Daren Ta Biyu Sha Biyu: Ko Abinda Kake So!
الليلة الثانية عشرة: أو ما شئت!
Nau'ikan
تقديم
تصدير
المقدمة
الليلة الثانية عشرة
شخصيات المسرحية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
Shafi da ba'a sani ba
تقديم
تصدير
المقدمة
الليلة الثانية عشرة
شخصيات المسرحية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
Shafi da ba'a sani ba
الليلة الثانية عشرة
الليلة الثانية عشرة
أو ما شئت!
تأليف
ويليام شيكسبير
ترجمة
محمد عناني
تقديم
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية؛ فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي؛ فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة؛ ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره؛ فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
Shafi da ba'a sani ba
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي؛ فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكل مؤلف، سواء كان مترجما أو أديبا، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي
over my dead body » الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (It tolls for thee) ، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم اسم الفرس، وحطم أي شديد البأس، ووضم هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني
القاهرة، 2021م
Shafi da ba'a sani ba
تصدير
هذه هي الترجمة العربية الكاملة لمسرحية «الليلة الثانية عشرة» للشاعر الإنجليزي الأكبر وليم شيكسبير، وهي المسرحية الثالثة عشرة التي أترجمها له، وقد التزمت بالأصل التزاما مطلقا فترجمت النظم المقفى نظما مقفى، ومرسلا حين يكون مرسلا، ونثرا حين يكون نثرا، وقدمت للنص بمقدمة وافية، وذيلته ببعض الهوامش التي قد تعين غير المتخصص على إدراك الإشارات غير المألوفة له، واعتمدت على أحدث الطبعات المحققة والمنقحة بأقلام أكبر المتخصصين في شيكسبير في العالم، وعلى نحو ما فعلت في ترجماتي السابقة اعتمدت أساسا على طبعة آردن
Arden
الجديدة المنقحة الصادرة عام 2005م (وكانت الطبعة الأولى قد ظهرت عام 1975م)، وشارك في تحقيقها ونشرها ج. م. لوثيان (
J. M. Lothian ) وت. و. كريك (
T. W. Craik )، كما استعنت في دراستي للنص بالطبعة الرابعة في سلسلة نيوكيمبريدج من تحقيق ونشر إليزابيث ستوري دونو 2004م (
Elizabeth Story Donno )، وكانت الطبعة الأولى لها قد ظهرت عام 1985م، ثم أعيد طبعها «مزيدة منقحة» عام 2003م، وبها مقدمة جديدة بقلم الأستاذة بني جاي (
)، كما استعنت بطبعة سيجنت (
Signet ) الصادرة عام 1998م من تحقيق هرشيل بيكر (
Herschel Baker )، وطبعة فولجر (
Shafi da ba'a sani ba
Folger ) الصادرة عام 2004م من تحرير بربارا أ. مووات وبول ورستن (
Barbara A. Mowat &
). والطبعتان الأخيرتان تتضمنان ملاحق من الدراسات النقدية الكلاسيكية والحديثة، وهي التي تلقي الضوء على الكثير مما قد يلتبس معناه على القارئ المعاصر، إنجليزيا كان أم غير إنجليزي، في هذا النص.
وأما مذهبي في الترجمة فيعرفه كل من قرأ ترجماتي الأدبية، وأوجزه في أنني أحاول جهد طاقتي نقل شعر هذا الشاعر العظيم ونثره بأقصى قدر ممكن من الدقة، ملتزما خصوصا بفنونه البلاغية والأسلوبية؛ أي إنني لا أكتفي بالمعنى أو بأي تفسير قد يكون مقبولا أو جذابا، بل أجتهد لكي أجعل القارئ يدرك طبيعة الصياغة الشعرية أو النثرية الأصلية، مهتديا بعلوم الأسلوب الحديثة، حتى يحس القارئ العربي بإحساس يماثل (أو يقترب من) الإحساس الذي يحسه قارئ النص في صورته الأصلية؛ ولهذا حافظت على الصور الشعرية مهما تعقدت فبدت عسيرة المأخذ، وعلى الإيقاعات وتلونها، فنقلتها بما يقابلها في العربية من بحور الشعر العربي، ملتزما بشعر التفعيلة؛ فهو ما يناسب المسرح أكثر من غيره ، وخصوصا بأقرب البحور إلى النثر كما هو الحال في شيكسبير، وهما الرجز والخبب، وإن كنت في الرجز أسمح بمزجه بزميليه في دائرة الخليل (الرمل والهزج)، كما أسمح له أيضا بالتحول إلى الكامل، وقد قال لي من أثق في حكمه إن هذا ليس جديدا في العربية، وغايتي أن أشرك قارئ العربية معي في الإحساس بإيقاعات شيكسبير المتفاوتة.
وأما في النثر، فقد برزت صعوبة يعرفها كل دارس للكوميديا في شيكسبير، وهي ولعه بالتلاعب بالألفاظ، وخصوصا بالتورية، واقتضى ذلك إيجاد المقابلات العربية التي تنقل هذه الألاعيب اللفظية التي كان جمهور شيكسبير يفرح بها، وإن كان المخرجون في القرن العشرين، منذ نشر هارلي جرانفيل-باركر (
Barker-Harley Granville ) «لطبعة المخرج» من هذه المسرحية عام 1912م يفضلون حذفها، كلها أو بعضها، ما دام الجمهور المعاصر لم يعد يتذوقها؛ أي إنني حاولت في الترجمة أن أنقل ما يفعله شيكسبير لا «ما يقوله فحسب»؛ فأنا من المؤمنين بأن فن الفنان لا يقتصر على المعنى بل يتضمن المبنى أيضا، والحفاظ على المبنى لا يقل أهمية عن الحفاظ على المعنى، ونقل البناء كما هو معروف من لغة تختلف مبانيها عن اللغة الأصلية يتطلب حيلا خاصة أرجو أن أكون قد وفقت في اختيارها.
ولم يكن هذا كله ممكنا لولا المراجع الحديثة والمادة العلمية الغزيرة التي أمدني بها صديقي الأديب الناقد المترجم ماهر البطوطي من نيويورك، فلم يبخل علي بشيء، لا بالطبعات الحديثة للمسرحية، ولا بما طلبته من دراسات عنها؛ ولهذا أخصه بالشكر الجزيل، كما أتقدم بالشكر إلى كل من أعانني فزودني بفصول مصورة من بعض الكتب التي استعنت بها في كتابة المقدمة، وكل من قرأ النص العربي فاقترح تعديلات أو تنقيحات، وعلى رأسهم صديقي العلامة، الأديب المرهف والناقد المبدع ماهر شفيق فريد؛ ولهذا أعرب له عن أصدق امتناني وشكري.
وكنت أثناء العمل أدهش؛ لأن مشروع ترجمة شيكسبير بجامعة الدول العربية (بإشراف طه حسين) قد تجاهل هذه المسرحية، ولكن الدكتور ماهر شفيق فريد أخبرني أنها ترجمت منذ نصف قرن تقريبا، وأعارني نسخته من الترجمة «محمد عوض إبراهيم» فأنعمت النظر فيها، وكانت النفس تراودني بالتعليق عليها، ولكنني فضلت الاستمساك بما التزمت به من عدم التعرض لترجمات غيري، متمثلا بقول الدكتور ماهر، لله دره: «ترجمتك خير تعليق.»
