أرى آثارَهُم فأذوبُ شوقًا ... وأسكبُ في مواضعهم دُمُوعِي
وأسألُ مَنْ بفُرْقَتهم رماني ... يمُنُّ عليَّ يومًا بالرُّجُوعِ
كل ذلك وأنا ذاهب ذائب، ونادم ونادب، متضلع من ماء جفني الساكب، متطلع إلى سرعة عود الصاحب، لا أستقر بمكان واحد، ولا أظفر بمساعف ولا مساعد، بل تارة أستكن وأتجلد، وتارة أنشد وأتنهد:
إنْ تَّم ما جاَء رسولي به ... غفرتُ ما أسلفَهُ الدَّهرُ
وإنْ وفى الحبُّ بميعاده ... وباتَ عندي ولهُ الأمرُ
سمحتُ بالنَّفْس جزاءً لهُ ... إذْ لا يُؤدِّي حقَّهُ الشُّكْرُ
وأنا في ذلك على أعظم من حر النار، من طول التطلع والترقب والانتظار،
وأستنشق ريح الصبا من جهة المحبوب، وأستبشر بريحه مع ريحه حتى كأنني يعقوب، وأسر حتى بالطيف من رؤياه، وأقنع حتى بالريح من هواه:
أستودعُ اللهَ أحبابي الذين نَأوا ... وخلَّفُوني في نيران تبريحِ
أستنشقُ الرِّيح من تلقاء كاظمةِ ... لقد قنعتُ من الأحباب بالرِّيحِ
كل هذا وعيني تجود وتجول، وأنا متطلع إلى عود الرسول، وإذا به قد عاد فريدًا كثيبا وحيدًا مبعدًا، يموج تارة، وتارة يترنم، ويبكي تارة، وتارة يتبسم.
فحين رأيته على هذا الحال، ليس معه بدر ولا غزال، وقعت على الأرض من قامتي، وقامت في تلك الساعة قيامتي، لكن طاب قلبي لما بدا متبسمًا، وسكن جأشي لما بدا مترنما.
فقمت مبادرًا له وإليه، وعكفت إلى تقبيل كفيه وعينيه، وقلت له: بين لي حقيقة أمرك، ودلني على خبرك وخيرك، فدتك روحي أين الحبيب؟ خبر،
1 / 47