إهداء الكتاب
الليلة الأولى
الليلة الثانية
الليلة الثالثة
الليلة الرابعة
الليلة الخامسة
الليلة السادسة
الليلة السابعة
الليلة الثامنة
الليلة التاسعة
Shafi da ba'a sani ba
الليلة العاشرة
الليلة الحادية عشرة
الليلة الثانية عشرة
الليلة الثالثة عشرة
الليلة الرابعة عشرة1
الليلة الخامسة عشرة
إهداء الكتاب
الليلة الأولى
الليلة الثانية
الليلة الثالثة
Shafi da ba'a sani ba
الليلة الرابعة
الليلة الخامسة
الليلة السادسة
الليلة السابعة
الليلة الثامنة
الليلة التاسعة
الليلة العاشرة
الليلة الحادية عشرة
الليلة الثانية عشرة
الليلة الثالثة عشرة
Shafi da ba'a sani ba
الليلة الرابعة عشرة1
الليلة الخامسة عشرة
ليالي الروح الحائر
ليالي الروح الحائر
تأليف
محمد لطفي جمعة
إهداء الكتاب
إلى شبان مصر النجباء أهدي كتاب «ليالي الروح الحائر»، كتبتها إذ كنت أعيش بينهم، وأشعر بعواطفهم، وتداخل نفسي الشكوك التي تخالج نفوسهم الفتية؛ فلعلهم يجدون في صحفه أجوبة للأسئلة التي يحارون في الجواب عليها، ولعل صرخات الروح الحائر تصل إلى أعماق قلوبهم كما خرجت من أعماق قلبه!
محمد لطفي جمعة
القاهرة في 5 مارس سنة 1912
Shafi da ba'a sani ba
الليلة الأولى
رثاء صديق
كنت منذ أيام قليلة جالسا على حجر من أحجار الهرم الأكبر، وأدرك غروب الشمس فغابت وراء الرمال المتراكمة على حدود الصحراء، وتركت وراءها خيوطا من الذهب تنم عن مخبئها، وامتدت تلك الخيوط إلى النيل الجاري في سفح الأهرام فصبغته بلون قرمزي، وكانت القاهرة بمآذنها وقبابها وقصورها وحدائقها وأهلها تبدو كصورة منقوشة في الوادي، وحولها جبل المقطم كأنه سور يحمي مدينة الخلفاء، وبرأسه حصن صلاح الدين العتيق كأنه أسد رابض على قمة الجبل يرنو إلى المدينة المحروسة، وكان بيني وبين القاهرة سبيل ممهد تحف به الأشجار يقربه النظر للرائي، أما منظر النيل وهو محيط بتلك الطريق فلم يكن أجمل منه شيء.
ولما أن أشبعت نفسي بهذا الجمال نظرت إلى ما ورائي، فإذا الصحراء الكبرى بمفاوزها ودروبها الخفية تصافح المدينة ويوفق بينهما النهر العظيم كما يوفق الحب بين البدوي والحضرية، فوقفت بين يدي الطبيعة خاشعا خاضعا أنظر إلى البر تارة وإلى النهر أخرى، وأرفع ببصري مرة إلى قمة الهرم فيغلي دمي في عروقي غيظا من رافع بنيانه وواضع جدرانه؛ لأن صخوره دموع متحجرة ذرفها شعب شقي إنجازا لشهوة ملك ظالم، ثم أخفض به إلى القاهرة وهي في السهل، ساكنة هادئة كأنها باقة من أزهار شتى في يد الوادي، يشمها أبو الهول بأنفه ويسقيها النهر بمائه؛ خوفا عليها أن تذبل أو تذوي.
أسدل الليل ستاره، ولبست الصحراء ثوبا من سواد بنفسجي، وسمعت نعيب طيور الظلام، وتجلت مدينة القاهرة في ثوب المساء المزركش بالذهب، ثم لحقتني هزة فاغرورقت عيناي بالدموع عندما نظرت وراء الجبل؛ لعلي أرى مدينة الأموات حيث يرقد أبناء الجيل الماضي وبعض أبناء هذا الجيل في بيوت ضيقة مظلمة، نظرت إلى حيث ظننت المقابر وقلت: هنا في حفرة من حفائر تلك البقعة ينام صديقي وحيدا منفردا عن المدينة وغوغائها! ولم يبق منه إلا عظام نخرة، لم يبق من رأسه الذي كان ممتلئا حزما، وعينيه المتقدتين عزما، وفمه الذي كان يتدفق منه الدر والجوهر، وصدره المملوء بالآمال والأماني، وقلبه الكبير، ويده الأبية، وقدمه التي لم تسع إلا إلى مكرمة؛ إلا جمجمة خاوية، ومحاجر غائرة، وفكان من العظم النخر، أما مكمن القلب ومسرح الآمال وموطن الأماني فقد أمسى قفصا من العظام خاليا، ويده تلك اليد كانت تجود بما تملك وتكتب ما تملي عليها النفس المشتعلة فقد خمدت قوتها وتبددت قبضتها وتلاشت أناملها! هذا كل ما بقي من صديقي مصطفى! ولكن كلا، إن ما بقي هو أثر ما كنا نراه ونلمسه، أما النار التي كنا نشعر بوجودها فيه ولا نلمسها، نرى لهيبها ولا نراها، نحس باشتعالها ولا نفهم معناها؛ فقد ذهبت إلى مكان غير هذا القبر، بل هي لا تزال مشتعلة في حيز لا أعرفه ولا أعرف أين هو! أيذهب صاحبي كمن جاء وذهب؟ ألا يسمع أبناء الأجيال القادمة آهته التي اخترقت نفسي ليحزنوا كما حزنت ويتألموا لتلك النفس الهائمة كما تألمت؟ إني أذكر اليوم الذي كنا به معا في سفينة في النيل، وكنا نقرأ حياة أحد العظماء كتبها صاحب له، فقال لي: عدني وأعدك. قلت: بماذا؟ قال: إذا مت قبلك أن تكتب عني كتابا يكون سلوى أمثالي الحزانى الذين لا يسمع صوتهم إلا من القبور، وإذا مت أنت قبلي أن أكتب عنك كتابا يبكي من يقرؤه. قلت: أعدك، ولكن ماذا جلب إليك تلك الأفكار السوداء؟ قال: لا تقل سوداء، إن أملي في الخلود عظيم، ولكن أريد أن أستعطف الإنسانية على إخواني الذين يسوء حظ نفوسهم بما تؤتاه من قوة واشتعال، فيذهبون فريسة النار الكامنة، ولعل في قصتي عبرة للمعتبرين. قلت: أعدك.
فلما أن جالت بنفسي تلك الذكرى سألتها: متى أفي بوعدي وأؤدي أمانتي؟ لا بد من الوفاء مهما كلفني! •••
نهضت في صباح الجمعة مبكرا، ونظرت من نافذة الغرفة، فإذا الشمس لا تزال متبرقعة بغمام الشروق، وكانت على مقربة من داري بقعة في الأرض بكر لم تفسد جمالها يد البناء، ولم يدنسها البشر بمساكنهم، وفيها نخيل لا تثمر إنما هي ملجأ البلابل والطيور المغردة في الفجر ومحط رحال الغربان عند الغروب، فنظرت إلى إحداها وأنا أسمع من خلال جريدها أصوات طيور الصباح المطربة، ولم أوشك أن أشعر بجمال الحياة حتى ذكرت ألم الموت، وصور لي منظر الليلة البارحة التي قضيت أوائلها في ظل الهرم، فقلت: أنى أقضي يومي؟ فقال لي صوت في نفسي: عليك بالمقابر، وزر قبر صديقك الذي لو كان حيا زارك.
ولما بلغت القبور حملت زهورا وتمرا، وهرولت بين الأجداث أمشي على عظام ألوف الألوف من بني الإنسان، رقدوا ولن ينهضوا من تلك القبور مهما غردت الطيور بصوتها المطرب، ومهما أشرقت الشموس وبزغت الأقمار، ومهما أسدل الليل ستوره أو طلع النهار. أجل، لن ينهضهم ندب النادبين ولا نوح النائحين ولا حزن الحزانى ولا جذل الفرحين، لقد رقدوا الرقاد الطويل، ولن يرثوا لمن يبكيهم مهما طال أمد العويل، سرت أشق عباب تلك الرفات، وكم رأس حازم، وصدر كاتم، وطرف كحيل، وخد أسيل؛ تحت قدمي، جست خلال المقابر، وما كنت أرى على كل قبر إلا كلمة من سطر أو آية من القرآن أو بيتا من الشعر أو مثلا من الأمثال، فقلت في نفسي : أهذا كل ما يبقى منك أيها الإنسان القوي القادر؟ يا من تذلل الماء والريح، وتقطع الصحراء، وتقهر الوحوش، وتشيد القصور، وترفع العروش، أهذا ما لك؟ أتلك الحفرة من الأرض هي كل نصيبك من الوجود؟! وكنت لا ترضى بالعالم نصيبا، وتتطلع إلى السماء تريد منها السماكين وتهبط بنفسك إلى المحيط تستخرج النفيسين! إيه لك أيتها الطبيعة القادرة! لقد أسرت من أسرك، وأذللت من أذلك وسخرك. وإيه لك أيتها المقابر، فأنت مرقد الأوائل والأواخر، وعبرة الماضي وموعظة الحاضر! سرت أخبط في الأرض حتى بلغت بقعة لا تزيد سعتها عن سعة غرفة من منزلي طولا وعرضا، حشر فيها الموت جمعا لو بعث لساعته لضاق به حي بأسره من أحياء القاهرة، وفي وسط هذه البقعة الأبدية قبر صغير عليه هيكل من الحجر خلو من النقش والكتابة، وقفت أمامه حاسر الرأس خاشعا؛ لأنه يضم رفات صديقي مصطفى.
ولم أكد أرفع بصري إلى السماء - عادة الإنسان إذا شعر بضعفه، وأحس بالقوة الكبرى التي تتلاشى حيالها قوته وتفنى أمامها صولته - حتى رأيت الشمس قد أشرقت على الأموات والأحياء، تبعث إلى العالم الأرضي بالحرارة والنور والحياة، وتبسط أشعتها على الأجداث كأنها تقول ناموا بسلام آمنين؛ فلما يأن أوان النهوض إن كنتم ناهضين. وأرسلت الشمس بشعاع من نورها على هيكل القبر، فهاجني ذلك المنظر المزعج، وجمد له دمي في عروقي.
تبا لك يا قصور الأماني ويا صروح الآمال! فقد خدعت الأحياء حتى أسكنتهم القبور، وسحقا لك أيها المجد الباطل، أغريت بطلابك حتى أغريتهم بالغرور، وتعسا لك أيها العيش الرخيم، فأنت الشقاء وأنت شر الشرور، كانوا يطلبونك وليتهم رضوا بالعيش اليسير، إن الحكماء يبحثون عن الحقيقة ويقضون أعمارهم في النظر والتنقيب، ولو دروا لوجدوها في هذا اللحد الحقير، هنا الحقيقة وما وراءها، هذا هو الغرض الذي نسعى إليه، هذا مآل البشر! أي جمال لم تذبل زهرته؟! وأي حسن لم تذهب نضرته؟! وأي ملك لم يحن حينه؟! وأي عظيم لم يلحقه أجله وتدركه ساعته؟! ألم تستو الحفرة الضيقة بالجدث الفخيم الجسيم ؟! أي فرق بين قبرك يا مصطفى وقبر نابليون؟ بل أي بون بين هيكلك وهيكله؟ ألم يقد ألوف الألوف؟! ألم تطع إشارته الحتوف؟! ألم تدمر بأمره المدائن؟! فهل عاقه المجد عندما دعاه الموت؟ هل خفف ألم النزع عنه حزن الأرض والبحر؟
Shafi da ba'a sani ba
من يدرينا بأن تلك البقعة الضيقة لا تضم رفات نابغة من النوابغ مات ولم يظهر نوره، أشعلت الطبيعة نفسه وتركتها تأكل بعضها؟ من ينكر على من مات قبل أن تنضج ثمرته وتفتح زهرته أنه كان يليق بعرش يرتقيه وتاج يلبسه وصولجان يتناوله ومملكة يدبر أمرها؟! كم من درة في قاع البحر لم تصل يد الغواص إليها! وكم زهرة نبتت في قفر وجارت ريح السموم عليها فدفنتها بعد أن ضاع أريجها في الفضاء وتبدد عطرها في الهواء! كم شاعر صميم كسر الموت قيثاره ودفن الثرى آثاره وختم الردى على شفتيه قبل أن يتغنى بقصائده! كم خطيب منطيق لو مد في أجله ولم يقطع الردى حبال أمله ملك زمام القلوب وقبض على أعنة الأفئدة واستهوى النفوس، ولكن غلبه الموت على أمره وأطفأ شعلته قبل أن يبلغ أمانيه!
