شكر وتقدير
تمهيد الطبعة الجديدة
تمهيد
1 - حياته
2 - سياسة الثقة
3 - المعرفة، والاعتقاد، والإيمان
خاتمة
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
شكر وتقدير
تمهيد الطبعة الجديدة
تمهيد
1 - حياته
2 - سياسة الثقة
3 - المعرفة، والاعتقاد، والإيمان
خاتمة
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
جون لوك
جون لوك
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
جون دن
ترجمة
فايقة جرجس حنا
مراجعة
هبة عبد المولى
مهدى إلى ذكرى بيتر لازليت
شكر وتقدير
أدين بالعرفان الشديد لمايكل إيرز لكرمه في إعارتي جزءا كبيرا من دراسته الأساسية حول فلسفة لوك أثناء كتابتي لمخطوطة الكتاب، وأدين له أيضا بما استمددته من متعة وحماس على مدار سنوات عديدة من معرفته البارزة بأعمال لوك وفهمه لها. كما أدين بالعرفان لمطابع جامعة أكسفورد، وهنري هاردي وكيث توماس وآلان ريان الذين أسدوا لي نصائح مفيدة في إعداد النص، وأشكر لهم سعة صدرهم معي على نحو فاق ما كنت أستحقه. وأدين بشدة إلى العديد من الأصدقاء الذين اطلعوا على مسودات لأجزاء من الكتاب أو كله في مراحل مختلفة ولأسباب مختلفة، وأخص بالشكر سينثيا فارار، ومايكل إيجناتيف، وتاكاشي كاتو، وجوناثان لير، وكوينتين سكينر؛ لتشجيعهم ومساعدتهم.
تمهيد الطبعة الجديدة
منذ صدور النسخة الأولى من هذا الكتاب ضمن سلسلة «أساتذة الماضي» الصادرة عن مطابع جامعة أكسفورد عام 1984، اضطررت إلى إعادة النظر في العديد من جوانب حياة لوك بتشجيع مجموعة من الأصدقاء والزملاء الباحثين الأسخياء؛ وهم: كوينتين سكينر، وجون كنيون، وجوديث شكلار، وإستفان هونت، وباسكوالي باسكوينو، وبرنار مانين، وأولي جريل، وأفيخاي مارجاليت، وإيان هاريس، وجون مارشال، وسوديبتا كافيراج، وسونيل خيلناني، وجاري ماكدويل، ومؤخرا إيان شابيرو. ونعمت أيضا بامتياز خاص بالعمل على طبعة «الأعمال المجمعة للوك»، الصادرة عن «مجلس كلارندون»، تحت إشراف المحررين الذائعي الصيت جون يولتان وساندي ستيوارت. ولقد ساهمت هذه الخبرات إلى حد كبير في تشكيل رؤيتي لأهمية العديد من جوانب الإنجاز لدى لوك، بيد أنها لم تغير قط نظرتي إلى لوك نفسه بينما كنت أكتب هذا الكتاب، كما لم تغير الآراء المتعلقة بمحتويات أعماله التي يتناولها الكتاب. وعلى مدار هذا الوقت ، تعلمت الكثير وعزب عن بالي الكثير، لكني ما زلت ألتزم بالصورة التي يحاول الكتاب أن ينقلها؛ وعليه، فقد اخترت ألا أغير في الأسلوب النثري المكتوب به الكتاب، حتى لو كنت سأصيغ بعض النقاط على نحو مختلف اليوم (كالحال عند استخدام لفظة «إنسان» للإشارة إلى البشر كافة).
إنه لمن دواعي سروري أن أنتهز فرصة صدور هذه النسخة في شكلها الجديد، لأشكر أولئك الذين دأبوا منذ عام 1983 على تحويل مجموعة من الأعمال المفتقرة إلى الخبرة والمختارة على نحو عشوائي إلى حد ما، إلى عمل فكري قيم وخالد، والعديد من المحررين البارزين والودودين في مطابع جامعة أكسفورد الذين اشتغلت معهم في مطبوعات لوك وموضوعاته، وعلى رأسهم أنجيلا بلاكبيرن، وبيتر مومتشيلوف، والآن إيما سيمونز. وأود أن أهدي هذه النسخة الجديدة إلى ذكرى بيتر لازليت، الذي حظيت به مشرفا فريدا على دراساتي خلال فترة ما بعد التخرج، والذي أفتقده بشدة، والذي بفرط حماسته وعمق بصيرته ومعين طاقته الذي لا ينضب، اجتهد كي يحافظ على ذكرى لوك حية، وكي يتيح للآخرين الحكم على أهدافه الحقيقية، وذلك على نحو فاق ما فعله آخرون غيره على مدار ما يزيد عن القرن.