وقد قررت عدم إضافة قائمة بأسماء المراجع والاكتفاء بذكرها في متن المقدمة والحواشي؛ إذ دلتني الخبرة على أنها غير مفيدة للقارئ العربي، وأما المتخصص فسوف يجد فيما أوردته مادة كافية قد تغريه بالرجوع إليها. أرجو أن أكون بهذه الترجمة قد أضفت شيئا مهما إلى تراث الترجمة الأدبية العربية الزاخر، وأرجو أن يجد القارئ فيها بعض ما وجدته فيها من متعة.
وعلى الله التوفيق.
Shafi da ba'a sani ba
محمد عناني
القاهرة، 2007م
المقدمة
«الليلة الثانية عشرة»، وعنوانها الفرعي هو «أو ما شئت» (من عناوين)، من أشهر مسرحيات وليم شيكسبير (1564-1616م)، شاعر الإنجليزية الأكبر على الإطلاق، وأكثرها تقديما على المسرح، وأشدها إثارة للخلاف من حيث النوع الأدبي أو «تصنيف النص» وطرائق الأداء على المسرح. والليلة الثانية عشرة هي ليلة 6 يناير، العيد المسيحي الذي يحيي ذكرى ظهور المسيح للمجوس من الأمم (وهبة)، ويسميه المسيحيون الغربيون (
Epiphany ) - الاسم الذي يطلقه الشرقيون على عيد الغطاس. وتنتمي المسرحية إلى الفترة الوسطى من حياة الشاعر المسرحي العملية؛ إذ كتبها بعد أن بلغ الخامسة والثلاثين من عمره، وذاع صيته، وخبر الكتابة في شتى مجالاتها، من المسرحية التاريخية إلى الكوميديا إلى مسرحية الرومانس (أي التي تعالج أساسا) ولكن قبل أن يبدع مأساواته الكبرى «هاملت» ثم «عطيل» ثم «الملك لير» و«مكبث»، فالأرجح كما أثبتت الدراسات الحديثة أنها كتبت وقدمت على مسرح الجلوب (
The Globe )، إما في عام 1600م أو 1601م (انظر البحث الدقيق الذي قام به أنطوني أولدريدج (
Anthony Aldridge ) ونشره في كتابه «شيكسبير وأمير الحب» (
Shakespeare and the Prince of Love, 2000 ))، وإن كانت الوثيقة الميسرة الوحيدة المتاحة لا تقطع إلا بأنها قد عرضت في مطلع عام 1602م (يوميات المحامي الشاب جون ماننجهام)، وهو الذي يقول إنها تشبه المسرحية الإيطالية
Inganni ، ومن المحتمل أنه يخلط بين هذه المسرحية التي كتبها نيكولو سيكي (
Nicolò Secchi ) عام 1547م وبين المسرحية الأخرى التي يؤكد المختصون أنها كانت المصدر «البعيد » لمسرحية شيكسبير وهي (
Shafi da ba'a sani ba
Gl’Ingannati )؛ أي «المخدوعون»، والتي كتبت عام 1531م ونشرت عامي 1537 و1554م. (1) مصادر الحبكة
يجمع الدارسون على أن المسرحية الأخيرة «المخدوعون» هي التي استقى شيكسبير منها حبكة مسرحيته، أو الحبكة الرئيسية، ولكنه لم يستند إلى تلك المسرحية نفسها بل إلى الملخص النثري الذي قدمه بارنابي ريتش (
Barnabe Riche ) في صورة حكاية يحكيها للنساء، وتنتمي إلى نوع رومانس (أو الرومانثة) (
Romance )؛ أي قصة الحب والمغامرات والأسفار والأخطار، بعنوان «أبولونيوس وسيلا» (
Apolonius and Silla )، وهي القصة الثانية في مجموعة قصصية بعنوان «وداع ريتش للاشتغال بالحرب» (
Riche his Farewell to Militarie
) (1581م)، والمعروف أن ريتش لم يستق مادته مباشرة من المسرحية المذكورة؛ إذ إن القصة الرئيسية للمسرحية كان قد أعاد كتابتها نثرا كاتب يدعى ماتيو بانديلو (
Matteo Bandello ) في مجموعة روايات له أصدرها بالإيطالية عام 1554م، وتلاه بيير دي بلفوريه (
) في مجموعة حكايات له أصدرها بالفرنسية عام 1570م، ومنه استقى ريتش مادة حكايته المذكورة عام 1581م. وقد اختلف كتاب النثر جميعا عن الأصل الإيطالي للمسرحية (التي تعتمد في حبكتها على الكاتب الروماني بلاوتوس (
)) في تطوير قصة الحب، وإن حافظ الجميع على فكرة اختلاط الشخصيات؛ فعند الجميع تتنكر فتاة في زي غلام وتلتحق بخدمة من تحبه، ولها أخ غائب يشبهها، تقوم بنقل رسائل غرام من تحبه إلى فتاة أخرى يحبها، ولكن هذه الأخرى المحبوبة تقع في غرام البطلة المتنكرة في زي الغلام، ويعود أخوها فتتعقد الحبكة إذ يظن الجميع أنه أخته، وأخيرا تنجلي الحقيقة ويتزوج العاشقون جميعا، على نحو ما يحدث في شيكسبير.
Shafi da ba'a sani ba
ويدين شيكسبير لقصص ريتش بدين آخر يتعلق بالخدعة التي يدبرها عدد من الشخصيات للسخرية من مالفوليو في «اللية الثانية عشرة»، وهي الحيلة التي نجدها في القصة الخامسة من مجموعة ريتش القصصية المذكورة، وفيها يدبر زوج حيلة للسخرية من زوجته السليطة اللسان حتى يسخر منها الجميع. وقد يكون التشابه وليد المصادفة، ولكن احتمال التأثر قائم.
وأما الفارق بين قصة ريتش المذكورة (أبولونيوس وسيلا) وبين «الليلة الثانية عشرة» فهو الفارق حقا بين الحكاية التراثية الأوروبية المغرقة في التصوير الواقعي لدوافع السلوك المادية، كالجنس والانتماء الطبقي، وبين مسرحية عصر النهضة الشعرية التي تطلق العنان للخيال وتعلي من شأن الحب، وتؤكد التعقيدات الكثيرة للانتماء إلى أحد الجنسين، وكيف يؤثر الدور الاجتماعي للمرأة في الحياة العاطفية للمرأة والرجل على حد سواء، وهكذا فعلى الرغم من الاشتراك في الحبكة، أو في فكرة الحبكة، فإن مسرحية شيكسبير تتناول المادة تناولا شاعريا يكفل لها التسامي والعمق الإنساني الذي يربطها بالعصر الحديث. (2) النوع الأدبي
لا خلاف على أن هذه المسرحية كوميديا. والكوميديا جنس أدبي عام يضم عدة فروع تشترك جميعا في أنها تؤكد ما يسميه نورثروب فراي (
Northrop Frye ) «الاحتفال بانتصار الحياة على الأرض الخراب» (1949م)، أو ما يسميه وايلي سايفر «الاحتفال بالحياة» وحسب (1967م) (انظر كتابي «فن الكوميديا» 1980م وكتابي «من قضايا الأدب الحديث» 1994م)، بمعنى أن الكوميديا فن يركز على افتراض وجود تناغم أساسي في الحياة، وهو من ثم ينشد إبراز هذا التناغم من خلال مقارعة القوى التي تعوقه أو تعارضه أو تخفيه، وسبيله في المقارعة هو إبراز التناقضات في الإنسان وفي مواقفه وفي مجتمعه، من خلال أبنية تدفع إلى السخرية منها، أو الضحك منها، حتى ينتهي نشدان التناغم الحق بتحقيقه، وعودة الصفاء الذي يلازم كل تناغم حق. ومن وسائل إبراز التناقضات وسيلة التورية الدرامية الساخرة (
Dramatic irony ) وشتى ألوان السخرية أو المفارقة الأخرى (
varieties of irony )، ومن وسائله أيضا إبراز جو الاحتفالية (
festive feeling ) الذي يصاحب من يشعر حقا بنبض حياته، أو فرحة حياته، وعادة ما تنتهي أمثال هذه الأعمال الكوميدية بالزواج، رمز الرفاء، وبشير التكاثر؛ فالكثرة تعتبر من سمات الخير، والخير ذو جمال.
