من يدرينا بأن تلك البقعة الضيقة لا تضم رفات نابغة من النوابغ مات ولم يظهر نوره، أشعلت الطبيعة نفسه وتركتها تأكل بعضها؟ من ينكر على من مات قبل أن تنضج ثمرته وتفتح زهرته أنه كان يليق بعرش يرتقيه وتاج يلبسه وصولجان يتناوله ومملكة يدبر أمرها؟! كم من درة في قاع البحر لم تصل يد الغواص إليها! وكم زهرة نبتت في قفر وجارت ريح السموم عليها فدفنتها بعد أن ضاع أريجها في الفضاء وتبدد عطرها في الهواء! كم شاعر صميم كسر الموت قيثاره ودفن الثرى آثاره وختم الردى على شفتيه قبل أن يتغنى بقصائده! كم خطيب منطيق لو مد في أجله ولم يقطع الردى حبال أمله ملك زمام القلوب وقبض على أعنة الأفئدة واستهوى النفوس، ولكن غلبه الموت على أمره وأطفأ شعلته قبل أن يبلغ أمانيه!
هنا في ذلك اللحد يرقد فتى لم تعشقه الشهرة الكاذبة ولم تعره رياءها ولم تلبسه الدنيا ثوبها ولم تسبغ عليه نعماءها، جاء إلى العالم وذهب، فودعه الذكاء، وبكاه الكرم، وناح عليه المجد، فلتبكه السماء إن كان لها قلب يحزن وعين تذرف الدموع! •••
ولما عدت إلى داري بعد زيارة القبر اندفعت أتأمل في معجزة الخلود، وجاشت نفسي وتملكتني الحيرة، فأخذت ألتمس لكل سر معنى، وأبحث عن حل المسائل، واستعرضت تاريخ البشر وعلومهم، فإذا هما قاصران عن تعليل الحقائق وتفسير كنهها، بل هما لا يكادان يكونان قطرة في محيط الوجود!
يا أيتها الإنسانية العاجزة المسكينة، يا أيتها الصبية الضالة في مهامه الكون الأزلي، الغارقة في بحر الظلمات، من أين جئت؟ وإلى أين تذهبين؟ ما هو مستقبلك القريب والبعيد؟ إنني لا أرى سوى الظلام الحالك خلفك وبين يديك!
وإنني لكذلك، وإذا بصوت خفي كأنه من جوف الأرض ينطق خافتا، قال: أيها الباحث عن الحقيقة التائه في بيداء الريب! فوجمت لدى سماع الصوت الخفي، وخانني النطق للوهلة الأولى، ثم استجمعت قوتي وقلت: من أنت أيها المتكلم الخفي؟ قال الصوت بعد صمت طويل: أنا الروح الحائر، روح صديقك، أتيت مجيبا نداءك.
قلت: لعلك - أيها الروح العزيز - جئت لي بجواب سؤالي وحل لغوامض الكون.
قال: أنى لي ذلك ولا فرق بيني وبينك سوى أنني تخليت عن بدني وأنت لا تزال تجاهد ضد العناصر الأرضية فتغلبها مرة وتغلبك مرارا.
قلت: وهلا أراك أيها الروح الصديق فأطمئن إليك؟
قال: بلى، انظر. فنظرت ولم أر شيئا، قال: انظر نحو الزاوية اليمنى. فأمعنت النظر، فإذا شبح أبيض في يده مصباح، ولكنني لم أستطع تمييز تقاطيعه، قلت: وما هذا المصباح؟ قال: إنه دليلي في حيرتي، فيه شعاع من نور الحقيقة. قلت: حدثني بشيء مما رأيت. قال: ليس لدي من الوقت متسع، وموعدنا الليلة الثانية.
الليلة الثانية
Shafi da ba'a sani ba