تمهيد
وجه لوك حياته الفكرية بوجه عام للإجابة عن سؤالين مهمين: كيف يمكن للإنسان معرفة أي شيء؟ وما شكل الحياة التي ينبغي أن يسعى الإنسان إلى عيشها؟ استهل لوك حياته المهنية كمدرس في الجامعة وأنهاها كرجل محنك عركته الحياة. وخلال هذه الحياة، فكر - بل أمعن التفكير أيضا - في مجموعة هائلة من القضايا؛ بدءا من آفاق التجارة الخارجية الإنجليزية، والعواقب الاقتصادية المترتبة على حالة العملة الإنجليزية، ووصولا إلى سياسة الثورة في ثمانينيات القرن السابع عشر، وتفسير رسائل القديس بولس، وزراعة أشجار الفاكهة. ولأن اهتمامات لوك كانت واسعة النطاق للغاية، ولأنه باشرها بقدر كبير من الذكاء والحماس، فقد خلف وراءه مجموعة هائلة وبارزة من المؤلفات؛ وإنه لمن المستحيل أن يستطيع المرء في عمل مختصر أن يستوفي مجموعة أفكاره المتنوعة ويعطيها حق قدرها، فضلا عن تقييم أصالتها، وإماطة اللثام عن مساهمتها المعقدة في التاريخ الفكري للقرنين التاليين له؛ وعليه فلن أحاول الخوض في أي تفاصيل أثناء تقييم مساهمته في فروع الفكر الحديث المتنوعة: الاقتصاد، وعلم اللاهوت، والنظرية السياسية، وتفاسير الكتاب المقدس، وعلم الأخلاق، والأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، ونظرية المعرفة، والتربية، وما إلى ذلك. (وعلى وجه التحديد، لن أقدم شرحا ونقدا منهجيين لنظريته عن المعرفة التي صاغها باعتبارها لحظة كلاسيكية في تاريخ التجريبية البريطانية؛ فذلك من شأنه أن يشوه منهجه الخاص، كما أنه لن يساعد كثيرا - في رأيي - في إلقاء الضوء على الأسئلة محل الاهتمام الحالي.) وسوف أركز عوضا عن ذلك على شكل حياته الفكرية ككل، وسأحاول شرح تصوره للعلاقة بين السؤالين الكبيرين والصعبين اللذين تناولهما بهذا القدر من الشجاعة والإصرار على مدى سنوات عديدة.
خلال العقدين الأخيرين من حياة لوك - من عام 1683 وحتى مماته عام 1704 - كانت إجابة السؤال عن كيفية وصول الإنسان إلى المعرفة هي القضية التي كرس لها أقصى طاقاته الفكرية، وأثرت إجابته عن هذا السؤال في أوروبا - بالرغم من سوء فهمها - وطبعت في ذهنها على مدار أجيال. وثمة خلاف كبير بين الفلاسفة حاليا حول جدارة هذه الإجابة؛ فالبعض يرونها مجرد إجابة خاطئة عن سؤال مشروع ومهم، والبعض الآخر يعتبرون السؤال في حد ذاته مشوشا، ويرون أن طلب تفسير شامل لنطاق القدرات المعرفية للإنسان وحدودها هو أمر مناف للعقل ويستحيل إيفاؤه؛ ويظل البعض يرى منهج لوك صحيحا في جوهره، مهما كانت الأخطاء التي ربما وقع فيها في خضم استنباطه الإجابة. ومن الغرور أن نتظاهر هنا بحسم هذا الخلاف، لكن من الضروري أن نسعى إلى توضيح الأمور التي جعلت لوك نفسه متحمسا إلى هذه الدرجة لصياغة نظرية عن المعرفة.
