وكان مكتبي بالدور الثاني أصعد إليه سلما ضيقا له ثنية ملتوية، تضيق عند الوسط فلا تكاد تتسع الدرجة لجسد إنسان واحد. في ذلك اليوم كنت أضع قدمي على هذه الدرجة لأهبط، وكان هو في اللحظة ذاتها يضع قدمه عليها فإذا بنا نصطدم جسدا لجسد، كانت ثنية السلم مظلمة وضيقة فدفعته بيدي قليلا وسألته عن ورقتي المطوية وكلماتي، لكنه لم يكن يسمع أو لم يكن يتكلم، ودفعته بيدي مرة أخرى لأسأله، لكنه لم يرد وضغط بجسده على جسدي، كان كل شيء مظلما وضيقا لا يسمح بالحركة لكني استطعت أن أشد جسدي بعيدا لأنظر في عينيه، وأرى الزرقة اللامعة من تحت السواد، لكنه كان يحرك جذعه نحوي فيبتعد رأسه، وأدفع جذعه بعيدا عني وأحرك رأسي ناحية رأسه، لكنه سرعان ما يلتوي على نفسه فإذا بالمؤخرة عندي والرأس عنده، وأدفعها بكل قوتي وأقرب رأسي من رأسه، لكن المؤخرة تعود مرة أخرى ويبتعد الرأس.
كانت درجة السلم ضيقة ومظلمة، وكان جسدانا يتلاطمان فوقها كثعبانين، أحدهما يريد الرأس والآخر يريد الذنب، وكانت قدمي تنزلق أحيانا فوق الدرجة فأمسك بكلتا يدي في الترابزين حتى لا أسقط في بئر السلم، وأحيانا تنزلق قدمه فإذا به يهبط كأنما سيسقط لكنه لا يسقط.
تمزقت ملابسنا وتصبب من جسدينا العرق وأصبحنا نلهث، لكنه كان مصرا على أن يعطيني المؤخرة وكنت مصرة على أن آخذ الرأس، وكانت الظلمة شديدة، والمكان ضيق خانق والمعركة دائرة، لكني استطعت أن أتوقف لحظة لألتقط نفسي، وفي تلك اللحظة استطعت أن أرى المشهد، كنت أقف على أصابع قدم واحدة فوق الدرجة وجسدي كله يتأرجح في الهواء، وكان هو بجسمه الطويل معلقا من ذراعه في الترابزين، والشعر الكثيف الأسود تحت إبطه ظاهر للعيان، وتراءى لي على الفور جسد أبي العاري حين رأيته في تلك الليلة، وبدا لي جسده غريبا كما بدت ذكورة أبي، لكنها لم تكن إلا لحظة ضوء خاطفة وعاد جسدانا إلى التلاطم في الظلام.
لم نكن نكف. في كل مرة نصطدم فوق الدرجة وهو يصر وأنا أصر وتتمزق ملابسنا ونعرق ونلهث ولا نكف، أحيانا كانت تفاجئنا قدم صاعدة إلى الجريدة أو قدم هابطة فنتراجع بسرعة إلى الوراء كأنما لا يعرف أحدنا الآخر، فإذا ما ابتعد صوت القدم اندفع كل منا نحو الآخر كثورين وتلاحمنا، وفي مرة لمحت رئيس التحرير نفسه صاعدا، فتراجعت بسرعة وزلت قدمي وكدت أسقط فوق صلعته لولا أنني قفزت وأمسكت الترابزين بأصابعي العشرة.
لا يمكن أن تكوني عرفت هذا النوع من الإصرار فأنت طبيبة ولست فنانة، هذه اللحظة حين يحس الفنان أمام الفنان أنه غير محسوس، أو حين يحس الكاتب أمام الكاتب أنه غير مقروء، تذوب الألوان كلها في لون واحد هو اللون الأسود، المكتب والجدار والأوراق والأصابع والأظافر كلها تصبح سوداء، ليس ذلك اللون الأسود المألوف الذي نراه بعيوننا حين ننظر إلى شيء أسود كالحبر، ولكنه سواد غريب لا نراه إلا إذا أغمضنا عيوننا، فإذا بالسواد ليس لونا ولكنه نسيج سميك يبطن الجفن ويمنع الضوء عن العين، كل الضوء.