هنا في ذلك اللحد يرقد فتى لم تعشقه الشهرة الكاذبة ولم تعره رياءها ولم تلبسه الدنيا ثوبها ولم تسبغ عليه نعماءها، جاء إلى العالم وذهب، فودعه الذكاء، وبكاه الكرم، وناح عليه المجد، فلتبكه السماء إن كان لها قلب يحزن وعين تذرف الدموع! •••
ولما عدت إلى داري بعد زيارة القبر اندفعت أتأمل في معجزة الخلود، وجاشت نفسي وتملكتني الحيرة، فأخذت ألتمس لكل سر معنى، وأبحث عن حل المسائل، واستعرضت تاريخ البشر وعلومهم، فإذا هما قاصران عن تعليل الحقائق وتفسير كنهها، بل هما لا يكادان يكونان قطرة في محيط الوجود!
يا أيتها الإنسانية العاجزة المسكينة، يا أيتها الصبية الضالة في مهامه الكون الأزلي، الغارقة في بحر الظلمات، من أين جئت؟ وإلى أين تذهبين؟ ما هو مستقبلك القريب والبعيد؟ إنني لا أرى سوى الظلام الحالك خلفك وبين يديك!
وإنني لكذلك، وإذا بصوت خفي كأنه من جوف الأرض ينطق خافتا، قال: أيها الباحث عن الحقيقة التائه في بيداء الريب! فوجمت لدى سماع الصوت الخفي، وخانني النطق للوهلة الأولى، ثم استجمعت قوتي وقلت: من أنت أيها المتكلم الخفي؟ قال الصوت بعد صمت طويل: أنا الروح الحائر، روح صديقك، أتيت مجيبا نداءك.
قلت: لعلك - أيها الروح العزيز - جئت لي بجواب سؤالي وحل لغوامض الكون.
قال: أنى لي ذلك ولا فرق بيني وبينك سوى أنني تخليت عن بدني وأنت لا تزال تجاهد ضد العناصر الأرضية فتغلبها مرة وتغلبك مرارا.
قلت: وهلا أراك أيها الروح الصديق فأطمئن إليك؟
قال: بلى، انظر. فنظرت ولم أر شيئا، قال: انظر نحو الزاوية اليمنى. فأمعنت النظر، فإذا شبح أبيض في يده مصباح، ولكنني لم أستطع تمييز تقاطيعه، قلت: وما هذا المصباح؟ قال: إنه دليلي في حيرتي، فيه شعاع من نور الحقيقة. قلت: حدثني بشيء مما رأيت. قال: ليس لدي من الوقت متسع، وموعدنا الليلة الثانية.
الليلة الثانية
Shafi da ba'a sani ba
حديث بعض الأمم
زارني الروح الحائر في بطن الليل وفي يده مصباحه، فقال: إنني متعب ولا أقوى الليلة على الحديث. قلت: لماذا؟ وهل تتعب الأرواح؟
قال: إن تعب الأرواح أشد من تعب الأجسام؛ لأننا نشعر بآلام لا تشعرون بها أنتم.
قلت: وكيف صار لك هذا التعب؟
قال: ألا تعلم أنني لا أستقر على حال، وأنني أفتأ أضرب في الأرض شرقا وغربا أهبط السهول وأصعد في الجبال مستطلعا أحوال العالم؛ لعلي أجد حلا لبعض المسائل؟
قلت: لم أعلم هذا من قبل.
قال: إنني قادم من بلاد قصية تسكنها أمة عجيبة اسمها أمة الهوز، ولم أكن وردتها من قبل، ولكننا في حالنا الروحية أوتينا علم الألسن البشرية، فرأيت جمعا عظيما في سفح جبل عال على ضفاف نهر قديم، فدنوت فإذا في القوم خطيب يخطب، فاستمعت إلى قوله وقد وعيت معظمه.
فتوسلت إلى الروح الحائر أن يعيد على سمعي بعض ما سمع.
قال: قال الخطيب: أخذ بعض المصلحين من أفراد المجتمع الذي يسمى بالأمة الهوزية ينهضون الهمم وينبهون العزائم؛ ليوقظوا قوما مضت عليهم قرون وهم في سكر لا يعقبه صحو، بل موت لا حياة بعده، وتبعهم فريق من الناس يحسبون أن لهذه الأعمال الجسام أثرا سوف يظهر في تلك الأجسام، ويعللون أنفسهم بحياة قومية وبنهضة أمة تعيد مجد الأمة المرنية ويعلو نجمها؛ نجم الأمة الضرغمية، ولا يزال هؤلاء وأولئك في غيهم حتى يسفر الحق ويزهق الباطل ويظهر للجماعتين أن معجزات الأنبياء وعجائب المرسلين لا تفيد فيمن سلبت منهم أسباب الحياة، وحينئذ يبدو لهم صدق قول القائل: لا يصلح العطار ما أفسده الدهر.
ولا يسبقن إلى ذهن من يسمع هذا الكلام أنني أنطق بلسان الناقم أو الحاقد، إنما أنا أنطق بلسان الناصح الموجع، ومثلي كمثل ولد علمه أبوه الطب ولحق أباه مرض عتيد فاستدعاه وسأله رأيه، فقال له ما يعلم ويعتقد.
Shafi da ba'a sani ba
ولا يخطرن ببالكم أنني أقول هذا القول المحزن جزافا وأرمي حبل الكلام على غاربه، إنما أنا أقول ما أعتقد وأقرر ما أيد صدقه لدي الاختبار، وقد ولد ذلك الاختبار في نفسي أدلة وبراهين يستحيل نقضها ويصعب دحضها.
رأيت أن في الأمم الراقية أربع علامات لا تخلو منها أمة، وإن خلت من بعضها لا تخلو من معظمها، ويكون فيها جراثيم بعض تلك العلامات إن كان ذلك البعض خفيا.
العلامة الأولى: التضامن الجنسي، والثانية: ظهور أفراد لدى الشدائد والأزمات ينيرون ظلمة الشك ويقضون على عوامل الضعف وينهضون بالأمة نهضة ممدوحة تستجد بها ما فقدته في كبوتها، والعلامة الثالثة: تفاني قواد الرأي في المنفعة العامة وتلاشيهم في خدمة الأمة؛ وبعبارة أخرى موت عاطفة الأثرة من نفوسهم، والعلامة الرابعة: ظهور آثار النشوء والارتقاء في أفراد الأمة. تلك العلامات الأربع ما خلت منها أمة إلا كان ذلك إيذانا بموتها ودليلا واضحا على دنو أجلها ودمارها.
أما العلامة الأولى، وهي التضامن الجنسي، فرابطة لا يجهل نفعها؛ لأنني إذا لم تربطني بجاري رابطة غير الجوار كصحبة متينة أو نفع مشترك دائم لا يسوءني ما يسوءه ولا يسرني ما يسره إلا تظاهرا ومجاملة، كذلك إذا لم تربطني بأبي رابطة سوى أنه أنفق علي في طفولتي وسهر علي في فتوتي؛ فلا يأتي يوم زوال تلك المنفعة إلا وهو لي كغيره من الرجال؛ إذن لا بد من رابطة دم ومبدأ وفكر، أو بعبارة أوضح رابطة تشبه ما يربط أفراد الأسرة أو أسرات القبيلة، فإذا لم تكن هذه الرابطة في الأمة فلا يمكن أن يوفق بين أفرادها إلا ريثما تهدأ العاصفة.
وهذا مجموعنا، انظروا فيه حيثما شئتم، وافحصوه كيفما أردتم، لا ترون به أثرا لتلك الرابطة الجنسية، وقد قال لي أجنبي عاقل: لقد حاولت أن أعد الشعوب والأمم التي تألف منها مجموع سكان الجمهورية البانجلوسية الكبرى، فأفلحت في ذلك، وحاولت مثل ذلك العمل في بلدكم فلم أفلح. وقد صدق هذا القائل؛ فإن فينا من كل معنى طربا، بل توجد في الشخص الواحد آثار مائة أمة، وهذا راجع إلى أجداده وآبائه ومولده والوسط الذي عاش فيه والتربية التي نشأ عليها وطباعه الغريزية وأخلاقه التي اكتسبها، فإذا كان في الفرد كل تلك العجائب فما بالك بالمجموع؟!
هذه أمة هوز لا يوجد فيها اثنان يتفقان على رأي واحد في أهم ما لديهم من المسائل، وإن اتفقا في الفروع اختلفا في الأصول، وليس هذا الاختلاف عجيبا أو مستغربا، إنما هو نتيجة الاضطراب، وهيهات أن ينتج التعدد وحدة أو تلد الفوضى نظاما!
هذه الجمهورية البنجالوسية العظيمة مؤلفة من عنصرين عظيمين؛ الأول: عنصر معروف يربط أفراده الدين واللسان والطبع والمنفعة، وهو العنصر الغيصوني. والعنصر الثاني: خليط من أمم أخرى آوى إلى رحاب العنصر الأول وألف على ممر الزمن وتعاقب السنين عنصرا جديدا هو عنصر الدخلاء. ولما كان من نواميس الطبيعة الثابتة أن الكل يجتذب الجزء، كذلك تمكن العنصر الغيصوني بقوته من اجتذاب عنصر الدخلاء، فالتحما ووقف في حروب تلك الجمهورية الغيصوني إلى جانب الدرعي والإيطالي إلى جانب الإسباني واليوناني إلى جانب الزنجي، كلهم تحت لواء واحد وإمرة واحدة يدفعون عدوا واحدا ويدافعون عن غرض واحد، أما نحن في هوز فهيهات أن يجمعنا ما هو أشد من الموت.
أما العلامة الثانية وهي ظهور أفراد أشداء لدى الأزمات والشدائد، فمثلها في الأمم كمثل السم في الأفعى والقرن في الثور والأظفار في الأسد، فهذه قوى كامنة لا تظهرها إلا الأخطار ولا تخرجها من حيز السكون إلى حيز الحركة إلا الأهوال والمصائب، اصدع أفعى تلذعك، وهج غضب ثور ينطحك، وغظ أسدا يفترسك، كذلك الأمم الحية إذا اغتصبت حقوقها حاربتك، وإذا آلمتها آلمتك، وإذا كان بينها وبينك ثأر لا تنساه وتثأر لنفسها، وإذا أردنا ضرب الأمثال قلبنا صحف التاريخ رأينا ثمستوكل وديموستين في أثينا، وهنيبال في قرطاجنة، وقيصر وتراجان في رومة، ومحمد في بلاد العرب، وشارل مارتيل ونابليون في فرنسا، وكرومويل في إنكلترا، ووشنجتون في أمريكا، وبطرس الأكبر في روسيا، ومتسوهيتو في اليابان، وبيسمارك في ألمانيا، وغاريبلدى في إيطاليا، وكوشوت في النمسا؛ هؤلاء الأشخاص وغيرهم ممن أنهضوا الأمم ولموا شعثها وأحيوا أمواتها وأعادوا لها قوتها، هم أسلحة الأمم، هم قرن تلك الشعوب وبراثنها، هم خلاصتها وزبدتها، فردهم بأمة، وواحدهم بألوف مؤلفة. خذ واحدا من هؤلاء الأبطال وأمعن النظر في تاريخ نشأته تر أن فيه صفات شتى وقوى مختلفة وغرائز كثيرة لم تجتمع لغيره، وكلها مجتمعة في أمته، هؤلاء هم روح جسم الأمة، وقد يظهر ذلك بأجلى وأعظم مظاهره إذا التقى اثنان منهم في ميدان، فقد التقت أمتان، فهما إذا تشابها فقد تشابه شعبان، وإذا اقتتلا وفاز واحد فقد فاز عنصر على عنصر وانتصر عضو من جسم الإنسانية على عضو آخر. ظهر كل بطل من هؤلاء الأبطال في وقت بلغ فيه الضنك والضيق من الأمم مبلغها، فما هي إلا طرفة عين إلا انفرجت أزمتها وزالت مصيبتها وحسن طالعها وعلا نجمها، كلهم قاسوا أهوالا شدادا وعاكسهم الزمان وقاومتهم أحوال لا عدد لها، ولكن كلهم خرج من ميدان الوغى منصورا ظافرا، وكلهم خط على جبين الدهر اسمه بأحرف لا تزول. إن موسى نبي بني إسرائيل وواحدهم لما أن عجز عن هديهم وفشل في إصلاح شئونهم أتى بمعجزة أعجب عندي مما يقال عن قلب نظام الطبيعة باختراق البحر وإغراق فرعون وجنوده؛ هي أنه أطلق هؤلاء الضالين في وادي التيه وهو بينهم أربعين عاما حتى مات شيوخهم ونشأ منهم جيل بعد جيل وشعب جديد لا يشبه الشعب القديم، ومات موسى كغيره وقد أثمر عمله بعد موته، موسى بطل نفع قومه بموته كما نفع محمد قومه بحياته.
