18 مايو سنة 1976
من مفكرة ثروت أباظة
تعود أبناء الريف أن يرفعوا صوتهم إلى أعلى الدرجات حين يتكلمون في التليفون، ولا شك أن هذه العادة قد لازمتهم من أيام تليفونات المركز المتصلة بالعمدة، وهي - بالمناسبة - ما زالت موجودة حتى اليوم، وكان الخفير لا يكاد يسمع محدثه حتى كان يرفع عقيرته إلى القمة، وأغلب الأمر أنه كان حين تنتهي المكالمة يرتمي إلى أقرب مقعد أو مصطبة مقطوع الأنفاس وكأنه جرى مائة كيلو بغير توقف.
وكان المرحوم أحمد عبد الغفار «باشا» فلاحا لم تتخل عنه أخلاق الفلاحين ولا عاداتهم، رغم تعلمه في أكسفورد، ورغم كرسي الوزارة الذي تبوأه.
وفي يوم كان أحد الزوار يجلس عند سكرتيره في الوزارة، وكان صوت الوزير عاليا جدا حتى كان الزائر يسمع كل كلمة يقولها صارخة في أذنه، وأحس السكرتير بحرج فنظر إلى الزائر وكأنه يعتذر: أصل الباشا بيكلم تلا.
فرد الضيف بسرعة ذكية: ولماذا لا يكلم الباشا تلا عن طريق التليفون؟
هذا الصوت المرتفع نلتقي به كثيرا في الأعمال الأدبية، وهو عيب أجمع النقاد على أنه ينال من العمل الفني ويغض من قيمته.
فالعمل الفني بطبيعته همسة تتسلل في ذكاء شديد ولباقة إلى أبعد أغوار النفس الإنسانية، وترسي فيها ما يشاء أن يرسيه الكاتب من معان.
والصوت المرتفع لغة المقال، وليس لغة العمل الفني، فحين يعلو صوت الفنان في عمل أدبي ينقل عمله من قصة أو رواية إلى مقالة أو خطبة.
ولكننا مع ذلك نجد أعمالا كثيرة لأدباء يرتفع فيها صوتهم إلى درجة الإزعاج، وتسقط هذه الأعمال وتمنى بالفشل، والكتاب الذين ترتفع أصواتهم غالبا ما تكون كتاباتهم بتوجيهات صادرة إليهم، فيرتفع منهم الصوت ليسمعوا من أصدر التعليمات؛ لأن هؤلاء المصدرين للتوصيات لا يحسنون أن يسمعوا الفن، فصلتهم بالفن مقطوعة، وإلا فكيف يصدرون الأوامر إلى الفنانين ؟
Shafi da ba'a sani ba