هل جربت هذا النوع من الفزع؟ حين ينقطع تيار الكهرباء فجأة، وتحملقين في الظلام لحظة؛ فيخيل إليك أنك فقدت البصر؟ وهو ليس فزعا فحسب، إنه نوع مفزع من الألم، يجعلك كالعمياء مع أنك تبصرين أو كالمبصرين مع أنك عمياء، ويصبح الفرق بين الإبصار والعمى كالشعرة لا تكاد ترى ولكنها تحس داخل العين، تخترق السواد كسكين وتحتك بالبياض في كل ارتفاعة أو انخفاضة جفن.
كدت أصطدم بالباب وأنا أخرج من الجريدة، وفي الشارع مشيت فوق الرصيف بجوار الحائط، كنت أخشى الاصطدام بشيء، ووجدتني أمام عيادتك، وصوبت كشافك في عيني، كانت الشعرة هناك تماما تحت بؤرة عدستك تكاد تدخل عينك لكنك لم تريها، شككت يومها في كل طبك.
فماذا علمك الطب إذا لم يعلمك مثل هذه الأشياء البسيطة؟ أما كان في وسعك أن تمدي ملقطك الصغير وتسحبي الشعرة كما يسحب أي رمش سقط بين الجفن والعين؟ ورغم ذلك كنت متغطرسة كأي طبيب، غسلت يديك وأطبقت شفتيك وأذنيك ووضعت نغبشتك على الورقة، ثم انزلقت بالمعطف الأبيض من الباب الصغير واختفيت.
وعدت إلى الجريدة، كانت قدماي تعرفان الطريق ولم يكن هناك طريق آخر. في ذلك اليوم جلست إلى مكتبي كعادتي ألهث وكان هو يجلس كعادته إلى مكتبه يلهث، وفجأة التفت أصابعه الطويلة حول ورقتي المطوية. لم تكن الورقة مطوية، وثبتت عيناه فوق كلماتي لحظة طويلة طول اليوم، وفجأة رفع رأسه وكان رأسي مرفوعا من قبل؛ فتلامست عيوننا الأربع بلا شيء يفصل بينها، وأصبح بياض عينيه فوق بياضي، وسواده فوق سوادي، واستطعت أن أرى تحت سواده زرقة تلمع فوقها حروف كلماتي، ووجدتني في لحظة عند مكتبه، كتفي عند كتفه، صدري عند صدره، وشفتاي عند شفتيه، وركبتاي فوق ركبتيه، وجلست على ركبته كما كنت أفعل مع أبي وأنا طفلة، كنت أريده أن يحرك ركبتيه كالمرجيحة كما كان أبي يحركهما، وأهتز في الهواء كما كنت أهتز، لكن عيون الزملاء الآخرين كانت قد بدأت تلحظنا، والمكتب كان يعوق ركبتيه فانثنى بجسده الطويل تحت المكتب وأخذني معه، كانت الأرض بلاطا والجو شتاء، فأصبح لاحتواء جسده لجسدي دفء غريب، وتكورت على نفسي كالجنين ليحتويني أكثر وأكثر.
لم أعرف تماما ما الذي كان يحدث، لكني كنت أحسه إحساسا أكثر من قدرتي على المعرفة، أكثر من قدرة الكلمات ومن قدرتي على استعمال الكلمات، ليتك كنت امرأة لتعرفي! هذه اللحظة حين يحتوي الرجل المرأة وحين تحتوي المرأة الرجل ويصبح كل شيء فيهما متطابقا متلامسا متلاصقا لا يسمح بمرور شيء بينهما ولا حتى الهواء.
Shafi da ba'a sani ba