ولكن «الليلة الثانية عشرة» تضم أيضا عناصر تنتمي إلى نوع أدبي آخر هو ما أسميته الرومانس؛ ففيها الحب والمغامرات والأسفار والأخطار، والرومانس فيها يمتزج امتزاجا وثيقا بالكوميديا وفق التعريف السابق، بحيث يصعب الفصل في المسرحية بين الخط الكوميدي الصريح الذي يمثله الصاخبون اللاهون في منزل الكونتيسة، وضحيتهم أو هدف سخريتهم مالفوليو (الذي يعمل حاجبا لديها ورئيسا للخدم، ويشتط به خياله بسبب ما يبديه من التزمت الديني وحبه لذاته أو مبالغته في تقدير قيمته، فيتصور أنه يمكنه الزواج من مولاته، وهكذا يخدعه هؤلاء المعربدون الذين يستغرقون في اللهو رقصا وغناء وشرابا)، وبين قصة الحب المزدوجة التي تدور حول محور يعتبر كوميديا كذلك؛ ألا وهو تظاهر فيولا بأنها غلام حتى تظل بقرب حبيبها، والتظاهر أو التنكر من السمات التي تقترن ببعض المثالب الاجتماعية التي قد تقوم على جهل الفرد ذاته أو ادعائه ما ليس فيه، ومن ثم فهو مادة للكوميديا، وينطبق ذلك على نرجسية الدوق الذي تحبه البطلة، وتصور أوليفيا التي يحبها الدوق بأنها قد نبذت الرجال وكرهتهم، والصورة الزائفة التي يرسمها مالفوليو لنفسه، وتصوره إمكان وقوع مولاته في حبه، مثل السير أندرو الذي جاء خاطبا لها هو الآخر، وهلم جرا؛ أي إن المحور الذي يدور حوله ما يسمى ب «الحبكة الثانوية» لا ينفصل عن المحور الذي تدور حوله «الحبكة الرئيسية» أي قصة أو قصص الغرام.
ويؤدي هذا الامتزاج إلى إضفاء جو خاص على الكوميديا، بحيث يبتعد بها عن الكوميديا الهجائية (
satiric )؛ أي كوميديا السخرية الصريحة من بعض أنماط السلوك المعيبة وما تنم عنه من تناقضات أو مثالب بشرية، ويقترب بها مما يسمى الكوميديا الغنائية (
Shafi da ba'a sani ba
Lyrical ) التي تتوسل بالشعر والموسيقى، وإن كان الجمع بينهما قائما بوضوح على امتداد المسرحية كلها، وهكذا سمعنا من يصفها بأنها غنائية أولا، ما دامت تبدأ بالموسيقى وتنتهي بالموسيقى وتتخللها الأغاني في المشاهد النثرية (الخاصة بالحبكة الثانوية)؛ وهجائية ثانيا، ما دامت تصب بمحوري الحبكة في آفة واحدة، وإن كان لها بعد أو أبعاد فلسفية ونفسية، مدارها قدرة الفرد على تخطي حدود ذاته وتجاوزها بالامتزاج بالآخر، أو قل بالخروج من الذات إلى البشر (الآخر)، والاستعداد لقهر تقاليد الرومانس التي تجعل المحب منحصرا في حبه استنادا إلى أنه يمثل (الذات) أو قل بتخطي الذاتية إلى الموضوعية!
ولكن هذا المزج يتميز بسمات أخرى تضفي مذاقا آخر على الكوميديا، وعلى رأسها مرارة العقاب الذي ينزله المتآمرون (توبي وماريا وغيرهما) بمالفوليو، فهو عقاب لاذع حاد يدفع الكثيرين إلى الإشفاق عليه، بل ويثير لونا من الأسى، وهكذا وجدنا من يضيف إلى وصف هذه الكوميديا بالهجاء أو الغنائية أو الرومانسية وصفها بالشجن العميق (
wistful ) أو الحزن الصريح (
sad ) أو المرح الصاخب (
romping )، بل ومن حاول أن يجمع بين هذا وذاك كله فوصفها بأنها حلوة مرة معا (
bittersweet )، وقد وجدنا في العصر الحديث من رأى في المهرج (
clown ) مفتاح مفهوم المسرحية؛ فهو يؤكد لنا في ثنايا المسرحية ومن خلال تفاعله مع باقي الشخصيات أن الدنيا قائمة على التهريج الذي يحمل هنا دلالتين لا تنفصلان؛ أولهما: ضرورة الهزل ما دامت الحياة الدنيا أليمة لا تحتمل الجد، وتقوم على المراءاة، والتظاهر. وثانيهما: ضرورة التخلي عن الثقة في قدرة الألفاظ عن التعبير عن الحقيقة؛ فالألفاظ خائنة، وهي عاجزة إلا عن خلق الأوهام، ما دام كل فرد يستخدمها بمعنى مختلف، وما دامت معانيها تتلون دائما وتتحور، الأمر الذي يذكرنا بمذهب التفكيكية النقدي، وإنكاره لوجود حقيقة أو أي شيء خارج الألفاظ! (3) الجغرافيا الخيالية
تقول الناقدة بني جاي (
Gay ) إن التشابه الوثيق بين الفتى والفتاة في المظهر من الدلائل على أن المسرحية تنتمي إلى نوع الرومانس، وإن الدقائق العشر الأولى من المسرحية تختط لها طريقا دقيقا في هذا النوع الأدبي؛ فالجمهور يرى ويسمع شابا غنيا نبيلا، يحيط به الموسيقيون والأتباع الذين يصغون بانتباه إليه وهو يقدم «تنويعاته» العذبة على القوالب اللفظية المألوفة في شعر الحب البتراركي:
أواه عندما رأت عيناي أوليفيا لأول مرة،
Shafi da ba'a sani ba
أحسست أنها تطهر الهواء من أدرانه؛
وعندها استحلت ظبيا واستحالت الأشواق سربا
من كلاب الصيد ذات رهبة وقسوة،
ولم يزل طرادها للآن لي!
فلتمض قبلي نحو رفات من الزهر الجميل،
فخاطرات الحب تزهو اليوم في ظل الخميل.
1 / 1 / 19-23، 40-41
وهكذا ندخل منطقة غير محددة من «العالم المصطنع للرومانس في عصر النهضة». ويبدأ المشهد التالي بصورة لا يقل طابعها الرومانسي عن ذلك؛ إذ نرى فتاة تحطمت سفينتها، وعادة ما نراها على المسرح وقد انسدل شعرها الطويل على كتفيها، وارتدت «بقايا» رداء مغرق في الأنوثة (وهو ما كانت عليه جودي دنش
Judi Dench
في العرض المسرحي الذي قدمته فرقة شيكسبير الملكية عام 1969م من إخراج جون بارتون
Shafi da ba'a sani ba
John Barton ). وتثير الكلمات الأولى في هذا المشهد إحساسنا بالبلاد البعيدة «للرومانس الكلاسيكي»:
فيولا :
يا أصحاب .. في أي بلاد نحن الآن؟
الربان :
هذي إلليريا يا مولاتي.
