الشتوي،
35
حتى تشعل النار
في قلبك، وتلهب كبدك. وكان عليك عندها أن تتقدم منها، وتقدم
لها بعض الفكاهات الممتازة الجديدة، كأنها العملة التي خرجت
لتوها من فرن سك النقود، وكان عليك أن تفحم الشاب وتخرس 20
لسانه. ذلك ما كانت تتوقعه منك، وذلك ما تحاشيته، وهكذا
سمحت للزمن بأن يزيل الطلاء الذهبي المزدوج
36
عن تلك الفرصة،
فأصبحت ملاحا تجوب أصقاع الشمال الباردة في نظر مولاتي،
وسوف تظل معلقا مثل قطعة الجليد على لحية بحار هولندي، إلا إذا
استطعت علاج الموقف، فقمت بعمل رائع، يقوم على الشجاعة أو 25
التدبير المحكم الذي يجيده أهل السياسة.
سير أندرو :
إن كان ذلك محتوما فأختار الشجاعة؛ لأنني أكره السياسية،
والتزمت في الدين مثلما يفعل أتباع براون
37
أهون علي من ممارسة
السياسة. 30
سير توبي :
وإذن عليك أن تقيم النجاح على أساس الشجاعة؛ عليك بتحدي
الشاب خادم الدوق حتى يبارزك، واجرحه في أحد عشر موقعا في
جسده! وعندها سوف تبهر ابنة أخي! وتأكد أن أنباء الشجاعة خير 35
من يتوسط في الحب للرجل لدى المرأة!
فابيان :
ليس أمامك سوى هذه الوسيلة يا سير أندرو!
سير أندرو :
هل يقبل أحدكما أن يحمل رسالة التحدي مني إليه؟
سير توبي :
امض إذن واكتبها بخط يشبه خط الجندي،
38
ولتكن شديدة اللهجة 40
وموجزة، وليس من المهم أن تكون بارعة اللماحية ما دامت بليغة
وغاصة بالتهم الملفقة!
39
اجرح مشاعره بقدر ما يسمح لك القلم، ولن
يضيرك أن تخاطبه بضمير المفرد احتقارا ثلاث مرات، واتهمه
بالكذب عليك، وضع أكبر قدر من الأكاذيب تتسع له الورقة، ولو
كانت ضخمة مثل السرير الكبير الفسيح!
40
هيا! لا تهدر الوقت! 45
وليكن حبر
41
قلمك مفعما بمرارة الصفراء، وإن كنت تكتب بريشة
إوزة!
42
لا يهم! هيا!
سير أندرو :
وأين أجدكما؟
سير توبي :
سنأتي إليك في غرفة نومك.
43
اذهب الآن. هيا. 50 (يخرج سير أندرو.)
فابيان :
كم تحب أن تلهو بهذه الدمية الغالية لديك
44
يا سير توبي!
سير توبي :
وأنا غال لديه يا صديقي أيضا! إذ كلفته ما يقرب من ألفي دينار!
فابيان :
سوف نحصل على خطاب عجيب منه! لكنك لن تسلمه للغلام؟ 55
سير توبي :
لا تخف من هذه الناحية،
45
وسوف أحث الشاب على الرد عليه. لا
أعتقد أننا يمكن أن نجمع بين هذين معا ولو بالحبال في عربات
46
تجرها الثيران. أما أندرو، فإنك إن شققت بطنه ووجدت في كبده
دما
47
يكفي لتعويق رجل برغوث، فسوف آكل باقي الجسم! 60
فابيان :
وغريمه الشاب لا يحمل وجهه دلائل كبيرة على القسوة! (تدخل ماريا.)
سير توبي :
ها قد أتت أصغر الأخوات التسع
48
لطائر النمنمة!
ماريا :
إن كنتما تريدان الضحك الشديد، والقهقهة حتى تنفجر الأشداق 65
فاتبعاني! فهناك استحال المغفل مالفوليو إلى وثني، وتنكر لإيمانه
حقا؛ فإن من المحال على مسيحي يرجو الخلاص أن يصدق ما
صدقه من أقوال شاذة مستحيلة. لقد ارتدى الجورب الطويل الأصفر!
سير توبي :
ورباط الساق الصليبي؟ 70
ماريا :
بأبشع صورة ممكنة. كأنه متحذلق
49
لم يجد تلاميذ فأخذ يلقي دروسه
في الكنيسة! ولقد سرت في أثره كأنني أطارد قاتلا. والحق أنه أطاع
كل ما ذكرته في الخطاب الذي ألقيته لأفضحه. ولقد ارتسمت في
وجهه الغضون من شدة الابتسام أكثر من الخطوط الواردة في الخريطة 75
الجديدة للعالم، بعد إضافة خطوط العرض إلى الهند.
50
لم تشاهدا
في حياتكما شيئا يضارع هذا! إني لا أكاد أمنع نفسي من قذفه
ببعض الأشياء. وأعرف أن مولاتي سوف تضربه،
51
فإذا فعلت فسوف
يبتسم، ويظن أن ذلك تعطف كبير منها. 80
سير توبي :
هيا خذينا إليه ... خذينا إليه. (يخرج الجميع.)
المشهد الثالث (يدخل سباسيتان وأنطونيو.)
52
سباستيان :
ما كنت لأقبل طوعا إرهاقك،
لكن ما دمت ترى في تعبك متعة،
فأنا أتوقف عن أي عتاب آخر!
أنطونيو :
لم أقدر أن أتخلى عنك! فالرغبة عندي تدفعني دفعا
لمصاحبتك .. فهي أحد من الفولاذ المسنون! 5
لم يكن الدافع حبي وحده (وهو يجاوز كل حدود حتى
إن كاد ليغريني بمواصلة الرحلة في البحر)،
لكني أشعر أيضا بالقلق عليك لترحالك وحدك؛
إذ لا تعرف شيئا عن هذي الأصقاع،
وإذا حل غريب فيها دون صديق أو مرشد 10
لاقى من ألوان العنت وسوء ضيافتها كل معاناة؛
53
ولذلك بادرت بأن أتبعك مدفوعا بالحب المشبوب،
إلى جانب ما أوضحت من الخوف عليك.
سباستيان :
لا أستطيع أنطونيو العطوف غير شكرك، بل أن
أكرر الشكر الجزيل أبدا! والحق أنه كثيرا ما يجازى 15
صانع المعروف بالشكر الذي يعد عملة
لا تشتري روقا! لكنه إن كان مالي
مثل إحساسي بديني كافيا، فسوف تلقى عندها
ما تستحقه من المكافأة. ماذا عسانا فاعلان؟
ألا نطوف كي نرى الآثار في هذي المدينة؟
أنطونيو :
لا بل غدا يا سيدي. عليك أولا برؤية النزل. 20
سباستيان :
لكنني بالحق لست مرهقا. والليل لم يزل بعيدا.
أرجوك هيا كي نمتع العيون بالآثار والمزارات الشهيرة التي
أطارت صيت هذه المدينة.
أنطونيو :
أرجو إعفائي إذ لا أقدر أن أذرع هذي الطرقات 25
بلا خطر لحياتي. والواقع أني شاركت قديما في معركة
ضد سفائن هذا الدوق، وذاعت شهرتها حتى
إن قبض علي اليوم فلن تفلح أية تعويضات في إنقاذي.
54
سباستيان :
لربما أهلكت أرواحا كثيرة من جنده.
أنطونيو :
جريرتي ليست إسالة الدماء! حتى وإن كان الصراع آنذاك 30
قادرا على إثارة الضغائن التي يسفك فيها الدم،
وربما يكون ذلك الصراع قد حسم
بدفع ما لهم علينا .. ومعظم التجار في بلدتنا
قد سددوا الأموال من حرص على مصالح التجارة .. إلا أنا! 35
وهكذا فإن أسرت ها هنا فسوف أدفع غاليا!
سباستيان :
ولماذا لا تتخفى في تجوالك؟
أنطونيو :
ليس يلائمني ذلك. خذ! هذا كيس نقودي. أفضل نزل
لإقامتك هنا نزل يدعى «إليفانت»،
55
في منطقة جنوب البلدة.
سوف أحادثهم فيه عن الأطعمة المطلوبة أثناء سياحتك الخاصة 40
وسقاية عطشك للمعرفة برؤية آثار البلدة ومعالمها.
ولسوف أكون بذاك النزل اليوم.
سباستيان :
ولماذا آخذ كيس نقودك؟
أنطونيو :
لربما رأيت تحفة أردت أن تنالها فتشتريها،
وليس ما لديك الآن من مال بقادر 45
على شراء أي شيء سيدي.
سباستيان :
سأكون إذن حامل كيس نقودك،
وسأتركك الآن لمدة ساعة.
أنطونيو :
في فندق إليفانت.
سباستيان :
أذكر ذلك. (يخرجان.)
المشهد الرابع (تدخل أوليفيا وماريا.)
56
أوليفيا (جانبا)
57 :
أرسلت أطلب الحضور منه .. فإن أتى
فما الوليمة التي تليق به؟ وما الذي أهديه له؟
فالأغلب ابتياع الشاب لا استجداؤه أو استعارته.
58
لا بد أن أخفض صوتي ..
59
وأين مالفوليو؟ فإنه لعاقل رزين،
60
5
وأفضل الذين يخدمون من غدت بمثل حالتي.
61
أقول أين مالفوليو؟
ماريا :
قادم يا مولاتي، ولكنه في حال بالغة الغرابة. ولا بد أن عفريتا يسكنه
يا مولاتي.
أوليفيا :
عجبا ما الأمر؟ هل يهذي؟ 10
ماريا :
لا يا مولاتي. لا يفعل شيئا إلا أن يبتسم وحسب. والأفضل لك
يا صاحبة العصمة أن تجعلي بعض الحرس يحيطون بك إذا أتى،
فلا شك أن بعقل الرجل مسا من الخبل.
أوليفيا :
امضي واستدعيه! (تخرج ماريا.)
إن كان جنون الفرح يماثل خبل الأحزان، 15
فبعقلي خبل حق من شدة أشجاني. (يدخل مالفوليو مع ماريا.)
كيف حالك يا مالفوليو؟
مالفوليو :
مرحى مولاتي الحلوة مرحى!
أوليفيا :
هل تبتسم؟ إني أرسلت أستدعيك في أمر جاد.
مالفوليو :
جاد يا مولاتي؟ يمكنني أن أتجهم قطعا؛ فرباط الساق الصليبي يعوق 20
الدورة الدموية بعض الشيء. ولكن ذلك غير مهم، ما دام ذلك يحلو
في عين شخص معين. وينطبق علي ما تقوله السونيتة الصادقة
62 «إن
سر ذاك شخصا واحدا فإنه يسر كل الناس.»
