وتنبه أحمد إلى ما في قول صاحبه من جدة عسى أن تنزله من القوم منزلة المحدث الماهر والمفكر الذكي، خاصة وأن لشهادته الحكومية - ليسانسيه القانون - مكانة يدين لها الجهلاء والسذج، فخاف أن يمتاز عليه، فتوثب للنضال، وأجمع على معارضته بأي ثمن؛ فقال: ليس القديم من البقاع مجرد قذارة، فهو ذكرى قد تكون أجل من حقائق الواقع، فتبعث في النفوس فضائل شتى! .. إن القاهرة التي تريد أن تمحوها من الوجود هي القاهرة المعزية ذات المجد المؤثل، أين منها هذه القاهرة الجديدة المستعبدة؟!
ووقع هذا الكلام من نفوس القوم موقعا حسنا قرأه في أعينهم، فسر به، وأراد أن يهتبل الفرصة ليعلن عن علمه فقال: معذرة يا أستاذ أحمد فقد قرأت عن تاريخنا مجلدات جعلت تعلقي به أمرا مقضيا!
فقال سيد عارف: الظاهر أن أحمد أفندي من عشاق التاريخ!
فسر أحمد بما هيأه كلام الرجل من فرصة أطيب للحديث عن معارفه، فقال مبتسما: الواقع أني لا أعشق التاريخ أكثر من غيره من فروع المعرفة، والحقيقة أني أنفقت أكثر من عشرين عاما في تحصيل المعارف المختلفة!
فولاه القوم نظرات دلت على الاهتمام، وفسر هو ذاك الاهتمام بأنه إكبار فرقص قلبه طربا، ولكم ود لو يستطيع أن ينفذ إلى عيني أحمد راشد خلال عويناته السود ليقرأهما. وقد سأله كمال خليل: ولماذا تدرس هذه المعارف يا «أستاذ»؟ أتحضر لشهادة ما؟!
وعلى قدر سروره بلقب أستاذ غص ببقية السؤل فقال باستكبار: أية شهادة تستوجب هذه الدراسة الطويلة الشاملة؟! ... ما الشهادة إلا لعبة يستبق إليها الشبان، أما دراستي فلا غاية لها إلا العلم الحق، وربما مهدت بها يوما إلى التأليف المنتج!
فسأله أحمد راشد وعلى ثغره ابتسامة أحنقته: ما معنى أن الشهادة لعبة؟!
فقال أحمد كاظما حنقه: الشهادة ليست دليل العلم! - أهي دليل الجهل؟!
فأخذ غيظه يفور حتى أجهده أن يكتمه، ثم استدرك قائلا: أعني أن الشهادة هي الدليل على أن شابا حفظ بعض المواد بضع سنين، والعلم الحق غير هذا البتة!
فابتسم أحمد راشد ابتسامة غامضة وأمسك عن الجدل، وكان يعطف على رأى محدثه في الشهادات، بل إنه لم يغب عنه الحدة التي يسوق بها رأيه، مما جعله يميل إلى فرض احتمال وجود أسباب أخرى لذاك الرأي غير التي أعلنها، ورحب أحمد عاكف بصمته لأنه يرجح كفته عليه أمام «العوام» الذين يجالسونهما! وساد الصمت برهة، وجعل المعلم نونو يفرغ الشاي في أكواب الجلوس ودار عاكف ببصره في المكان، فلاحظ لأول مرة أن غلاما يجلس على كرسي جنب كمال خليل أفندي، ولم يدر أكان موجودا قبل مجيئه أم أنه جاء في أثناء اشتغاله بالحديث، ولكنه أيقن من أول وهلة أنه ابنه، لمشابه لا تخفى عن النظر العابر، وتركه بصره إلى غيره ولكنه عاد إليه سريعا، فقد استوقف انتباهه «شيء» في وجه الغلام لم يدر ما هو على وجه التحقيق، ولم يستطع أن يرمي إليه بطرفه طويلا، فجعل يختلس من وجهه نظرات حائرة من وراء كوب الشاي وهو يحتسي منه رشفة بعد أخرى، ما الذي جذب انتباهه إلى ذاك الوجه فكاد أن ينسى آثار المعركة التي خاض غمارها؟! لعله شعور غامض بأنه رآه من قبل، بأنه رأى هاتين العينين الواسعتين ونظراتهما الحلوة الساذجة، ومثل هذا الشعور لا يريح صاحبه حتى يتضح الغامض من الذكريات على ضوء التذكر والعرفان، وإن كان في الغالب لا يفيد شيئا ذا بال، ولذلك ألح عليه هذا السؤال «أين رأيت هذا الوجه؟ ومتى كان ذلك؟ في السكاكيني؟ .. في الترام؟ .. في الوزارة؟» وردت ذاكرته على عناده وإلحاحه بعبث ساخر معذب، فجعلت تدني إلى وعيه الصورة وترميه بأطياف الزمان والمكان حتى خال أنه ظفر بها أو كاد، ثم لا تلبث أن تبتلع الأطياف في ظلمة عميقة، وتتراجع بالصورة عن الوعي المشوق، فيعود الغموض والإبهام والحيرة إلى ما كانت عليه، ورغب أخيرا أن يعرض عن تذكر شيء ليست معرفته بالمطلب الهام، ولكن الحقيقة أن ذاكرته لم تعد الشيء الوحيد الذي يحيره ويلح عليه! الحقيقة أن رغبة صادقة أو شعورا عميقا راح ينزع بقلبه إلى العينين النجلاوين ونظرتهما الحلوة الساذجة! فكلما اختلس نظرة استثار في أعماقه حنانا وودادا وانجذابا! وتملكته الحيرة، وتولاه الحياء، وحذر أعين الجلوس حذر مريب مذنب! فأطرق ممسكا بعروة الكوب وقلبه شديد الخفقان وأبى خياله أن يفارق الغلام، فعلق وجهه وتمثل نظرة عينيه، ودار قلبه عطفا ودادا وهياما، وهمت عيناه أن تخونا إرادته ولكنه شد عليهما بخوف وغضب، وتساءل متحيرا عما دهاه؟! بيد أن المعلم نونو انتشله من خلوته النفسية المحيرة فسأله: ألا تحب أن تتسلى بلعب شيء؟
Shafi da ba'a sani ba