وتضيف بني جاي إن اسم إلليريا قد يوحي بكلمة «إللوجن» (
illusion )؛ أي الوهم، وكلمة ليريكال (
Lyrical )؛ أي الغنائي، وإن كان في الواقع الاسم القديم للمنطقة الواقعة في بلاد اليونان شمالي خليج كورنثه (
Corinth ) والمطلة شرقا على البحر الأدرياتيكي، وهي التي اشتهرت بوجود القراصنة فيها. وهو ما يشير إليه الدوق فيما بعد عند مواجهته لأنطونيو في الفصل الخامس، وما جعل الفرقة المسرحية المذكورة تقدم في عرض المسرحية عام 1987م ديكورا مسرحيا يمثل قرية يونانية يقوم فيها مالفوليو بدور «موظف» في الكنيسة لم يعد المجتمع «المنحل» يوليه أدنى احترام.
وتؤكد هذه الناقدة دور الخلط الجغرافي هنا، المصاحب لقرار فيولا بالتنكر؛ أي إن قرارها بأن تتنكر في زي خصي معناه وقوفها على الحافة ما بين الرجل والمرأة، بحيث لا تغدو هذا أو ذاك، فالاسم الذي نعرف فيما بعد أنه اسم موطنها الأصلي اسم يوحي بإيطاليا (ميسالين)، وهي الآن على تخوم الدولة العثمانية، فهي «على الحدود»، ومحايدة جنسيا وجغرافيا. لكننا سرعان ما ننسى ذلك حين نراها في بلاط الدوق في صورة خادم، وهو بلاط ذو طابع إنجليزي واضح لا شك فيه، والحوار في المشاهد التالية يؤكد ذلك، الأمر الذي يجعل المشاهد في المسرح يرى ما هو غريب وبعيد في الحدث الرومانسي في ثوب مألوف في إنجلترا، بحيث «يختلط» الحلم بالواقع. ويستعين شيكسبير في ذلك باستحداث شخصية أنطونيو (صديق سباستيان) الذي يؤكد «الطابع الواقعي لهذه المدينة الخيالية»؛ فهي تنتمي افتراضيا إلى عالم الرومانس العجيب، وتتضافر فيها عناصر الخلط الجغرافي، ولكنها لندن أيضا في عيون المشاهدين!
Shafi da ba'a sani ba
ويؤكد كثير من المخرجين رأي هذه الناقدة في تقديمهم تصورا «للمكان» الذي تحدث فيه المسرحية، يقوم على الخلط بين الوهم والواقع، على نحو ما قدمه مخرج العرض المسرحي لفرقة الجلوب الجديدة في لندن عام 2002م، وهذا الخلط هو الذي يؤكد التزاوج الحميم بين الرومانس وبين الكوميديا التي لا بد لها من أسانيد ثابتة في عالم الواقع.
ويؤكد ما قلته عن تضافر عناصر الرومانس مع عناصر الكوميديا هذا المزج بين العالم الشاعري الذي تدور فيه قصة الحب المعقدة وبين العالم المادي الذي نشهد فيه نزلاء منزل الكونتيسه أوليفيا وما يدبرونه من مكائد لبعضهم البعض، فالسير توبي يخدع السير أندرو ويقترض منه الأموال دون أن ينتوي سدادها متعللا بتمكينه من الزواج من ابنة أخيه، وهو يشترك مع فابيان وماريا في خداع مالفوليو خداعا يصفه فابيان قائلا: لو كان ذلك يحدث على المسرح الآن لأنكرته باعتباره خيالات خرافية. (3 / 4 / 129-130) وهكذا نجد التقابل بين الخيال الرومانسي الذي يصور إنسانية صادقة حقيقية، وبين الواقع المادي الذي يقترب في شططه وجنوحه من عالم الخيال، ويتمكن شيكسبير من تحقيق التضافر من خلال التتابع الزمني الوثيق لأحداث الحبكة الرئيسية الشعرية وأحداث الحبكة الثانوية النثرية. (4) التقابل والتضاد
إننا ما إن نفرغ من المشهدين الشعريين اللذين يضعاننا في قلب عالم الرومانس (1 / 1 و1 / 2) حتى نقابل الصورة المضادة في المشهد التالي (1 / 3)، حيث نجد سير توبي عم أوليفيا، الذي أحضر السير أندرو خاطبا لابنة أخيه، فنهبط بذلك إلى عالم الواقع، ولكنه ليس واقعا كئيبا ولا مؤلما؛ فالسير توبي يمثل للجمهور الإليزابيثي ما كان يمثله في بلاط اللوردات في ذلك العصر رجل يسمى مدير الألاعيب المرحة (
Master of merry disports )، ويشار إليه باسم غريب هو «رب الفوضى» (
Lord of Misrule ) بمعنى مدير الحفلات واللعبات التي تتيح للناس (في الفترة السابقة على الصوم الكبير
Lent
وما يصاحبه من زهد وتقشف) أن ينطلقوا فيتحرروا من قيود المجتمع الصارمة، وهو ما كان يسمى «الكارنيفال»، أو ماردي جرا (
Carnival or Mardi Gras )، والصوم الكبير يتلوه «الفرج» بمقدم الربيع. والسير توبي إذن يجسد صورة مألوفة لدى أبناء العصر الإليزابيثي؛ فهو تجسيد للحياة الناعمة أو طيب العيش (
The good life )، ولم تكن تعني آنذاك أكثر من الملاذ الجسدية، ومن ثم فهو يقدم صورة أبيقورية مناقضة للفضيلة التي يمثلها «البيوريتاني» مالفوليو. فالسير توبي يستنكر أن يخفي السير أندرو «فضائله» فلا يرقص علنا في غدوه ورواحه، «هل علينا أن نخفي فضائلنا في هذه الدنيا؟» (1 / 3 / 130-131) وعندما يلومه مالفوليو في الفصل الثاني على الرقص والسكر والعربدة يقول له سير توبي «هل تظن أن استمساكك بالفضيلة سيحرم الناس من الفطائر والجعة؟» (2 / 3 / 114-115). أي إننا نواجه على أرض الواقع صورتين متضادتين للفضيلة ؛ الأولى: صورة استغراق في الملاذ الحسية وعلى رأسها المهارة في الرقص، الغناء، والشراب، و«أطايب العيش». والثانية: صورة زهد وامتناع عن إجابة نوازع الجسد، وهي التي كانت تمثل رمزيا صورة الصوم، وتمثل اجتماعيا نزعة كانت قد بدأت تنتشر في مطلع القرن السابع عشر، هي الضيق ب «مثالب» الكنيسة الإنجليزية في عهد الإصلاح الديني؛ إذ كان الكثيرون يرون أنها كانت لا تزال تتسم بملامح كاثوليكية ويطالبون بالعودة إلى صورة دينية أشد «نقاء» أو «طهرا» (
purer ) وهذه هي الكلمة التي أتت فيما بعد بمصطلح «المتطهرين» أو «دعاة النقاء» أو البيوريتانيين، والمعروف أنه لم تنقض ثلاثون عاما على تقديم مسرحية «الليلة الثانية عشرة» حتى كان هؤلاء قد دخلوا البرلمان وأثبتوا سلطانهم فيه، وكانت النتيجة هي الثورة الإنجليزية التي تزعمها أوليفر كرومويل المتعصب، وبلغت ذروتها في الإعدام العلني للملك تشارلز الأول في عام 1649م الأنجليكاني الذي كان يؤمن بضرورة الاستمساك بالطقوس والشعائر. وأقول بالمنسابة إن الشاعر المسرحي الفذ بن جونسون (