أوليفيا :
عجبا .. ما حالك يا رجل؟ ماذا أصابك؟ 25
مالفوليو :
لم تصب السوداء عقلي، وإن اكتسى ساقاي باللون الأصفر!
63
لقد وقع
الخطاب في يدي، ولا بد من تنفيذ الأوامر. وأعتقد أننا نعرف الخط
المائل
64
الجميل حق المعرفة.
أوليفيا :
الأفضل أن تأوي إلى الفراش يا مالفوليو! 30
مالفوليو :
إلى الفراش؟ حقا يا حبيبتي وسوف آتي إليك.
65
أوليفيا :
فليرحمك الله! لم تبتسم هذه البسمات وتقبل يدك بهذا الأسلوب؟
ماريا :
كيف حالك يا مالفوليو؟
مالفوليو :
هل تسألينني؟
66
نعم! أصبحت البلابل تجيب الغربان! 35
ماريا :
لماذا تظهر بهذه الجرأة المزرية أمام مولاتي؟
مالفوليو : «لا تخف العظمة»، تعبير رائع.
أوليفيا :
ماذا تعني بذاك يا مالفوليو؟
مالفوليو : «البعض يولدون عظماء» ... 40
أوليفيا :
ماذا؟
مالفوليو : «والبعض يكتسبون العظمة» ...
أوليفيا :
ماذا تقول؟
مالفوليو : «والبعض تفرض العظمة عليهم فرضا.»
أوليفيا :
رد الله لك عقلك! 45
مالفوليو : «وتذكر من امتدحت جوربك الأصفر» ...
أوليفيو :
جوربك الأصفر؟
مالفوليو : «وتمنت أن تراك وأنت تلبس رباط الساق الصليبي.»
أوليفيا :
رباط الساق الصليبي؟ 50
مالفوليو : «دعني أؤكد لك أنك بلغت العلا إن كنت تريد بلوغ العلا» ...
أوليفيا :
هل بلغت أنا العلا؟
مالفوليو :
وإلا فلتظل في عيني حاجبا.
أوليفيا :
لا لا! هذا خبل الصيف إذا انتصف
67
بعينه! 55 (يدخل خادم.)
الخادم :
مولاتي! عاد السيد الشاب الذي أرسله الدوق أورسينو، وعجزت عن
إقناعه بالعودة من حيث أتى. وهو في انتظار ما تأمر به مولاتي.
أوليفيا :
سأذهب إليه أنا (يخرج الخادم). يا ماريا الكريمة. فليعتن أحدكم
بهذا الرجل. أين ابن العم توبي؟ فليرعه بعض أتباعي رعاية خاصة؛ 60
فلا أريد أن يصاب بأذى ولو فقدت نصف مهري. (تخرج أوليفيا وماريا من بابين مختلفين.)
مالفوليو (وحده على المسرح) :
ها ها! هل بدأت تفهمينني الآن؟ لم تجدي
رجلا أسوأ من سير توبي كي يرعاني؟ هذا يتفق بدقة مع ما جاء في
الخطاب؛ إذ ترسله عمدا حتى أظهر الشدة معه، فذاك ما تحثني عليه 65
في الخطاب إذ تقول: «اخلع ثوب تواضعك.» وتقول: «عارض أحد
الأقرباء، وكن سليط اللسان مع الخدم، ولتجر على لسانك عبارات 70
رجال الدولة، وتظاهر بأنك شاذ السلوك.» وهي تحدد بعد ذلك
أسلوب ذلك، مثل اصطناع جهامة الوجه، ورزانة الحركة، وبطء
التفوه بالألفاظ، كما هو شأن كل «فارس معلم»، وهلم جرا. لقد
اصطدت ذلك الطائر، ولكن ذلك من صنع الرب جوف، فاجعلني
يا جوف حامدا شاكرا! كما إنها قالت الآن لتوها قبل ذهابها: 75 «فليعتن أحدكم بهذا الرجل.» قالت «الرجل» ولم تقل مالفوليو؛
أي لم تراع موقعي الاجتماعي بل اعتبرتني «رجلا»! حقا! إن كل
هذه الدلائل تبدو متسقة بحيث لا أجد عائقا خلقيا واحدا، لا بل
ولا خردلة
68
من أي عائق خلقي، ولا عقبة، ولا أدنى ظاهرة تثير
الشك أو تنذر بالحظر - ماذا عساي أن أقول؟ - لا شيء يمكنه أن 80
يحول بيني وبين الآفاق الكاملة لآمالي. والحق أن جوف، لا أنا،
هو الذي فعل هذا، وله الحمد والشكر! (يدخل سير توبي وفابيان وماريا.)
سير توبي :
أين ذهب باسم الرب؟ لسوف أحادثه حتى لو اجتمعت في جسمه 85
كل شياطين جهنم، وكان الذي يسكنه جيش عفاريت لا عفريت
واحد!
فابيان :
ها هو ذا، ها هو ذا! كيف حالك يا سيدي؟ كيف حالك يا رجل؟
مالفوليو :
ابتعدوا عني! إني ألفظكم! ودعوني أتمتع بخلوتي! انصرفوا! 90
ماريا :
انظروا كم يفصح العفريت الذي يسكنه عن خوائه! ألم أقل لكم؟
سير توبي! إن مولاتي ترجوك أن ترعاه.
مالفوليو (جانبا) :
آها! هل ترجو ذلك حقا؟ 95
سير توبي :
انفضوا! انفضوا! اسكتوا جميعا! لا بد أن نعامله برفق. دعوه لي.
كيف حالك يا مالفوليو؟ ماذا حدث لك؟ عجبا لك أيها الرجل! لا
تستمع إلى الشيطان! واذكر أنه عدو الإنسان.
مالفوليو :
هل تعرف ما تقول؟ 100
ماريا :
انظروا كيف يفزع حين تشتمون الشيطان! أدعو الله ألا يكون قد
أصابه سحر ساحر!
69
فابيان :
اجعلوا «الحكيمة» تكشف عن السحر في بوله.
70
ماريا :
قسما لا بد من ذلك في صباح الغد، إن عشت إلى الغد! فمولاتي
لا تريد أن تفقده
71
مهما كلفها الأمر! 105
مالفوليو :
ماذا بك يا امرأة؟
ماريا :
يا إلهي!
سير توبي :
أرجوك أن تسكتي أنت؛ فليس هذا هو أسلوب العلاج. ألا ترين
أنك تثيرينه؟ دعوني وحدي معه. 110
فابيان :
ليس أمامنا إلا التلطف، فتلطفوا وتلطفوا؛ فالعفريت فظ غليظ،
ويجب ألا نعامله بفظاظة.
سير توبي :
إذن كيف حالك أيها الديك الزاهي؟
72
كيف حالك أيها الكتكوت؟ 115
مالفوليو :
سيدي!
سير توبي :
نعم يا «حبيبي» تعال معي! لا يصح لمن في وقارك أيها الرجل أن
يلهو لهو الصبيان
73
مع إبليس. فليشنق ذلك الفحام الخبيث!
74
ماريا :
اجعله يصلي يا سير توبي الأكرم! اجعله يصلي! 120
مالفوليو :
أن أصلي أيتها البذيئة؟!
ماريا :
لا، وأؤكد لكم، لن يقبل أي قدر من التقوى.
مالفوليو :
اشنقوا أنفسكم كلكم! يا لغبائكم وضحالتكم! لست أنا من طبقتكم،
75
وسوف تعرفون المزيد فيما بعد. 125 (يخرج مالفوليو.)
سير توبي :
هل هذا ممكن؟
فابيان :
لو كان ذلك يحدث على خشبة مسرح الآن، لأنكرته باعتباره
خيالات خرافية.
سير توبي :
لقد سرت عدوى الحيلة في روحه
76
ذاتها. 130
ماريا :
لا ! بل تابعوه الآن حتى لا يذيع خبر الحيلة فتفسد.
فابيان :
قطعا .. لسوف نصيبه بالجنون الحق.
ماريا :
فيزداد هدوء المنزل. 135
سير توبي :
تعالوا نقيده ونحبسه في غرفة مظلمة؛ فبنت أخي تعتقد فعلا أنه
مجنون،
77
ومن ثم فلنا أن نسايرها في هذا الاعتقاد بتنفيذ ذلك؛ فهو
يحقق لنا المتعة، ويكفر له عن ذنوبه. فإذا «تقطعت أنفاس» ملهاتنا
إرهاقا،
78
فربما دفعتنا إلى أن نرحمه! وعندها نذيع سر المكيدة حتى 140
يحكم الجمهور عليها،
79
وربما يتوجك الجمهور بتاج مكتشفة المجانين.
ولكن انظروا! انظروا! (يدخل سير أندرو.)
فابيان :
سيزيد اللهو حتى يناسب عيد الربيع!
سير أندرو :
هذا خطاب التحدي، فاقرءوه! أؤكد لكم أن فيه الخل والفلفل. 145
فابيان :
أهو لاذع المذاق؟
80
سير أندرو :
قطعا وبلا شك. ما عليك إلا أن تقرأ.
سير توبي :
أعطني إياه. (يقرأ) «أيها اليافع، مهما تكن مكانتك، فلست 150
غير حقير.»
فابيان :
هذا جميل، ويدل على الشجاعة.
سير توبي (يقرأ) : «لا تعجب، ولا تخامرنك الدهشة،
81
من نعتي إياك بهذه الصفة،
فلن أبين لك سببا لذلك.»
فابيان :
عبارة حصيفة، ينجيك ما بها من الحذر من طائلة القانون.
82
155
سير توبي (يقرأ) : «إنك تأتي إلى الليدي أوليفيا، وعلى مرأى مني تبدي العطف
عليك، ولكنك كذاب أشر،
83
وليس ذلك هو الموضوع الذي أتحداك
للنزال بسببه.»
فابيان :
خطاب بالغ الإيجاز، وبالغ الدلالة إلى أقصى حد (جانبا) على
الغباء!
84
160
سير توبي (يقرأ) : «سوف أتربص بك في طريق عودتك لمنزلك، فإذا تصادف أن
قتلتني ...
فابيان :
جميل.
سير توبي (يقرأ) : «فكالوغد والشرير تقتلني.»
85
فابيان :
ما زلت بمنجى من مهب ريح القانون. جميل. 165
سير توبي (يقرأ) : «إلى اللقاء إذن. وليرحم الله روح أحدنا! وربما يرحم روحي
أنا، ولكن رجائي أفضل من ذلك،
86
وإذن فاحذر واحترس. التوقيع:
صديقك إن عاملته كصديق، وعدوك اللدود.
87
أندرو إجيوتشيك.» 170
إذا لم يستطع هذا الخطاب أن يأتي به، فلن تستطيع ساقاه ذلك.
سوف أعطيه إليه.