انظر إلى بلادنا واستعد تاريخها منذ أخنى الدهر على دورها الأول، دور المجد الباذخ والعز الشامخ، فهل ترى فيها واحدا من هؤلاء الأبطال؟ عجبا أيخلق ثور بلا قرن، ويولد أسد بلا براثن؟! كلا، لا غرابة في الأمر ولا عجب، إنما هوز حيوان عجيب ليس له نوع يعرف ولا جنس يوصف، وقد يكون من فلتات الطبيعة، وإذا نسينا ذلك الماضي ونظرنا إلى الحاضر فأين سلاحنا؟ إن أجنبيا أقامنا وأجنبيا أقعدنا وأجنبيا أحيانا وآخر يميتنا.
لقد ظهر فينا رجال في أشد أزماتنا، فكان مثلهم كمثل شبح والد همليت، ينذر بالويلات ويشحذ الهمم إلى حين، ثم يعود فيصير أول المخذولين من قومه، وهم قوم يبوحون بالأسرار، ولا يطلبون بالثأر، ولا يفرون إذا لاح ضوء النهار. إننا اليوم وغدا في أزمة من أشد الأزمات، وقد وقعت بنا نكبة من أفظع النكبات، فأين السم الذي نقاوم به؟ وأين القرن الذي نهاجم به؛ قرننا؟ بل أين الذيل الذي نذب به الحشراب والهوام؟
Shafi da ba'a sani ba
إنه من المستحيل أن يناقض المرء نفسه، ولكن الإيغال في الحيرة يفقد المرء صوابه، وقد فقد الباحثون في أمر هذه الأمة صوابهم، وغاب عنهم رشدهم، وتسامح بعضهم فاستباح فرضا مستحيلا، وقال: لنفرضن أن لهذه البقرة قرونا، وأن بيننا رجالا يعملون، فهل تم فيهم الشرط الثالث وهو العلامة الثالثة؟ هل يتفانى قواد رأينا في المنفعة العامة؟ وهل يتلاشون في خدمة الأمة؟
لو كان للتأكد ألف نوع لأكدت نفي ذلك الشرط وأنكرت تلك العلامة بسائر أنواع التوكيد جميعا.
أليس من العار أن يسجل المرء على نفسه عارا لا يمحوه الدهر؟ أليس من نكد الدنيا على المرء أن يرى في ذاته عيبا وليس له من الإقرار به من مفر ؟ ولكن أليس الحق أحق بأن يتبع؟ أليس هذا الأمر من الجلاء بحيث لا يحتاج إلى بيان؟ أجل، إن الحقيقة مؤلمة، ولكن دواءها في الإقرار بها.
إن قادة رأينا هم الأشباح التي تروح وتغدو أمامنا، يخدعنا مظهرها ويحزننا مخبرها، إن تلك التماثيل ليست إلا آلات في يد محرك يحركها، ولا تظهر عيوبها كلها إلا بمحك الحوادث، وقد ظهرت تلك العيوب وبانت كحفر الجدري في وجه المصاب فأغضينا وتعامينا وقلنا: هذا القبح حسن باهر، وذلك العيب جمال ظاهر.
أي لص دنيء ممن يسمون نفوسهم بالباطل عظماء ورؤساء لا يسكن قصرا فخما، ولا يركب عجلة غالية، ولا يكنز الذهب، ولا يطير لبه وراء الرتب؟! بل أي كلب من تلك الكلاب الرجسة لا يدعي غير ما يبطن ويظهر غير ما يخفي؟ وأي فحل من فحولنا لم تغيره الأيام ولم تبدله الحوادث؟ بل أي خنزير من تلك الخنازير لم يقل في سره إن لم يقل في جهره: «بعدي الطوفان؟»
تعسا لك أيتها الأسلحة، فإنك لا تجرحين، وسحقا لك أيتها القرون، فأنت لا تنطحين، وا أسفاه عليك أيتها الأمة، فأنت بلا مدافع شجاع ولا حارس أمين.
أما العلامة الرابعة، وهي أم تلك العلائم، وبرهانها أقوى البراهين؛ وهي ظهور آثار النشوء والارتقاء في أفراد الأمة، والمقصود بتلك العلامة أن يكون الحفيد أرقى من الوالد، والوالد أرقى من الجد، وهذه العلامة مشاهدة في الأمم الحية الراقية، فالمؤلف العظيم يخلف مؤلفا أعظم، والشاعر الكبير يلد شاعرا أكبر، والطبيب الماهر يمنح وطنه طبيبا أحذق منه وأمهر، وليس من الشروط المهمة أن يكون الولد في حرفة أبيه إنما الشرط المهم أن يكون أرقى منه بأية حال، وأسباب ذلك راجعة إلى روح النشوء والارتقاء الظاهرة بأجلى مظاهرها في عناصر الطبيعة وفي حياة الإنسان منذ الخليقة إلى الآن، ولست أقصد بما ذكرت النوابغ الأفذاذ في كل أمة، فقد يرد علي منتقد بأن نابليون أخلف غلاما ضعيفا ضئيلا، وأن فيكتور هيجو لم يلد غلاما ذكيا، وليس هذا ما أقصد؛ لأن هؤلاء كما ذكرت خلاصة الأمم، وهم أرقى ما وصلت إليه الطبيعة في خلق الإنسان، فلا يعقل أنها تخرج عن حدها وتنتج أعظم منهم وإلا كان ذلك الخلف الأعظم هو المقصود بالذات، إنما أقصد عامة الأمة وأوساطها، وقد دلت التجارب والاختبار أن الأمم في إبان نهضتها تنتج جيلا أرقى من جيل، وكانت هذه النظرية من أصول حصر إرث الملك في الولد الرشيد.
وهذه الأمة الهوزية قد دلت الخبرة فيها على عكس ذلك، فابن اليوم أقل من والده ذكاء وأضعف جنانا وخلقا وأميل إلى الذل وألصق بالجهل، وكذلك حال أبيه بالنسبة إلى جده. وقد عرفت أسرة عاشرت أفرادها فردا فردا، فإذا الجد رياضي ماهر يحل المعضل والمشكل ولم يكن تعلم تعليما حديثا، فلما أخلف ولدا لم يأل جهدا في تهذيبه أرقى تهذيب، فجاء الولد أضعف في فنه من والده، ثم أخلف هذا الولد ولدا فلم يهمل شأنه وزاد على تربيته أن سيره على دربه وخرجه في حرفته بعد أن حاول أن يعلمه غير علم، فلم يفلح.
وكان السكوت شاملا والقوم كأن الطير على رءوسهم، ثم إن الخطيب سكت قليلا، وقال:
هذا قولي، قلته في ملأ منكم، معتقدا أنني أقول الحق غير هياب فيه اللوم والذم، ومن كان لديه قول ينقضه أو أدلة تفنده فإنني أصغي إليه وأنصحكم باتباع رأيه.
Shafi da ba'a sani ba
فرأيت في الجمع هرجا ومرجا، وصعدت أصواتهم إلى عنان السماء، وانبرى كثيرون إلى المنبر المنصوب، ولكن قد تولاني التعب ونزل الحزن بنفسي مما سمعت، فأسرعت عائدا، فطفت في طريقي بجبال شامخة ووديان خصبة وأنهر عذبة.
قلت للروح الحائر: كيف تفسر هذا القول من مصلح واعظ يخطب في قومه فينعيهم لأنفسهم ويرثيهم على مسمع منهم؟ قال: أظنه أراد أن ينهض هممهم فعمد إلى الاستحثاث بالتخويف والاستنهاض بالوعيد. وأستودعك الله ليلتنا هذه، وموعدنا الليلة الثالثة.
الليلة الثالثة
علة سقوط الشرق
زارني الروح الحائر وأنا أبحث في علة سقوط الشرق ونهوض الغرب، فقال لي: «أراك مطرقا مفكرا كأنه موكول إليك تدبير الأمم ولم شعث الشعوب.» قلت: «إنني أفكر في أسباب سقوطنا ونهوض غيرنا من الأمم.» قال: «إن الخطب سهل، وإن من لا يرى علل ذلك السقوط رأي العيان فهو لا شك أعمه.» قلت: «إنني أرى بعض الأسباب ويغيب عني بعضها.» قال: «إن كنت ترى أهمها فهذا أفضل من حال من يخفى عليه كبير الأمور وتبدو له صغائرها.» قلت: «وأي الأسباب أكبر؟» قال: «ظننتك تعرف.» قلت: «أظنه ضعفا في وقت أصبحت القوة فيه عماد الأمم.» قال: «كلا.» قلت: «أظنه جهلنا في عهد العلم والنور.» قال: «كلا.» قلت: «إذن ماذا؟» قال: «إنه بغض العظماء.» قلت: «وكيف ذلك؟»
قال: إن بغض العظماء في الشرق أكبر المصائب التي أصابتنا، ولا نزال نعمل بها على تدمير البقية الباقية من حياتنا القومية، فما نبغ في هذه الأمة نابغ إلا جردنا في وجهه أسياف الحقد والحسد وما تركناه إلا مضرجا بدمائه فنعود على نفوسنا باللائمة ونقول: لقد كان فينا علما في رأسه نار نهتدي بهديه ونسترشد برشده.
وهذه بلا ريب نقيصة من النقائص اللاصقة بالأمم المنحطة، وهي أثر من آثار الهمجية الأولى، فقد كان أجدادنا سكان الأحراش وأبناء الأدغال والآجام أهل العصر الحجري يخشون أن ينبت فيهم فرد نباتا حسنا فيقوى عليهم وتسلطه قوته في أعناقهم أو يغتال مالهم وما لديهم؛ إرضاء لنفسه الضخمة وإرادته القوية وشهوته التي لا تبرد نارها، وهذا كذلك أثر من آثار تنازع البقاء بين طبقات الحيوان السفلى والعليا؛ لذا يروي الحكماء خرافة الوحوش الضئيلة التي تآمرت فيما بينها على الأسد وهو ملكها وأشدها بأسا وأقواها بطشا؛ لتفتك به وتستريح من شره، ولكن لا تلبث تلك الحيوانات أن تقتل سيدها ومولاها ومرجعها في أمورها ومعتمدها في ضيقها ومنقذها مما يحيق بها، وهو الذي خصته الطبيعة بقوة فوق قوتها وعزيمة أشد من عزيمتها حتى يقوم منها من يخلفه في بأسه وشدته وقوة بطشه وشراسته، ولا يفرغ الثعلب وابن آوى من دس الدسيسة حتى يشرعا في تدبير مؤامرة ثانية للخلاص من المولى الجديد.
هذه قصة من أساطير الأولين وضعها الحكماء والمرشدون؛ لتكون فيها عظة لقوم يعقلون، وها نحن نرى أمامنا قوانين الطبيعة وسنتها دائرة على محور الانتظام وسائرة على خط مستقيم، ونرى تلك القوانين العادلة في أعمالنا نحن البشر كما نرى نور الشمس وضوء القمر، ولكن قل فينا من اتعظ واعتبر.
هذه صحف تاريخنا البيضاء، قلبها كيف شئت تر من آثار حقدنا على عظمائنا وغيظنا من النابغين فينا، وحسدنا لكل ذي نعمة لم تهبها لنا الطبيعة؛ ما لا تحتاج بعده إلى برهان على إثبات قرب عهدنا بالحياة الوحشية وتمام المشابهة بيننا وبين العجماوات.
وقد علل علماء الأخلاق هذه النقيصة بأنها داء من أدواء النفوس الصغيرة التي لا ترى لذواتها فضيلة من الفضائل، وتأبى أن ينفرد غيرها بالكمال، وقرر هؤلاء العلماء أن النفس الكبيرة تسر بالنفس التي تشبهها وتماثلها وتشد أزرها وتناصرها، ولا تتسرب إليها الغيرة ولا يأتيها الحقد من بين يديها أو خلفها.
Shafi da ba'a sani ba
وهذا التعليل واضح، فالنور لا ينقص النور، والقوة لا تنقص القوة، ولكن الظلمة ضرة الضياء، والضعفاء أعداء الأقوياء، ولكن تلك النفوس الصغيرة الضئيلة لو تأملت قليلا ترجع عن غيها لساعتها، فمهما اختفى الحق لا بد من ظهور نوره.
أيتها النفوس الصغيرة، ولا أحقرك ولا ألومك على صغرك، فقد أرادت لك الطبيعة أن تكوني كما أنت، وهيأت لك شروطا وأحوالا وبيئات وأشخاصا وأعمالا، وبعثت إليك بعوامل ظاهرة وأخرى خفية، فبرزت للعالم كما أنت، فلماذا يحزنك الأمر وهو قضاء الطبيعة وقدرها؟ لو كنت تحملين أكثر مما أنت حاملة لوكلت إليك الطبيعة أحمالا جهد طاقتك، ولكن لكل وعاء ما يسع، وليس فيك لما في غيرك متسع.
عجبا! كيف يجوز للشعلة الضئيلة أن تحسد الشمس المشرقة على نورها؟ وكيف يجوز للأرض الدنيئة أن تطاول السماء الرفيعة؟ بل كيف يحق للأصداف أن تحقد على الجواهر وتنكر عليها بهاءها؟!
