209

Karya Iyakoki

كسر الحدود

Nau'ikan

كان ذلك في بيتي بالجيزة منذ عشر سنوات (21 مارس 1989) وكنت أعرف أنه عيد الأم، وأن الإذاعات تحتفل به بالأغاني والهدايا يقدمها الأطفال لأمهاتهم، وقد جاءتني هذه الفتاة من أقاصي الصعيد تطلب مني أن أكون أمها، وتقول إنها سوف تعود إلى محطة القطار لتحمل بين ذراعيها طفلا فقيرا يتيما في السابعة من العمر، سوف تكون هي أمه، وسوف تشتغل وتفتح بيتا وتعيش معه، وسوف تعلمه في أحسن المدارس ولن تفرض عليه القيود التي فرضتها عليها أسرتها، سوف تتركه حرا طليقا ينعم بالحرية التي حرمت منها، وهي فتاة ناضجة في الخامسة والعشرين من عمرها تحمل شهادة الليسانس من كلية الآداب قسم الفلسفة، سوف تشتغل، وسوف تتحدى الكون ولن يقف في طريقها أحد هكذا تقول لي.

وقالت الفتاة: أريدك أن تكوني أمي.

قلت: وماذا أفعل بالضبط؟

قالت: لا شيء! مجرد إدراكي أنك موجودة في الحياة. •••

كان ذلك منذ عشرة أعوام، وقد وضعتني الفتاة أمام اختبار صعب في الحياة، هل أشجعها على التمرد والتحدي والسباحة في المياه الخطرة ضد التيار؟! أم أتبع نصيحة صديقتي الأستاذة الدكتورة؟!

في مثل هذه اللحظات الحرجة يبدأ الصوت الخافت من أعماقي، قال لي الصوت: ألم تكوني في عمر هذه الفتاة وتمردت وسبحت في المياه الخطرة ضد التيار؟ لماذا تحاولين الآن الوقوف في طريقها؟ وليس لك منصب كبير في الدولة يساعدك في البحث لها عن وظيفة في الحكومة، وليس لك أصدقاء رؤساء الشركات في القطاع الخاص، وإن حاولت التوسط لها ربما تكون هذه الوساطة ضدها؛ لأنك من المغضوب عليهم، ولن تفيديها في شيء، فاتركيها تشق طريقها في الحياة ولا تثبطي همتها.

كانت الفتاة جالسة أمامي لا تزال، عيناها سوداوان مملوءتان بالبريق، تذكرني بنفسي حين كنت في عمرها، العينان نافذتان أطل منهما على معدن الإنسان أو الإنسانة، غمرني إحساس جارف بالثقة في هاتين العينين المشعتين بالضوء القوي.

قالت الفتاة: لا أريد منك إلا أن تمنحيني الثقة في نفسي، منذ ولدت وأنا أحس أن أبي شك في أخلاقي، يتصور أنني مثل الفتيات لا يشغلني إلا الحب أو الرجل، وقد كرهت الرجال جميعا بسبب أبي، لم أقع في حب رجل واحد، ولا أريد أن أتزوج ولا أريد أن أنجب، سوف أعود إلى الطفل اليتيم الذي ينتظرني في محطة القطار، وسوف أشتغل وأفتح بيتا، وأكون أمه التي يحتفل بها في عيد الأم! •••

مضت الأعوام واضطرتني الظروف إلى مغادرة الوطن لأعيش المنفى خمس سنوات، وفي عيد الأم 21 مارس 1995، جاءتني رسالة من الفتاة، كانت هي أجمل هدية أتلقاها في عيد الأم، كتبت في رسالتها تقول: بلغت يا أمي الواحد والثلاثين عاما أصبحت مديرة في شركة لصناعة الملابس القطنية في طنطا، لي شقة جميلة تطل على الحقول الخضراء، ويعيش معي ابني عمره الآن ثلاثة عشر عاما، أعطيته اسم أمي «رجاء»، متفوق في المدرسة، ويريد أن يكون عالما في الذرة، ويكتب الشعر، أول قصيدة أهداها لي في عيد الأم منذ أيام، مطلعها: أمي يا أجمل كلمة في قاموس اللغة، وقد رأيت أن أرسل إليك هذه الرسالة وأنت بعيدة عن الوطن، لا بد أن بك حنينا للوطن والأهل؛ لهذا أكتب إليك وأقول لك: إنني لم أنس اليوم الذي جئت إليك هاربة من الأهل، كنت أرتعد بالخوف والبرد بعد أن تركت معطفي الصوفي للطفل اليتيم، لم يعد يتيما يا أمي، وأصبح اسمه رجاء.

وجاءت أمي من الصعيد، ورأت بيتي الجميل في طنطا، وفرحت حين سمعتني أناديه باسمها رجاء، وجاء أبي أيضا واطمأن علي، أكثر ما أسعده أنني أصبحت مديرة لشركة صناعية كبيرة، أتقاضى كل شهر مرتبا كبيرا ثلاثة أضعاف مرتب أبي، لكن فرحة أمي كانت بحفيدها رجاء الذي يحمل اسمها، أكتب إليك يا أمي قبل عيد الأم بأسبوعين، أعرف أن البريد بين مصر وولاية نورث كارولينا يستغرق على الأقل عشرة أيام، أرجو أن تصلك الرسالة في يوم عيد الأم، لتعرفي أن ابنتك «رشيدة» تذكرك، وتذكر اليوم الذي فتحت فيه قلبك وبيتك لها، كان هو يوم مولدي الحقيقي، لقد ولدت من جديد في هذا اليوم، مملوءة بالثقة في نفسي، قادرة على أن أتحدى العالم!

Shafi da ba'a sani ba