ماريا :
ربما كانت الفرصة سانحة الآن؛ فهو يحادث مولاتي في أمر ما
وسوف يرحل بعد قليل. 175
سير توبي :
هيا يا سير أندرو! تربص له في ركن الحديقة مثل محضر المحكمة،
88
وحالما تبصره، استل سيفك! وأثناء سل السيف اقذفه بشتائم
شنيعة؛ فكثيرا ما يكون السباب الشنيع سلاحا ماضيا، خصوصا إذا
صدر بنبرات زهو وخيلاء، وصلف وكبرياء، وهو أقدر على إثبات 180
الرجولة الحقة من أي أفعال لا تصحبها الشتائم! هيا انطلق!
سير أندرو :
لا! أنا لا أجارى في الشتائم! (يخرج سير أندرو.)
سير توبي :
الواقع أنني لن أسلم ذلك الخطاب؛ إذ إن سلوك ذلك اليافع الكريم 185
المنبت يدل على أنه عاقل مهذب، وسفارته بين مولاه وبنت أخي
تؤكد ذلك. وهكذا فإن الجهل الشديد الذي ينم عنه هذا الخطاب لن
يخيف ذلك الشاب إطلاقا؛ إذ سيرى أنه مرسل من بليد أحمق،
89
190
لكنني يا سيدي سوف أبلغه التحدي شفويا، ولسوف أقول إن السير
أندرو إجيوتشيك رجل ذاعت شجاعته، وسوف أرسم في خيال
السيد المهذب صورة بالغة البشاعة (وأنا واثق أن يفوعه سيجعله
يتقبلها بسهولة) عن ثورة الغضب لدى السير أندرو، وعن براعته 195
في النزال، وفورات حنقه واندفاعه المتهور. ولسوف يؤدي ذلك إلى
قذف الرعب في قلب كل منهما، حتى لسوف يقتلان بعضهما
البعض حالما يتبادلان النظرات، مثل الأفعوان ذي النظرة الفاتكة.
90 (تدخل أوليفيا وفيولا.)
فابيان :
ها هو ذا قادم مع بنت أخيك. أمهلهما حتى يحين انصرافه، ثم
الحق به على الفور. 200
سير توبي :
سوف أدبر في هذه الأثناء رسالة تحد مرعبة تدعوه للنزال. (يخرج سير توبي وفابيان وماريا.)
أوليفيا :
لشد ما أسرفت في خطاب قلب قد من حجر،
91
كما رهنت سمعتي بلا احتراس أو حذر.
وإن في الأحشاء ما يلومني على اقتراف ذلك الخطأ، 205
لكن ذلك الخطأ .. ذو مرة صعب المراس،
حتى غدا يستهزئ الغداة بالملام!
فيولا :
ودرب هذه المشاعر المشبوبة التي لديك،
درب أحزان الصدود عند سيدي.
أوليفيا :
اشبك بصدرك هذه الحلية! رسم مصغر يصورني! 210
حذار أن ترفضها .. فما لها لسان قد يثير سخطك!
أرجوك أن تعود لي غدا أرجوك.
وهل تراك ترجو أن تنال شيئا ثم أمنعه؟
فكل ما تطلبه أجيبه ما دمت لا أمس صفحة الشرف.
فيولا :
لا شيء إلا أن تحبي سيدي حبا صدوقا! 215
أوليفيا :
وكيف أعطيه الذي أعطيك
92
ثم لا أمس شرفي؟
فيولا :
إني إذن أعفيك.
93
أوليفيا :
فلتأت غدا ثانية .. حتى ألقاك وداعا لك.
قد يلقي روحي في نار جهنم شيطان مثلك! (تخرج أوليفيا.) (يدخل سير توبي وفابيان.)
سير توبي :
حفظك الله يا سيد! 220
فيولا :
وأنت سيدي!
سير توبي :
تأهب للدفاع عن نفسك. لا أعرف ما أسأت إليه فيه، ولكن
غريمك مفعم بالشر، سفاك للدم مثل الصياد،
94
وهو ينتظرك في
طرف الحديقة. سل سيفك من غمده، وعجل بالاستعداد له؛ فمن 225
يهاجمك سريع بارع فتاك.
فيولا :
أخطأت سيدي؛ فأنا واثق أنه لا خصومة بيني وبين أحد، وذاكرتي
بريئة تماما وصافية ولا تحمل أية إساءة لأي رجل. 230
سير توبي :
سترى أن الأمر على خلاف ذلك، أؤكد لك. وإذن فإذا كنت ترى
لحياتك أية قيمة، كن على حذر، فإن غريمك يتمتع بكل ما يتمتع
به الرجل في شبابه من قوة وبراعة وغضب. 235
فيولا :
أرجوك قل لي سيدي ما مكانته؟
سير توبي :
فارس، نال المنزلة بسيف غير مثلوم، وفي القصر لا في الميدان،
لكنه في المبارزات الفردية شيطان. وقد فصل ثلاث أرواح عن
أجسادها، وغضبه في هذه اللحظة عميق إلى الحد الذي يجعله لا
يقبل التراضي إلا بآلام الموت والمواراة في القبر. وشعاره هو الحياة 240
أو الموت، لك أو له!
فيولا :
سأعود إلى المنزل فأطلب الاحتماء بالليدي؛ فلست مقاتلا، ولقد 245
سمعت عن بعض الرجال الذين يفتعلون الصراع عمدا مع غيرهم
لاختبار شجاعتهم، وربما يكون هذا الرجل منهم.
سير توبي :
لا يا سيدي؛ فإن استياءه يقوم على إساءة يعترف بها القانون،
وعليك من ثم أن تتأهب وتحقق له رغبته. ولن أسمح لك بالعودة 250
إلى المنزل إلا إذا نازلتني منازلة لن تهيئ لك أمنا وسلامة أكبر من
منازلته. وإذن فامض إليه أو فجرد سيفك من غمده؛ فالنزال
محتوم، هذا مؤكد، إلا إذا أقلعت عن حمل أي سيف بعد الآن. 255
أوليفيا :
هذا موقف ينم عن وقاحة وغرابة معا. أتوسل إليك إن شئت
مجاملتي أن تستفسر من الفارس عن إساءتي إليه؛ فإنها لا شك
نتيجة السهو لا العمد. 260
سير توبي :
سوف أستفسر منه. وانتظر يا سنيور فابيان مع هذا السيد حتى
أعود. (يخرج سير توبي.)
فيولا :
أرجوك يا سيدي .. هل تعرف شيئا عن هذا الأمر؟
فابيان :
أعرف أن الفارس ناقم عليك، إلى الحد الذي يدفعه لتحكيم سيف
فتاك، لكنني لا أعرف المزيد عن ظروف ذلك. 265
فيولا :
قل لي أرجوك، أي نوع من الرجال هو؟
فابيان :
مظهره هادئ رائع، لا ينبئ إطلاقا عن صلابته وشجاعته في النزال؛
فهو حقا يا سيدي أبرع الخصوم وأفتكهم وأسفكهم للدم، ولن تجد 270
مثيلا له في إلليريا كلها. فإذا تقدمت نحوه فسوف أصالحكما إذا
استطعت.
فيولا :
وسأحمل لك امتنانا كثيرا؛ فأنا أفضل الاشتباك مع الكاهن
95
على 275
الاشتباك مع الفارس! ولا يهمني أن يعرف أحد الكثير عن حقيقة
معدني. (يخرجان وإن كانا لا يزالان ظاهرين على المسرح من باب الحديقة المفتوح.) (يدخل سير توبي وسير أندرو.)
96
سير توبي :
قطعا يا رجل؛ فهو شيطان حق، ولم أشهد بين المقاتلة
97
مثيلا له.
وقد نازلته شوطا
98
بالسيف والخنجر وما إلى ذلك، وشهدت منه
ضربة فاتكة لو أراد بها قتلي لقتلني حتما. وإذا وجهت إليه ضربة، 280
أجابك بضربة واثقة ثقتك من وجود قدميك على الأرض. ولقد قيل
إنه كان أستاذ فنون السيف لدى الشاه.
99
سير أندرو :
لعنة الله على ذلك، لن أشتبك معه. 285
سير توبي :
نعم ولكنه لا يقبل الصلح الآن، وفابيان يجد صعوبة في إيقافه
حيث يقف هناك.
سير أندرو :
لعنة الله على ذلك! لو كنت أعرف أنه شجاع وبهذه البراعة في
المبارزة ما كنت قبلت أن أتحداه قط! اسمع! أقنعه بأن ينسى 290
الموضوع، وسوف أهديه فرسي كابيليت
100
الرمادي.
سير توبي :
سأعرض هذا العرض عليه. قف هنا وتظاهر بالشجاعة، وسوف
ينتهي الخلاف دون إزهاق أرواح. (جانبا) وسوف أركب حصانك 295
بالبراعة التي أركبك بها. (يدخل فابيان وفيولا.) (جانبا إلى فابيان) كسبت حصانه في مقابل تسوية النزاع؛ إذ أقنعته
أن الشاب شيطان.
فابيان (جانبا إلى توبي) :
إنه يتصور أنه رهيب أيضا، وقد شحب لونه وأخذ
يلهث كأنما كان دب في أعقابه. 300
سير توبي (إلى فيولا) :
لا أمل في الصلح سيدي؛ إذ يصر على منازلتك برا
بقسمه، لكنه عدل عن رأيه في أسس الخصومة، ولم يعد يجد فيها
ما يستحق المناقشة. عليك إذن أن تسل سيفك حتى لا ينقض
قسمه، وهو يؤكد أنه لن يصيبك بسوء. 305
فيولا (جانبا) :
أسألك يا رب النجاة! وأكاد أفضي لهم بمقدار ما ينقصني
عن الرجل.
101
فابيان (إلى سير أندرو) :
تراجع إن شاهدت غضبته. 310
سير توبي (يعبر المسرح إلى سير توبي) :
هيا يا سير أندرو! لا أمل في الصلح؛
فالسيد يصر صونا لشرفه أن ينازلك شوطا واحدا، ولا يستطيع
تجنب ذلك وفق قوانين المبارزات، لكنه وعدني بحق كرم محتده
وانتمائه الحربي ألا يصيبك بأذى. هيا! إلى النزال. 315
سير أندرو :
أدعو الله أن يبر بقسمه! (يدخل أنطونيو.)
102
فيولا :
ثق في قولي. إني أفعل ذلك وأنا مكره! (سير أندرو وفيولا يستلان سيفيهما.)
أنطونيو (وهو يستل سيفه.) :
أغمد سيفك! إن كان الشاب الأكرم ذاك
أساء إليك، فإني أتحمل وزره! أما إن 320
كنت أسأت إليه فأنا أتحداك دفاعا عنه!
سير توبي :
أنت، سيدي؟ عجبا من أنت إذن؟
أنطونيو :
شخص يا سيد يدفعه حبه
حتى يتجاسر فيقوم بأكثر مما يتفاخر ذاك بفعله!
