كنت أقرأ دواوين لشعراء الشرق والغرب المتقدمين منهم والمتأخرين، وكأنني نصبت في كسر بيتي سوقا للأدب يعرض فيها كل شاعر بضاعته، وينشر كل جيل وجنس في أركانها ثمار أفكاره، وإنني لأقول في نفسي إن الشعر ملكة في كل إنسان، وإنه من الصفات اللازمة للمخلوقات العاقلة، وقد يكون أظهر في بعض الناس بقدر دقة شعورهم، ولكن لا يخلو منه أحد. وإذا بالروح الحائر قد أقبل يشق ظلام الليل بنوره الرباني، قال لي: إنني أعرف ما يجول بنفسك؛ فقد لمحت في زوايا الغرفة نفوس نفر من الشعراء جاءت متشوقة مشتاقة تسمعك تنشد أشعارها، ولو كشف لك بمثل ما كشف لي رأيت الليلة حولك عجبا من أرواح الشعراء التي ترفرف على كتبك وتسبح في الأثير الذي يحمل أنفاسها التي كانت ترددها مذ كانت على الأرض الفانية.
على أنني أود أن أذكر لك ما وقع لي منذ عهد قريب: كنت أطوف في السماء كعادتي، فإذا بي أسمع أنغاما شتى خارجة من مكمن خلف غيوم كثيفة تخللتها ألوان قوس قزح، فدنوت واستمعتها فإذا هي أناشيد تتغنى بها بعض الأرواح، فاستبنتها فإذا أنا أرى أربعة أرواح شاعرة، وفي يد كل منها قيثارة يوقع عليها ويتغنى، فلما قربت سكتت الأصوات واسترقت الأرواح نظرات خفية فيما بينها وأوشكت أن تنصرف، فقلت لها: بحق الوحدة التي أنا فيها والود الذي جمعكم ووفق بينكم، هلا أنشدتموني شيئا من شعركم؟ فابتسمت الأرواح واحدا بعد آخر، وتقدم أحدهم ورفع بجناحه الملون ثم أمر يده على جبينه المكلل بالغار، وقال: أيها الروح الحائر، إنك حديث العهد بأهل السماء وقد سمعت في الأرض شعرا كثيرا معظمه عقيم؛ لأن شعراء الأرض لا يزالون لاتصالهم بالمادة الذميمة مقيدين بقيود وضعها المحافظون لعجزهم، وقد ألفتم هذا النوع من القول في شئون لا تتعدد، فلو أنك سمعت ما نتسلى به مما يقوم بنفوسنا دون قيد لم يرقك؛ لحداثة عهده، ولكنك إذا مارسته استوعبته واستعذبته، وإن في أهل الأرض بعض المفوقين الذين جرءوا فقالوا الشعر كما أوحي إليهم، وأعطوا الناس أفكار الأرباب عذارى لم تعبث بها ضرورة الوزن ولا عذر القافية والبحر.
قلت: أجل، إنني أذكر شعر فرلين ووتمان.
قال الروح الشاعر: وكيف وجدته؟
قلت: وجدته عذبا كالشهد وصادقا كالحقيقة.
قال الروح: إذن لن تنفر إن أسمعناك شعرنا، وها أنا أبدأ بالنشيد وأنا أصغر إخوتي وأعجزهم.
ثم ابتعد الروح الشاعر الأول وأخذ قيثارة وشرع يتغنى بقول وعيته بلسان الأرواح ونقلته إليك على قدر استطاعتي، قال:
بسمة الربيع
سمعت في الروض تغريد البلابل
ورأيت في طريقي زهرة البنفسج بين الأعشاب
Shafi da ba'a sani ba