لا أريد أن أدخل اليأس إلى قلب القارئ الراغب بهذه الصناعة، فالارتجال ممكن لقوي الإرادة بعد أن تتوافر لديه الوسائل من سعة اضطلاع ومطاوعة قريحة وتصرف روية وحضور ذهن وامتلاك لناصية اللغة، والذي يأمن العثار فيه هو المطبوع الحاذق الواثق بغزارة مادته ورباطة جأشه؛ لأن الثقة بالنفس وحدها كافية لأن تنفي عنه كل خاطر يورث اللجلجة والنحنحة والانقطاع والبهر وما إلى ذلك.
وهو وإن يكن أبعد منالا على المتكلمين بالعربية للأسباب التي أشرنا إليها من انفراج مسافة الخلف بين العامية والفصحى، فلا يعد مستحيلا ولا سيما في مصر حيث الفطرة كفيلة به بما للمصريين من ألسنة ذلقة وألفاظ حسنة، وعبارة جيدة تجعل العامية قريبة من الفصحى فلا تجفل الأسماع منها.
وفي الارتجال تظهر مزية المطالعة التي ذكرناها في فصل سابق، فإذا كان الخطيب ممن لم يتكلموا على بلاغتهم الفطرية بل اجتهد بتوفير رأس ماله والإكثار من محفوظه «فقد سهلت عليه مستوعرات النثر، وذللت له صعاب المعاني، وفاض على لسانه وقت الحاجة ما كمن من ذلك بين ضلوعه».
والحاجة في الارتجال تدعو إليها مفاجآت كثيرة ولا سيما إذا كان الخطيب ممن أحرزوا قسطا وافرا من الشهرة فتتطاول الأعناق إليه أيان وجد، ولا يجد مناصا من تلبية الدعوة فبفضل الدرس الطويل وسابق الاجتهاد يستطيع الخروج من هذا المأزق سليم الشهرة محفوظ الكرامة.
بل إن الاستعداد الكامل وتهيئة الخطبة بألفاظها ومعانيها قد لا يقي الخطيب من الذهول والنسيان فيقف على المنبر وقد غاب عنه كل ما أراد أن يقول، فإذا كان قادرا على الارتجال فلا يعدم مخرجا لطيفا بل تأتيه النجدة من حيث لا يدري، ويفيض لسانه بالفصاحة جائلا جولات طويلة دون أن يشعر السامع بأنه يقول غير ما أعده كتابة.
وأفضل الوسائل للتمرين على الخطابة والارتجال هو أن ينشأ في المدارس شبه مجامع علمية لعدد محدود من الطلبة فيطرح عليهم موضوع المناظرة في الجلسة، ويجرب كل واحد أن يقول ما يحضره شارحا أو معترضا، فإن الألفة تمنع الكلفة وتشجع التلميذ على القول بين قوم هم أصدقاؤه وزملاؤه، ومن رتبته سنا وعلما فلا يعاب على خطأ ولا يؤاخذ بتقصير.
وبعد المدرسة على طالب هذه الصناعة أن يتعود الكلام كل صباح ولو بضع دقائق، وأن لا يكتب مراسلة قبل أن يتكلم بمضمونها بصوت جهوري.
هوامش
الرتج
1
Shafi da ba'a sani ba