لقد انفصل الواقع المعاش أو الحقيقة الحية التي يعيشها النساء والرجال عن اللغة والدين والفلسفة والتاريخ والأدب والطب وغيرها، واستطاعت الأنظمة الحاكمة في الشرق والغرب منذ نشوء العبودية (حتى يومنا هذا) أن تستغل هذا الانفصال بين الرمز والحقيقة من أجل طمس الحقيقة وتعمية عقول النساء والرجال عن الواقع المعاش، مما يمكن أن نسميه «حجاب العقل» وهو أخطر من حجاب الوجه؛ لأنه غير مرئي بالعين وغير ملموس باليد، وبالتالي يبدو كأنما غير موجود.
حين تختفي أداة القمع أو القتل يصبح من الصعب التصدي لها ومقاومتها، ومن هنا خطورة حجاب العقل الذي فرض على النساء والرجال تحت اسم الفكر أو الفلسفة أو الأخلاق أو السياسة أو الثقافة أو غيرها.
منذ بداية التاريخ دخلت القيم العبودية أو الطبقية الأبوية داخل علم الفلسفة والأخلاق والقانون العام في الدولة والقانون الخاص في الأسرة، أصبحت الازدواجية والثنائيات العبودية هي أساس التفكير الفلسفي أو ما سمي بالعقل.
هكذا تخفت تحت اسم العقل فلسفة غير عقلانية، وبالتالي غير إنسانية فرضتها الأنظمة الحاكمة وأتباعها من الفلاسفة والمفكرين منذ حكومة الإله آمون في مصر القديمة حتى حكومة جورج بوش الأب والابن في الحكومة الأمريكية الحديثة، وفي اليونان القديم سيطرت الفلسفة العبودية على عقول الفلاسفة من أمثال أفلاطون وأرسطو الذين عاشوا في حماية السلطة الحاكمة، أما الفلاسفة الآخرون الذين قاوموا هذه الفلسفة غير الإنسانية فقد انتحروا في السجون أو قتلوا تحت تهمة المساس بالذات العليا المقدسة الملك أو الإمبراطور الذي تخفى تحت زي الآلهة في السماوات أو الملكوت الأعلى.
وهنا كانت الخطورة ولا تزال حتى اليوم، تحت اسم المقدس، ثم اندثار الفلسفات الأكثر إنسانية والأكثر عقلانية التي قاومت الفكر العبودي بأشكاله المختلفة التي تطورت عبر القرون، لتصوغ الفلسفة الرأسمالية الطبقية الأبوية الحديثة وما بعد الحديثة، هذه الفلسفة التي تعتبر فيلسوف العبودية في اليونان القديم مثلها الأعلى، وهو أرسطو (384-322ق.م) الذي تصور أن العبودية أمر عادل تتطلبه طبيعة العبد وطبيعة المرأة.
أصبحت العبودية هي العدل، وهي الطبيعة، وهي العقل أو الفلسفة أو المنطق، ودخل الظلم في التاريخ تحت اسم العدل، ودخل اللامنطق تحت اسم المنطق أو العقل، وكان لا بد من تشويه الطبيعة وتطويعها لتواكب هذه الفلسفة غير الإنسانية غير المنطقية.
لقد أدى حجاب العقل إلى تشويه العقل والجسد والروح في تلاحمها الطبيعي داخل الإنسان (المرأة والرجل)، وانتشر في التاريخ الفلاسفة (من النساء والرجال) الذين قاوموا العبودية منذ نشوئها حتى اليوم، منذ نوت وإيزيس وإخناتون وتي ونفرتيتي وهيباثيا الذين تم القضاء عليهم وتحطيم فلسفاتهم الأكثر إنسانية في مصر إلى ديموقريتس في اليونان، وابن رشد في شمال أفريقيا، حتى المفكرين في يومنا هذا من النساء والرجال الذين يقاومون الفكر الرأسمالي الطبقي الأبوي الذي يتخفى تحت اسم براق جديد هو الفلسفة ما بعد الحديثة، تلمع فيها أسماء من أمثال صمويل هانتجتون، وتلعب تكنولوجيا الاتصالات والأقمار الصناعية في نشر أفكارهم شرقا وغربا.
هكذا يصبح حجاب العقل مشكلة عالمية، وليس فقط مشكلة عربية أو أفريقية أو إسلامية كما يتصور بعض الناس ، أو كما يحاولون تصوير التخلف الحضاري كأنما هو مرتبط بالإسلام، أو كأنما الإسلام هو وراء الفكر الفلسفي العاجز عن مواكبة الحداثة أو ما بعد الحداثة، واعتبار عصرنا هو عصر الإرهاب الإسلامي أو الصراع بين الإسلام والغرب. •••
وتكمن خطورة هذا الفكر المفروض علينا بالآلة الإعلامية الرأسمالية الأبوية إنه يحجب عن عقولنا الأسباب الحقيقية للصراع الدموي الذي يسود العالم، ويسوق أسبابا سطحية ومزيفة تزيد من كثافة حجاب العقل، إلى الحد الذي أصبحت فيه اللغة المكتوبة في الصحف السائدة غير مفهومة حتى لمن يكتبونها، سألت أحد الكتاب المصريين المعروفين جدا (ينشر مقالا أسبوعيا طويلا في جريدة كبرى مع صورة كبيرة) عن معنى ما يكتبه عن العولمة فإذا به لا يفهم ما يكتبه، واحمر وجهه بالغضب مني لأني أوجه إليه الأسئلة، وهو فوق التساؤل أو المحاسبة مثل الآلهة والملوك ورؤساء الدول. (2) ولن نحمل الزكائب إلى الأبد
إن المشكلة الأساسية التي تواجهنا هي كيف نرفع هذا الحجاب الكثيف عن عقل المفكرين الكبار قبل غيرهم من عامة الشعب؟ أو كيف نصوغ فلسفة إنسانية لإحياء الضمير الذي أصابه الضمور أو الموت؟ لا أحد يمكن أن ينكر أن العدل غائب في عالمنا الراهن دوليا ومحليا، وأن الحرية غائبة أو الديمقراطية الحقيقية، وأن المذابح البشرية لا تكف، والعنف أو الإرهاب يتسع ليشمل البلاد شرقا وغربا، ومع ذلك فإن أغلب المفكرين لا يزالون يلوكون مبادئ الفلسفة الطبقية الأبوية الرأسمالية في الغرب والشرق، وقد عشت في نيويورك ونيوجيرسي خلال الشهور الأربعة الماضية وشهدت أحداث 11 سبتمبر 2001 عن قرب شديد، وعشت مخاوف الشعب الأمريكي مما أطلق عليه اسم «الإرهاب الإسلامي»، وعدت إلى الوطن منذ أسابيع قليلة، وعشت مخاوف الشعب المصري والشعوب العربية مما أطلق عليه «الإرهاب الأمريكي والإسرائيلي»، وهناك من يسمونه «الحرب الصليبية المسيحية واليهودية»، يغذي هذا الصراع الذي يتخذ شكل الصراع الحضاري بين الغرب والشرق، أو الصراع الديني بين الإسلام والمسيحية واليهودية أغلب المفكرين في بلادنا العربية الذين يعيشون داخل الغرف المغلقة غارقين في المجردات، أو ناقلين عن مفكري الغرب دون فهم ، أو دون تحليل عميق للأحداث الجارية في الواقع المعاش.
Shafi da ba'a sani ba