سير توبي :
لا! إن كنت تقاتل بدلا من بعض الناس
103
فأنا لك! 325 (يستل سير توبي سيفه.) (يدخل رجال الشرطة.)
فابيان :
كف يا سير توبي الكريم؛ فقد أتى رجال الشرطة.
سير توبي (إلى أنطونيو) :
سأعود إليك حالا.
فيولا (إلى سير أندرو) :
أرجوك يا سيدي، أغمد سيفك، من فضلك. 330
سير أندرو :
أقسم إني سأغمده يا سيدي، وأما ما وعدتك به من قبل،
104
فسوف
أفي بوعدي، وسوف يسهل لك ركوبه ويسلس لك قياده.
الضابط 1 :
هذا هو الرجل. قم بواجبك.
الضابط 2 :
أنطونيو! إني ألقي القبض عليك
في دعوى الدوق أورسينو ضدك. 335
أنطونيو :
أخطأت الشخص المطلوب.
الضابط 1 :
لا يا سيد لم أخطئ قط؛ فأنا أعرف وجهك خير المعرفة !
حتى دون القبعة البحرية فوق الرأس.
105
امضوا الآن به إذ يعرف أني أعرفه خير المعرفة.
أنطونيو :
لا بد إذن أن أنصاع (إلى فيولا)، وبحثي عنك هو السبب! 340
لكن لا مهرب لي ولسوف أواجه هذي التهمة.
ماذا تفعل أنت إذن ما دمت بسبب الحاجة مضطرا
أن أطلب منك إعادة كيس نقودي؟ يحزنني
عجزي عن تقديم العون إليك ..
أكثر من ضيقي مما يحدث لي. تبدو مذهولا أو في حيرة. 345
لكن خفف عنك.
الضابط 2 :
هيا يا سيد فلنمض الآن.
أنطونيو :
لا أملك إلا أن أطلب منك قليلا من ذاك المال!
فيولا :
وأي مال ذاك سيدي؟
أبديت لي عطفا كريما ها هنا، 350
وساءني ما بت فيه من متاعب،
وذاك كله يحثني على إقراضك القليل مما في يدي
فإنه جد قليل، وليس في يدي مال كثير،
لكنني أقتسم الذي معي .. معك،
فهاك نصف ما في الكيس. 355 (تقدم المال إلى أنطونيو فلا يقبله.)
أنطونيو :
هل تنكرني الآن؟
106
هل يمكن أن تنكر أنت استحقاقي أو تجحد فضلي؟
لا تغر شقائي بإساءة خلقي،
فأمن عليك بما أسديت من الأيدي البيضاء!
107
360
فيولا :
لا أعرف لك أي أياد بيضاء،
بل لا أعرفك بصوتك أو بملامح وجهك،
وأنا أكره كل جحود أكثر مما أكره أي كذب
أو أية خيلاء .. أو ثرثرة من مخمور،
108
أو أية أدران رذائل
109
تكمن في دمنا الواهن، 365
وتهب فتفسد أخلاق المرء أشد فساد.
أنطونيو :
أواه يا رب السماء!
الضابط 2 :
هيا يا سيد أرجو أن تمضي!
أنطونيو :
دعني أقول كلمتين! فذلك الشاب الذي ترونه أمامكم
كنت انتشلته من بين فكي الهلاك بعد أن كادا
ليطبقان فوقه! فرجت كربه بكل ما للحب من قداسة،
110
370
والحق أنني عبدت تلك الصورة التي بدت
بشير أسمى النبل والجدارة.
الضابط 1 :
ما نحن وذاك؟ هيا فالوقت يضيع! هيا!
أنطونيو :
والآن أدرك أن من كان الإله بناظري صنم قبيح،
فلقد جلبت العار يا سيباستيان لوسامة الوجه الصبيح؛ 375
إذ لا يشوب طبيعة الإنسان إلا ما اختفى في نفسه،
ولا يشوه الفتى سوى تحجر الفؤاد وانعدام حسه .
إن الجمال هو الفضيلة والتقى .. لكنما قد نبصر الشر الجميل
مثل الوعاء الفارغ المستملح .. قد زانه الشيطان بالنقش الجليل!
111
الضابط 1 :
جن الرجل! خذوه من هنا! هيا يا سيد هيا! 380
أنطونيو :
هيا بنا. (يخرج أنطونيو مع الشرطة.)
فيولا (جانبا) :
الرجل يقول كلاما مشبوبا يقطع بالإيمان بما يحكي.
لكني ما زلت أكذب ما سمعت أذني.
يا ليت خيالي يصدق فيكون الحق المرغوب،
وبأن الرجل يظن بأني بالفعل أخي المحبوب!
112
385
سير توبي :
اقترب يا فارس! اقترب يا فابيان! سوف نتهامس معا ببعض الأشعار
113
التي تحوي أشد الأقوال حكمة! (توبي وأندرو وفابيان ينتحون جانبا.)
فيولا :
ناداني باسم أخي وأخي يحيا في ذاتي،
كالصورة تحيا صادقة في مرآتي. 390
وجه أخي يشبه وجهي وأنا ألبس أردية أخي،
وأحاكي زركشة الزي وألوان أخي!
لو صدق لقلت بأن عواصف ذاك البحر تحلت بالرحمة،
وبأن الأمواج الملحة عشقته فغدت أمواجا عذبة! (تخرج فيولا.)
سير توبي :
غلام تافه بالغ الخيانة، وأجبن من الأرنب البري، وقد ظهرت 395
خيانته في التخلي عن صديقه في وقت ضيقه، وفي التنكر له، وأما
عن جبنه، فاسأل فابيان!
فابيان :
جبان! يخلص للجبن إلى حد العبادة!
سير أندرو :
أقسم
114
سوف ألحق به من جديد فأضربه. 400
سير توبي :
نعم! اضربه ضربا مبرحا، لكن لا تسل سيفك مطلقا من غمده!
سير أندرو :
إن لم أفعل ...
115 (يخرج سير أندرو.)
فابيان :
هيا بنا لنشهد الذي يكون من أمرهما،
أما الرهان فهو أن لا شيء يجري قط بينهما.
116
405 (يخرجان.)
الفصل الرابع
المشهد الأول (يدخل سباستيان والمهرج.)
1
المهرج :
هل تريد إقناعي بأنني لم أرسل إليك؟
سباستيان :
اتركني أرجوك .. أنت مغفل!
اغرب عن وجهي قلت!
المهرج :
إصرارك يدهشني حقا! وإذن فأنا لا أعرفك، ولا أرسلتني مولاتي 5
إليك، حتى تطلب منك الحضور للحديث معها، ولا اسمك السيد
سيزاريو، ولا يوجد أنفي في وجهي أيضا!
2
أي إن كل ما هو
صحيح غير صحيح في الواقع!
سباستيان :
أرجو أن نجد مكانا آخر تنفث
3
فيه حماقاتك 10
إذ إنك لا تعرفني!
4
المهرج :
أنفث حماقاتي! لقد التقط التعبير من أفواه بعض العظماء، ويطبقه
الآن على المهرج! أنفث حماقاتي! يؤسفني أن هذه الدنيا، وهي
المهرجة الكبرى، سوف تتعلم التصنع والتخنث!
5
أرجوك الآن أن 15
تتخلص من قناع التصنع والتظاهر، وأن تخبرني ماذا «أنفث»
لمولاتي. هل «أنفث» لها أنك قادم؟
سباستيان :
أرجوك أيها المهرج السخيف
6
أن ترحل
هذي نقود لك! فإن تباطأت هنا
ساء جزائي لك! 20 (يقدم إليه نقودا.)
المهرج :
أقسم إن يدك مبسوطة كل البسط! فالحكماء الذين يمنحون المهرجين
7
أموالا يذيع صيتهم إن داوموا على الدفع أربع عشرة سنة!
8 (يدخل سير أندرو، وسير توبي وفابيان.)
سير أندرو (إلى سباستيان) :
ها أنا ذا ألقاك من جديد! خذ هذه الضربة!
9 (سير أندرو ويضرب سباستيان.)
سباستيان :
وأنت فاقبل هذه وهذه وهذه!
10
25 (سباستيان يضرب سير أندرو.)
ترى أصيب كل الناس بالجنون ؟
سير توبي :
كف يا سيدي عن ذلك وإلا قذفت بخنجرك فوق المنزل.
11
المهرج (جانبا) :
سوف أدخل المنزل لأخبر مولاتي فورا! ولا أتمنى عندها أن
أكون في موقف بعضكم ولو أعطيت قرشين! 30 (يخرج المهرج.)
سير توبي (وهو يمسك بسباستيان) :
هيا يا سيد! ابتعد!
سير أندرو :
لا تعبأ به! عندي وسيلة أخرى للتعامل معه. سأرفع عليه دعوى
اعتداء بالضرب
12
إذا كان في إلليريا قانون! وعلى الرغم من أنني
كنت البادئ فلن يؤثر ذلك في صحة الدعوى. 35 (توبي يمسك بسباستيان.)
سباستيان (إلى توبي) :
ابعد يدك عني!
سير توبي :
كلا! لن أتركك الآن! هيا! سل سيفك أيها الجندي الشاب! إنك
مفعم بالحماس! هيا!
سباستيان :
الآن قد أفلت من قبضتك! فما عساك فاعل؟ 40
لئن جرؤت أن تزيد من إثارتي فسل سيفك. (يسل سباستيان سيفه.)
سير توبي :
ماذا ماذا؟ لا! لا بد أن أريق بعضا من ذلك الدم الوقح في
جسدك. (يسل سير توبي سيفه.) (تدخل أوليفيا.)
أوليفيا :
كف يا توبي وإلا كان في ذلك موتك! كف فورا!
سير توبي :
مولاتي! 45
أوليفيا :
هل يستمر الحال دوما هكذا؟ يا أيها التعس اللئيم!
يا من له سكنى الجبال والكهوف حيث يسكن الهمج
من لم يعلمهم أحد .. معنى الأدب! اغرب إذن عن وجهي!
أرجوك لا تغضب سزاريو!
13
وأنت أيها الصفيق ارحل! (يخرج سير توبي وسير أندرو وفابيان.)
أرجو صديقي الكريم أن يكون للعقل الرزين لا للعاطفة
الحكم في هذا التجني الفظ دونما مبرر
14
على سكينتك! 50
هيا معي لندخل المنزل،
فسوف أحكي عندها عليك كم من مرة
أثار فيها ذلك الوغد التعس
مشاجرات ليس من ورائها طائل،
15
فربما ضحكت من
هذا الذي جرى، وليس عندك الخيار في اصطحابي! 55
أرجوك ألا تتمنع! واها لنفسي منه ذلك الشقي؛
16
فقد أثار قلبي المسكين إشفاقا عليك،
وقلبي
17
المسكين خافق لديك في جنبيك.