انطلق تفكير لوك من سؤاله الثاني، الذي يدور حول شكل الحياة التي ينبغي على الإنسان أن يسعى إلى عيشها. وفي السنوات الأخيرة من حياته، كان واثقا أنه استوفى إلى حد كبير الإجابة على السؤال عن الكيفية التي يمكن للإنسان بها معرفة أي شيء؛ على الأقل بقدر ما يتفق من هذه الإجابة مع نطاق القدرات البشرية. لكن ثقته في قدرته على توضيح الكيفية التي ينبغي للإنسان محاولة العيش بها - على أساس القدرات البشرية وحدها - كانت أضعف كثيرا. كان لوك في البداية يتمنى لو أن تفسير قدرة الإنسان على المعرفة يوضح للإنسان «السبب» الذي لأجله ينبغي على الإنسان محاولة العيش على النحو الذي افترضه لوك. بيد أن نظرية المعرفة التي صاغها لم توضح شيئا من هذا القبيل؛ ونتيجة لذلك، فشلت نظريته عن العقل العملي (التي تدور حول الأمور التي يوجد لدى الإنسان سبب وجيه لفعلها) فشلا ذريعا من وجهة نظره. وعلى خلاف نظرية المعرفة التي صاغها، فإن نظريته عن العقل العملي لم تنجح على الأرجح في أن تقدم حتى جوهر الرأي الذي ربما نفهمه نحن أنفسنا. بل إن بعض الفلاسفة حاليا لا يعتبرون السؤال عن الكيفية التي ينبغي على الإنسان محاولة العيش وفقا لها، سؤالا فلسفيا من الأساس، كما أن عددا أكبر منهم لا يعتبر أن لوك قد عبر عن مكنون هذا السؤال بوضوح كاف. لهذه الأسباب أو لغيرها، ربما كان محكوما على مسعى لوك بالفشل في مهده، وإن ظل تنويريا ومثيرا للاهتمام إلى حد كبير. فليس السبيل الأفضل دائما إلى قياس عظمة المفكر هو موثوقية حلوله الفكرية ووضوحها؛ ففي بعض الأحيان يمكن أن تتجلى عظمته بنفس التأثير على الأقل في دوي فشله.
ما كان يأمل لوك أن يوضحه للإنسان هو أن الفهم العقلاني لمنزلة الإنسان في الطبيعة حتم عليه العيش كمسيحي، لكن ما وضحه بالفعل هو أن الفهم العقلاني لمنزلة الإنسان في الطبيعة لم - ولا - «يحتم» على الإنسان العيش وفق نمط بعينه. وأسوأ من ذلك أن العلاقة الوثيقة بين المفاهيم المتعلقة بكيفية العيش وبين تاريخ لغات وثقافات بعينها، تضع حياة البشر كافة تحت رحمة التاريخ. وحتى لو أن «إلها» قد صمم نظام الطبيعة ككل من أجل الإنسان ليحيا في ظله حياة طيبة، فما كان للإنسان أن يستمد مفاهيمه حول كيفية العيش من هذا النظام مباشرة من خلال إعمال عقله وحده، وإنما يتعين عليه أن يشكل قيمة لنفسه قدر المستطاع من آراء الآخرين المستحسنة أو المستهجنة إلى حد ما، ومن خلال قدراته الخاصة على التأمل.
لا يزال الفضل في آرائنا الحالية حول كيفية اكتسابنا للمعرفة يعزى في جزء منه إلى لوك، ومن غير المحسوم بعد ما إذا كانت تلك الآراء ستستفيد من الاعتماد أكثر على آراء لوك المفهومة جيدا، أم من التخلص من آرائه غير المفهومة التي ما زالت تعتمد عليها. أما عن آرائنا الحالية حول السبيل الأمثل للعيش، فإنها لا تدين إلا بالقليل إلى معتقدات لوك، لكن من المحتمل أننا لم نتمكن بعد من فهم فشله والتعامل معه. وفي المجمل، يناقش المؤرخون والفلاسفة حاليا لوك باعتباره مفكرا متفائلا، ارتكز تفاؤله على عدم الفهم الكافي لما نفهمه نحن أنفسنا على نحو أفضل تماما. لكن الفكرة التي أود أن أطرحها في هذا الكتاب مختلفة تماما؛ ألا وهي أننا ينبغي أن نرى لوك ليس بوصفه مفكرا متفائلا، وإنما بوصفه مفكرا تراجيديا استطاع أن يفهم قبل الأوان بعضا من التناقضات العميقة في المفهوم الحديث لعقل الإنسان؛ ومن ثم رأى على نحو أكثر وضوحا بعضا من مآسي حياتنا التي ما زلنا نراها حقا شديدة القتامة.