Shafi da ba'a sani ba
Ben Jonson ) قد سخر في عام 1614م، في مسرحية «سوق بارثولوميو»، من شخصية البيوريتاني الديني الذي أطلق عليه اسم «زيل - أوف - ذا - لاند بيزي» (
Zeal - of - the - Land Busy )، ومعناها «حمية البلد المشغول»، وهو أبيقوري منافق يتحدث برطانة الواعظ، ولكنه يفتقر إلى التركيب النفسي والاجتماعي المعقد الذي نراه في مالفوليو؛ فماريا تصفه بأنه «في بعض الأحيان .. بيوريتاني» (2 / 3 / 140)، ثم تسرع فتوضح ما تعني قائلة:
ما أبعده عن الاستمساك بالأخلاق أو البيوريتانية أو أي شيء على الدوام؛ فليس سوى انتهازي مداهن، وحمار يتصنع الحكمة، ويردد ما يحفظه من كلام الكبراء، بل ويكرر مقتطفات طويلة منه! وهو مغرور يزهو بذاته زهوا لا يدانى؛ إذ إنه (في ظنه) مفعم بالمناقب، إلى الحد الذي يؤمن معه أن كل من ينظر إليه لا بد أن يحبه ... (2 / 3 / 146-151)
والهجوم على مالفوليو من الثيمات الكوميدية المألوفة؛ فجوهر هذا الهجوم هو إذلال الغبي المتكبر ذي الألفاظ الطنانة الذي يظن أنه أفضل مما هو عليه في الواقع، ولم يكن شيكسبير يقصد بكلمة بيوريتاني إلا إرضاء الجمهور الذي شاهد المسرحية أول ما كتبت، ولكن الممثل الذي كان يلعب هذا الدور على امتداد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كان يوحي للمشاهد بجو «الرفعة الإسبانية» أولا قبل أن يتحول بسبب أوهامه إلى شخصية فكاهية ذات خبل يذكرنا بدون كيشوت (كيخوته). وسوف أقتطف هنا بعض ما قاله من تناولوا المسرحية من كبار النقاد والأدباء إيضاحا لطبيعة التناقض الذي يولد الكوميديا عند شيكسبير، خصوصا في هذه المسرحية. ولأبدأ بفقرة قصيرة من حديث الدكتور صمويل جونسون (
Johnson )، الكلاسيكي ابن القرن الثامن عشر، عن «الليلة الثانية عشرة»:
تتميز هذه المسرحية في الجوانب الجادة منها بالرشاقة والسلاسة، وفي المشاهد الخفيفة بالهزل الجذاب؛ فشيكسبير يصور شخصية السير أندرو إجيوتشيك تصويرا مناسبا إلى أبعد حد، ولكن شخصيته تفصح إلى درجة كبيرة عن غباء فطري، وليست من ثم الموضوع الملائم للهجاء الساخر. والحديث المنفرد الذي يقوله مالفوليو لنفسه كوميدي حقا، ولا يجعله عرضة للسخرية إلا غطرسته. وأما زواج أوليفيا ومشاهد الخلط التي تتلوه فإنها - على الرغم من إحكام بنائها وصوغها بدقة تكفل التسرية والإمتاع على المسرح - تفتقر إلى المصداقية، ولا تقدم الدرس المناسب الذي لا بد منه في الدراما؛ لأنها لا تعرض صورة صادقة للحياة. (من طبعة جونسون لأعمال شيكسبير، 1765م، يوردها ه. ه. فيرنس
H. H. Furness
في طبعته للمسرحية مع آراء النقاد عام 1901م)
ولننظر ثانيا إلى ما قاله وليم هازلت (
Hazlit )، الناقد الرومانسي، في القرن التاسع عشر عن هذه المسرحية في كتابه «شخصيات مسرحيات شيكسبير» (الطبعة الثانية 1818م):
Shafi da ba'a sani ba
تعتبر هذه المسرحية بحق من أمتع كوميديات شيكسبير؛ فهي حافلة بالعذوبة والجمال، وربما يكون بها من «طيب النفس» ما يجعلها غير ملائمة للكوميديا. فالهجاء فيها محدود، وتخلو تماما من مشاعر الحقد، وهي ترمي إلى إبراز ما يضحك لا ما يثير الاستهزاء؛ لأنها تجعلنا نضحك من حماقات البشر ولا نحتقرها، بل ولا تجعلنا نضمر أي سوء لها؛ فالعبقرية الكوميدية لدى شيكسبير تشبه النحلة في قدرتها على استخراج الحلاوة من الأعشاب الضارة أو السامة لا في قدرتها على اللدغ؛ إذ إن شيكسبير يقدم إلينا أشد ما يمتعنا من سمات الضعف والنقص في الشخصية «في صورة مبالغ فيها»، ولكنه يرسم هذه الصورة بأسلوب يكاد يدفع أصحابها إلى المشاركة في الضحك عليها، بدلا من الاستياء من هذه الصورة، ما دام يدبر من المواقف ما يجعل الشخصيات تبدو لنا في أبهى حلة ممكنة بدلا من دفعنا إلى احتقارها فيما يدبره الآخرون من مكائد وما يطلقونه من فكاهات مؤلمة عليها.
وإشارة هازلت إلى المبالغة، في العبارة المطبوعة بالبنط الأسود، تتفق مع ما ذكرته عن كوميديا الكاريكاتير («من قضايا الأدب الحديث»، ص268)؛ فالمبالغة في تضخيم عيب من العيوب في مسلك الإنسان أو طبعه؛ تؤدي إلى إبرازه بصورة تكفل تأكيد تناقضه مع ما نتوقعه من كل رجل سوي، أو مع المعايير السائدة عن السلوك الطبيعي أو السوي ومدى إفصاحه عن «سلامة» نفس صاحبه. ويشرح هازلت ما يقصده بذلك في الفقرة الطويلة نفسها من كتابه قائلا:
ولقد مر المجتمع بفترة كانت عيوب السلوك ونقائصه لدى الأفراد من غرس الطبيعة لا ثمرة لنمو العلم أو الدرس، فهم غير واعين بهذه المثالب، أو قل إنهم لا يأبهون لمعرفتها، ما داموا يرضون بها أهواءهم، وهنا نجد أنه ما دام المؤلف لا يحاول أن يفرض شيئا، فإن المشاهدين يستمتعون بمسايرة ميول الأشخاص الذين يضحكون عليهم دون أن يؤذوهم بفضح حمقهم. ولنا أن نطلق على هذه اللون اسم كوميديا الطبيعة، وهي الكوميديا التي نجدها بصفة عامة في شيكسبير؛ فإن روح كوميدياته تتفق في جوهرها مع روح سيرفانتس (ثيربانتيس) ونصادفها كثيرا في موليير، وإن كان هذا أشد انتظاما في مبالغاته من شيكسبير. فكوميديا شيكسبير ذات قالب رعوي وشاعري، والحماقة أصيلة في تربتها، وشجرتها تنمو وتترعرع فتزهر وتثمر. والمتعة التي يجدها الشاعر في تورية لفظية، أو في الفكاهة العجيبة التي يجدها في شخصية «منحطة»، لا تفسد بهجته وهو يصف صورة جميلة أو أسمى ألوان الحب . ففكاهات المهرج المقتسرة لا تفسد عذوبة شخصية فيولا؛ فالمنزل نفسه يتسع لمالفوليو والكونتيسة وماريا وسير توبي وسير أندرو إجيوتشيك. ولننظر مثلا إلى هذه الشخص الأخير الذي لا مثيل لانحطاطه في العقل أو الخلق، وانظر كيف يحول السير توبي مظاهر انحطاطه إلى صور جذابة ممتعة! إن شيكسبير يبث روح الرومانس والحماس بمقدار ما يرسم الأشخاص في صور طبيعية وصادقة، وأما في أسلوب الكوميديا المتصنعة فلا نجد إلا الزيف والبعد عن المصداقية. (من طبعة سيجنت للمسرحية ص133-135)