سباستيان (جانبا) :
ماذا يدور ها هنا وكيف يجري ذلك النهر؟
إما أصابني الجنون أو يكون ذاك حلما يندثر!
18
فلتغرق الأوهام إحساسي بجدول النسيان،
19
60
وإن يكن حلما فليتني أظل دائما نعسان.
أوليفيا :
بل هيا أرجوك. أفلا تقبل أن تفعل ما أطلبه؟
سباستيان :
أقبل يا مولاتي.
20
أوليفيا :
ما دمت تقول فهيا افعل ما أقضي به! (يخرجان.)
المشهد الثاني (تدخل ماريا والمهرج.)
21
ماريا :
هيا أرجوك البس هذه العباءة، وهذه اللحية، واجعله يتصور أنك
الكاهن سير توباس.
22
هيا وأسرع. وريثما تنتهي سأدعو السير توبي
للحضور. (تخرج ماريا.)
المهرج (وحده على المسرح) :
سوف ألبس هاتين! وسوف أجيد التنكر فيهما!
ليتني كنت أول المنافقين الذين يرتدون هذه العباءة! ليست قامتي
طويلة حتى تناسب الوقوف على المنبر، وليس جسدي هزيلا حتى 5
يوحي بأنني حبر علامة، ولا تناقض بين ادعاء الشرف وما أنا فيه
من نعمة وحسن الضيافة، وبين التظاهر بحمل الهموم والتبحر في
العلم!
23
ها قد أتى شركائي في التدبير! (يدخل سير توبي وماريا.) 10
سير توبي :
باركك جوف يا أيها الأستاذ الكاهن.
المهرج :
عمت صباحا
24
يا سير توبي. فكما قال الراهب الهرم ابن مدينة براغ،
الذي لم ير القلم والحبر يوما في حياته، وهو قول بالغ اللماحية،
إلى ابنة أخ الملك جوربوداك،
25 «كل ما هو موجود، موجود»،
26
وهكذا فما دمت أنا موجودا، وأنا الأستاذ الكاهن، فالأستاذ الكاهن
موجود! إذ ما «موجود» إلا «موجود»، وما «كل» إلا «كل». 15
سير توبي :
إليه يا سير توباس.
الكاهن (يغير نبرات صوته) :
أنتم يا من هنا! السلام على من في الحبس!
سير توبي :
الوغد بديع التمثيل! وغد رائع! (مالفوليو يظهر خلف ستار يمثل باب السجن وفي ظلام مفترض.) 20
مالفوليو :
من ينادي؟
المهرج :
السير توباس، الكاهن، وقد أتى لزيارة مالفوليو المجنون.
مالفوليو :
يا سير توباس! يا سير توباس! يا سير توباس الكريم! اذهب إلى
مولاتي!
المهرج :
اخرج من جسمه أيها العفريت المريع! ما أشد تضليلك لهذا 25
الرجل! أفلا تتحدث إلا عن النساء؟
سير توبي (جانبا) :
أحسنتم يا أستاذ!
مالفوليو :
يا سير توباس! لم يذق رجل ما ذقته من ظلم! يا سير توباس
الكريم، لا تظن أني مجنون. لقد حبسوني هنا في ظلام رهيب. 30
المهرج :
تبا لك يا إبليس الخبيث! (إني أدعوك بألطف الألفاظ؛ فأنا من
السادة المهذبين الذين يجاملون الكل حتى الشيطان). تقول إن المنزل
مظلم؟
27
35
مالفوليو :
حالك كالجحيم يا سير توباس!
المهرج :
عجبا! إن به نوافذ مقوسة في شفافية المتاريس المصمتة، والنوافذ
العليا في جهة الجنوب الشمالي وضاءة مثل الأبنوس، ومع ذلك
تشكو من حجب الضوء عنك؟
28
مالفوليو :
لست مجنونا يا سير توباس. أؤكد لك أن هذا المنزل مظلم! 40
المهرج :
أخطأت أيها المجنون! فلا ظلام إلا الجهل، وأنت أشد تيها فيه من
قوم فرعون في غياهب ضبابهم!
29
مالفوليو :
أقول لك إن هذا المنزل مظلم كالجهل، ولو كان الجهل في ظلام 45
جهنم. وأؤكد لك أنه ما من شخص أسيء إليه
30
قدر هذه الإساءة.
وأنا عاقل مثلك، ولك أن تختبر عقلي بأسئلة منطقية.
المهرج :
ما رأي فيثاغورت
31
في الطيور البرية؟ 50
مالفوليو :
يقول إن روح جدتنا ربما حلت في جسد طائر.
المهرج :
وما رأيك في هذا القول؟
مالفوليو :
أرى أن الروح سامية ولا أوافق على قوله إطلاقا!
32
55
المهرج :
وداعا! وابق دائما في الظلام. لا بد أن تقبل رأي فيثاغورث قبل أن
أقبل أنك عاقل؛ فأنت تخشى أن تذبح ديك الغابة حتى لا تفقد
روح جدتك! وداعا! 60
مالفوليو :
سير توباس! سير توباس!
سير توبي :
يا عزيزي ما أروع سير توباس!
المهرج :
حقا! فأنا أسبح في أي مياه!
33
ماريا :
كان يمكنك أن تؤدي دورك دون لحية وعباءة، ما دام لا يراك.
34
65
سير توبي :
اذهب إليه الآن وتكلم بصوتك المعتاد، وعد فقل لي كيف وجدته.
ليتنا ننتهي من هذه المكيدة تماما. فإذا كان من الممكن إطلاق سراحه
دون متاعب، فعلينا بذلك؛ إذ إنني أغضبت بنت أخي إلى الحد
الذي يمنعني من متابعة هذه آمنا حتى نعرف الفائز! وتعالي 70
إلي في غرفتي حالما تفرغين من عملك.
35 (يخرج السير توبي مع ماريا.)
المهرج (يغني) :
روبين يا روبين أيها المرح،
قل لي وكيف حال من تحبها؟
36
75
مالفوليو :
المهرج!
المهرج (يغني) :
حبيبتي والله جد قاسية.
مالفوليو :
يا أيها المهرج!
المهرج (يغني) :
وا أسفا! وكيف تقسو هكذا؟
مالفوليو :
أقول أيها المهرج! 80
المهرج (يغني) :
لأنها تحب غيري يا فتى ... من ينادي؟
مالفوليو :
أيها المهرج الكريم! كعادتي سوف أكافئك خير مكافأة، فساعدني!
أحضر لي شمعة وقلما وحبرا وورقا. وقسما بكرم محتدي لسوف
أشكر لك حقا صنيعك. 85
المهرج :
سيد مالفوليو؟
مالفوليو :
ماذا أيها المهرج الكريم؟
المهرج :
وا أسفا يا سيدي، كيف فقدت قوى عقلك الخمس؟
37
مالفوليو :
لم يتلق رجل قط إساءة أبشع وأبرز مما تلقيت؛ فقواي العقلية في
سلامة قواك العقلية أيها المهرج. 90
المهرج :
مثلي فقط؟ إذن فأنت مجنون حقا، ما دمت تتمتع بقوى عقلية
تستوي مع المهرج.
مالفوليو :
لقد عاملوني هنا معاملة الجماد؛
38
فهم يحتجزونني في الظلام،
ويرسلون كهانا
39
لي، حميرا، ويفعلون كل ما في طوقهم لسلب
قواي العقلية بالوقاحة الصريحة.
المهرج :
خذ الحذر فيما تقوله إذ وصل الكاهن (يتحدث بالصوت المصطنع 95
للسير توباس) مالفوليو! مالفوليو! أدعو الله أن يرد إليك قواك
العقلية، فاجتهد حتى تنام، وأقلع عن الهذر والترهات.
40
مالفوليو :
يا سير توباس! 100
المهرج (بصوت سير توباس) :
لا تتحادث معه أيها الرجل الطيب (بصوت
المهرج) من؟ أنا يا سيدي؟ لا! لن أحادثه يا سيدي! أستودعك الله
يا سير توباس! (بصوت سير توباس) آمين آمين! (بصوت المهرج
وبعد فترة)
41
سوف أفعل ذلك يا سيدي. قطعا.
مالفوليو :
أيها المهرج! أيها المهرج أقول! 105
المهرج :
وا أسفا يا سيدي! اصبر! ماذا تقول يا سيدي؟ لقد وبخني لمحادثتي
إياك.
مالفوليو :
يا أيها المهرج الكريم! أرجوك أن تأتيني ببعض الضوء وبعض
الورق، وأؤكد لك أن قواي العقلية توازي قوى أي رجل في
إلليريا.
المهرج :
يا تعسا لك إن كانت كذلك وحسب يا سيدي! 110
مالفوليو :
قسما بهذه اليد هذا صحيح! أيها المهرج الكريم! بعض الحبر والورق
والضوء، وسلم ما سوف أكتبه إلى مولاتي. ولسوف تزيد مكافأتك
عن مكافأة نقل أي رسالة في الماضي.
المهرج :
سأساعدك في ذلك. ولكن .. اصدقني القول: ألست مجنونا حقا؟ 115
أم تراك تتصنع الجنون؟
مالفووليو :
صدقني، لست مجنونا، وأنا أصدقك القول.
المهرج :
لكني لن أصدق مجنونا حتى أشاهد مخه. سأحضر لك الضوء 120
والورق والحبر.
مالفوليو :
وستنال مني أيها المهرج أكبر مكافأة. اذهب الآن أرجوك.
المهرج (يغني) :
ذهبت سيدي ذهبت من هنا حقا،
لكنني أعود بعد لحظة لك، 125
كأنني شخصية الرذيلة القديمة التي
تعود فورا كي تجيب سؤلك،
فإنها بخنجر من الخشب
وسورة جبارة من الغضب،
تصيح في الشيطان أن
قلم أبي أظفارك، 130
كأنها ابنه الغضوب الجانح.
إلى اللقاء يا شيطان يا صالح. (يخرج المهرج.)
42
المشهد الثالث (يدخل سباستيان.)
43
سباستيان :
هذا هو الهواء من حولي وتلك شمسنا الجميلة،
وقد حبتني هذه الحلية .. أحسها قطعا وأبصرها
ورغم أنني في دهشة يلفني العجب،
فإنه ليس الجنون. وأين أنطونيو إذن؟
لم أستطع لقياه في فندقنا «إلفانت» ..
لكنه حل به وقيل لي هناك إنه 5
قد جاب أقطار المدينة باحثا عني!
لشد ما أحتاج للرأي السديد منه الآن!
إذ إنه رغم اقتناع عقلي بالذي تدل كل حاسة عليه؛
أي إن هذا من ثمار غلطة قد وقعت،
وليس برهانا على الجنون، 10
فإن كل ما حدث .. وفيض هذا الخير فجأة،
لا تعرف الدنيا له مثيلا .. ولا يسيغه عقل ومنطق!
