أجل، ما يصدق على هذا الخطيب ومن التفوا حوله يصدق على الكبراء، فليس الكبير إلا فردا ساقت له المصادفات مجدا وألبسته صروف الدهر حللا وقلدته طوارئ الحدثان مقاليد البطش، وقد رضع الملق مع اللبن ونشأ في قوم يعظمونه لا لفضيلة فيه، ويهابونه لا لبطش يتقونه، وعاش في وسط كل من فيه عبيده وخدمه إذا قال فعل وإذا أمر أتته الطاعة منقادة فهو لا يرى نفسه عبدا إلا لشهوته، والضعفاء والصغار من حوله لا يعلمون من أمره شيئا سوى أنه الفعال لما يريد.
قد يكون من طبعه الخوف من الفيء والفزع من لا شيء، كما هي حال هؤلاء الذين لم يعرفوا من الشدائد إلا وصفها، ولم يذوقوا من الحياة إلا قصفها، إنما ورثوا سوء الخلق وشراسة الطبع عن آبائهم وأجدادهم الذين نشئوا منشأهم وعاشوا عيشهم، وقد تفيد الحماقة حيث لا علم ولا معرفة فيظنها الأغبياء عزما ثابتا وإرادة قوية لا تزعزعهما العواصف ولا تقلقهما رياح الدهر القواصف. حتى إن الأغبياء يقصون عن غني كبير من نوادر طفولته أن شيخا دعاه يوما وهو طفل بلقب من ألقاب الدلال فالتفت الطفل إليه مغضبا وقال: «لا تدعني بما تدعوني به أمي.» ولو كانت هذه الحادثة لصبي من أولاد الفقراء لعدت منه قحة وخروجا عن حد الأدب والحياء، ولكنها عن غني كبير؛ لذا هي موضع الإعجاب؛ لأن شخصه موضع الابتهال.
وقد يكون المملقون ضجرين وهم يسبحون بحمده ويتحملون ضيمه وشره وهم ناقمون ساخطون، فإذا صنع بهم ما صنع وبلغ منهم الغيظ ونال منهم الغضب وقام أحدهم يشكوه إلى نفسه أو ينبههم من غفلتهم بعد طول خنوعهم؛ رمي بالجنون. وعلى هذه القضية قضية الخوف من التصريح بالحق؛ لحفظ بعض المنافع إلى حين، أو طمعا في مغنم ضئيل، أو تصديق لما يقول الغير، واعتمادا على أوهامه الواهية؛ بنى الناس بدعة الرأي العام، فهم يقولون: الرأي العام إرادة لا ترد، وقوة لا تصد، وبطش ليس له حد. ويقولون: صوت الخلق صوت الحق، وإن العناية تنطق على ألسنة البشر ... إلى غير ذلك من الأقاويل الموضوعة. والواقع غير ما يقولون، وهم واثقون بأنهم منافقون مراءون ومدعون كاذبون، أليس الرأي العام اندفاع فئة كبيرة من الناس وراء قول خطيب بارع أو كاتب بليغ؟ وقد يكون هذا الخطيب أو ذاك الكاتب شريرا سيئ المقاصد قليل الخبرة عاشقا للشهرة والرئاسة «وكلهم ذلك الرجل.» ولكن الناس أو الرأي العام لا يعرفون عنه إلا ما يقول، ولا يرون منه إلا سطورا سوداء في ورقة بيضاء أو هيئة حسنة وخلقا كريما يتصنعه ليخدع الناس ويجذبهم إليه، ولكن ماذا تكون حال هذا الرأي العام لو فتحت صحائف قلوب قادته وقرئت على رءوس الأشهاد؟ إن الناس لضعفهم لا ريب يقولون: هذا افتيات وافتراء، وما قادتنا إلا ملائكة من السماء، وتلك سنة الطبيعة في البشر، ولن تجد تبديلا. طبعوا على الذل فهم الخاسرون.
على ذلك الأساس المتين - أساس الخوف من التصريح بالحق والجبن الموروث - بنى أبطال التاريخ مجدهم الخالد وأسسوا مفاخرهم الشامخة، وقد سئل بعضهم: كيف يرهب القلوب ويرعب الأفئدة؟ وكيف يغلب أعداءه ويقهر أضداده ويذل الأعزاء ويخضع الأقوياء؟ فقال: عرفت سرا لم يعرفه إلا من بلغ مبلغي أو سوف يبلغ. فقيل: وما هذا السر؟ قال: «أخدع الناس كلا بما خلق له، وأستعين بالبعض على البعض؛ فيكون الكل لي ظهيرا.»