أي إن «الغباء الفطري» الذي يجده جونسون في سير أندرو ويرى أنه غير جدير بالمعالجة الساخرة في الكوميديا يراه هازلت نبتا طبيعيا جديرا بتأمله والاستمتاع به؛ وذلك عن طريق مجاورته للمشاعر الصادقة في قصة الحب الرومانسية، فالتجاور يؤكد التقابل ويبرز التناقض في صورة أخاذة، وما يراه جونسون بعيدا عن الواقع بمعنى أنه لا يقدم صورة صادقة للحياة، ينسبه هازلت إلى الشعر، أو ما يسميه الطابع الرعوي. وهذا دليل على تغير الحساسية النقدية في مطلع القرن التاسع عشر، وهو التغير الذي أدى إلى قبول كل ما في الطبيعة باعتباره جديرا بالتصديق ما دام «في الطبيعة»، ولضرب لهذا مثلا من شخصية مالفوليو، وشخصية المهرج. (5) مالفوليو والمهرج
سبق أن قلت في القسم السابق من المقدمة إن مالفوليو لم يصف بالبيوريتاني إلا بهدف إرضاء الجمهور الذي شاهد المسرحية أول ما كتبت، ولكن هذا الجانب من شخصيته قد دفع الكثيرين إلى إغفال ما فطن إليه المحدثون، وكان سباقا إلى ذلك الناقد الرومانسي تشارلز لام (
Charles Lamb ) في كتابه «مقالات إيليا» (وكان إيليا هو الاسم المستعار الذي يوقع به مقالاته النقدية في مجلة «لندن مجازين» في مطلع القرن التاسع عشر). فالنظرة الحديثة تقول إن مالفوليو ليس شخصية مضحكة بطبيعته؛ أي إنه ليس هزأة أو مثار سخرية في ذاته، ولكن أحلامه الخبيئة قد استغلها العابثون فجعلوه يعيش في وهم يثير الضحك والاستهزاء، وهي أحلام ليست موهومة تماما بل تقوم كما يقول النص على واقع صلب، فهو حاجب لصاحبة المنزل ورئيس الخدم، ومعنى هذا أنه يشعر بالمسئولية عن كل ما يحدث في المنزل، وتزمته الأخلاقي أو«بيوريتانيته» ليست في ذاتها مثيرة للسخرية أو الاستهزاء، فلقد كان من واجبه ضمان التزام جميع من في المنزل، زوارا ومقيمين، بالسلوك الحسن، والحفاظ على النظام والأمن في المنزل، وفقا لما تقوله كتب السلوك في القرن السادس عشر، حسبما جاء في دراسة م. سانت كلير بيرن (
M. St. Clare Byrne ) بعنوان «الخلفية الاجتماعية» في كتاب بعنوان:
A Companion to Shakespeare Studies, (eds.) H. Granville-Barker and G. H. Harrison, 1946, (second ed. 1985, p. 204).
وهذا يعني أنه يمارس حقه في تأنيب الصاخبين المعربدين فيما يسمى «مشهد المطبخ» (3 / 2). والواضح أيضا أنه لا يرتاح للمهرج الذي يكسب رزقه بالتلاعب اللفظي الفكاهي هنا وهناك، فمثل هذا التهريج يفسد جو الوقار السائد، خصوصا وأوليفيا تلبس ثوب الحداد حزنا على وفاة أخ لها، وتقول الناقدة بني جاي إن لنا أن نعتبره يمثل صورة الأب أو الاخ الذي يتوقع منه التحكم في سلوك أفراد الأسرة من النساء. وقد تصادف أن يصبح أقوى رجل في منزل تديره اسميا امرأة لا زوج لها ولا أب ولا أخ يستطيع أن ينهض بدور رب الأسرة والمتحكم في نفقاتها (ص11). ويؤكد هذه النظرة ما ورد في دراسة الأستاذة فاليري تروب (
Valerie Traub ) بعنوان «النوع والحياة الجنسية في شيكسبير»، المنشورة في كتاب عنوانه:
Shafi da ba'a sani ba
The Cambridge Companion to Shakespeare, (eds.) Margreta de Grazia and Stanley Wells, 2001.
خصوصا في الصفحات 129-134 المكرسة لدراسة «الأيديولوجية الذكورية» وتأثيرها في النساء في العصر الإليزابيثي، فمالفوليو، وفقا لما تقوله هذه الباحثة، يريد السيطرة على المنزل ويرى نفسه الرئيس «الطبيعي» للأسرة، فبهذا تقضى المعايير الاجتماعية السائدة في ذلك الزمن. وقد يكون حلمه الدفين بالزواج من أوليفيا غير واقعي ولا يمثل إلا طموحا غير مشروع بسبب التفاوت الطبقي، ولكنه حلم مشروع من الزاوية الإنسانية المحضة، مهما أضحكنا اشتطاطه في الخيال وانغماسه في هذا الوهم، وانظر إلى ما قاله تشارلز لام المشار إليه في هذا الصدد:
ليس مالفوليو في جوهره مثيرا للضحك. وهو يصبح فكاهيا بالمصادفة. إنه بارد، مثقف، ولكنه وقور متسق مع ذاته، وحسبما يظهر لنا، متزمت أخلاقيا ... ولكن أخلاقه وسلوكه لا مجال لهما في إلليريا؛ فهو يعارض ألوان النزق والطيش الخاصة بالمسرحية، ويسقط في الصراع غير المتكافئ، ومع ذلك فإن كبرياءه أو وقاره (سمه ما شئت) أصيل أو فطري في نفسه، بمعنى أنه غير متكلف أو متصنع. وهو غير جذاب، إن شئنا التلطف في التعبير، لكنه ليس مهرجا مبتذلا أو يثير الاحتقار. ومسلكه يوحي بالرفعة التي تتجاوز موقعه الاجتماعي ولكنها لا تتجاوز ما هو جدير به. ولا نرى ما يمنع من أن يكون قد فعل ما يثبت شجاعته وشرفه وثقافته. فإن إلقاءه الخاتم على الأرض في غير اكتراث (عندما كلف بإعادته إلى سيزاريو) يفصح عن كرم المحتد وكرم الإحساس. واللغة التي يستخدمها في جميع الحالات لغة سيد ولغة شخص متعلم. ويجب ألا نخلط بينه وبين شخصية القهرمان الوضعية القديمة الشائعة في الكوميديا منذ الأزل. فإنه رئيس منزل أميرة عظيمة، وهي منزلة بلغها لشمائل فيه لا تقتصر قطعا على طول الخدمة. وهذه أوليفيا تقول عندما يلمح أول من يلمح إلى أنه أصيب بلوثة، إنها لا تريد أن يصيبه أذى، ولو فقدت نصف مهرها (3 / 4 / 61) فهل يبدو من هذا أنه شخصية قصد بها أن تكون حقيرة أو لا وزن لها؟ ... وربما كان مالفوليو يشعر بأنه مسئول بصورة ما عن شرف الأسرة؛ إذ لا يبدو أن لأوليفيا إخوة أو أقارب يتولون هذه المسئولية ...