إذا انفردت الشمس بإضاءة الأرض على سموها وزهاء نورها خسر الناس ربع أعمارهم وهي الليالي التي يستضيئون فيها بالقمر والكواكب والأنوار المبتدعة، وإذا اكتفينا بالجواهر احتاج غيرنا إلى الأصداف، ولا يمكن للفرد مهما كان عظيما وقويا أن ينوب عن الكل.
فيا أيتها النفوس الصغيرة، إننا في حاجة إليك، إنا نطلبك كما نطلب النفوس الكبيرة، ولكن الطبيعة العادلة تأبى أن تستوي أنت وغيرك من النفوس الكبيرة؛ لأن لكل نفس عنصرا خاصا بها، وعنصرك أقل من عنصرها، وقدرك أضعف من قدرها.
أيتها النفوس الصغيرة، اقنعي بعيشك وعملك، وخل عنك أمر غيرك. إن الفلك لا يدور بالأقمار والكواكب السيارة، إنما فيه من النجوم ما لا يبلغ قدر ذرة، ولكن تضيء تلك الذرة بقعة من الأرض لا ينفذ إليها نور الشمس ولا ضوء القمر، كذلك قد تقوم نفس صغيرة بما لا تستطيعه نفس كبيرة.
إذا قام عظيم بإصلاح أمة وهدي شعب فقد يقوم غيره ممن لم يقسم لهم نصيب كنصيبه بسد حاجة عيلة يعولها، ولو أرادت الشعرى اليمانية أو المريخ أو الزهرة أن تنال منال الشمس وسارت على دربها غيرها من الكواكب اختل نظام الفلك واعتلت هيئة الأجرام وزال ما نراه من القبة الزرقاء من الإبداع والإحكام، كذلك إذا أرادت نفس صغيرة أن تنال منالا غير منالها ونسج غيرها على منوالها فسد نظام الحياة وصار الأمر فوضى لا قوام له ولا قائمة.
يقول صغار العقول وضعاف الأحلام: هذا العظيم الكبير يستصغرنا ويحتقر شأننا ويشمخ بأنفه علينا ويدعي بأنه ليس منا، ولو كان متواضعا حملناه على الأكف والأعناق.
نقول: كذبتم وأنتم على أنفسكم شاهدون، لو كان متواضعا وطئتموه بأقدامكم وأخذتم تواضعه حجة عليه لا له، وكم من متواضع بيننا يؤخذ برجله ويجر، وهو جدير بأن يؤخذ بيده ويبر! أما كبرياؤه وشموخه فدعوهما، ودعوه فهو ليس منكم، دعوه إن في نفسه نورا ليس في نفوسكم، دعوه إن في فؤاده نارا لا تشعل أفئدتكم، دعوه إن في روحه من الكهرباء ما لا تطيقه نفوسكم، ألا يكفيكم أنه يعيش بينكم في ذلك العالم المملوء بالمعائب والأقذار؟! ألا يكفيكم أنه يرشدكم ويهديكم؟ كيف تكلفون النفس القوية أن تلتئم مع الجسد الضعيف؟! بل كيف تريدون من الطبيعة أكثر من أن تجمع بين النار والماء في وعاء.
يا أمم الشرق ، تناديك نفس موجعة، ويستغيث بك روح حائر، فاسمعي وعي، إن هلاكك في تدابرك وتباغضك وتنافرك. يا أمم الشرق، كفاك ما أنت فيه من الوهن وما يتوعدك من ضروب الدمار والهلاك، إنك كالحية سمها كامن في بدنها ولا يؤذيها ما دامت لا تنفثه فيه. أيتها الأمم، مجدي عظماءك دون السوى، وناصري الأقوياء ينصروك.
Shafi da ba'a sani ba
يا أمم الشرق، ما مات فيك كبير إلا وراءه صحيفة سودتها نقائصك تدل على قصر نظرك وضيق نطاق عقلك، كم من حكيم ذاق حتفه عقابا له على حب العدل والحق! وكم من عظيم أراد أن ينير لك غياهب الدهور القادمة، فأطفأت شعلته قبل أن يضيء لك محجتك ويهديك سواء السبيل!
يا أمم الشرق، إن الطبيعة تعفو وتغفر، ولكن الحليم شديد الانتقام، ومن عفا اليوم عاقب غدا، ومن غفر بالأمس ينتقم اليوم.
يا أمم الشرق، انظري إلى الأمم التي ورثت مجدك وغلبتك على أمرك وداستك تحت أقدامها وجلست منك مجلس السيد من العبد والظالم من المظلوم؛ إن تلك الأمم حلت لغز الحياة، وسبرت غور الطبيعة، وعرفت كنه المسائل التي تقفين أمامها ذاهلة حائرة. إن تلك الأمم تبجل عظماءها وتمجدهم وتتخذ منهم هداة ومرشدين لا ترد لهم قولا ولا رأيا.
فيا أمم الشرق، إن شئت أن تنالي منالها وتبلغي مجدها، أو تستردي مجدك الضائع وتقيمي ركن عزك المنقض؛ فاهدمي معابد البهتان، وارفعي لكل عظيم عمادا، وأقيمي لكل كبير تمثالا يكون موضع السجدات.
يا أمم الشرق، هذه كلمة أقولها ولا أزيد عليها، قد لا تصل إلى آذانك، بل قد لا تستأذن على مسامع أمتي التي أنتسب إليها وأبناء وطني الذين أنتمي إليهم، فإذا لم تكن نصيحة تسمع وتقبل ويعمل بها فلتكن نفثة مصدور تفرج الكرب وآهة محزون تقلل من حزن النفس والقلب.
ولما أن فرغ الروح الحائر من هذا القول أخذته هزة فاخلتج المصباح الذي في يده، فقال لي وهو يختفي عني في الأثير المحيط به: موعدنا الليلة الرابعة.
الليلة الرابعة
غرور الناس بالناس
كنت في حيرة من الحياة أناجي نفسي تارة وأعقها طورا، وإذا بي أرى شعاع مصباح الروح الحائر، فقلت: إلي أيها الروح، فإنك على حيرتك أكثر مني هدى، إنني أسمع في هذه الأيام قولهم: «هذا هو الذوق الشائع، وذاك هو الرأي العام.» ولست أفهم لهذا معنى.
قال الروح الحائر: «إنني إذا ذكرت بعض حوادث حياتي الأرضية وما كنت فيه من القيود المرذولة التي اقتضتها العيشة المادية تنفست الصعداء وحمدت الله على الخلاص من هذا البلاء، وإنني أذكر ما قاسيته من البشر وأنا في الجسم الدنيء البالي كما يذكر المتيقظ حلما مزعجا، ولكن هناك بعض الشئون فطنت لها وتجلت علي الحقائق خلالها، فسعدت بها وأنا في الحياة الدنيا، فقد كشف لي يوما عن حقيقة غرور الناس أو بدعة الرأي العام.» قلت: «حدثني فلعلني أهتدي بقولك.»
Shafi da ba'a sani ba
قال: من عجائب الحياة الأرضية ومن غرائب خلائق البشر أن نصف العالم يعيش متنكرا والنصف الآخر يعيش مخدوعا، فلا النصف الأول يخلع قناع التنكر، ولا النصف الآخر يستشف ما اختفى وراءه من الحقائق المخالفة للظواهر، وليس هذا راجعا إلى حذق البعض وغباوة البعض الآخر، إنما الواقع هو أن الكل قد بلغوا النهاية من البلاهة والغاية القصوى من الغفلة. ولا ريب في أنه يصعب التسليم بصدق هذه القضية لأول وهلة كما أنه يصعب علي أن أدونها؛ لأنني لست إلا بعض البشر، ولكنني ما دونتها إلا بعد أن تحققتها، وما تحققتها إلا بعد التأمل في حالي وحال غيري ممن رأيتهم وخبرتهم، فكنت إذا أردت أن أحكم على نفسي في شيء من الأشياء اندفعت أفعل ما أريد بلا حساب، ثم جردت من نفسي شخصا يحكم على ما اكتسبت وكنت أبدا إذا سمعت حكم نفسي على نفسي أو حكم نفسي وهي في صحوها عليها وهي في سكرها عدت عليها باللائمة، وما أعد لها من الحسنات إلا النزر اليسير، وقد أكون فيما عددت منها مخدوعا مغرورا، وكثيرا ما كنت إذا سمعت حكم نفسي على نفسي أضحك منها هازئا بها وبغيرها من النفوس، و«شر البلية ما يضحك.»
وقد بقيت هذه القضية كامنة تجول في صدري ولا أستطيع أن أخرجها؛ لعجزي عن التعبير عنها حتى اختمرت، ثم حدث المرة بعد المرة ما هاجها وهي ناضجة، ففلتت مني قبل أن أعوقها، فتركتها تخرج للناس.
أما وقد مهدت هذا التمهيد؛ ليسهل عليك فهم ما أريد، فها أنا أشرع في التفصيل:
كنت مرة في الحياة الأرضية في محفل حافل بكثيرين ممن يسمون أنفسهم أصحاب السعادة والعزة ويصفونها بالعلم والفضل والذكاء، فإذا دعاهم داع بغيرها أو أغفلها غضوا عنه الطرف وعدوا فعله إهانة لحقتهم ومذلة أصابتهم، كنت بين هؤلاء غريبا عنهم، لا لأنني لا أعرفهم، إنما لأنني لست من طغمتهم؛ ولذا كنت خارجا عن دائرتهم، لا يخدعني ما يخدعهم، ولا يسرني ما يسرهم، ولا يطيب لي ما يطيب لهم، فاستطعت أن أحكم عليهم حكما إن لم يكن العدل بعينه فهو أقرب الأحكام إليه.
هؤلاء القوم دعاهم أحدهم ليخطب فيهم فلبوا دعوته، وفي كل قلب من قلوبهم ما يشغله، فبعضهم جاء ليلقى صاحبا له وفاء بوعد سابق، وبعضهم جاء ليري الناس ثوبا جديدا، وبعضهم جاء ليقتل الوقت فرارا من الضجر، والبعض جاء ليقال عنه إنه يدعى إلى المحافل ويفهم ما يقوله العلماء، أما الرغبة في سماع ما يقال فقد لا تتعدى بعض أفراد قلائل.
دخلت مع الداخلين، وجلست مع الجالسين، وأصغيت إصغاء الحاضرين؛ فإذا الخطيب يقول ما لا يعي، وإذا نحن ندعي فهم ما لا نفهم.
كان الخطيب عالما من العلماء، مشهورا بالفضل، وقد جاء الكل طمعا في شهرته واعتمادا على صيته، فوقف يخطب وهو ممتلئ غرورا بنفسه وإعجابا بفصاحته وطلاقة لسانه وإعجاز بيانه، ولكن السامعين لم يجدوا منه ما كانوا ينتظرون، ولكنه وجد منهم الإصغاء والسكون، فاندفع يصدعنا بركاكاته، ويجلد مسامعنا بترهاته، وكلنا شاعر بقلة عقله بعد أن ظهرت حقيقة علمه وفضله، ولكننا - وا أسفي - عاجزون عن نصحه.
كنت أشعر بالتململ ذات اليمين، وأسمع ألفاظ التأفف والتضجر ذات الشمال، وتقرع أذني كلمات الندم على ذهاب الوقت هباء، فأردت أن أجس نبض الحاضرين؛ لأتثبت من تلك القضية ، فسألت جاري: أفاهم أنت ما يقول؟ فقال: كلا، ولكنني متضجر. فملت إلى غيره وقلت له: أيلذ لك سماع تلك الخطبة؟ فقال لي: إن ضرب السياط أحب إلي منها. فنظرت إلى ثالث وكنت أعرف فيه ما نسميه بالحياء، وسألته عن فصاحة الخطيب ومقدار علمه؛ فابتسم بسمة مبهمة.
فدهشت لخلو هذا الجمع كله من رجل كريم النفس قوي القلب والإرادة ينوب عن الحاضرين في التعبير عما يجول في خواطرهم، بل كان الكل جالسين صامتين كأنهم يخشون العقاب. فمن الملوم في مثل هذا المحفل العجيب؟ أيلام الخطيب وقد امتلأ غرورا بنفسه من ثناء الناس عليه ثناء كاذبا؟ أم نلوم الناس وكلهم خادع مخدوع يوقع البعض بالبعض سعيا وراء منفعة أو جبنا وخوفا من أن يوصموا بضعف العقل والعجز عن تقدير الفضل وذويه؟
إن ذلك الحادث الصغير أساس كل أمر كبير؛ لأن ما يحدث في تلك الحفلة الصغيرة بين هؤلاء «الفضلاء الأذكياء، والعلماء النجباء» يحدث في كل مكان، وما يصدق على هذه الأمة يصدق على غيرها من الأمم الراقية، وقد تكون الشعوب المنحطة أكثر حبا للحرية وأبعد عن قيود التقاليد الاجتماعية من غيرها، فهي من هذه الوجهة أفضل من بلاد العلم والمدنية.
