Takaitaccen Tarihin Iraqi
خلاصة تاريخ العراق: منذ نشوئه إلى يومنا هذا
Nau'ikan
نعم، إن التدهور لم يكن سريعا في بادئ الأمر؛ أي في عهد المأمون بن الرشيد؛ لأن المأمون كان خريج البرامكة، فكان يعرف من أين تؤكل الكتف وكيف يسير بالبلاد وأهلها، أما بعد المأمون فكان التدهور سريعا.
وأما الإحسان فمما لا يحتاج إلى إثباته؛ فإن المؤرخين والإخباريين جميعهم يذكرون عنه أنه كان إذا حج يحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة بالنفقة التامة والكسوة الفاخرة، وكان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم بقدر زكاته، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، وكان يجود بالأموال الطائلة على أهل الأدب والشعر ما هو أشهر من القمر، وبمبالغ لا تكاد تصدق لكثرتها ووفرتها. وأما المال فإن الرشيد كان قد اتخذ لإنمائه جميع الوسائل التي أولها التجارة، ولا تجارة حيث لا أمان في السبل والطرق؛ ولهذا قام بتأمينها وإبعاد الذعار واللصوص عنها حتى تمكن التجار من السفر إلى البلاد القاصية، ليجلبوا منها ما ليس في حاضرتهم، فحملوا من جزائر جمكوت (اليابان) أنواع الثياب الحريرية، والآنية الرقيقة الحسنة الطلاء، والمصنوعات الدقيقة على الخشب الفاخر؛ ومن السيلي (شبه جزيرة كورية) أبا فخذين (نوع من العقار يستعمل في الطب القديم)، والإبريسم النادر المثال؛ ومن الصين الغريب والكمكان والند والستور والسروج والغضار والدار صيني والخولنجان؛ ومن تبت المسك والعود؛ ومن كشمير الشال والثياب المحكمة النسج؛ ومن ترمذ الكاغد الذي لا يحاكى ولا يقلد؛ ومن الهند والسند القسط والقنا والقرنفل والفاغية والخيزران والكافور والعود والجوزبوا والفلفل والزنجفيل والكبابة والنارجيل وثياب القطن والقطيفة والفيلة؛ ومن سرنديب (سيلان) أنواع الياقوت، والحجارة الكريمة، والبلور والألماس والدر، والسنباذج الذي يعالج به الجواهر؛ ومن بلاد فارس الآنية والخمر، والحديد والرصاص والأسلحة والمصوغات؛ ومن اليمن العطر والميعة والبخور والمر؛ ومن البحرين ونجد الحناء واللؤلؤ؛ ومن بلاد واق واق الذهب والآبنوس؛ ومن كله الرصاص القلعي؛ ومن ديار الجنوب البقم الداري؛ ومن بحر الروم المرجان أو البسد؛ ومن ديار الروم المصطكى والجلود، والغلمان والجواري؛ ومن أنحاء الروس جلود الثعالب والقاقم والفنك والخز، يأتي بها الروس إلى بغداد عن طريق الشام أو جرجان، ثم تنقل إلى داخل البلاد أو إلى أصبهان، فيتجر بها وبما ذكرناه من البياعات.
ومما يعد من مصادر الغنى والثروة، ترقية الصناعة، وقد أفرغ الرشيد كنانة سعيه لإعلاء شأنها، ودفعت زوجه زبيدة الناس إلى أن يزاولوها ويعالجوها بإتقان وسارت في مقدمتهم؛ فإنها صنعت بساطا من الديباج على صورة كل حيوان من جميع الضروب، وصورة كل طائر من ذهب، وأعينها من يواقيت وجواهر، وأنفقت عليه نحوا من مليون دينار، واتخذت الآلة من الذهب المرصع بالجوهر، وأمرت بأن يصنع لها الرفيع من الوشي، حتى بلغ الثوب الذي اتخذ لها من الوشي خمسين ألف دينار، واتخذت القباب من الفضة والآبنوس والصندل، وكلاليبها من الذهب الملبس بالوشي والديباج والسمور وأنواع الحرير، واتخذت لها خفا مرصعا بالجوهر ترصيعا عجيبا، وكل ذلك كان من صنع مهرة البغداديين . ومن صنعهم أيضا أنهم بنوا للخليفة المنصور قبة عظيمة عرفت بالقبة الخضراء، ووضعوا عليها تمثالا تديره الريح، كان على صورة فارس في يده رمح، فكان الخليفة إذا رأى ذلك الصنم قد استوى قبل بعض الجهات ومد الرمح نحوها، علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول الوقت إلا وتوافيه الأخبار بأن خارجيا نجم من تلك الجهة أو كما قال. وفي أيامه صنعت تلك المزولة العجيبة التي أهداها الخليفة إلى شرلمان - إنبراطور الفرنجة - وكذلك الشطرنج البديع النقش الذي صنعه أحد النصارى، واسمه يوسف الباهلي كما يرى اسمه منقوشا على الأداة، وكان من ألطاف الخليفة إلى الإنبراطور المذكور. ومما يدل على أن الصناعة وسائر الفنون بلغت أقصى الشأو في عهد الرشيد، القصور التي بنيت في عهده، وكلها منجدة بأفخر الفراش والرياش، مما يكفينا مئونة الإطالة في هذا البحث.