وهكذا فإنني أريد أن أكذب الذي تراه عيني!
وهكذا أصارع العقل الذي يقنعني
بأنني لا بد أن أكون مجنونا،
أو أن تكون هذه الفتاة مجنونة! لكن لو أنها كانت كذلك، 15
لما استطاعت أن تدير بيتها . أن تأمر الأتباع أو أن
تعقد الصفقات بالحذق الذي شهدته وبالثبات
والبراعة التي رأيتها! في الأمر قطعا خدعة!
44
يكفي فها هي قد أتت! 20 (تدخل أوليفيا مع كاهن.)
أوليفيا (إلى سباستيان) :
أرجوك لا تلم تعجلي. إن كنت صادق النوايا
فاذهب معي في صحبة الكاهن
إلى الكنيسة القريبة ..
45
واحلف أمامه وتحت سقفها المقدس
يمين إخلاص
46
مجرد على هواك الصادق؛ 25
كي تطمئن روحي التي تثيرها الشكوك الضاريات والغيرة،
وسوف يحفظ القسيس هذا السر
حتى يحين الموعد الذي تريد فيه أن يذيع،
وعندها يأتي زفافنا مناسبا مكانتي.
ماذا تقول؟ 30
سباستيان :
أمضي خلف الرجل الصالح، بل هاك يدي،
فإذا أقسمت يمين الصدق ظللت وفيا للأبد.
أوليفيا :
وإذن هيا يا أبت الصالح، وليبسم رب الأكوان
إذ يشهد فنحوز رضاه عما أفعله الآن.
47
35 (يخرجون.)
الفصل الخامس
المشهد الأول (يدخل المهرج مع فابيان.)
1
فابيان :
حلفتك بحق حبك لي أن تدعني أطلع على ذلك الخطاب.
المهرج :
يا سيدي فابيان! أرجو أن تجيب لي مطلبا واحدا.
فابيان :
اطلب ما تريد.
المهرج :
لا تطلب الاطلاع على هذا الخطاب!
فابيان :
لكأنك أهديتني كلبا وطلبت في مقابله استرداد الكلب!
2
5 (يدخل الدوق وفيولا وكيوريو ولوردات آخرون.)
الدوق :
هل أنتم من حاشية ليدي أوليفيا يا أصدقائي؟
المهرج :
نعم يا سيدي؟ بعض حواشيها المزركشة.
الدوق :
أعرفك خير المعرفة! ما حالك أيها الرجل؟ 10
المهرج :
أحسن بسبب أعدائي، وأسوأ بسبب أصدقائي!
الدوق :
بل العكس تماما .. أحسن بسبب أصدقائك!
المهرج :
لا يا سيدي! أسوأ!
الدوق :
كيف يكون ذلك؟ 15
المهرج :
الحق يا سيدي أنهم يمتدحونني، فأصبح بذلك حمارا، وأما أعدائي
فيقولون لي صراحة إني حمار، وهكذا فأعدائي يفيدونني بتعريفي
بنفسي، وأصدقائي يسيئون إلي. وإذن، وما دامت النتائج المنطقية
مثل القبلات، فإن النفي أربع مرات إثبات مزدوج،
3
وهو ما يبين أنني «أخسر» بسبب أصدقائي، و«أكسب» بسبب أعدائي. 20
الدوق :
عجبا! هذا ممتاز!
المهرج :
أقسم إن الأمر بخلاف ذلك يا سيدي، حتى إذا تفضلت فأصبحت
من أصدقائي. 25
الدوق :
لا بد ألا «تخسر» بسببي! هذه قطعة نقود من الذهب!
المهرج :
لولا أن في هذا ازدواجا للمعنى،
4
وهو خداع، لطلبت أن تضيف قطعة
أخرى.
الدوق :
هذه مشورة فاسدة!
المهرج :
ضع «فضيلتك» في جيبك
5
يا سيدي، ولو هذه المرة فقط، واجعل 30
لحمك ودمك يعملان بهذه المشورة!
الدوق :
قد أرتكب خطيئة كبرى إذا أقدمت على ازدواج المعنى! هاك قطعة
أخرى.
المهرج : «أولا وثانيا وثالثا»
6
لعبة جميلة، والمثل يقول الثالثة ثابتة، والإيقاع
الثلاثي
7
في الموسيقى صالح للرقص! أو فلتذكر سيدي دقات ساعة 35
برج كنيسة القديس بنيت؛ فهي واحد اثنين ثلاثة!
الدوق :
لن تخدعني فتحصل على المزيد من المال مني بهذه الرمية!
8
ولكن، إذا
أخبرت مولاتك أنني حضرت وأريد الحديث معها، وأتيت بها 40
معك، فربما زاد ذلك من حث أريحيتي!
المهرج :
حقا سيدي! فلتنم أريحيتك حتى أعود! سوف أذهب يا مولاي،
لكنني لا أريد أن تظن أن حرصي على المال يوازي خطيئة الجشع، 45
لكن كما تقول سيدي، فلتغف أريحيتك قليلا حتى أعود فأوقظها! (يخرج المهرج.) (يدخل أنطونيو مع الشرطة.)
فيولا :
لقد أتى يا سيدي! هذا الذي أنقذني.
الدوق :
أذكر وجه الرجل تماما، لكن في آخر مرة
كان الوجه يلطخه بارود مدافعنا في الحرب، 50
فبدا مسودا يشبه وجه الحداد الأسطوري فولكان؛
إذ كان الربان على ظهر سفينته المحتقرة ذات القاع الضحل،
وكانت تبدو كالقزم ولا تغري أحدا بالظفر بها،
9
لكن الرجل اندفع يقاتل في عنف فتاك أعتى
سفن الأسطول لدينا، حتى إنا رغم خسارتنا الفادحة على يده 55
أو ما ساورنا من حسد لجسارته،
قلنا ما أجدره بالشهرة والشرف. ماذا في الأمر؟
10
الضابط 1 :
يا أورسينو! هذا هو أنطونيو!
من سلب سفينتنا فينكس وتجارتها من كاندي عاصمة كريت،
من صعد إلى سطح سفينتنا تايجر حين تصدت له، 60
وهنالك دارت معركة فيها فقد ابن أخيك تايتوس
11
ساقه!
ولقد ألقينا القبض عليه هنا في بعض شوارعنا؛
إذ كان يسير ولا يكترث بما جلله من عار،
أو ما حاق به من خطر، بل يتشاجر مع بعض الأفراد.
فيولا :
قد أسدى لي معروفا يا مولاي! واستل السيف دفاعا عني،
لكن الرجل اختتم لقائي بكلام مستغرب، 65
لم أعرف ما كان سوى مس جنون.
الدوق :
يا قرصانا طارت شهرته، يا لص مياه البحر الملحة!
كيف تجاسرت بهذا الحمق على أن تسلم رقبتك لمن حاربت؟
بل من كلفتهم أموالا طائلة
12
فغدوا من أعدائك؟
أنطونيو :
أورسينو! مولاي الأكرم! أرجو أن تسمح لي 70
أن أنقض كل نعوت خوطبت بها!
أنطونيو لم يك في يوم ما لصا أو قرصانا
حتى إن كان عدوا لك .. ولأسباب جد صحيحة!
لم يجذبني غير السحر إلى هذا البلد،
ذاك الولد الواقف بجوارك، أعظم أهل الأرض جحودا! 75
أنقذت صباه من غضبة بحر وحشي فمه يرغي أو يزبد!
كان حطاما فقد الأمل تماما فوهبت الروح إليه
وأضفت إلى ذلك حبي! لم أبخل في ذلك أو
أرع قيودا، بل كرست له كل غرامي.
من أجل هواه عرضت حياتي للخطر هنا، 80
حيث تناصبني بلدتكم كل عداء (لا يدفعني إلا حبه).
جردت حسامي لأدافع عنه حين أحيط به!
أما عند القبض علي فقد علمه المكر الخائن
أن ينكر أية معرفة بي دون خجل (إذ لم يك يبغي أن يتقاسم معي الأخطار)، 85
وبدا في طرفة عين شخصا لم أعرفه من عشرين سنة،
بل أنكر أن لديه كيس نقودي،
ولقد كنت سمحت له بالإنفاق من المال به
من زمن لا يتعدى نصف الساعة!
فيولا :
كيف يكون الأمر كذلك؟ 90
الدوق (إلى أنطونيو) :
ومتى وصل إلى هذي البلدة؟
أنطونيو :
اليوم يا مولاي! لكننا على امتداد أشهر ثلاثة سابقة
13
لم نفترق! كلا ولا للحظة ولا دقيقة واحدة
بالليل أو بالنهار. (تدخل أوليفيا والحاشية.)
الدوق :
ها قد أتت أوليفيا! وها هي السماء تخطو فوق سطح الأرض! 95
أما بشأنك - أنت يا رجل - فإن ما تقوله جنون!
من أشهر لم يبرح الصبي خدمتي ..
لكن نعود للموضوع بعد لحظة. (إلى أحد الضباط) فلتبقه معك.
أوليفيا :
ماذا تريد يا مولاي - فيما عدا الذي لا تستطيع أن تناله
14 -
ولا تقوم أوليفيا بتقديمه؟ سيزاريو! 100
لقد حنثت بالوعد الذي قطعته لي!
فيولا :
مولاتي ...
الدوق :
أوليفيا الكريمة ... (يقولها مع فيولا في الوقت نفسه ).
أوليفيا :
ماذا تقول يا سيزاريو؟
15
يا سيدي الكريم ...
فيولا :
يريد سيدي الحديث .. وواجبي يلجمني. 105
أوليفيا :
إن كنت تعود بذلك يا مولاي إلى اللحن الأول
فاعلم أن اللحن سقيم في أذني وكريه .. كعواء يتلو الموسيقى!
الدوق :
ما زلت على قسوتك البالغة إذن؟
أوليفيا :
بل ثابتة دوما يا مولاي!
الدوق :
ثابتة؟ أعلى فرط صدودك يا امرأة وحشية؟ 110
بذلت روحي كل قرابين الإخلاص إلى آخر نفس فيها
في مذبح معبدك الجاحد والمنكر للأمل ..
أصدق ما قدمه عبد للمعبود على مر الزمن! ماذا أفعل؟
أوليفيا :
ما يرضي مولاي وما يجدر به.
الدوق :
ولماذا لا أقتل من أهوى، لو طاوعني قلبي، 115
فكأني لص المقبرة المصري ..
16
حين رأى ساعة أجله؟!
أحيانا ما تبدو غيرتنا الوحشية ذات سمو وشرف!