Shafi da ba'a sani ba
أجل، ما يصدق على هذا الخطيب ومن التفوا حوله يصدق على الكبراء، فليس الكبير إلا فردا ساقت له المصادفات مجدا وألبسته صروف الدهر حللا وقلدته طوارئ الحدثان مقاليد البطش، وقد رضع الملق مع اللبن ونشأ في قوم يعظمونه لا لفضيلة فيه، ويهابونه لا لبطش يتقونه، وعاش في وسط كل من فيه عبيده وخدمه إذا قال فعل وإذا أمر أتته الطاعة منقادة فهو لا يرى نفسه عبدا إلا لشهوته، والضعفاء والصغار من حوله لا يعلمون من أمره شيئا سوى أنه الفعال لما يريد.
قد يكون من طبعه الخوف من الفيء والفزع من لا شيء، كما هي حال هؤلاء الذين لم يعرفوا من الشدائد إلا وصفها، ولم يذوقوا من الحياة إلا قصفها، إنما ورثوا سوء الخلق وشراسة الطبع عن آبائهم وأجدادهم الذين نشئوا منشأهم وعاشوا عيشهم، وقد تفيد الحماقة حيث لا علم ولا معرفة فيظنها الأغبياء عزما ثابتا وإرادة قوية لا تزعزعهما العواصف ولا تقلقهما رياح الدهر القواصف. حتى إن الأغبياء يقصون عن غني كبير من نوادر طفولته أن شيخا دعاه يوما وهو طفل بلقب من ألقاب الدلال فالتفت الطفل إليه مغضبا وقال: «لا تدعني بما تدعوني به أمي.» ولو كانت هذه الحادثة لصبي من أولاد الفقراء لعدت منه قحة وخروجا عن حد الأدب والحياء، ولكنها عن غني كبير؛ لذا هي موضع الإعجاب؛ لأن شخصه موضع الابتهال.
وقد يكون المملقون ضجرين وهم يسبحون بحمده ويتحملون ضيمه وشره وهم ناقمون ساخطون، فإذا صنع بهم ما صنع وبلغ منهم الغيظ ونال منهم الغضب وقام أحدهم يشكوه إلى نفسه أو ينبههم من غفلتهم بعد طول خنوعهم؛ رمي بالجنون. وعلى هذه القضية قضية الخوف من التصريح بالحق؛ لحفظ بعض المنافع إلى حين، أو طمعا في مغنم ضئيل، أو تصديق لما يقول الغير، واعتمادا على أوهامه الواهية؛ بنى الناس بدعة الرأي العام، فهم يقولون: الرأي العام إرادة لا ترد، وقوة لا تصد، وبطش ليس له حد. ويقولون: صوت الخلق صوت الحق، وإن العناية تنطق على ألسنة البشر ... إلى غير ذلك من الأقاويل الموضوعة. والواقع غير ما يقولون، وهم واثقون بأنهم منافقون مراءون ومدعون كاذبون، أليس الرأي العام اندفاع فئة كبيرة من الناس وراء قول خطيب بارع أو كاتب بليغ؟ وقد يكون هذا الخطيب أو ذاك الكاتب شريرا سيئ المقاصد قليل الخبرة عاشقا للشهرة والرئاسة «وكلهم ذلك الرجل.» ولكن الناس أو الرأي العام لا يعرفون عنه إلا ما يقول، ولا يرون منه إلا سطورا سوداء في ورقة بيضاء أو هيئة حسنة وخلقا كريما يتصنعه ليخدع الناس ويجذبهم إليه، ولكن ماذا تكون حال هذا الرأي العام لو فتحت صحائف قلوب قادته وقرئت على رءوس الأشهاد؟ إن الناس لضعفهم لا ريب يقولون: هذا افتيات وافتراء، وما قادتنا إلا ملائكة من السماء، وتلك سنة الطبيعة في البشر، ولن تجد تبديلا. طبعوا على الذل فهم الخاسرون.
على ذلك الأساس المتين - أساس الخوف من التصريح بالحق والجبن الموروث - بنى أبطال التاريخ مجدهم الخالد وأسسوا مفاخرهم الشامخة، وقد سئل بعضهم: كيف يرهب القلوب ويرعب الأفئدة؟ وكيف يغلب أعداءه ويقهر أضداده ويذل الأعزاء ويخضع الأقوياء؟ فقال: عرفت سرا لم يعرفه إلا من بلغ مبلغي أو سوف يبلغ. فقيل: وما هذا السر؟ قال: «أخدع الناس كلا بما خلق له، وأستعين بالبعض على البعض؛ فيكون الكل لي ظهيرا.»
الليلة الخامسة
حديث الروح المجنون
دنا الروح الحائر من مضجعي وهزني فنهضت، قال: «لقد اكتشفت اليوم أمرا غريبا؛ إن بين الأرواح أرواحا مجنونة كما هي الحال بين البشر.» قلت: «كيف ذلك؟ أليس الجنون عارضا من عوارض الحياة الأرضية؟» قال: «كلا، إنه كذلك يعتري بعض الأرواح التائهة التي لم تستقر بعد على حال، فقد رأيت اليوم روحا مجنونا يهيم على وجهه في الفضاء، وهذا الروح المسكين لا يهدأ له خاطر ولا يسكن إلى مقر، فلما رآني قرب مني وقال لي: «أنت الروح الحائر العاقل، وأنا الروح الحائر المجنون.» قلت: «وكيف ذلك؟» قال: «إنني طريد الأرض والسماء؛ لأنني قلت يوما ما أعتقد.» قلت: «ماذا قلت؟» قال: «خلوت يوما بصديق لي وأسررت له رأيي.» قلت: «وما هو هذا الرأي؟»
قال: «إنني سمعته يذكر الأخلاق والآداب والفضائل وغير ذلك من الأحاديث المتفق عليها.» فقلت له: آداب وأخلاق وفضائل! ألا تزال تعتقد بوجود هذه الأحاديث، اسمع، إنني أقول لك كلمة واحدة لم أقلها لأحد سواك من قبل، وفي هذه الكلمة السر الأكبر، بل هي حل اللغز الذي تقف أمامه صاغرا حائرا.
إن كل ما ذكرت لك أكاذيب مموهة وأضاليل متفق عليها، نعم، أكاذيب مموهة وأضاليل متفق عليها، وبعبارة أخرى هي سيئة من سيئات المكر البشري وحيلة من حيل الإنسان اختلقها؛ ليسود على أخيه وليتحكم بها في عنقه، أتعرف قصة السندباد البحري؟ أتعرف كيف أنه لقي في إحدى الجزر رجلا عجيبا غرر به وخدعه حتى تمكن منه وركب كتفيه، وما زال ذلك الرجل يسخر السندباد ويحرمه لذة القعود ولا يذيقه طعم الرقاد؛ إذا غفا أنهضه، وإذا توانى ركضه، حتى فطن السندباد إلى حيلته وحاول الخلاص منه، فلم يتأت له إلا بأن أسكره، فلما لعبت الخمر برأس العلقة أخلى سبيل أسيره، ولو لم يفطن السندباد بقي طول عمره في أسره!
إن مثل الهيئة الاجتماعية في كل زمان ومكان كمثل السندباد والمدعون أنهم أنصار الحق وأعداء الباطل وأبطال المواقع وحكماء الأمم وأصحاب الملايين؛ هم خلفاء ذلك الرجل العجيب الذي ركب أكتاف السندباد المسكين، نحن - يا صاحبي - فريسة تلك الوحوش المفترسة، نحن عبيدها وأسراها، ونحن مصدر خيرها وثروتها، نحن مصدر بطشها وقوتها، لا تدهش ولا تذعر! إن كنت اكتفيت بقراءة الكتب وسرك مرأى الظواهر فإنك لا تستطيع معي صبرا، بل أضطر لأن أستميحك عذرا وأقول لك: لقد أخطأت وسبقني اللسان إلى القول فلم أفقه معنى ما قلت وكفى. وإن كنت قرأت الناس وعلمت ما خفي من أمورهم فأنا أسألك أمرا واحدا، ارجع بنفسك إلى الماضي وسلها عمن عاشرتهم من أهلك وأصحابك ورفقك وأحبابك وقل لي أيهم لم يسع إلى غاية تهمه وغرض يريده؟ بل أيهم بذل نفسه أو ماله أو شرفه لينقذ غيره ما لم يكن له وراء ذلك البذل أمل يود تحقيقه؟ بل أيهم ليس له سر يكتمه وخبر يخفيه؟ أيهم لم يخدع الناس؟ أيهم لم يخدع نفسه؟ أيهم أذعن إلى الحق إلا مرغما مضطرا؟ أيهم لم يغير ما بنفسه سرا وجهرا؟ أيهم صدق في القول وأخلص في العمل واعتقد ولم يأكله الناس لحماقته وجهله؟ وأيهم لم ينجه الكذب من اللوم ولم ينقذه الرياء من مخالب الفقر؟ أيهم أشبع جائعا إلا طمعا في دار تجري من تحتها الأنهار أو خشية أن تلحقه الفاقة في آخر النهار؟ أيهم حقن دما يرى في سفكه خيرا له؟ وأيهم صان سرا يجد في كتمه ضرا أو حرص على شرف أمن في ثلمه إراقة الدماء؟ إن هناك لا ريب نفرا قليلين تحاجني بهم وتستند في تفنيد قولي عليهم، ولكن كل ما أقوله عن هذا النفر هو أنك لم تعرف دخائلهم، ولم تسعدك المصادفات برفع الستار عنها.
Shafi da ba'a sani ba
تقولون: شرف وفضيلة ... فما هو ذلك الشرف سوى الألقاب الفارغة وتلك المظاهر الباطلة، أرأيت رجلا كاملا لا ينطق إلا بميزان ولا يفوه بفحش القول كأن على رأسه ملكين كريمين يكتبان؟ أرأيته كيف يأنف إذا اغتبت لديه عدوه؟ أسمعته كيف يأبى عليك أن تمدحه في وجهه؟ إنه - يا صاحبي - ممثل حاذق أمكنه أن يستر حقيقة شخصه بغشاء من الرياء والنفاق، إنه ادعى الفضيلة، ولعمري ما وضع الواضعون اسما بغير مسمى أغرب ولا أعجب من هذا الاسم، فإنه يتضمن كل شيء ولا يدل على شيء، وليس ذلك بعجيب، أرأيت تلك الفتاة التي احمر وجهها خجلا إذا نطقت أمامها باسم الحب؟ أرأيتها وهي بين ذراعي حبيبها بعد ذلك ببرهة تبثه لواعج الشوق وتتلو عليه آيات الغرام؟ هذه يا صاحبي هي الفضيلة، هذا هو الشرف، لكن كما يفسرها الرجل العجيب الذي ركب كتفي السندباد لا كما يفسرها السندباد بذاته.
ولكن لماذا نلوم الناس ونعتب عليهم؟ أليسوا بشرا؟ أليسوا قطيعا من الحيوان كان يدب منذ قرن في الأدغال والأحراش؟ ولكن لماذا نتظاهر بما لا نبطن؟ نظام الهيئة الاجتماعية يقضي بذلك، وما هو نظام تلك الهيئات الاجتماعية سوى قواعد وضعها الإنسان للإنسان وصيره بها أسيرا على مدى الدهر والأزمان ضعيف الحول والطول حقير الرأي والعقل. إن هذه الحيوانات المستترة وراء الحلل الفاخرة والحلى الغالية سئمت ذلك الاستتار وأصبحت تبجل الصادق الأمين والوفي الحر؛ لأن صاحب تلك الصفات نادر ندور الكبريت الأحمر في ذلك العالم الطويل العريض، فلماذا لا نخلع كلنا مرة واحدة رداء الرياء ونطلق النفاق طلقة بائنة وننسى الماضي، ونسير في طريقنا كما يسير إخواننا في الأجمات والغابات بلا كذب ولا خداع ولا نميمة وبلا الألفاظ الخلابة الباطلة؟!
لا أريد أن أقلب نظام العالم أو أعطل سير الفلك، بل يخيل لي أن الشيطان يخجل إذا ظننته ملكا طاهرا، فكيف لا نخجل نحن ممن يجلنا ويعظمنا ويكرمنا ويسجد أمامنا ويبذل نفسه مرضاة لنا؟! إذا كان لنا ضمير فمتى يؤنبنا؟ وإن كان هناك جزاء فمتى يكون؟ وإذا كانت الإنسانية تسير سيرا حثيثا نحو الكمال فمتى يكون الوصول إن كانوا صادقين؟ وإن كنا نسير سيرا سريعا نحو الدمار فمتى يكون البلوغ إن كنا بالغين؟!»