ومن منابع الثروة التي تفيض بالأموال الطائلة «الزراعة»، والظاهر أنها بلغت في عهد الرشيد مبلغا لم يقاربه في ما سبق من أزمان الخلفاء، وأصدق دليل على ذلك دخل الغلال في عهده؛ فقد كان حاصل السواد (أعلى الجزيرة وأسفلها) ستين مليون درهم، وكان في زمن الحجاج عشرين مليون درهم لكثرة جوره وظلمه. وزيادة هذا الدخل لم يكن إلا بعد شق الأنهر وتنشيط الزراعة، وتأمين الحدود، واتخاذ الآلات اللازمة لمثل هذه الأمور.
ومما لا ينكر من موارد الثروة، ترتيب جباية الأموال من خراج وضرائب وعشور، فكان مجموع المحمول إليه في كل سنة نحوا من خمسمائة مليون درهم من الفضة، وعشرة آلاف مليون دينار من الذهب، فحمل الناس كثرة هذا المحمول على أن يعدلوه بالوزن لا بالعدد، فيقولون إنه يبلغ ستة أو سبعة آلاف قنطار من الذهب، إلا أن هذا إعياء ينتهي بالتفريط إلى المغالاة؛ لأن زنة القنطار ثلاثون ألف دينار، ولا يحتمل أن يكون في العالم ألفا مليون دينار في ذلك العهد، ولو فرضنا صحة وجودها آنئذ لما صح أن تحمل كلها إلى بيت المال ولا يبقى منها شيء في أيدي الناس لمعاملاتهم، فإن كان زعمهم بعيدا عن الصدق فلا أقل من كونه يدل على الكثرة، وأن المال كان يحمل إلى بغداد بالصبر لوفور الخير.
وما كان يدخل بيت المال في عهد الرشيد لم يكن يدخل نصفه في خزائن الأمويين والعباسيين الذين سبقوه، فلا يبعد أن كان عمالهم يبقون عندهم من الأموال ما لا يحملونه إليهم، لاختلاف تقديرها بين ثمانية وأربعين درهما من الأغنياء، وأربعة وعشرين من الصناع وأهل الحرف، واثني عشر من أهل الفاقة والإعواز دون أن يكون في الدواوين عمل ذلك. فلما قام جعفر البرمكي بالوزارة أقر على العمال ما هو مفروض عليهم من جزية وخراج وصدقات وغير ذلك، حتى أخذ يقيد الدخل في الدواوين من قبل أن يقبضه؛ ولذلك لم يبق للغش سبيل، إلا فيما يؤخذ من المكوس على البياعات، والزيادة في النفقات التي يتصرف فيها العمال، وليس هو إلا القليل في جانب الكثير من دخل الدولة.
ولقد امتدت دولة الرشيد في عهده امتدادا لم يسبق له نظير؛ فلقد أصبحت رقعتها تنبسط من الهند وفرغانة في الصين، إلى طرف المغرب الأقصى من ناحية الزقاق. كذلك كان امتدادها في زمن أبيه لا تنقص عنه إلا بما ضم إليها من الديار التي غلب عليها الروم في غزوات متواترة؛ إذ كان شأنه وقتالهم في حال دائمة كما كان شأن الخلفاء في مناوأتهم منذ صدر الإسلام إلى عهد المهدي، فلما ولي هذا أخرج إليهم الرشيد وهو فتى، فركب في عدة وأهبة لم يكن مثلها في الإسلام، وجاشت في نفسه نخوة الجهاد، حتى اتسم بسمة المقاتلة في الجيش وحمل الرمح في يده ، وكان يومئذ على عرش القسطنطينية ملكة اسمها «إيريني» لم تطق مقاومته، فهزم جندها، وتفرق المسلمون في البسائط يجاهدون ولا يبقون على أحد من الروم، حتى إذا نزل بجوار القسطنطينية وشرع في ضربها بالنار، خافت عليها من الحريق، فصالحته على كليكية، وحملت إليه الجزية التي كان يحملها أسلافها إلى الخلفاء.
ولما ولي الرشيد وقع في نفس الروم أن يتخلصوا من ربقة الطاعة في عهد نقفور ملكهم، فكتب هذا إليه ما نصه:
من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن هذه المرأة وضعتك موضع الشاه، ووضعت نفسها موضع الرخ، وينبغي أن تعلم أني أنا الشاه وأنت الرخ، فأد إلي ما كانت المرأة تؤده إليك.
فكتب إليه الرشيد على ظهر كتابه:
Shafi da ba'a sani ba