لكن أصغي الآن إلى قولي: إنك تلقين بإخلاصي في قاع صدودك
وأنا أعرف، وإلى حد ما، من يبعدني عن مقعدي الحق بقلبك؛ 120
ولذلك ما زلت أمامي طاغية متحجرة القلب،
لكن حبيب القلب لديك - وأنا أثق بحبك له
17 -
وكذلك والله أكن له أعظم حب ..
لن يسلم مني! فلسوف أزيح المحبوب عن العين القاسية بوجهك!
إذ يجلس فيها ملكا فوق العرش لديك، 125
وبرغم إرادة سيده! هيا يا ولد معي!
إني قد صدق العزم لدي على الشر،
ولسوف أضحي بالحمل وإن أضمرت غرامه
كي أقهر قلب غراب في صدر يمامة.
فيولا :
وإنني لمستعد أن أموت ألف ميتة كي أرضيك، 130
بل هانئا وقانعا ما دام موتي سوف يسعدك.
أوليفيا :
أين تمضي يا سيزاريو؟
فيولا :
وراء من أحبه حبا يفوق هذه العيون والحياة كلها،
بل زوجتي إذا اتخذت زوجة يوما وما أكن من هوى لها.
إن كنت كاذبا فأدعو كل شاهد علي الآن في السماء 135
إلى عقابي بالهلاك إن لوثت ما زان الغرام من نقاء.
أوليفيا :
واها لي من ذاك الصد! ما أكثر ما خدع فؤادي!
فيولا :
من ذا الذي يخدعك؟ من ذا الذي يظلمك؟
أوليفيا :
فهل نسيت نفسك؟ وهل مضى من الزمان ما ينسيك؟
ناد إذن كاهننا المبروك! (يخرج أحد الأتباع.)
الدوق (إلى فيولا) :
هيا بنا! 140
أوليفيا :
يا مولاي إلى أين؟ سيزاريو يا زوجي ..
18
ابق قليلا!
الدوق :
زوجك؟
أوليفيا :
حقا زوجي! هل يقدر أن ينكر ذلك؟
الدوق :
هل أنت يا غلام زوجها؟
فيولا :
لا يا مولاي. قطعا لا.
أوليفيا :
وا أسفا! فإن حطة المخاوف التي لديك 145
من وراء إنكار المكانة التي بلغتها!
19
بل لا تخف سيزاريو!
اقبل هناء حظك العميم! كن من وثقت بأنه أنت
تجد أن العلو في هذي المكانة .. يضارع العلو عند من تخشاه!
20 (يدخل الكاهن.)
يا مرحبا يا أبتي! أرجوك يا أبي بحق ما لديك من قداسة
أن تكشف الذي اتفقنا أن يظل سرا! 150
لكنما الضرورة اقتضت له الذيوع قبل موعده.
فما الذي تعرفه عما جرى بيني
وبين هذا الشاب من عهد قريب؟
الكاهن :
عقد
21
يفيد الارتباط الأبدي .. على الهوى!
تشابك الأيادي بين كل منكما .. أكده! 155
والقبلة المقدسة .. شهدت عليه!
يدعمها تبادل لخاتمي خطبة!
وقد عقدت هذا العقد .. وكل ما به من الطقوس
كما ختمته بسلطة المأذون ..
22
وكنت شاهدا عليه،
وساعتي تقول إنني اقتربت من قبري في رحلة الحياة هذه
ما لم يزد على ساعتين منذ أن أمضيته!
23
160
الدوق (إلى فيولا) :
يا أيها الشبل المخادع!
ماذا تصير حين يبذر الزمن .. بذور شعر أبيض في جلدك؟
24
وربما نما الدهاء مسرعا فجاء قبل أن تشيب بالهلاك لك! 165
إذن وداعا، بل وخذها فانطلق إلى سوى هذا المكان
بحيث لا ألقاك مطلقا من بعدها على مر الزمان.
فيولا :
أقسم يا مولاي ...
أوليفيا :
لا تقسم!
25
ولتبق في الفؤاد مسحة من الإيمان
رغم المخاوف التي تزلزل الكيان. (يدخل سير أندرو.)
سير أندرو :
حلفتكم بالله أن تستدعوا الطبيب! وأرسلوا طبيبا في الحال إلى سير 170
توبي!
أوليفيا :
ماذا حدث؟
سير أندرو :
شج رأسي من أقصاها لأقصاها، وضرب سير توبي فأسال الدم من
رأسه
26
أيضا. حلفتكم بالله أن تساعدونا! يا ليتني كنت في المنزل 175
ولا أنال أربعين جنيها!
27
أوليفيا :
من فعل هذا يا سير أندرو؟
سير أندرو :
السيد الذي يعمل لدى الدوق! شخص يدعى سيزاريو. كنا نظنه
جبانا فإذا به الشيطان مجسدا.
28
180
الدوق :
مساعدي سيزاريو؟
سير أندرو :
قسما بما خلق الله!
29
ها هو ذا! لقد شججت رأسي بلا سبب، ولم
أفعل ما فعلت إلا بإيعاز من سير توبي.
فيولا :
ما سبب مخاطبتك إياي؟ لم أجرحك على الإطلاق! 185
قد كنت سللت السيف لتقتلني دون مبرر
لكني كلمتك بالحسنى! أنا لم أجرحك! (يدخل سير توبي مع المهرج.)
سير أندرو :
إذا كان رأسي مجروحا فقد جرحتني! وأظن أنك لا تعير رأسا
يسيل منه الدم أدنى اهتمام. ها هو ذا سير توبي قادم يعرج! لسوف
تسمع المزيد منه، ولولا أنه كان سكران لعاملك عندها معاملة 190
مختلفة.
30
الدوق :
كيف حالك أيها السيد؟ ماذا حدث لك؟
سير توبي :
أمر بسيط! فقد جرحني وانتهى الأمر. (إلى المهرج) وأنت يا سكير
31
يا مغفل! هل طلبت الطبيب دك؟ 195
المهرج :
إنه كان سكران يا سير توبي منذ ساعة، ولم يغلق أجفانه إلا في
الثامنة صباحا.
سير توبي :
إنه وغد إذن وبطيء كراقصي الرقصة الثمانية!
32
كم أكره
الأوغاد السكارى!
أوليفيا :
فليحمله بعضكم من هنا! من الذي أصابهما بهذه الجروح؟ 200
سير أندرو :
دعني أساعدك يا سير توبي؛ لأننا سنضمد جراحنا معا.
سير توبي :
تساعدني أنت؟ أنت يا جحش يا مختال يا فاسق؟! بل يا فاسق ذا
وجه نحيل؟! يا مغفل؟! 205
أوليفيا :
ضعوه في الفراش! وضمدوا جراحه! (يخرج المهرج وفابيان وسير توبي وسير أندرو.) (يدخل سباستيان.)
سباستيان :
قد جئت أرجو الصفح يا مولاتي .. فقد جرحت بعض أقربائك.
لكنه لو كان لى أخ يشارك الدماء في عروقي
ما كنت قد فعلت غير هذا للحفاظ في حرص على سلامتي.
الآن ترمقينني بما يشي بالاستغراب والدهشة، 210
وذاك يعني أنني أسأت لك! أرجوك يا جميلتي
أن تصفحي ولو لما تعاهدنا عليه منذ برهة يسيرة.
الدوق :
الوجه واحد والصوت واحد بل الرداء واحد .. لكنه شخصان!
كأنني أمام مرآة مزاوجة .. لكنها من الطبيعة ..
33
تضم صدقا وخداعا! 215
سباستيان :
أنطونيو! أنطونيو الغالي!
كم عذبني مر الساعات ومزقني منذ غيابك عني!
أنطونيو :
هل أنت سباستيان؟
سباستيان :
وهل تشك في يا أنطونيو؟
أنطونيو :
وكيف يا هذا شققت نفسك؟ بل إن نصفي التفاحة المنقسمة 220
ليسا أشد في التماثل الدقيق من هذين!
من منكما سباستيان؟
أوليفيا :
رائع عجيب!
سباستيان (ناظرا إلى فيولا) :
ألست واقفا هنا؟ ما كان لي أخ قط!
وليس في طبيعتي من الربوبية 225
ما يكفل الحلول في كل مكان! قد كان لي أخت وحسب،
لكنما الأمواج عمياء ولم تلبث أن التهمتها.
أرجوك قل لي ما روابط القرابة .. إن كنت لي قريبا؟
ما موطنك؟ ماذا تسمى؟ لأي بيت تنتسب؟
فيولا :
إنني من ميسالين. والدي كان سباستيان 230
وكان لي أخ يدعى سباستيان أيضا
وقد هوى في مثل هذا الزي في قبر المياه!
لو اكتست روح الغريق
34
شكل ميت وحلته
لقلت إنه قد عاد فيك الآن كي يخيفنا!
سباستيان :
إني روح لا شك! لكني في جسد بشري ملموس 235
منذ تشكلت بداخل رحم الوالدة!
تنطبق عليك صفات الأخت جميعا لولا أنك رجل،
أما لو كنت فتاة لذرفت العبرات على خدك ولصحت هنا «مرحى وثلاثا مرحى بفيولا الغارقة!»
فيولا :
كانت على جبين والدي شامة. 240
سياستيان :
وكان والدي كذلك.
فيولا :
وتوفي عند بلوغ فيولا .. العام الثالث عشر!
35
سباستيان :
ذلك يوم يحيا في ذاكرتي.
حقا لقد استوفى الرجل الأجل الفاني
حين غدت أختي بنت ثلاثة عشر. 245
فيولا :
إن لم يمنعنا شيء آخر عن إدراك سعادتنا،
فتريث قبل عناقي وأنا في زي الرجل!
ما هذا إلا زي مصطنع أتنكر فيه ..
واصبر حتى تتثبت أني بالحق فيولا
بأسانيد من الأوقات وأمكنة الأحداث وأحوال الأقدار! 250
ولتأكيد الحالة دعني أصحبك إلى منزل ربان في
هذي البلدة حيث تركت ملابسي النسوية،
وبكرم ومساعدة منه نجوت فزكاني للعمل لدى هذا الدوق الأشرف،
36
أما أحداث حياتي من ذاك الحين فكانت 255
ما بين الليدي هذي .. والدوق هنا!
سباستيان (إلى أوليفيا) :
وهكذا خدعت يا مولاتي .. لكن قدرة الطبيعة «بحيلة انحراف صححت هذا الخطأ»
37
وهكذا خطبتك!
هذا وإلا كنت قد عقدت عقد حب دائم على عذراء!
لكن ذاك العقد لم يخدعك في هذا، وأقسم بالحياة 260
فلقد خطبت إلى فتى ما زال بكرا!
38
الدوق (إلى أوليفيا) :
لا تدهشي .. ففي عروقه دم نبيل صادق.