قال الروح الحائر: فلما سمعت هذا القول قلت له: «لا شك أنك أيها الروح مجنون، أتظن هذه الأقوال حقا وهي عين الباطل؟!» فقهقه الروح المجنون وقال: «وأنت كذلك لا تزال مخدوعا، وسوف تفقه معنى هذا القول، وا حسرتاه! لقد التمست الأنصار في الأرض فلم أجدهم، وها أنا ألتمسهم بين الأرواح فيصفونني بالجنون، إن جنوني خير من عقلكم وخيالي أصدق من حقائقكم.» فأعرضت عن الروح المجنون وجئت إليك أنقل حديثه.
الليلة السادسة
نرجس العمياء
جاءني الروح الحائر باكيا، فقلت: «ماذا يبكيك يا روح العزيز؟» قال: «تبكيني ذكرى مؤلمة.» قلت: «وما هي؟» قال: «ذكرت اليوم أنني خلفت على الأرض نفسا زكية في جسم فتاة شقية، إلا أنها من بنات الجنة وهي لا تزال على الأرض، بل إني ألتمس من يماثلها في السماء فلا أجد.»
قلت: «ومن هي هذه المخلوقة الإنسية التي حوت تلك الصفات الروحانية؟»
قال: «إنها نرجس الضريرة، عرفتها أيام صباي في الحياة الأرضية، فإذا ذكرت السعادة وخلو البال وراحة القلب وفسحة الآمال على الأرض ذكرت تلك الأيام البعيدة السعيدة، تلك الأيام البعيدة القريبة؛ بعيدة لأني كلما نظرت ورائي إلى الحوادث والكوارث وغرائب الأقدار ومدهشات الليل والنهار رأيتها جميعا كالجبل العالي يفصل بين واديين، الوادي الأول: هو وادي الماضي وفيه تذكار الطفولة، والوادي الثاني: هو الذي أعاني الآن التيه في قفاره وأحاول الخروج من آجامه وأدغاله ولا أدري إلى أين، ولكن إذا نسيت كل مصائبي وأسدلت الستار على همومي واستسهلت الصعب واستهنت بالأحزان مما مضى رأيت أيام الطفولة أقرب شيء إلى قلبي فكأنني ابن الأمس وكأنني الساعة وأنا أحادثك أعبث برمل البحر وأمتع ناظري بمنظر غروب الشمس وأشنف آذاني بصوت المؤذن قبيل الفجر.
ليس ذلك كل ما أذكر من تلك الأيام ، بل إن في قلبي صحفا منسية وكتبا مطوية لم يأن قبل الآن أوان نشرها وتلاوتها، بل لا أكون مبالغا إذا قلت إن في صدري عالما صغيرا لا ينقصه شيء مما في أكبر العوالم؛ ففيه الفرح والحزن، والضحك والبكاء، والشجى والطرب.
Shafi da ba'a sani ba
ومن أشخاص هذا العالم العجيب طفلة عمياء لا أزال أذكرها ولن أنساها، واسمها نرجس، وكانت تلك الفتاة يتيمة تعيش مع جدة لها عجوز أحناها الكبر وأخنى عليها الدهر ونال منها الفقر منالا، تعيش مع تلك الابنة في غرفة صغيرة مظلمة ضيقة في بيت من البيوت المجاورة لبيتنا، أما العجوز فكانت ذات شمم وعفة؛ لأنها أبت إحسان المحسنين وفضلت أن تبيع الحلوى للأطفال في الأزقة على أن تستجدي، وكانت من الرحمة بحفيدتها والإشفاق عليها بحيث لا يهنأ لها بال ولا تستقر على حال ما دامت نرجس تطلب حاجة أو تشتهي شيئا. ومن المناظر التي لا تزال في ذهني صورة تلك العجوز الفاضلة تحمل حفيدتها على أكتافها والطفلة العمياء تنظر إلى العالم بعينين أخذ الله نورهما وعلى شفتيها المرجانيتين ابتسامة كابتسامة الملائكة، والمرأة تسير على مهل وهي لابسة ثيابا لا تدرأ بردا ولا تستر جسدا، وبين يديها صندوق من الخشب فيه أصناف شتى من الحلوى وألاعيب الأطفال وهي تنادي الأطفال بصوتها الضئيل الخافت وتدعوهم إلى شراء ما بيديها، فتقف تارة ويلحقها التعب فتجلس، وكانت إذا جلست ضمت نرجسا إلى صدرها وقبلتها وكأن تلك القبلة تذهب بما أصابها من التعب فتعود إليها قوتها ويتجدد لها نشاطها.
أما نرجس فكانت طفلة في الخامسة من عمرها نحيفة البدن جميلة الوجه، وكان لها شعر يشبه العسجد في لونه وحسنه وكان ثوبها على فقرها نظيفا، وكانت جدتها تتودد إلينا فوكلت إلي أمر تسريح نرجس ريثما تشتري من السوق بضاعتها، فلما دنوت من الطفلة وكنت أشفق عليها من زمن طويل، لاطفتها وداعبتها حتى اطمأنت إلي ثم سرت بها فقالت لي همسا: سر الهوينى وإلا أعثر بحجر فأسقط على الأرض؛ لأنني لا أبصر. وتأوهت الفتاة، فأثرت تلك الكلمة بنفسي تأثيرا شديدا ، وسرت بها لا أنقل قدمي حتى تنقل قدمها، ولا أنظر في طريقي إلا لأزيل ما في سبيلها من الأحجار الصغيرة، ولو استطعت حملها لحملتها، ولكنني خشيت أن نسقط جميعا، وما زلت سائرا بنرجس ويدها في يدي أنظر إلى السماء وإلى جبينها الوضاح وعينيها المغمضتين حتى بلغت بها شاطئ البحر، فلما شعرت نرجس بالهواء قالت لي: أين نحن؟ فقلت لها: نحن على شاطئ البحر. قالت: وهل بلغنا الماء؟ قلت لها: كلا. قالت: اجلس بنا هنا؛ لأنني أسمع صوتا يخيفني. فقلت لها: هذا صوت الأمواج وهي بعيدة منا. قالت لي: وما هي الأمواج؟ قلت لها: إنها قطع كبيرة من الماء تلطم الشاطئ ثم تنكسر. فقالت لي: وهل البحر كبير؟ قلت لها: نعم، لا تصل عيني إلى آخره. قالت: وهل ترى السفن؟ قلت: نعم. قالت: وكيف هي؟ قلت: هي كالطيور البيضاء. قالت لي: وكيف الطيور؟ قلت لها: للطيور أجنحة تطير بها في السماء. قالت: إنك ترى كل هذا وأنا لا أرى، إنني أشعر بالبرد. فقلت لها: اقربي مني. فقربت نرجس مني، ووضعت رأسها في حجري، ووضعت يدي على جبينها، وبقيت هكذا زمنا طويلا وهي لا تنبس ببنت شفة، وأنا أقلب طرفي بين وجهها الهادئ وبين البحر الهائج ولست أستطيع أن أصف السعادة التي شعرت بها وتلك الطفلة الضريرة نائمة في حجري، وكانت نفسي تحدثني بأنه مهما طال رقاد نرجس وهي مستريحة فأنا لا أتعب ولا أمل؛ لأنني أحسست بأن راحتي وسروري في راحة تلك الطفلة اليتيمة العمياء وسرورها، ولما أغربت في النوم كنت أقبلها بحنو ورأفة ما شعرت بمثلهما نحو إنسان طول حياتي، كان الرمل تحتنا والسماء فوقنا والبحر أمامنا والنسيم العليل يهب علينا من الشمال، وقد خيل لي أنني لا أطلب شيئا بعد اليوم سوى نرجس تأتي معي إلى شاطئ البحر وترقد في حجري مطمئنة إلي كأنني شقيقها أو حبيبها منذ القدم.
لست أدري لماذا كنت أشعر بسرور عظيم لاستسلام تلك الطفلة واطمئنانها إلي؟ فهل كان ذلك لأن نفسها كانت تقاسم نفسي بعض همومها، وقد تدرك النفوس ما لا تدرك الأجسام؟ أو لأنني لم يكن لي إخوة ولا أخوات فلم أسعد بعشرة الأطفال إلا لتلك المرة؟ أو لأن إرادة الرجل أقوى من إرادة المرأة، وتظهر تلك القوة حتى في الأطفال فيفرح الطفل إذا سكنت إليه طفلة مثله وارتاحت إلى عشرته؟
كنت أشعر أن نرجسا صارت ملكي ومتاعي، قلبها قلبي وجسمها جسمي، وودت لو أنها تستعيض بنظري عن نظرها فترى ما تروقني رؤيته وتمتع نفسها بمنظر البحر والسفن التي سألتني عنها ولم أدر كيف أجيبها.
كنت أذهب في كل يوم لأرى نرجسا وأشتري لها ولي من الحلوى التي تبيعها جدتها، وكانت جدتها كلما أرادت أن تغيب عنها تستودعني إياها، وكانت نرجس إذا سمعت صوتي زال السكون من جبينها وعلت خديها حمرة السرور وجاءت إلي تجري فآخذها بين يدي وأسير بها إلى شاطئ البحر. ولما استأنست بي كانت تطلب إلي أن أقص عليها بعض القصص، فكنت أتلو عليها ما يحضرني مما سمعته، ولما علمت شغفها بتلك الأحاديث كنت أقضي شطرا من الليل في إعداد القصص العجيبة؛ لأعيدها على صديقتي الصغيرة التي كانت تنتظرها بفارغ الصبر، وكنت إذا انتهيت من قصة ابتسمت وقبلتني ثم طالبتني بقصة أخرى، وفي يوم من الأيام خطر ببالي خاطر عجيب وهو أن أسأل عجوزا في بيتنا عن قصة فيها ذكر طفلة عمياء، فكدت قريحتها وروت لي حديثا محزنا فيه ذكر طفلة عمياء ولدتها أمها وتركتها يتيمة وحيدة، فقاست الطفلة من الآلام والأحزان ما قاست حتى كبرت ونمت، وكانت تسير في الطرق وتغني بصوت شجي فيجود عليها الناس بما تقيم به أودها، وقد رآها ابن الملك من نافذة قصره، فحن إلى صوتها، وأعجب بجمالها، فدعاها إلى القصر وأسبغ عليها ذيول النعمة وتزوج منها، «ما أسعد تلك الأيام المطوية التي كان فيها الملك يقرب السائلة من عرشه!» وقبل ليلة زفافه بها جاء إلى القصر طبيب هندي ينطق الأبكم ويسمع الأصم ويشفي الأكمه، فطلب منه ابن الملك أن يشفي زوجته الجميلة ، فعالجها وشفاها !
فلما سمعت تلك القصة قضيت ليلتي ونفسي تحدثني بأن نرجسا يتم لها ذلك في صباها وأنها تشفى مما أصابها فتستطيع أن ترى ما يراه المبصرون، ولما كان الصباح أسرعت إلى بيت جدتها، فلما سمعت نرجس صوتي أسرعت إلي وطلبت أن أسير بها إلى شاطئ البحر، فأخذتها وسرت بها حتى بلغنا مكاننا الذي اعتدنا الجلوس فيه، فجلسنا قليلا ثم طلبت مني نرجس أن أقص عليها قصة، فاندفعت كالسيل الجارف أروي لها حديث السائلة الضريرة التي تزوج بها ابن الملك وشفاها الهندي.
ولما كنت أصف ما لاقته المسكينة من صنوف الشقاء وأنواع المصائب والمتاعب انقبض صدرها وظهرت علائم الحزن في وجهها، ولما بلغت أشد ما قاسته فتاة القصة من الأهوال قلت: «وفي ليلة من ليالي الشتاء دخلت السائلة مدينة كبيرة وفي يدها عكاز تقيس به خطاها وتحس به أديم الأرض، وكان البرد قارسا والسماء تمطر والبرق يلمع، وكانت الفتاة لم تتبلغ منذ يومين، فجلست إلى جدار وأخذت تبكي وتندب حياتها وتستعطف الناس بصوت شجي، ولكنها لم تنل ما تدفع به ألم الجوع؛ لأنها كانت في طريق مهجورة لا يمر بها أحد وهي تظن أن الناس تمر بها ولا يشفقون عليها؛ فأخذت تبكي بكاء مرا وقضت ليلتها في العراء على سغب ترتجف من البرد وتلتوي من الجوع.»
