أنا أعلم أن جملة «تمضي أمانينا» ليست في الأصل، ولكنها تتحصل من كلام الشاعر، وهي لا تضعف قوله بل بالعكس تفسره تفسيرا موافقا، وفي النظم قد يضطر المترجم إلى مثل هذه الزيادة، وكذلك الشطر الثاني من البيت الأول «نطوي الحياة وليل الموت يطوينا» لا يمكن أن يكون ترجمة حرفية لقوله «محمولون في الليل الأبدي بلا رجوع» ولكنه يؤدي المعنى تمام التأدية، ولو فرضنا أن لامارتين بعث من قبره وسألنا أن نترجم له ما ترجمناه عنه لما وجدنا ما يؤدي معنى هذا الشطر العربي أحسن من الرجوع إلى عبارته الأصلية، ولو ترجمنا له نطوي الحياة إلى آخره ترجمة حرفية لجاءت ركيكة في لغته ولم يفهمها، فالمعنى هنا واحد ولكن حلته تختلف في اللغتين، ومما يقرب من معنى البيت الثاني قول أبي العلاء يخاطب الدنيا:
يموج بحرك والأهواء غالبة
لراكبيه فهل للسفن إرساء
فالمعاني متساوية عند الناس، ولكن القالب الذي تفرغ فيه يختلف حسب اللغات كما يختلف اللباس حسب الأقاليم والسلائل، فعلى المترجم أن يحافظ على معاني المؤلف ومراميه وأسلوبه في الكتابة من خطابي أو شعري أو غير ذلك، وأما حلة الإنشاء من ألفاظ وتركيب جمل فهو حر أن يختار منها ما يناسب المقام، فكما أن الحسناء لا تفقد من حسنها إن بدلت من هذا الثوب الجميل ثوبا جميلا آخر، فالمعنى الحسن يبقى أثره كاملا سليما ما دام اللباس الذي يخلع عليه من الألفاظ والتراكيب جميلا مطابقا لقواعد الفصاحة أيا كان هذا اللباس.
افرض أن رجلا غريبا عن لغتك كلفك أن تحدث قومك في موضوع عن له، فماذا تقول؟ هو يدلي إليك بآرائه وأفكاره وتصوراته، ويفهمك الغاية التي يرمي إليها وعليك الباقي؛ أي أن تبرز هذه الأفكار والآراء والتصورات في قالب عربي يقبله ذووك. أو ليست الترجمة ضربا من هذا؟
هكذا أفهم الترجمة، وعليه جريت في كتابة الرسائل العلمية والطبية وغيرها مما كنت أنشره في الصحف والمجلات، فإذا وجد القارئ فيما يلي بعض اختلاف عن الأصل فلأني حاولت أن أجلو هذه المعاني الغريبة في ثوب عربي دون أن أضعف من تأثيرها، بل لأخفف ما أمكن الإساءة التي تلحق بالكاتب من جراء ترجمة مكتوباته معتقدا أن هذه الطريقة هي أفضل من الترجمة الحرفية التي يمجها الذوق العربي فضلا عن أنها تضيع جمال الأصل.
ولا حاجة للقول إن ما ذكرت ينطبق على ترجمة الأدب والشعر بوجه خاص، وأما الأشياء العلمية والفلسفية فلا تدعو إليه في كل حين؛ لأن العالم لا يخلو في كتابته من الغموض أحيانا بالنظر إلى المباحث العويصة التي يلم بها فيضطر المترجم أن ينقل عبارته بالحرف الواحد ليترك للقارئ الحرية في فهم ما أراد المؤلف، ولا سيما لأن المترجم نفسه قد يغلق عليه إدراك بعض عبارات الكتاب، فهو ينقلها بأمانة ودقة بالحرف الواحد يلقي عنه مسئولية التبيين، ويدع لكل قارئ سبيلا إلى حل هذه المعميات كما يرتئي.
2
ثم هناك أمر آخر أريد أن أنبه إليه القارئ، فإن هذه الخطب التي ستمر أمام عينيه لا تنال من قلبه ما تستحق إذا لم يقف منها موقفا خاصا. فإن ما ينظمه الشاعر أو يخطه الكاتب يكفي بذاته ليتصل بالقارئ وبخلاف ذلك الخطابة؛ لأن الخطب لم تعمل لتقرأ بل لتسمع، وقد مر بك أن حسن الأداء من أهم شروطها، ومشاركة الجمهور للخطيب بالمصادفة والتشجيع يرفع الخطيب إلى أن يصير صوته وقلبه صوت الجمهور المصغي إليه وقلبه الخافق معه، ومن الصعب أن نجد مثل هذه المشاركة عند القارئ.
فلو عربنا الخطبة أبدع تعريب، ثم قرأناها فمن المستحيل أن نلمس فيها ذلك الوحي الغابر، فنحن كمن يحاول الإمساك بالحياة بعد إفلاتها نبحث عن كائن حي ولا نجد إلا جثة هامدة، وأي شيء ننتظر من أجمل الأجسام وأبدعها مثالا وأكملها تقويما بعدما يستولي عليها جمود الموت؟ وماذا يبقى من الوجه الصبوح الجميل إذا انطفأ نوره وزالت ابتسامته؟
Shafi da ba'a sani ba