John Locke Gabatarwa Mai Gajiyarwa
جون لوك: مقدمة قصيرة جدا
Nau'ikan
كان لهذا الهجوم أثر مدمر للغاية؛ ليس فقط لأنه كان من المنطقي جدا توجيه الاتهام باتباع الفكر السوسيني (على عكس الاتهام بالإلحاد) بسبب توافقه مع أفكار لوك الدينية، لكن أيضا لأن ستيلينجفليت اختار ألا يستند في هجومه هذا إلى كتاب «معقولية المسيحية»، ذلك الكتاب الذي لم يكن لوك على الأرجح ليعترف بتأليفه حتى هذه اللحظة، وإنما إلى كتاب «مقال في الفهم البشري»، الذي لم يكن باستطاعته غالبا من حيث المبدأ أن ينكره نظرا لأنه نشر باسمه، والذي كانت تساوره رغبة شديدة في الدفاع عنه على أية حال. رد لوك على ستيلينجفليت ردا وافيا في ثلاثة أعمال أخرى عام 1697، وبغض النظر عن تعديلات الطبعة الرابعة من كتابه «مقال في الفهم البشري» التي ظهرت عام 1700، مثلت هذه الردود في الواقع آخر ظهور فكري معلن له في حياته.
في هذه المرحلة من حياة لوك بدأ نطاق اهتماماته يضيق، وبات في مقدورنا أن نميز على نحو أكثر وضوحا استراتيجية وأساليب حمايته لإرثه الفكري وأساليبه في ذلك. وحري بنا أن نرجئ التقييم المفصل لنطاق إنجازاته الفكرية وحدودها حتى الفصلين التاليين، لكن ربما يقتضي التوضيح أن نتناول باختصار هنا بعضا من الصراعات الأكثر تعميما في هذا الإرث الفكري، والآثار العملية التي ترتبت عليها.
تحمل لوك أخيرا عند موته المسئولية الكاملة عن جميع أعماله المنشورة، لكنه ظل حريصا حتى ذلك الحين، كما رأينا، على فصل «مقال في الفهم البشري» - ذلك العمل الفلسفي الذي طالما أقر أنه من تأليفه - عن كتاباته السياسية والدينية التي كان ينشرها دون أن تحمل اسمه. لا نعرف بوضوح سبب حرصه الشديد على الفصل بينهما، بل ربما لم يكن هو نفسه يعرف السبب بوضوح؛ لكن أحد الأسباب المحتملة هو الاعتراف البسيط، الذي تأكد بداية من عام 1690 فصاعدا، بأن صعوبة السيطرة على الآراء المطروحة في أحد الأعمال، إنما تتجلى بقوة عند وضعها إلى جانب الآراء ذات الصلة بموضوعات أخرى، المطروحة في عمل واحد أو أكثر من الأعمال الأخرى. وكان الدفاع عن «مقال في الفهم البشري» أو تنقيحه مهمة كبيرة في حد ذاتها؛ وطالما كان لوك واثقا أنه أعظم إنجازاته، ولديه سبب وجيه لذلك.
تثير نظرية المعرفة المطروحة في «مقال في الفهم البشري» الشكوك من عدة نواح. كان لوك نفسه يرى أنها لم تشكك مطلقا في صحة العقيدة المسيحية، لكن لم يكن معظم معاصريه يشاركونه غالبا هذا القدر من الثقة، فلو كانت الحجج التي وردت في مقال الفهم البشري صحيحة، فلا بد أن التفاسير المحددة للمسيحية التي يؤمنون هم أنفسهم بها كانت حتما مزيفة. وللأسباب نفسها، ربما يكون رأي لوك المشكك في قدرة الإنسان على المعرفة، وتأكيده القوي على وجوب التسامح مع المعتقدات الدينية التي لا يؤمن بها المرء ولا يحبذها؛ هما مزيجا طبيعيا في شخص قناعاته الدينية واضحة وقوية، لكن بالنسبة إلى أي شخص آخر قناعاته الدينية أقل رسوخا، قد يبدو هذا المزيج اعتباطيا ومتزعزعا على نحو مقلق. لو أن أسباب لوك للإصرار على التسامح الديني كانت أسبابا دينية صريحة (وكذلك الأسباب التي قادته إلى رفض التسامح مع الكاثوليك والملحدين)، فإن عواقب إصراره - إلى جانب التأثير اللاحق لمفهومه عن قدرة الإنسان على المعرفة - ربما تهدف ببساطة إلى إضعاف القناعة الدينية لدى الآخر (وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير). كان هذا الخطر بالطبع هو ما عمد ناقدوه منذ البداية إلى تسليط الضوء عليه - ليس فقط في شكل مجادلات إدواردز الانفعالية المتدنية، أو غطرسة ستيلينجفليت الكنسية، لكن أيضا في شكل التقييمات الفكرية ذات الأهمية الحقيقية، مثل تقييم الفيلسوف الألماني العظيم لايبنتس. بخصوص مسألة التسامح تحديدا، ربما كان لوك يرى بوضوح قبيل وفاته عدم الاستقرار السياسي الشديد لموقفه بين الأنجليكانية السلطوية (مثل أنجليكانية ستيلينجفليت)، التي كانت ببساطة ظلا شاحبا للذرائع الاستبدادية لملك الشمس (لويس الرابع عشر)، وبين الربوبية المتحررة على نحو سافر، التي كان يعتنقها رجال أمثال جون تولاند الذي ادعى بلا خجل أنه يتعقب النتائج المترتبة على نظرية لوك للمعرفة. والحرية الدينية كما أيدها لوك هي حرية المرء في أن يكون متدينا بطريقته الخاصة، ولم تكن الحرية بكل تأكيد - حسبما رآها تولاند مبتهجا - أن يضرب المرء بالاعتبارات الدينية عرض الحائط.