ويفيض لام في تبيان مظاهر السلوك التي تبرر وصفه السابق لمالفوليو، مثل إجاباته الرزينة وهو في الحبس على المهرج المتنكر في هيئة كاهن، والأمر الذي يصدره الدوق بمحاولة استعطافه ومصالحته في النهاية، ويقول إن فابيان وماريا كانا يريان في شخصيته ما يبرر خداعه بحب أوليفيا وإلا لكانت الخدعة أعظم من أن تجوز عليه أو على أي أحد. وينتهي لام في مقاله الطويل بوصف أداء الممثل روبرت بنسلي (
Robert Bensley ) لهذا الدور في أواخر القرن الثامن عشر (لأنه تقاعد عام 1796م) قائلا:
لقد كان رائعا من البداية، ولكنه عندما بدأت مظاهر الوقار الأصيلة في الشخصية تنهار، وبدأت سموم حب الذات تفعل فعلها، في توهمه بحب الكونتيسة له، فلربما أحسست أنك ترى بطل لامانشا بشخصه على المسرح ... لم يكن ثم مجال للضحك! أما إذا برز أي إحساس أخلاقي في غير موضعه ففرض نفسه، فلا بد أن يكون إحساسا عميقا بالضعف الجدير بالإشفاق والكامن في طبيعة البشر، فهو الضعف الذي جعله عرضة لضروب ذلك «الجنون» - ولكنك في الحقيقة تعجب بذلك «الجنون» أثناء حلوله ولا تشفق عليه - بل وتحس بأن ساعة تعيشها في ذلك الخطأ أكبر قيمة من عمر كامل وعيناك مفتوحتان ... وأعترف أنني لم أشاهد يوما تلك الكارثة التي أصابت تلك الشخصية، أثناء تقديم بنسلي لها، دون الإحساس بلذعه مأسوية.
ولقد اخترت في هذا القسم أن أجمع بين مالفوليو والمهرج (فسته)؛ لأنهما يؤكدان ما طرحته في القسم السابق من تقابل وتضاد؛ فالمهرج، حسبما يصفه هارلي جرانفيل-باركر في مقدمته لطبعة التمثيل من المسرحية عام 1912م.
William Shekespeare, Twelfth Night. An Acting Edition. With a Producer’s Preface by Harley Granville-Barker, London, 1912.
رجل طاعن في السن، فشل في حياته ولم يحاول إخفاء ذلك، ولكنه يستعين بلماحيته وقدرته على التلاعب بالألفاظ على كسب الرزق، ويضيف ذلك المخرج أننا نرى كثيرا من أمثال هؤلاء الذين يترددون على الأسر لإضحاكها دون أن يرتدوا لباس المهرج المتعدد الألوان! ونحن نعرف من نص المسرحية مدى ما يتمتع به المهرج من حرية في الحركة، فهو يعيش حقا على الحافة متنقلا ما بين منزل الدوق أورسينو ومنزل الكونتيسة أوليفيا، ويقيم كما يقول بعض الشراح في مكان ما بالبلدة، ويطوف بأكثر من مكان (حتى بالحانات كما يقول مالفوليو) وهو لا يخفي «تشرده» قائلا: «التهريج يدور حول الأرض يا سيدي مثل الشمس، فهو يسطع في كل مكان!» (3 / 1 / 40) وهو يتهم مالفوليو بالجنون (مع الآخرين)، وعندما يقول له مالفوليو إن قواه العقلية «في سلامة قواك العقلية أيها المهرج» يقول له المهرج إنه إذن مجنون حقا! (4 / 2 / 90-93).
والمشهد الذي يجمع بينهما على المسرح، مشهد «الغرفة المظلمة» (4 / 2) من أقسى المشاهد التي تؤكد التقابل بين قسوة المهرج وضعف الحبيس مالفوليو، والمعروف كما يقول مايكل بريستول في كتابه عن الكرنفال والمسرح:
Shafi da ba'a sani ba
Michael Bristol, Carnival and Theater: Plebeian Culure, and the Structure of Authority in Renaissance England, 1985.
إن المهرجين في الكوميديا الشيكسبيرية شخصيات تعيش على الحافة؛ فهم جوالون، ومراقبون، ومعلقون على الأحداث، ويتمتعون بالقدرة على التشكيك في عالم الرومانس والأسطورة، بل والسخرية من هذا العالم. ويضيف بريستول قائلا إن المهرج «يعبر الحدود ما بين العالم الذي تمثله المسرحية وبين الزمن الحاضر والمكان الذي تعرض فيه المسرحية، فهو يشترك مع الجمهور في هذا الزمن وهذا المكان ... وهكذا فإنه يقوم بالإضافة إلى دوره في القصة بدور الجوقة التي تقف خارج مجرى أحداثها» (ص140-142). وإذن فإن هذا المشهد يمثل المقابلة بين «المتشرد» الذي قد لا ينتمي إلى الحبكة انتماء حقيقيا بل يطل عليها من الخارج، وبين الضحية الذي وقع في براثن العابثين الصاخبين المعربدين، بحيث يتولد التوتر ما بين الضحك على محنة مالفوليو والإشفاق عليه، وما بين قسوة المهرج والضحك على فكاهاته التي لم تعد تضحك أحدا، كما يقول جرانفيل باركر (الذي يؤكد أنه لا بد من حذف الفكاهات اللفظية عند الأداء المسرحي، «وحذفها هي فقط دون غيرها» لانتفاء تأثيرها الفكاهي حتى في مطلع القرن العشرين). فالمهرج يتنكر في دور كاهن، مثلما تنكرت فيولا في دور سيزاريو، ثم يعود إلى صوته الحقيقي، وإن كان ذلك أيضا، كما نعرف، دورا يلعبه لكسب رزقه؛ فهو يتظاهر بالبله وحسب، ويلعب دورا لا ينتهي بنهاية المسرحية، ثم يختتمها بالأغنية التي ذاعت شهرتها حتى اليوم، ولا تمثل في الحقيقة إلا تعليقا ساخرا على الأحداث.
وربما استطعنا أن نجد في هذا التقابل عنصر تشابه آخر لو أنعمنا النظر في الموقع الذي يشغله مالفوليو والمهرج في المسرحية؛ إن كليهما من غير المنتمين إلى عالم الرومانس؛ إذ لا مكان فيه لمهرج أو بيوريتاني، وما يقولانه في المشهد المذكور لا علاقة له بالحدث الرئيسي إلا من قبيل التعليق الساخر على عبثية الحدث نفسه! وانظر إلى مشهد آخر يدور بين المهرج وبين فيولا (المتنكرة في ثوب سيزاريو) ويقع في بداية 3 / 1؛ أي في منتصف المسرحية تماما ويستغرق ستين سطرا من النثر، تجد تشابها غير متوقع بين موقف المهرج وموقف فيولا المتنكرة. فالمشهد لا يضيف شيئا إلى الحبكة؛ أي إلى الأحداث ولكنه مهم؛ لأنه يتناول قضية التهريج والمهرجين والتلاعب بالألفاظ وأخيرا هوية فيولا نفسها. والقضية التي يتناولانها؛ أي قضية غموض الألفاظ أو فسادها، تصب في قضية الظاهر والباطن، وكيفية التعامل مع الناس، بحيث توحي لنا بأن فيولا تؤمن بما يفعله المهرج، وأنها تتحايل هي الأخرى في عالم الواقع المادي الذي يقوم على المداهنة والنفاق حتى تفوز بما تريد، إذ ما إن ينصرف المهرج حتى تقول:
هذا لديه من سداد العقل ما يكفي التظاهر بالبله،
وحذق ذلك الدور العسير يقتضي اللماحية؛
فإنه لا بد أن يراعي حالة الذي يهجوه أو مزاجه
وطبعه الشخصي بل واللحظة المناسبة،
كالصقر لا ينقض إلا عند رؤية الفريسة المطلوبة،
وذاك جهد مرهق كجهد كل جاد عاقل!
