فنظر إليه كمن يتنبه من سبات بغتة وقال ببساطة: لا أدرى عن الألعاب شيئا!
فضحك كمال خليل قائلا: إليك الأستاذ أحمد راشد قرينا وشبيها في ذلك، فتسامرا معا ريثما نلعب ساعة.
ثم التفت الرجل إلى ابنه، وقال له: هلم إلى البيت يا محمد!
فخفق قلب عاكف، وأرسل نحوه ناظريه، فتبعاه وهو يسير بخطى لطيفة حتى غيبه الباب، فعاد يقول لنفسه متحسرا: «هلا ذكرت متى عرفت هذا العلام؟» وكانت الجماعة قد انقسمت فريقين، فلعب المعلم نونو وكمال خليل الدومينو، ولعب سليمان عتة وسيد عارف النرد، أما عباس شفة فتزحزح بكرسيه إلى مجلس المعلم «القهوجي»، وتنحى أحمد راشد ليوسع للاعبين، فصار جنب أحمد عاكف، وشعر الرجل باقترابه فتغير شعوره العجيب وتوثب مرة أخرى للنضال والعراك، ذهب الهيام وجاء الغضب والحقد! ... والتفت الشاب نحوه قائلا برقة: كيف حالك يا أستاذ ؟! لا تحسبن أني قديم عهد بخان الخليلي، لقد سبقتك إلى هنا بشهرين!
فابتسم عاكف مسرورا بتودد الآخر إليه، وقال كالمتسائل: الغارات أيضا؟! - تقريبا! .. الواقع أن مسكننا القديم في حلوان أخلي لأغراض عسكرية فرأيت أن أنتقل إلى القاهرة قريبا من مكان عملي، ووجدت مشقة في البحث عن شقة خالية حتى أرشدني صديق إلى هنا!
فقال أحمد عاكف وقد أخفض صوته: يا له من حي مزعج! - أجل! ولكنه مسل وغريب وحافل بالفنون والنماذج البشرية المدهشة، انظر إلى القهوجي الذي يحدثه عباس شفة، انظر إلى عينيه الذاهلتين! إنه يزدرد نصف درهم من الأفيون كل أربع ساعات، ويمضي في عمله كالحالم لا يفيق أو بالأحرى لا يرغب أن يفيق. - وهل تطيب الحياة على هذا النحو؟! - لا أدري! المؤكد فقط أن اليقظة التي نحبها ونستزيد منها بالقهوة والشاي يمقتها هذا الرجل وكثيرون أمثاله: وتراه إذا أجبر بسبب ما، على البقاء فيها مدة، متثائبا دامع العينين، شرس الخلق، ولا تسكن ثائرته، ويصفو مزاجه حتى يغيب عن الوجود، ويهيم في عوالم الذهول: أهي لذة عصبية تكتسب بالعادة؟! ... أم سعادة وهمية تهرب إليها النفس من شقاء الواقع! علم هذا عند المعلم نفسه!
إنه يخاف شقاء الواقع، كواحد من هؤلاء المدمنين، ويهرب منه أيضا لائذا بعزلته وبكتبه، فهل هو أسعد حالا منهم؟! ورغب عن الاسترسال في ذاك الموضوع، فسأل محدثة وقد غير لهجته: هل أستطيع أن أكب على دراستي في مثل هذه الضوضاء؟ - ولم لا؟ .. الضوضاء قوية حقا، ولكن العادة أقوى، وسوف تألف الضوضاء حتى ليزعجك سكونها، وقد كنت بادئ الأمر ألقاها متجهما متكدرا يائسا، أما الآن فتراني أكتب مرافعاتي وأراجع مواد القانون هادئا مطمئنا وسط هذا الدوي الذي لا ينقطع، ألا ترى أن العادة أمضى سلاح نواجه به غير الدهر!
فهز الرجل رأسه موافقا، وقال وكأنه يستكثر أن ينفرد الآخر ولو بهذا القول المبتذل: ولذلك قال ابن المعتز:
إن للمكروه لذعة هم
فإذا دام على المرء هانا
Shafi da ba'a sani ba