إن كان هذا الأمر هكذا .. وأثبتت مرآتنا الخدوع
39
صدقها،
فسوف أحظى بنصيبي من حصاد تلكم السفينة التي تحطمت فأسعدتنا!
40 (إلى فيولا)
ويا غلام!
41
قد قلت ألف مرة بأن ما تكنه من الغرام لي 265
يفوق حب أي مرأة على الإطلاق!
فيولا :
ولسوف أكرر تأكيدي والحلف على صدق كلامي،
وجميع الأيمان الصادرة من القلب لصادقة في الروح
صدق النار بتلك الشمس الدوارة في فلك
يفصل بين نهار الدنيا والليل.
42
270
الدوق :
هات يدك! ودعيني أنظرك بملبس أنثى.
فيولا :
لكن ملابسي النسوية ما زالت عند الربان المذكور.
أول من ساعدني فأتى بي سالمة للبر،
والرجل حبيس محتجز ينتظر الفصل قضائيا
في دعوى من جانب مالفوليو .. حاجب هذي الليدي. 275
أوليفيا :
لا بد إذن من إطلاق سراحه. استدعوا مالفوليو فورا!
لكن وا أسفاه! الآن تذكرت!
فالناس تقول بأن المسكين أصيب بلوثة! (يدخل المهرج وفي يده خطاب، مع فابيان.)
والواضح أني كنت أعاني أيضا من خبل شتت ذهني
فنسيت تماما لوثة ذاك الرجل! 280
يا هذا .. ما حال الرجل الآن؟
المهرج :
في الحق يا مولاتي .. لقد نجح في منازلة الشيطان،
43
نجاح من في مثل
حالته، وقد كتب إليك هذه الرسالة: كان ينبغي أن أسلمها لك هذا
الصباح، لكنه ما دامت «رسائل»
44
المجانين ليست أناجيل، فلا يهم 285
كثيرا موعد تسليمها.
أوليفيا :
افتحها وأقرأها.
المهرج :
تطلعي إلى العلم المفيد إذن عندما يلقي المهرج رسالة المجنون. (يقرأ) أقسم بالله يا مولاتي ... 290
أوليفيا :
ماذا حدث لك؟ هل جننت؟
المهرج :
لا يا مولاتي! بل أقرأ «الجنون» فحسب، فإذا كانت مولاتي تريد أن
تسمع الرسالة كما كتبت، فيجب أن تسمح لي باستخدام النبرات
المناسبة. 295
أوليفيا :
أرجوك أن تقرأها بالمنطق الصحيح.
المهرج :
وذاك ما أفعله يا مولاتي! أما إذا قرأنا منطقه الصحيح، فيجب أن نقرأه
بهذه النبرات. وهكذا عليك أن تصغي أميرتي وأن تعتبري!
45
أوليفيا (إلى فابيان) :
اقرأها أنت يا هذا! 300
فابيان (يقرأ) :
أقسم بالله يا مولاتي إنك تظلمينني، ويجب على الدنيا أن
تعلم ذلك. فرغم أنك حبستني في مكان مظلم، وجعلت عمك
السكير يتحكم في أمري، فإنني ما زلت أنتفع بحواسي وعقلي، مثلك
تماما، ولدي خطابك الذي دفعتني فيه إلى الظهور بالمظهر الذي
اتخذته، وسوف يثبت لك هذا الخطاب بلا شك أنني كنت مصيبا أو
أنك أخطأت خطأ كبيرا. قولي عني ما شئت، فلقد تجاهلت واجبي
46
بعض الشيء نحوك، واندفعت أتكلم بدافع الظلم الذي أصابني.
مالفوليو الذي يلقى معاملة المجانين 310
أوليفيا :
هل كتب ذلك؟
المهرج :
نعم يا مولاتي.
الدوق :
إنه لا يفصح كثيرا عن أي لوثة.
أوليفيا :
يا فابيان! اذهب فخلصه من الحبس وأحضره إلينا! (يخرج فابيان.)
مولاي بعد أن نزيد من تأمل الذي جرى (وما تكشف)، 315
أرجو لديكم القبول أختا بالمصاهرة
47
كما لو كنت زوجة لكم! وأن يتوج التحالف الوثيق فيما بيننا
بحفلة في منزلي أقيمها بمالي الخاص.
الدوق :
بل أقبل العرض الذي قدمته كل القبول مولاتي. (إلى فيولا)
الآن سيدك .. يعفيك من مهام منصبك! وفي مقابل الذي 320
أسديته من خدمة لا تنتمي لطبع جنسك،
ولا تليق إطلاقا بما نشأت فيه من نعومة ورقة ..
وهكذا - ما دمت قد دعوتني لفترة طويلة «يا سيدي» -
أمد ها هنا يدي إليك .. فمنذ هذا الوقت تصبحين
سيدة لسيدك!
48
أوليفيا :
وأنت أخت
49
قبل ذاك لي! 325 (يدخل فابيان مع مالفوليو.)
الدوق :
ذاك هو المجنون؟
أوليفيا :
هو يا مولاي. ما حالك يا مالفوليو؟
مالفوليو :
مولاتي! لقد ظلمتني! ظلمتني ظلما شديدا.
أوليفيا :
أنا الذي ظلمت مالفوليو؟ لا!
مالفوليو :
بلى ظلمتني مولاتي! أرجوك فاقرئي هذا الخطاب.
لا تنكري أن الخطاب مكتوب بخطك. 330
إن استطعت فاكتبي بغير هذا الخط أو تلك الصياغة،
ولا تقولي إن خاتم الخطاب ليس خاتمك،
أو إن ذلك التدبير ليس تدبيرك! لن تستطيعي!
إذن فسلمي بذلك! والآن قولي لي وباسم الذوق والشرف
لأي أسباب إذن أبديت لي دلائل الرضا الصريحة؟ 335
لأي أسباب طلبت مني أن أجيء باسما ولابسا
رباط ساقي الصليبي بل وجوربا أصفر
وأن أقطب الجبين عندما أرى سير توبي
أو غيره من الأتباع ؟ وعندما أطعت ما أمرتني به
وجئت آملا رضاك .. ألقيت بي في محبس 340
في قعر مظلم ... وجئت لي بكاهن يزورني
حتى غدوت هزأة أفوق كل من غدا ضحية
لحيلة مدبرة؟ قولي لماذا؟
أوليفيا :
وا أسفا يا مالفوليو! الخط ليس خطي،
لكنني أقر أنه يماثله .. حتى كأنه هوه! 345
لكنه بلا جدال خط ماريا،
والآن أذكر أنها هي التي قد بادرت
فأخبرتني بجنونك .. وبعدها أتيت باسما
في الهيئة التي أوصيت باتخاذها في ذلك الخطاب.
أرجوك ألا تغضب! فإن تلك الحيلة 350
صيغت بحذق بالغ وهكذا صدقتها،
لكنه عند اكتشاف ما وراءها من الدوافع،
وعندما نحيط بالذي قد دبر الأحبولة
فسوف تغدو المدعي والقاضي .. في هذه القضية.
فابيان :
مولاتي الكريمة اسمعيني. لنجتهد حتى 355
نزيل أي داع للنزاع والعراك قد يشوب
هذي اللحظة السعيدة التي رأيتها كالمعجزة.
وفي سبيل ذلك .. أقر في صراحة وطائعا
بأننا أنا وتوبي قد حبكنا هذه الأحبولة
50
360
لأننا وجدنا عند مالفوليو هنا
من السلوك الفظ والكبر البغيض ما استنكرنا،
وهكذا ألح سير توبي بشدة على ماريا
أن تكتب الخطاب! وكان أجرها زواجه منها!
51
ونفذ التدبير في جو من اللهو البريء والتفكه
حتى يثير الضحك دون أن يأخذ بالثأر. 365
إذا حسبنا منصفين ما أصاب كل جانب من الأذى،
وقورن الذي يسوءه بما يسوءنا ...
أوليفيا :
يا أيها المغفل المسكين! كم أحكموا خداعك!
المهرج :
طبعا! «البعض يولدون عظماء، والبعض يكتسبون العظمة، والبعض
تفرض عليهم العظمة فرضا». كنت ألعب دورا يا سيدي في هذه 370
المسرحية القصيرة،
52
وهو دور سير توباس يا سيدي. ولكن ذلك غير
مهم. «أقسم بالله أيها المهرج، لست مجنونا»، ولكن هل تذكر ما
قلته لمولاتك عني؟ «لماذا تضحكين يا مولاتي على هذا الوغد العقيم؟
إذا لم تضحكي لن يستطيع فتح فمه». وهكذا دارت دوارة الزمن
53
فأتت 375
بألوان انتقامه.
مالفوليو :
بل أنتقم أنا
54
يوما ما من عصبتكم جمعاء! (يخرج مالفوليو.)
أوليفيا :
لقد أسأتم إليه بالغ الإساءة!
الدوق :
اذهب خلف الرجل وحاول ترضيته
إذ لم يخبرنا بعد بدعواه ضد الربان المحبوس. 380 (يخرج فابيان.)
55
فإذا اتضح لنا الأمر ووافتنا لحظتنا الذهبية،
فلسوف نقيم الحفل الرائع كي يربط بين قلوب الأحباب،
وإلى أن تأتي تلك اللحظة يا أختي الحلوة
56
لن نبرح هذي الدار! أقدم يا سيزاريو!
فلسوف أناديك بهذا الاسم وأنت بملبس رجل يافع، 385
أما حين تراك العين بأردية أخرى أجمل،
فأقول رئيسة أورسينو ومليكة حب أمثل! (يخرج الجميع ما عدا المهرج.)
57
المهرج (يغني)
58 :
في فجر صباي وكنت غلاما لا يدرك،
كانت تلك الريح تدوي قبل سقوط الأمطار.
ألعاب طفولتنا كانت لهوا أحمق، 390
لكن لم تتوقف يوما هذي الأمطار.
أما عند بلوغي مبلغ كل رجل،
والريح تدوي قبل سقوط الأمطار،
والباب المغلق يحمي من لص يدخل،
لكن لم تتوقف يوما هذي الأمطار. 390
لكن حين تزوجت .. فوا أسفا!
فالريح تدوي قبل سقوط الأمطار ،
لم أقدر أن أتفاخر أو أتهادى،
لكن لم تتوقف يوما هذي الأمطار.
وأنا حين أعود إلى غرفة نومي، 400
والريح تدوي قبل سقوط الأمطار،
أجد رءوس السكرى ما زالت سكرى؛
إذ لم تتوقف يوما هذي الأمطار.
قد بدأ العالم منذ زمان لا يحصى،
والريح تدوي قبل سقوط الأمطار، 405
لكن ذلك لا جدوى منه .. إذ فرغ العرض التمثيلي،
ولسوف نحاول يوميا أن نسعدكم يا شطار! (يخرج المهرج.)
Shafi da ba'a sani ba