وفتحت شفتي كأنما سأقول شيئا، لكن رأسه كان قد عاد إلى وضعه المعتاد فوق الورق من فوق المكتب، وانكفأت بدوري فوق ورقي، لكن حروفي فوق الورق أصبحت متعرجة تشبه حروفي وأنا طفلة صغيرة، الكلمة أضعها وراء الكلمة فتصبح فوق الورق جملة ركيكة، والخواطر التي تبرق في رأسي تنطفئ حين تلامس سطح الورق، وتصبح الفكرة الجديدة قديمة قدم الأزل، أن يولد الإنسان من بطن أمه، أن يموت الإنسان ويدفن في قبر، منذ الأزل والناس من بطون أمهاتهم يولدون، ومنذ الأزل والناس يموتون ويدفنون.
وتسربت عيناي إلى أصابعه الطويلة وهي تحيط بالقلم، وتمشي به فوق الورق ببطء منتظم ثابت، كالخطوات الواسعة البطيئة، القدم تنتقل وراء القدم ببطء وثبات، قدم عرفت المسافة خلفها والمسافة أمامها، وعرفت بالضبط أين تضع نفسها في الخطوة القادمة، فتضع نفسها في مكانها بكل حجمها وتثبت فيه بكل ثقلها، وكدت أسمع لصوت قلمه على الورق وقعا كوقع الخطوات، وتراءت لي قدما أبي الكبيرتان وهما تسيران إلى جواري في شارع المدرسة، وانفرجت شفتاي كأنما سأقول شيئا، لكني لم أقل شيئا، كنت أعرف أن أبي مات منذ سنين كثيرة وأنه لن يعود مرة أخرى.
وانكفأت مرة أخرى فوق ورقي، بدأت أحسن خطي وأكتب الحروف ببطء كما كنت أفعل وأنا صغيرة، وأرجع بعيني فوق الكلمات لأضع النقط والهمزات والفواصل، وبدت لي أصابعي صغيرة قصيرة، كانت تبدو لي من قبل طويلة كبيرة، وبالذات في تلك اللحظة حين كنت تضعين يدك على معصمي لتحسي نبضي، كنت أخجل من منظر أصابعي الكبيرة السمراء بالقرب من أصابعك الصغيرة البيضاء، وكنت أظن أنك تحسين خشونة يدي فأسحبها من تحت يدك بسرعة، هل كنت تلاحظين؟
لا بد أنك كنت تلاحظين لأنك في كل مرة كنت تدققين النظر في وتفحصينني باستطلاع شديد، كنت تكتشفين كل شيء وتعرفين، وأحيانا كنت أخفي عنك بعض أشياء وأكذب عليك ولا أريدك تعرفين، ولا أريدك تكشفين وتفحصين، في تلك اللحظة كنت أكره عينيك، وأكره يديك، وأكره سماعتك المعدنية وإبرتك الحادة ومنظارك الغليظ، لكنك كنت تصرين، تضعين عينك في ثقبه الواسع وتنظرين، ماذا كنت في تلك البؤرة السحيقة ترين؟ وكنت أسألك لكنك كنت دائما كأي طبيب لا تردين، تخلعين قفازك وتمطين شفتيك وتضعين على الورق نغبشتك.
كان الألم في صدري تحت ثديي الأيمن، ينخس كالإبرة، ولم يكن دواؤك يخفف شيئا، والأقراص المسكنة لم تكن تسكن، والمهدئات لم تكن تهدئ، لم يكن أي شيء يفعل أي شيء، وحينما أمسك القلم كان الألم ينتقل إلى كتفي الأيمن، ومن كتفي ينتقل إلى ذراعي ثم إلى كفي، فيصبح للقلم ثقل ويصنع فوق إصبعي حزا.
وأبسط أمامك إصبعي ويصبح الحز تحت عينيك لكنك لا ترين وتهزين رأسك بغير مبالاة ولا تصدقين، أي نوع من البشر أنت؟ ألم يصبك مرة ألم؟ ألم تتألمي أبدا مرة؟ أم إن الطبيب قادر على أن يصنع من البشر حجرا؟ وخرجت من عيادتك في ذلك اليوم على ألا أعود، فأنت تجهلين مرضي، ولا تحسين ألمي، وأبسط الأشياء عني لا تعرفين.
وذهبت إلى الجريدة، لا بد أن أذهب إلى الجريدة، ولا بد أن أجلس إلى المكتب، ولا بد أن أمسك القلم، ولا بد أن يتحرك قلمي فوق الورق ، لكن حركتي غير حركته، حركته البطيئة المنتظمة والكلمات كالعلامات ثابتة فوق الورق، كعلامة القدم الكبيرة فوق الأرض الرخوة، تترك أثرا راسخا خطوة بعد الخطوة.
لم يكن يرفع رأسه من فوق ورقه ليراني. لم يكن يراني. كنت أجلس فوق الكرسي ونصفي الأعلى ظاهر من فوق المكتب لكنه لم يكن يلحظه. كنت أظن أنه لا يلحظه لأنني لا أحركه. ربما كان يظنه تمثالا نصفيا لامرأة جالسة إلى مكتب وفي يدها قلم. ربما حسبه إعلانا في الجريدة. وحركت يدي فوق الورق، لكنه لم يرفع رأسه، فملأت الورقة بخط يدي ثم طويتها ووضعتها في يده.
لا يمكن لك أن تعرفي هذا النوع من الألم، فأنت طبيبة ولست امرأة، هذه اللحظة حين تحس المرأة أمام الرجل أنها غير محسوسة، يصبح قلبها في تلك اللحظة كحجر صغير له بوز ربط بخيط وأصبح يغوص في بطنها، قد يشد معه شيئا من أحشائها وقد لا يشد، لكنه يظل في بطنها يصعد ويهبط ويروح ويجيء من الأمام ومن الخلف، ولا يستقر في مكان أو يهدأ.
ليتك كنت امرأة لتعرفي! فالألم لم يكن أيضا كهذا الألم، لم يكن هو حجرا له بوز، بل كان هو القلب ذاته، بلحمه ودمه، يشده الحجر ويعتصره الخيط فلا يصبح الوجع في البطن فحسب، وإنما ينتشر في كل أنحاء الجسم.
Shafi da ba'a sani ba