الفصل الأول
حياته
ولد جون لوك في قرية سومرست في صيف عام 1632، ووافته المنية في المنزل الريفي لأصدقائه آل ماشام في أوتس بمدينة إسكس، في أواخر أكتوبر عام 1704. وحتى منتصف العقد الرابع من عمره، عاش لوك حياة عادية للغاية، على الأقل كما بدا من مظاهرها الخارجية؛ لكن على مدار أكثر من ثلاثة عقود، بدءا من عام 1667، انخرط عن كثب في تقلبات السياسة الداخلية الإنجليزية، وإذا به في أواخر الخمسينيات من عمره يصبح - على حين غرة ولأول مرة - رجلا ذائع الصيت للغاية. ومنذ ذلك الحين فصاعدا، كان كل مراسليه تقريبا يصفونه دون سخرية - مع الليدي ماري كالفرلي - بأنه ببساطة «أعظم رجل في العالم» (مراسلات جون لوك، المجلد الرابع). وعندما حان الوقت أخيرا ليصير مشهورا، ذاع صيته بوصفه فيلسوفا، بدءا من لحظة نشر مؤلفاته، ولا سيما عمله الرائع الصادر عام 1689 تحت عنوان «مقال في الفهم البشري»، واستمرت هذه الشهرة - دون انقطاع - إلى يومنا هذا.
ببلوغه سن الأربعين، كان لوك قد ابتعد كثيرا عن أصوله السومرستية؛ ومن المؤكد أن الفجوة الاجتماعية بينه وبين سائر أفراد عائلته أخذت تتسع باطراد بعض الشيء بقية حياته، لكن في بعض النواحي الجوهرية من حياته، ظل ما اكتسبه خلال تنشئته الأولى (بغض النظر عن النتيجة)، يؤثر على نحو محوري في وجدانه وتوجهاته حتى يوم مماته. من النادر أن يتمكن المرء من تقييم آثار مستمرة كهذه بأي قدر من الثقة، لا سيما في حال رجل أو امرأة من القرن السابع عشر. لكن من مظاهر الغرابة في مزاج لوك إعراضه المبالغ فيه عن إلقاء أي ورقة كان قد كتب عليها، ولما انحدرت إلينا - لحسن الحظ الشديد - معظم الأوراق التي ظلت باقية حتى مماته، استطعنا في حقيقة الأمر أن نعرف عنه أكثر مما نعرف عن جميع معاصريه وأسلافه، خلا عدد قليل منهم. ويتضح من هذه المخطوطات الهائلة أن لوك اعتنق خلال مرحلة نضجه نمطا وجدانيا بيوريتانيا عميقا، وهو نمط يرسخ الإحساس بالواجب ويجعله محور حياة الفرد. لم يكن لوك شخصا كئيبا أو بائسا على الإطلاق، لكنه ألزم نفسه - بقدر ما ألزم الآخرين - بمتطلبات صارمة للغاية؛ وكان شديد التزمت الأخلاقي في ردود أفعاله في حال عدم الوفاء بتلك المتطلبات. ولم يكن ثمة ما هو بيوريتاني في معظم آرائه الفلسفية التي جعلته خالد الذكر حتى يومنا، بل إن كثيرا منها كان سيشكل صدمة لأي بيوريتاني على قيد الحياة عام 1632، إلا أن الهوية الشخصية التي أضفت على فكره ككل قدرا من التكامل والعمق الإنساني تعكس ذاتا بيوريتانية حتى النخاع.