ظهرت إشكالية مشابهة عام 1698 حول مفهوم الواجب السياسي الذي تناوله في عمله «رسالتان في الحكم»؛ كان صديق لوك الحميم، ويليام مولينيو، عضوا في البرلمان الأيرلندي الذي كان في ذلك الوقت معارضا لمجلس العموم الإنجليزي، فيما يخص أحقيته في التحكم في الاقتصاد الأيرلندي ومنع منتجاته من منافسة منتجات إنجلترا، وكان لوك نفسه معنيا عن كثب بصياغة سياسة الدولة الإنجليزية حول هذه المسألة، من خلال عضويته في مجلس التجارة. وفي عام 1698 نشر مولينيو كتابا حول تلك القضية بعنوان «قضية أيرلندا»، الذي أصبح فيما بعد واحدا من النصوص الكلاسيكية التي يدور موضوعها حول القومية الأيرلندية. رأى مولينيو في كتابه أن قيام أحد البلدان بتشريع قوانين لبلد آخر لا يتفق مع نظرية الحقوق السياسية الواردة في كتابه «رسالتان في الحكم»، وتسبب الكتاب في إساءة كبيرة بما استدعى إحراقه بناء على أمر من «مجلس اللوردات»؛ وفي غضون أشهر وفد مولينيو إلى إنجلترا ليلتقي للمرة الأولى بصديقه ويقيم معه. ومن سوء الحظ أنه ليس لدينا أدنى فكرة عما دار بينهما بهذا الصدد، لكن اللقاء كان على درجة كافية من الأهمية حتى مع عدم توافر أية معلومات لدينا عنه؛ ذلك لأن الحجج التي ساقها مولينيو حول تداعيات النظرية السياسية للوك تشابهت كثيرا مع حجج المستعمرين الأمريكيين خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الثامن عشر. وأيا كان ما اضطر لوك أن يقوله ردا عليه، فإنه كان سينطبق على نحو مباشر نوعا ما على الاستفادة التي كان يحققها مؤلفو الكتيبات والمتحدثون الرسميون الأمريكيون - بدءا من جيمس أوتيس إلى توماس جيفرسون - من كتابه. لكن يظل الأهم - كما أشار أحد نقاد مولينيو - أنه في حال أيرلندا، لم يكن ما تضمنته نظرية لوك (إن كانت طبقت من الأساس) أن طبقة الأعيان البروتستانتية الإنجليزية في برلمان دبلن كان لها حق التحكم في اقتصاد البلد القاطنة فيه، وإنما بالأحرى أن المواطن الكاثوليكي الأيرلندي المنشأ هو من كان له الحق في ذلك. من المستحيل أن تفسيرا كهذا كان سيروق إلى لوك على الإطلاق، بالنظر إلى مقته الشديد للكاثوليكية وإحساسه البالغ بالمخاطر الجغرافية والسياسية المحدقة بالبروتستانتية الأوروبية. (بحلول عام 1698 كانت قد مرت ثماني سنوات فقط على معركة بوين؛ أهم اشتباك عسكري اضطر ويليام الثالث أن يواجهه لتعزيز قبضته على التاج الملكي الإنجليزي.) كانت الحرية السياسية التي سعى لوك إلى الدفاع عنها في عمله «رسالتان في الحكم» حرية من أجل البروتستانت المقيمين داخل الدولة البريطانية، وليس ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن لوك كان سيعترض على توسيع نطاقها بما يشمل الكاثوليك الأجانب في الدول الكاثوليكية الأجنبية، ولكن لم يكن مقصودا بكل تأكيد أن تكون تحررا للكاثوليك الأيرلنديين من الحكم الملكي البريطاني.