فلما سمعت نرجس هذا الكلام بكت ووضعت يدها على فمي وقالت: «لا تقل، لا تقل.» فقلت لها: «اسمعي فإنها بعد ذلك نالت من نعيم السعادة ما أنساها بلاء الشقاء.» فكفكفت نرجس دمعها وأصغت، فاسترسلت في حديثي حتى أتممت شفاء الفتاة، فأبرقت أسرة نرجس وقالت لي بصوت الحزين: «وأين هذا الطبيب الهندي الذي شفاها وأنار ظلمة عينيها؟» فقلت لها: «لست أدري يا نرجس.» قالت: «ولو علمت مكانه هل تأخذني إليه؟» قلت: «نعم.» فقبلتني في أذني؛ لأنها لم تر مكان القبلة من الوجه. •••
ودامت صداقتنا حتى فرق الدهر بيننا، فانتقل من كان يعولني وانتقلت معه من ذلك الحي، وودعت شاطئ البحر وصوت المؤذن، وودعت نرجسا وجدتها ، وودعت تلك السويعات السعيدة التي كنت أقضيها مع شقيقة روحي على الرمال الصفراء أقص عليها الأحاديث العجيبة وأمتع نفسي بقربها، ودعت تلك الروح الطاهرة وذلك القلب الحزين، ودعت طفلة بائسة لم تجن ذنبا ولم تقترف إثما، ولدتها أمها عمياء ومات أبواها وتركاها لعجوز فقيرة لا تستطيع أن تعول نفسها.»
قال الروح الحائر: «هذه صحيفة من الصحف المطوية، حفظها الفؤاد في ثناياها، وطواها القلب فيما طوى من الصحف التي تعيد إلي تلاوتها ذكرى سعادة الطفولة وشقائها.» قلت: «وما الذي هاج الذكرى؟» قال: «مررت اليوم في طريقي إليك بجسر كبير تمر به السابلة والعجلات، وكان البرد قارسا، فإذا بي أسمع صوت امرأة ترتل القرآن، فدنوت من مصدر الصوت، فإذا بي أرى امرأة في ثياب رثة قد افترشت الثرى وبجانبها طفلان، فتبينت وجهها، فإذا هي نرجس، ولم أستطع أن أنقذها من وهدة الفاقة بعد أن تجردت من المادة، فقم لساعتك وأنقذ من الفقر تلك النفس الشقيقة الشقية.»
Shafi da ba'a sani ba
الليلة السابعة
صديقي علي
زارني الروح الحائر، قال: «هل رأيت نرجسا؟» قلت: «نعم، رأيتها.»
قال: «إنني اليوم حزين بقدر حزني أمس.»
قلت: «هذا يسوءني، وماذا حدث فزاد غمك؟» قال: «لقيت اليوم روح صديق قديم.» قلت: «من هو؟» قال: «روح علي.» قلت: «ومن هو علي؟»
قال: إنه صديق عرفته في أيام الصبا، أيام كنت أمرح في نعيم الفتوة، وأسرح في واد من الهناء، في تلك الأيام التي بدد الدهر أوصالها، إذ كان كل كوكب في نظري قمرا، وكل زهرة وردة، وكل مسرة سعادة لا تنتهي، وكل كلمة قيلت همسا سرا لا ينسى، وكل بسمة دليل إخلاص أبدي.
هذه أيام الصبا التي ذهبت عني وولت كما ذهبت عن غيري من الأوائل والأواخر، فبكتها القلوب والنواظر ورثاها كل كاتب وشاعر، واستعادها كل شيخ هرم، ولكن قلب الشباب قاس أصم، فلا يرق لحال شاك ولا يسمع صوت باك، لا أبكي الشباب على الأرض ولا أستعيده فقد كانت همومه عندي أعظم من مسراته، وحسناته أقل من سيئاته، ولو لم يكن في الشباب من عيب سوى حماقته وجهله لاستعذت منه بالشيخوخة والهرم.
ولكن كان لدي أسطر في قرطاس كلما قلبت فيها أجفاني جادت عيوني باللؤلؤ الرطب على صديق عرفته في الصبا، ذبلت زهرته وذوت نضرته قبل أن أعرفه حق المعرفة، مات هذا الصديق قبل أن أدرك معنى الصداقة، وقبل أن أفقه معنى الإخلاص، فلما شببت وأدركت معناهما بكيته ولا أزال أبكيه، وقلت: لو اختار الإخلاص والصداقة شخصا يسكنان قلبه كان صاحبي ذلك الشخص.
كان صاحبي هذا عبدا أسود، وأقول عبدا مفاخرا؛ لأنني وجدت فيه حرا رفيع النفس عالي الهمة، ويا حبذا لو كان في الأحرار له مثيل!
كان لهذا العبد سيد، ونعم العبد وبئس السيد! وأظنه كان طبيبا أتى بتلك الجوهرة السوداء من بلد بأقصى النوبة، معظم أهله من العرب.
Shafi da ba'a sani ba
روى لي صاحبي أن أباه وأهله يملكون سفنا ولهم تجارة حسنة، وأن الطبيب خدعه وسلب لبه وحسن في نظره عيش المدنية، وكان قلبه إذ ذاك قلب فتى لا يفرق بين الحق والباطل، ولا يميز بين الصدق والكذب، فبهره حسن قول الطبيب، وفر معه فرارا رغم أنف أهله، وكانا في سفينة من سفن الجيش، فعجزوا عن رده.
سافر علي مع هذا الطبيب وهو لم يبلغ حد الفتوة، ولكن جوانحه كانت تضم نفسا كبيرة وقلبا كريما، وقد خاناه وغدرا به ولم يحدثاه بما سوف يلقى من صنوف الشقاء وأنواع العذاب الأليم.
روى علي قال: «فلما بلغنا مصر عني الطبيب بتهذيبي وتعليمي لما رآه في من الإقبال على العلم والتفاني في طلبه، وتركني أسرح مع أطفاله، وعدني منهم، وكانت له زوجة كريمة ترق لحالي وترأف بي؛ فأحببتها واتخذتها بديلة عن أمي وأهلي، وتسليت عن إخوتي بأبناء الطبيب، ولكنني ما أوشكت أن أبلغ مبلغ الصبا حتى تغير الطبيب علي، وكنت إذ ذاك أعمل معه في فن الكيمياء وأعاونه في عمله، فلم يكن لي هم إلا تحليل العناصر وتجهيز أنواع الدواء وعمل التجارب العلمية التي هدتني إليها كتب علم الطبيعة. وكنت كلما تقدم سني عاما ازددت غما وهما لسببين ؛ الأول: أني كنت أرى نفسي في موضع لا يليق بي، والثاني: لما طرأ علي من ضعف البدن عقيب تغيير الطقس والمناخ. ولكنني كنت أجاهد جهدي وأكافح ذينك السببين، وأقضي وقتي في تعلم ما أهمل الطبيب تعليمي إياه، حتى بلغت من الطب والكيمياء درجة ارتحت إليها ورضيت بها، وعند ذلك شعرت بقليل من راحة القلب؛ لأن مكاني في بيت الطبيب كان مبهما غامضا؛ فلا أنا فرد من أفراد الأسرة ألتجئ إليها إذا أرغمتني الأيام، ولا أنا عبد أباع وأشرى كما تباع الأنعام، ولا أنا حر مطلق أفعل ما أريد كغيري من الناس، سيما وقد نهاني الطبيب عشرة بنت له كانت يافعة وقد قطعنا أمد الطفولة معا، ودخلنا باب الصبا جنبا إلى جنب وخرجنا من الصبا؛ هي إلى الشباب وأنا إلى الرجولة، فحجبها الطبيب ونهاني عن عشرتها فانتهيت، وأذكر اليوم الذي دعاني فيه الطبيب إليه وقال لي: يا علي، آن لزبيدة أن تحتجب، وآن لنا أن ننظر في أمر تزويجها بمن هو كفؤ لها، فلا يجوز لك منذ اليوم أن تراها أو تعاشرها. فأجبته بالرضا، ونفسي تكاد تحترق وقلبي يوشك أن يمزق.
في هذا اليوم حصحص الحق وزهق الباطل، وعلمت أنني عبد وأن زبيدة حرة، وأنني لست كفئا لها.
فلما بلغت غايتي من الطب والكيمياء شعرت بنسيم الحرية، وقلت في نفسي: لو لم ألق من الطبيب ما أود تركته والتمست الرزق من مورد غير مورده، وهكذا أثر العلم يجعل العبد حرا.
وكنت أقضي زمني في قراءة الكتب ودرسها والتفكه بمطالعة قصص شتى، وأجد لذة كبرى في معالجة المرضى وتخفيف آلام الحزانى والمساكين، وكان لي في ذلك عزاء وسلوى، ولكن قلبي لم يكن يستقر على حال، ونفسي كأنها في وادي التيه هائمة.
وكلما كبرت سنة شعرت بمطاليب وحاجات لم أكن أطلبها، ولكن الطبيب كان كذلك يقسو قلبه شيئا فشيئا ويشتد بأسه علي يوما فيوما، فإذا اشتهت نفسي أمرا جديدا حاربت الطبيب فيه فإذا انتصرت عليه نلته بشق الأنفس وإلا بقيت بدونه فكأنني أكسب حريتي وأستعيد حقوقي المسلوبة شبرا شبرا.
وجاء يوم كان الناس فيه في عيد لهم وليس لدي ما يسترني في أعينهم، وكان المقدار من المال الذي أتقاضاه لا يسد رمقا ولا يستر بدنا؛ فالتمست منه زيادة في الأجر وجزاء على العمل، فخرج معي عن حده، وعز عليه أن يطلب مسلوب حقا، وقال لي: إن حياتي دين له علي. فبهت من سوء فعله، وقلت له: تلك العهود كيف تنساها؟ وتلك المواثيق كيف تخونها؟ ألست أنت الذي خطفتني من أهلي؟! ألست أنت الذي جئت بي من وطني؟! ألست أنت سالب حريتي؟! ألست أنت مسبب هواني ومذلتي؟! ألست أنت الذي استعبدتني وكنت حرا؟! ألست أنت الذي حرمتني من أهلي ووطني؟! ثم عرتني نوبة عصبية فغاب صوابي وفقدت رشدي، ولما أفقت من غشيتي ونظرت في نفسي صحت عزيمتي على التحول عن مكان الذل، فتحولت عنه، وذهبت أضرب في البلد طولا وعرضا حتى هداني الله إلى طبيب آخر ارتضاني معينا له على عمله.
ولكن صاحبي لامني وعتب علي واستغفر من ذنبه، ثم استعان بأصحابي وإخواني؛ فقبلت العودة إليه شريطة أن أنال ما طلبت، فوعدني وعدا مصريا.»
قال الروح الحائر: عرفت صاحبي فوجدت منه أدبا عجيبا دل على طيب منبته، وميلا للعلم، ورأفة بالضعاف، وإشفاقا على المساكين، وكان حسن العشرة، لطيف الكلام، ذكي الفؤاد، لم أسمعه ينطق بقول منفر، وكنت أجلس إليه نقضي أويقات الفراغ في الحديث العذب وقراءة الكتب ومقارنة الأفكار والخواطر، وكان كذلك مكمن سري وموضع ثقتي وإخلاصي، وكان يقص علي ما حدث له مع أصدقائه من صنوف الوفاء والمحبة، وما كان يلقاه من بعضهم من الضر والخديعة، وكان يبوح لي بحبه لزبيدة، وكانت تزوجت، فيقول لي: كنت أحبها وأنا فتى لا أعرف الحب، فكانت إذا انصرفت إلى أمها بعد اللهو واللعب أقبل مواضع أقدامها من الأرض، وأضع أذني على جدار حجرتها أسمع أنفاسها وهي تتردد في سواد الليل البهيم، فيدق قلبي كلما تنفست، حتى إذا تنفس الصبح نهضت وأعدنا ما كان بالأمس من سرور الطفولة وسعادتها، ولما تزوجت كان زوجها يأتي إلي، وهو يجهل ما بقلبي منها، ويقص علي أخبارها وما يشعر به نحوها، وهو يظن أنني جماد لا أحس، وإذا أحسست لا أفهم، وإذا فهمت لا أجسر على الكلام، وقد صبرت في تلك الأيام صبرا يدك الجبال، ولكن ليس بعجيب ممن اعتاد الأسر والذل في سائر صنوف العيش أن يحتملها في الحب الطاهر. قال الروح الحائر: وقد دامت صداقتنا نيفا وثلاث سنين، ثم انتقلت من البلد الذي كنا فيه إلى آخر لطلب العلم، وكنت أعود إليه في المواسم والأعياد، فكان عيدي لقاء علي، ولا عيد لدي سواه، فأسرع إليه وأقص عليه أخباري ويقص علي أخباره، وأعطيه ما قرأت من الكتب ويعطيني ما قرأ، ونعوض ما فاتنا في أيام البعد بمواصلة أوقات الصفاء على ضفة نهر أو في حقل من الحقول، نطالع كتابا أو نتحدث في شأن من الشئون، وفي عيد من الأعياد عدت إلى ذلك البلد وأسرعت كعادتي إلى علي فلم أجده في مكانه، فسألت عنه من يعرف أخباره، فقال لي إنه ذهب ويعود، ثم قال لي إنه مريض. فظننت أنه يشكو داء لا يزول. وإني لكذلك أرقبه وإذا بي أرى شبحا قادما لا يرى منه الرائي إلا عينين براقتين وعظاما مغشاة بجلد أسود، وكان الطقس حارا، ولكن الشبح يتقي البرد بغطاء من الصوف على كتفه وصدره، فتبينت القادم فإذا هو علي، فوجمت لأول وهلة، ولكنني خشيت أن يهوله أمري فيحزن، ولكنه لما دنا مني لم أتمالك نفسي؛ فأجهشت في البكاء، فلما رآني كذلك ابتسم واغرورقت عيناه بالدموع في لحظة، فكان يضحك ويلاطفني تارة، ويكفكف دمعه تارة أخرى.