تصنع البلاهة الذي يمتاز بالإحكام يقتضي الذكاء،
Shafi da ba'a sani ba
أما سقوط عاقل في هوة السفه .. فذا بعينه الغباء. (3 / 1 / 61 / 68)
أفلا نشعر بأن فيولا تتحدث عما تفعل هي الأخرى؟ ولنا في ضوء هذا «التمثيل» المحكم الذي تقوم به حتى آخر المسرحية أن نقول إن البيت الأخير من هذه الأبيات ينطبق على مالفوليو؛ فهو حقا عاقل سقط في هوة السفه، فاستحق أن يوصف بالغباء! (وفيولا تشير إليه قائلة إنه عاقل رزين 3 / 4 / 5-6)، ودوره إذن يتضاد إن لم يكن يتناقض مع دور المهرج، وأما الفرق بينهما من ناحية، وبين فيولا من ناحية أخرى، فهو أنهما لا يتغيران ولا يتبدلان؛ فالفاشل فسته يواصل حياته مهرجا حتى بعد لحظة تكشف الحقيقة (
anagnorisis )، ومالفيولو المتغطرس يخرج من المسرح وهو يرعد مهددا بالانتقام ممن دبروا المكيدة، ولكن فيولا تنجح في تحقيق مرادها والزواج ممن تحبه؛ أي إن خداعها ينجح فيربط بين عالم الرومانس وعالم الواقع! (6) الأساطير ومسخ الكائنات
أثبت الباحث جوناثان بيت في الفصل الأول من كتابه عن شيكسبير وأوفيد (
Jonathan Bate, Shakespeare and Ovid, 1993 ) مدى شيوع أعمال ذلك الشاعر الروماني في ثقافة العصر الإليزابيثي، وخصوصا كتابه «مسخ الكائنات»
Metamorphoses
الذي يتضمن حكايات مسخ الأرباب الوثنية اليونانية وأبناء البشر؛ أي تحولهم من صورهم إلى صور الحيوان أو الجماد أو النبات أو الأجرام السماوية. وكانت الترجمة التي أصدرها آرثر جولدنج (
Golding ) لكتاب أوفيد المذكور عام 1565م تحظى بشعبية هائلة، ولا شك أن شيكسبير كان يعرف ذلك الشاعر سواء كان قد قرأ ذلك الكتاب باللغة اللاتينية الأصلية أم مترجما؛ ففي «حلم ليلة صيف» نرى بوتوم ممسوخا في صورة حمار من خلال جهود العفريت بك (
) (أو روبين جود فيلو)، والقصيدة القصصية «فينوس وأدونيس» تثبت مدى إدراك شيكسبير للإمكانات الفكاهية الكامنة في فكرة المسخ حتى في مطلع حياته العملية. ولكن شيكسبير هنا يستخدم الثيمات الأوفيدية بحذق أكبر وصور غير مباشرة في حالات كثيرة؛ إذ إن فيولا تذكرنا بتلك الفكرة عندما تشير إلى نفسها في الفصل الثاني قائلة: «وأنا المسخ المسكينة .. أعشقه كل العشق» (2 / 2 / 33) ما دامت قد تنكرت فتحولت من جنس إلى جنس، ومالفوليو «يمسخ» نفسه حين يتحول من وقار القهرمان (مدبر المنزل) إلى عاشق طبقة الأسياد، فيبدو مسخا شائها في جوربه الأصفر ورباط ساقه الصليبي وبسماته الدائمة، فيبدو مجنونا؛ أي «يركبه» جني أو يسكنه عفريت، وهو ما يحدث لشخصيات كثيرة في أوفيد، حسبما يقول الباحث المذكور، عندما لا يحالفهم التوفيق في اختيار الحبيب المناسب.
ومنذ المشهد الأول للمسرحية نلمح ما يدل على هذا الولع بفكرة المسخ أو التحول عندما يقول أورسينو:
Shafi da ba'a sani ba
وعندها استحلت ظبيا واستحالت الأشواق سربا
من كلاب الصيد ذات رهبة وقسوة،
ولم يزل طرادها للآن لي! (1 / 1 / 21-23)
فالواقع أن أورسينو يستقي الصورة من أسطورة أكتيون (
Actaeon ) الصياد العظيم الذي تصادف أن رأى الربة أرتميس (
Artemis ) وهي تستحم فمسخته ظبيا (
stag ) وطاردته كلابه حتى مزقته إربا (أوفيد - «مسخ الكائنات»، 3 / 138 وما بعده).
وفي داخل هذه الصورة نفسها يشير شيكسبير بطريق غير مباشر إلى أن أوليفيا هي ديانا؛ إذ إن القدماء كانوا يوازون بين هذه الربة «الإيطالية» والربة أرتميس اليونانية، ودلالات ديانا (ربة القمر) معروفة بالعفة؛ فالصورة مركبة، وتستثمر في التركيب شعر أوفيد. ومع ذلك فالنقاد يجمعون على أن المثال الأوفيدي الذي اختاره لأورسينو هو نرجس (
Narcissuss )، ولو أن باحثا آخر يزعم أن أوليفيا أيضا شخصية نرجسية، وهو:
A. B. Taylor, Shakespeare re-writing Ovid. Olivia’s interview with Viola and The Narcissus myth’s Shakespeare Survey 50 (1970) pp. 18-9.
Shafi da ba'a sani ba
ففي الفصل الثالث من «مسخ الكائنات»، نجد ما لا بد أن شيكسبير قد قرأه عن الفتى نرجس: ... أثناء شربه رأى جمال وجهه في صفحة الماء الصقيل،
وإذ به في غمرة الوجد الشديد هائما يعانق الوجه الجميل،
ودون أسباب غذا في نفسه الأمل! إذ إنه بمطلق الغباء
ظن انعكاس ظله كيان شخص آخر يحيا بذاك الماء،
فظل راقدا كأنه بذهنه الشرود تمثال من الرخام،
محملقا في صورته .. بعينه التي تسمرت على الدوام ... كان الحبيب نفسه الذي يحبه والخاطب الذي يبثه الغرام،
كان اللهيب نفسه الذي يؤججه ... وقلب من أحرقه الهيام. (3 / 519-525، 536-537 عن ترجمة آرثر جولدنج 1565م، طبعة 2002م، تحرير مادلين فوري
Madeleine Forey )
وعجز نرجس عن الإقلاع عن حبه نفسه يؤدي إلى هلاكه؛ فالانغماس في الذات مهلك، أو على الأقل دليل على علة مهلكة، وهكذا نرى أن أورسينو (مثل مالفوليو «العاشق» الآخر لأوليفيا) «مريض بحب الذات» (1 / 5 / 89)، ويتضح لنا ذلك في حديثه الافتتاحي الذي يفصح عن الاستغراق الكامل في ذاته، وعندما يقول فالنتاين إنها اعتزلت الناس وعافت صحبة الرجال بسبب وفاة أخ لها، يرى أورسينو أنها إذا بادلته الحب فسوف يتربع هو وحده مليكا على عروش ملكها الثلاثة، وسوف يصير وحده مالكا لكل أوجه الكمال عندها، فكأنما كان وحده «أولا وأخيرا» في بؤرة الصورة لا يشاركه أحد (1 / 1 / 37-39). وأورسينو يعتز بقدرته على الحب ويلتذ بما يجده في نفسه من مشاعر:
من المحال أن تكون لامرأة
Shafi da ba'a sani ba