شكل : معركة بوين، يوليو 1690: المعركة التي شهدت الانتصار العسكري المبدئي الذي أحرزه ويليام في أيرلندا، ولا تزال شعار انتصار البروتستانت على خطر الكاثوليكية المزعوم.
يعزى ببساطة بعض الأثر الذي خلفته كتابات لوك إلى الحجج التي احتوت عليها تلك الكتابات، وإن كان هذا ليس بالأثر الذي كان لوك سيرغب في تركه؛ فمن المحتمل أن كل فكر معقد عرضة له. لكن يعزى أيضا جزء من هذا الأثر - ربما بالأخص في «مقال في الفهم البشري» - إلى الشكل الذي وصلت به كتاباته إلى القراء، وإلى الفئة المعينة من القراء الذين وصلتهم تلك المؤلفات؛ ففي إنجلترا، ذاع صيت «مقال في الفهم البشري» بسرعة نوعا ما، حتى إنه استحوذ على اهتمام الجامعات (التي كانت بوجه عام معادية للأفكار الجديدة، ولا سيما تلك الأفكار التي رأت أنها أفكار هدامة من الناحية اللاهوتية) إبان حياة لوك، لكن القنوات التي وصل الكتاب من خلالها إلى العامة في أوروبا كانت أضيق نطاقا وأكثر وضوحا. كان أول جزء مطبوع من الكتاب في صورة ملخص باللغة الفرنسية، صدر في أمستردام ككتيب منفصل في فبراير عام 1688، لكنه كان معدا في الأساس لدورية فكرية بارزة تدعى «ذا بيبليوتيك يونيفرسال»، وقد أدرج في هذه الدورية أيضا. كما ظهرت مقالات نقدية مفصلة عن معظم أعمال لوك التالية لذلك، في دورية أو أخرى من مجموعة الدوريات الفكرية التي كانت تنشر في هولندا على مدار العقود القلائل التالية، وكان القائمون على تحريرها في سنواتها الأولى غالبا من اللاجئين البروتستانت الفرنسيين، أمثال بيير بيل وجان لو كلير. ونظرا لأن العديد من هذه الدوريات كان يحظى بانتشار واسع النطاق على نحو ملحوظ، فقد وصلت أعمال لوك إلى قطاع عريض من جمهور المفكرين، لا سيما في فرنسا، وبمعدل سريع نسبيا. ثمة قناة انتشار مهمة أخرى، كانت أيضا نتاج علاقات لوك بالبروتستانتية الفرنسية، وكانت وليدة المصادفة، والطابع الشخصي فيها أوضح؛ إذ تبادل جان باربيراك، أحد اللاجئين البروتستانت الفرنسيين، مراسلات مع لوك في السنوات الأخيرة من حياته. وفي أوائل القرن الثامن عشر، بدأ باربيراك سلسلته الرائعة من الترجمات والطبعات النقدية لجروتيوس وبوفندورف وغيرها من النصوص الأوروبية البارزة حول «قانون الطبيعة». وفي هذه الأعمال، قدم باربيراك للمرة الأولى ملخصا كاملا ومقيما بعناية فائقة لمضامين فلسفة لوك وكتاباته السياسية حول القضايا المحورية في مجالي الأخلاق والسياسة. وعلى مدار عدة عقود، كانت هذه النصوص تقرأ غالبا في العديد من البلدان الأوروبية أكثر من المؤلفات الحديثة الأخرى في مجالي الأخلاق والسياسة؛ إذ كانت تشكل موضوع فرع رئيسي في تدريس القانون، في مجموعة كبيرة من الجامعات البريطانية والأوروبية. ومثلما كان ديكارت وجاسندي هما مصدر إلهام معظم الفكر الفلسفي المهم لدى لوك في البداية، كانت دائرة خبراته وصداقاته الأوروبية هي الضمانة التي كفلت لأثره الفكري النجاة من خطر الانحصار في الجزر البريطانية.
خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة من حياته - حين كان لوك قد صار رجلا طاعنا في العمر ومعتل الصحة وذائع الصيت على نحو هائل - وجد لوك نفسه أخيرا في وضع يمكنه من أن يرى حياته ككل بوضوح، وأن يدرك حجم إنجازاته ومدلولها. ترجع أهم إنجازاته إلى تجربة منفاه ومشاقها؛ عندما كان لوك - الذراع اليمنى لشافتسبري - يزاحم من أجل أن يتبوأ المناصب العامة، ويصل إلى السلطة السياسية في بلاده، فعاش ما لم يكن مكيافيللي نفسه ليراه حياة من الفضيلة السياسية. وعندما عاد من المنفى عام 1689، استمر في أداء مسئولياته السياسية، لكنه في المنفى اكتسب لأول مرة في حياته مسئوليات أخرى أكثر إلحاحا، نبعت تلك المسئوليات في الأساس من تغير رأيه بشأن مسألة التسامح؛ فإذا كانت حرية الممارسة الدينية أو تقييدها هي ببساطة مسألة تخص سياسة الدولة، شأنها شأن التجارة الخارجية أو الدفاع، فإنه يستحيل أن يكون ثمة تعارض فعليا بين السياسة الدينية والفضيلة المدنية؛ لكن إذا كان حق الإنسان في عبادة الله بطريقته الخاصة هو حقا فرديا يأتي في مقابل أي نفوذ ممكن للدولة، فمن المهم والمحير إلى حد كبير أن تترك حدود السياسة الدينية لحكم الفضيلة المدنية غير الناضج. وبالنظر إلى العملين الفكريين الكبيرين اللذين تمخضا عن منفاه؛ «رسالة في التسامح» و«مقال في الفهم البشري»، فإن لوك صار لا يضع ثقته في القومية الإنجليزية والظروف السياسية التي تمر بها الدولة الإنجليزية، وإنما في تطبيق ثقافة تقوم على النوايا الحسنة المشتركة على المستوى الديني، والترويج لها ونشرها لدى جموع البشر الآخرين. ولا شك أن لوك استمر - بالرغم من الإعياء والمرض - في بذل قصارى جهده كي يجعل العالم بوجه عام، وإنجلترا بوجه خاص، بيئة أكثر أمانا لاستيعاب هذه الثقافة؛ بيد أن طاقاته الأساسية كانت موجهة نحو تأسيس هذه الثقافة نفسها، والوصول إلى فهم شامل لها، كما كانت موجهة أيضا نحو استكشاف الكيفية التي يمكن بها للقدرات البشرية أن تمكن الإنسان من العيش في تناغم مع عالم الله، وإدراك كونه يعيش على هذا النحو. عول لوك في مسعاه هذا تعويلا كبيرا على الدعم الوجداني الذي كان يلقاه من صديقيه ليمبورخ وويليام مولينيو، وعلى رجال أصغر سنا أمثال أنتوني كولينز - أحد أتباع مذهب الربوبية - وبيتر كينج الذي صار رئيس مجلس اللوردات فيما بعد. كان الوثوق في النوايا الحسنة الدينية المشتركة أيسر من الوثوق في مجرد آمال شخصية؛ بيد أنه عول أيضا - بل كان أيضا في حاجة إلى أن يعول - على أمل واحد على الأقل ذي طابع شخصي صرف؛ وهو الأمل في أنه كلما كان من الممكن فهم هذه الثقافة على نحو أفضل، صار من الأيسر الإيمان بها والعيش وفقا لها. وظل أمله العميق هو الإيمان بمستقبل للبشرية جمعاء، ليس مستقبل وحدة سياسية بعينها، وإنما مستقبل حضارة واعدة مداها الجغرافي وفترتها التاريخية غير محدودين.
لا شك أن الحركات التاريخية العظيمة لا تكون أبدا ثمرة مجهودات فردية، لكن من الإنصاف حقا النظر إلى حركة التنوير الأوروبية بوصفها الإرث الذي خلفه لوك، والذي يجمع كلا من انتصاراته ومآسيه على حد سواء. وكما اتضح لاحقا، فإن الإيمان بتلك الثقافة التي كان لوك يروج لنشرها والعيش وفقا لها لم يزدد سهولة بالوصول إلى فهم أفضل لها، وإنما ضعفت تلك الثقافة وانهارت على نحو مثير للقلق؛ فتراجعت النوايا الحسنة المشتركة على المستوى الديني أمام النوايا الحسنة المشتركة على المستوى العلماني، كما تراجعت الأخيرة أمام الجدالات العنيفة واللاذعة حول تحديد النوايا العلمانية الحسنة حقا. وكلما اتضحت وجهة نظره بشأن ما يمكن للإنسان معرفته، صارت وجهة نظره حول الكيفية التي يكون بها لدى الإنسان سبب وجيه لعيش الحياة أقل إقناعا. وإذا كان التنوير هو الإرث الذي خلفه لوك حقا، فإنه - على أغلب الظن - لم يكن بالإرث الذي تمنى أن يتركه.
ونحن جميعا نتاج إخفاقه في هذا الصدد.
Shafi da ba'a sani ba