Shafi da ba'a sani ba
وجلسنا صامتين لا ننطق، وما زلنا كذلك حتى فك هو طلسم السكوت بقوله: كيف حالك؟ إنني أسأل عنك، ولكنني لا أستطيع أن أكتب لك. وكان في كل كلمة يسعل مرة، وفي كل مرة كأنه يقطع نياط قلبه، ونظرت في عينيه فإذا هما لا يستقران على حال من القلق كأنهما ركبتا على زئبق، فقلت له: لعل ضعفك يا صديقي يزول قريبا. فقال باسما: هيهات أن يزول الداء قبل زوالي. فقلت: خفف عليك ولا تكن جزوعا، ما هذا إلا ضعف ينقضي أمده.
قال: أتريد تخدعني كما يخدعني الأطباء، وكما أخدع نفسي؟ هذا سل يخترمني فإذا مت فاطلب لي من الله الرحمة. قال هذا بثبات جأش وسكون، وحاولت تخفيف مصابه فلم أستطع؛ فصرنا نبكي ولا يجف الدمع، ولما افترقنا أبى أن يعطيني يده وقال: إني أخشى عليك العدوى. وصممت أن أصافحه، وأقسم ألا أبرح المكان إلا بعد أن أطهر كفي. •••
كنت أزور عليا في مرضه في كل يوم مرة، ولا حديث له إلا ذكرى أهله وندمه على ما مضى منه في غروره وطيشه إذ أطاع صاحبه وخلى بلاده، ويود لو يستطيع فيعود إلى وطنه. وكان يرثي نفسه بأبيات نظمها وينشدها بصوت أجش يقطعه عليه السعال والبكاء.
ثم جاء موعد سفري فلم ألقه خشية ازدياد حزنه؛ لأن نفسي كانت تحدثني بأن لقاءنا سيكون آخر لقاء، وعدت بعد ذلك بأسبوعين وسألت عن صاحبي، فقيل لي: سافر. فقلت: وإلى أين؟ فقال مخبري: إنه في بلد بعيد. قلت: وأي بلد لعلي أزوره فيه؟ قال: أتريد أن تقف على الحقيقة؟ قلت: بلى، إنه مات؟! فقال: نعم.
فبكيت حتى أبكيت مخبري، وقلت: هات حدثني كيف مات، فقال والبكاء يقطع حبل الكلام: بعد أن سافرت بثلاثة أيام ظهرت عليه علائم الصحة والقوة، وأراد أن يقضي ليلة في بيت الطبيب كعادته القديمة، ولكن الطبيب كان حرم عليه دخول داره؛ خشية العدوى منذ اشتدت عليه وطأة الداء، فكان ينام تارة في خان وأخرى في غرفة حقيرة استأجرها في أقصى البلد، ولما أحس بالصحة والقوة قصد دار الطبيب وقرع الباب ففتح له، فلما رآه الطبيب قال له: ما الذي جاء بك إلى هنا وأنت مريض بداء معد؟ أتريد أن يصاب أولادي بما أنت مصاب به؟! فقال له وهو تخنقه العبرات: أنا قوي صحيح البدن. فقال الطبيب: إنك في منتهى الدور الثالث من أدوار السل السريع، فاخرج من بيتي . فقال له علي: أيها الرجل الظالم القاسي، رد إلي حياتي فقد سلبتها مني. وهجم على الطبيب، فصرخ الجبان وقال: أأنت مجنون؟ ولكن عليا خانته قدماه فسقط على الأرض، فشج رأسه وطفح دما ولم يقم من رقدته، ولكنه كان لا يزال حيا، وكان خدم الطبيب قد أسعفوه، فأمرهم سيدهم بحمل الميت الحي، فحملوه، وقال: اخرجوا به لوقتكم، فخرجوا به، وكان بجانب دار الطبيب بيت انقضت جدرانه وتهدم بنيانه فوضعوه فيه، وأخذ الطبيب في تطهير ثيابه وأرض داره من دماء تلك الفريسة الإنسانية، وأوعز إلى رجال الحرس بنقل الميت الحي إلى غير هذا المكان، ولكن لم يوشكوا أن يبلغوا المكان حتى كان علي جثة خامدة. •••
هذه ذكرى ذلك الصديق الذي باع حريته ووطنه بثمن بخس، فشراه الموت كذلك.
قلت: وكيف رأيت صديقك اليوم؟
قال: رأيت روحه كما كنت أراه في الأيام الأولى، ورأيته يصحب روحا جميلا، فلما تعارفنا توارى الروح قليلا فقال: أتعرف روح من هذا؟ قلت: كلا. قال: إنه روح زبيدة خرجت من العالم الأرضي بعد أن خرجت، وكنت أتطلب لقاءها فالتقينا، ومر بنا روح ذو لون أغبر يسوقه جني في يده سوط، فارتجف روح علي وقال: هذه هي روح والد زبيدة.
وقد لحقتني غشية لدى هذا الحديث، فلما أفقت كان الروح الحائر قد انصرف.
الليلة الثامنة
Shafi da ba'a sani ba
الحزن الإنساني
أحاط بي اليأس يوما؛ فاستنجدت بالروح الحائر، فلما أجاب ندائي قلت: «أيها الروح الحائر، إنني من الحزن في سجن ضيق، فهل لديك إلى الرجاء سبيل؟» قال: «خفف عنك؛ إن الحزن من حاجات الحياة الفانية، وأغلب من ترى من الناس يائسون، إنما يظهرون القوة ويتعلقون بأهداب الرجاء ويخلقون لذلك ألفاظا عذبة، كيف لا ييأسون وهم لا يدرون من أين أتوا، ولا إلى أين يذهبون، وهم يشعرون في كل خطوة من خطواتهم أنهم مسيرون، على أنني منذ تركت الأرض تركت معها اليأس، ولكن قد قضيت أياما لا أزال أذكرها؛ لأنها ما كان أقساها!» قلت: «حدثني عن تلك الأيام؛ لعل بينها وبين أيامي شبها.»
قال : «كنت في تلك الأيام في حال يرثي لها الصفا الصلد، لا أعي على شيء ولا ألوي على أحد، كنت حزين القلب مشتت اللب، إذا خلوت بنفسي حدثتني بالويل والثبور؛ فيحيط بي اليأس ويحتويني القنوط ويتمكن مني الوجل مما يأتي به الغد، وإذا جلست إلى الناس كنت عنهم في شغل شاغل؛ يقولون ولا أسمع، ويسمعون ولا أقول، فإذا نبهني أحد جلاسي إلى ما يبدو على وجهي من الألم والحزن اختلقت له عذرا واستجمعت حواسي؛ فرارا من سؤال غيره، ولكن عبثا تحاول الثكلى أن تضحك، وهيهات أن يفرح المحزون.
كنت أنظر حولي فإذا كل ما كان بالأمس يفرحني ويضحكني هو اليوم يحزنني ويبكيني، كنت قبل اليوم أرى الحديقة ذات الأزهار والأنهار والسماء ذات الشموس والأقمار والأحراش ذات البلابل والأطيار، فتسر ناظري رؤيتها وأشعر بلذة الحياة وأومن بالله وأحمده على نعمه، ويجري في عروقي تيار الصفاء، فأهش وأبش لكل من يلقاني؛ لعلمي أنه من بعض الأنام، على أنني لم أكن في ذلك العهد غنيا أو ذا مال يقوم بما أطلب، وكذلك لم أكن أقيم في قصر مشيد، ولم يكن لي من يخفف من همي، ولكنني رغم ذلك كله كنت شبيها بالسعداء.
كنت في بعض الأحيان أشعر بانقباض في النفس وضيق في الصدر، وكثيرا ما ذرفت دموعا بلا علة معلومة، ولكن هذه الحال لم تكن تدوم أكثر من يومين أو ثلاثة ثم أعود إلى حالي الأولى، أما الأيام التي ذكرتها لك فكانت كلها كآبة وأفكاري كلها سوداء، وليس في قلبي مكان يدخل منه رسول الفرح، أقلب أجفاني فيما حولي فإذا كل إنسان وكل شيء لا يروقني؛ فلا يضحكني المهذار بهزله، ولا يفرحني الجذلان بجذله، ولا يبكيني العاشق بشعره وغزله، ولا يدهشني الغني بماله، ولا يحزنني الشقي بسواد حاله، لقد استوى لدي الماء والخشب، والراحة والتعب، والفاقة والنشب!
هؤلاء أصحابي الذين كنت أسعد بعشرتهم يمرون بي ويجلسون حولي، ولكنني لا أرى فيهم ما كنت أراه فيما مضى، لا أظن أن أمرا كان ينقصني ؛ لأنني كنت ألعب بالذهب، ولا أرى في ذلك مسرتي، هل ينقصني صديق وكل هؤلاء أصدقاء؟! هل ينقصني المجد وهو هباء؟! هل تنقصني أسرة وهيهات أن تعادل حسناتها سيئاتها؟! لا ينقصني شيء، ولكنني أطلب كل شيء!
أرى كل شيء في العالم غامضا، ولكن نفسي تحدثني أن لا غموض ولا إبهام. إن الأغرار والمجانين ومن يتبعهم من وحوش الإنسانية يقولون عمن يشرفون الإنسانية بحزنهم ضعفاء الأعصاب، يشكون أمراض المعدة والأمعاء، ويحتاجون إلى الرياضة البدنية والهواء النقي. وكنت أخدع بقولهم قبل اليوم، ولكني علمت منذ عهد قريب أن هذا القول الهراء ليس إلا دفاعا عن مبدئهم الفاسد مبدأ عبادة المادة واحتقار الروح.
لقد عاشرت كثيرين من هؤلاء الأقوياء الأعصاب الذين لا يشكون أمراض المعدة والأمعاء، وخبرت شأنهم وسبرت غورهم، فإذا أحدهم يبذل النفس والنفيس في سبيل المال، ولا يصون ما يسميه شرفا في الحصول على الأصفر الرنان؛ لاعتقاده أنه مفتاح كل باب ومفرج كل كرب وفارس كل ميدان. رأيتهم لا يعرفون من مذهب أبيقور إلا النهمة والشره، ولا يشغلون أنفسهم إلا بما يلمسونه لمسا ويعتقدون بوجوده معنى وحسا، وغني عن البيان أن أمثال هؤلاء الوحوش يتخذون كل وسيلة في الوصول إلى غايتهم ما دامت الغاية شريفة - كما يقولون، وإنهم يقولون ما لا يعتقدون - هؤلاء الوحوش وقد سميتهم خنازير البشر لا يروقون في نظري، ولا يقنعني قولهم، ولا يفيدني علمهم.
إنني أذكر يوما من أيام اليأس شعرت منه بالألم، ألم الضعف، ألم المرض والموت، فخفف هذا الشعور سائر آلامي. إن الآلام التي كنت أشعر بها كلها آلام النفس والعقل، آلام روح حائر لا يستطيع أن يستقر على حال، آلام قلب مشتعل بنار تأكل بعضها؛ لأنها لم تجد ما تأكله.
أرادت الطبيعة أن تخفف عني فزادتني ألما على آلامي، ولكنه الألم الأخير. إن حياتي حلقة أحزان أشعر بها ولا يشعر بها غيري، أرى الآن أن ألم الجسم عندي لذة النفس كما كنت فيما مضى أرى أن في إجهاد الجسد راحة للروح والعقل، عن قريب تدق ساعة حياتي دقتها الأخيرة ويسدل الموت بيني وبين هذا العالم حجابا كثيفا لا يخترقه نظر الأحياء من أصدقاء وأعداء، عن قريب يعود التراب إلى التراب وترجع النار إلى النار، عن قريب تصير الظلمة نورا والتعب راحة والألم لذة والوجود الفاني عدما، عن قريب تغرب شمسي ويشق لي في جوف الأرض مضجع أرقد فيه رقدة لا قيام بعدها. ولكن الشمس سوف تشرق من الشرق وتغرب في الغرب وتملأ العالم بالنور والحرارة، والأفلاك سوف تدور دورتها، والأرض سوف تخرج نبتها، والناس يبقون كما تركتهم؛ وهم بين لاه عن ميعاده مترقب له خائفا وجلا، ومتألم ضجر يستقدم ساعته وهي لا تأتي، فلا الشمس وقفت في سيرها، ولا الأفلاك عطلت عن دورانها، ولا الأرض ضنت بنبتها، ولا الناس حزنت لفراق من كان بالأمس بينهم يسعى.
Shafi da ba'a sani ba