الليلة الخامسة
حديث الروح المجنون
دنا الروح الحائر من مضجعي وهزني فنهضت، قال: «لقد اكتشفت اليوم أمرا غريبا؛ إن بين الأرواح أرواحا مجنونة كما هي الحال بين البشر.» قلت: «كيف ذلك؟ أليس الجنون عارضا من عوارض الحياة الأرضية؟» قال: «كلا، إنه كذلك يعتري بعض الأرواح التائهة التي لم تستقر بعد على حال، فقد رأيت اليوم روحا مجنونا يهيم على وجهه في الفضاء، وهذا الروح المسكين لا يهدأ له خاطر ولا يسكن إلى مقر، فلما رآني قرب مني وقال لي: «أنت الروح الحائر العاقل، وأنا الروح الحائر المجنون.» قلت: «وكيف ذلك؟» قال: «إنني طريد الأرض والسماء؛ لأنني قلت يوما ما أعتقد.» قلت: «ماذا قلت؟» قال: «خلوت يوما بصديق لي وأسررت له رأيي.» قلت: «وما هو هذا الرأي؟»
قال: «إنني سمعته يذكر الأخلاق والآداب والفضائل وغير ذلك من الأحاديث المتفق عليها.» فقلت له: آداب وأخلاق وفضائل! ألا تزال تعتقد بوجود هذه الأحاديث، اسمع، إنني أقول لك كلمة واحدة لم أقلها لأحد سواك من قبل، وفي هذه الكلمة السر الأكبر، بل هي حل اللغز الذي تقف أمامه صاغرا حائرا.
إن كل ما ذكرت لك أكاذيب مموهة وأضاليل متفق عليها، نعم، أكاذيب مموهة وأضاليل متفق عليها، وبعبارة أخرى هي سيئة من سيئات المكر البشري وحيلة من حيل الإنسان اختلقها؛ ليسود على أخيه وليتحكم بها في عنقه، أتعرف قصة السندباد البحري؟ أتعرف كيف أنه لقي في إحدى الجزر رجلا عجيبا غرر به وخدعه حتى تمكن منه وركب كتفيه، وما زال ذلك الرجل يسخر السندباد ويحرمه لذة القعود ولا يذيقه طعم الرقاد؛ إذا غفا أنهضه، وإذا توانى ركضه، حتى فطن السندباد إلى حيلته وحاول الخلاص منه، فلم يتأت له إلا بأن أسكره، فلما لعبت الخمر برأس العلقة أخلى سبيل أسيره، ولو لم يفطن السندباد بقي طول عمره في أسره!
إن مثل الهيئة الاجتماعية في كل زمان ومكان كمثل السندباد والمدعون أنهم أنصار الحق وأعداء الباطل وأبطال المواقع وحكماء الأمم وأصحاب الملايين؛ هم خلفاء ذلك الرجل العجيب الذي ركب أكتاف السندباد المسكين، نحن - يا صاحبي - فريسة تلك الوحوش المفترسة، نحن عبيدها وأسراها، ونحن مصدر خيرها وثروتها، نحن مصدر بطشها وقوتها، لا تدهش ولا تذعر! إن كنت اكتفيت بقراءة الكتب وسرك مرأى الظواهر فإنك لا تستطيع معي صبرا، بل أضطر لأن أستميحك عذرا وأقول لك: لقد أخطأت وسبقني اللسان إلى القول فلم أفقه معنى ما قلت وكفى. وإن كنت قرأت الناس وعلمت ما خفي من أمورهم فأنا أسألك أمرا واحدا، ارجع بنفسك إلى الماضي وسلها عمن عاشرتهم من أهلك وأصحابك ورفقك وأحبابك وقل لي أيهم لم يسع إلى غاية تهمه وغرض يريده؟ بل أيهم بذل نفسه أو ماله أو شرفه لينقذ غيره ما لم يكن له وراء ذلك البذل أمل يود تحقيقه؟ بل أيهم ليس له سر يكتمه وخبر يخفيه؟ أيهم لم يخدع الناس؟ أيهم لم يخدع نفسه؟ أيهم أذعن إلى الحق إلا مرغما مضطرا؟ أيهم لم يغير ما بنفسه سرا وجهرا؟ أيهم صدق في القول وأخلص في العمل واعتقد ولم يأكله الناس لحماقته وجهله؟ وأيهم لم ينجه الكذب من اللوم ولم ينقذه الرياء من مخالب الفقر؟ أيهم أشبع جائعا إلا طمعا في دار تجري من تحتها الأنهار أو خشية أن تلحقه الفاقة في آخر النهار؟ أيهم حقن دما يرى في سفكه خيرا له؟ وأيهم صان سرا يجد في كتمه ضرا أو حرص على شرف أمن في ثلمه إراقة الدماء؟ إن هناك لا ريب نفرا قليلين تحاجني بهم وتستند في تفنيد قولي عليهم، ولكن كل ما أقوله عن هذا النفر هو أنك لم تعرف دخائلهم، ولم تسعدك المصادفات برفع الستار عنها.
Shafi da ba'a sani ba