كان كل من والد لوك ووالدته ينحدر من عائلتين تجاريتين بيوريتانيتين؛ فعائلة الأب تعمل في مجال بيع الأقمشة، وعائلة الأم تعمل في مجال الدباغة، ولم يكن دخل والده كمحام وموظف في «هيئة قضاة الصلح» بسومرست كبيرا، وكان يمتلك بالإضافة إلى ذلك قطعة أرض؛ لم تكن تكفي في حد ذاتها كي تمكنه هو أو ابنه من أن يحيا حياة النبلاء، لكنها كانت كافية لأن يمنح الابن نفسه في سنوات لاحقة ذلك اللقب المكتوب على صفحات عناوين أعظم أعماله. لم تكن هذه البيئة في حد ذاتها لتضمن للوك مستقبلا واعدا، لكن إن كان أفراد عائلته من الدرجة الأولى محدودي الاهتمامات وغير طموحين إلى حد ما في مساعيهم الدنيوية، فقد كان لهم معارف أكثر نفوذا ونجاحا، وكان أبرزهم ألكسندر بوفام. حارب بوفام - مثل والد لوك - كضابط في سلاح الفروسية التابع للبرلمان بسومرست في المراحل الأولى من الحرب الأهلية، ثم مضى في طريقه ليصير عضوا في البرلمان عن منطقة وست كانتري، وشخصية بارزة في السياسة الداخلية. وفي عام 1647، بوصفه عضوا في البرلمان عن مدينة باث، كان في منزلة تمكنه من أن يقدم لوالد لوك - الذي كان محاميه وضابطا زميلا له - الفرصة كي يلحق ابنه الأكبر بمدرسة وستمنستر. وفي السنوات اللاحقة، ظل والد لوك يأمل في الحصول على رعاية حلفائه السياسيين أصحاب النفوذ، لكن يبدو أن آماله دائما ما كانت تخيب، ربما فيما خلا انتقال ابنه المصيري من مدرسة وستمنستر إلى كلية «كنيسة المسيح» بأكسفورد؛ حيث يتجلى مجددا أن وجود راع من ذوي النفوذ أمر لا غنى عنه. لكن إن كان لوالد لوك أثر محدود على العالم في مجمله، فمن الواضح أن هذا الرجل الصارم - والساخط إلى حد ما في المراحل الأخيرة من حياته - قد ترك أثرا عميقا في ابنه البارز؛ فقد علمه استقلالية الروح وقوة الانضباط الذاتي، اللتين ساهمتا في تشكيل حياة لوك بأكملها.
شكل : مسقط رأس لوك في رينجتون بسومرست. لم يكن منزله مجرد كوخ صغير، حتى إنه ظل صامدا لمدة قرنين من الزمان، لكنه لم يكن فخما بالمرة.
من الأيسر أن ندرس حياة لوك في ضوء ثلاث مراحل أساسية، كان لكل منها تأثيره في إقصاء لوك عن أصوله السومرستية. شهدت المرحلة الأولى انتقال لوك إلى وستمنستر، ومنها إلى كلية كنيسة المسيح، وفيها بلغت الضغوط على الموارد المالية لأسرته وتوقعاتهم المعقولة منه ذروتها. كان من الممكن أن تؤهله هذه المرحلة بسهولة لشغل وظيفة كهنوتية، سواء داخل الجامعة أم خارجها، تلك الوظيفة التي لم تكن تتطلب إلا قدرا معقولا من الثروة والحصافة، والتي ربما كانت ستتناسب تماما مع قدراته الفكرية. (كتب ابن عمه جون ستراتشي عنه يقول: «إنه رجل نابغة. دعوه يتعلم دون إذعان، فلا حاجة له بالترقي» (مراسلات جون لوك، المجلد الأول).) لكن حتى بوصفه شابا لديه فرص محدودة؛ فمن الواضح أن لوك لم يكن يرضى بالإذعان؛ وعلى ما يبدو لم تستهوه فكرة الوظيفة الكهنوتية مطلقا، وكان ثمة احتمال ثان أقل إمكانية وأضيق نطاقا في تطبيقه، لكنه أيضا أكثر ملاءمة؛ وهو أن يصير طبيبا. في الواقع، سعى لوك نحو هذا الاحتمال بشيء من الحماس؛ حيث عكف على دراسة الطب دراسة منهجية على مدى بضعة عقود، وقدم نصائح طبية مستفيضة للأصدقاء والمعارف، وعمل عن كثب مع واحد من الأطباء العظماء في القرن السابع عشر، وهو دكتور توماس سيدنهام، أحد رواد علاج الأمراض الوبائية، وكان منهج سيدنهام في دراسة الأمراض يتسم على نحو غير مألوف بالوعي الذاتي والمنهجية، ولعل مفهوم لوك حول الكيفية التي عرف بها الإنسان العالم الطبيعي، قد تأثر بنفس القدر بهذا التعاون. وجدير بالذكر أيضا أن اهتماماته الطبية - وليست خبرته كفيلسوف أو عالم لاهوت - هي التي منحته أكبر فرصة في حياته.
جاءت المرحلة الثانية عام 1666؛ ففي هذا العام التقى لوك لأول مرة - عن طريق طبيب آخر كان صديقا له، وهو ديفيد توماس - باللورد أشلي، الذي سيصبح فيما بعد الإيرل الأول لشافتسبري، وهو إحدى الشخصيات السياسية البارزة في بلاط الملك تشارلز الثاني. جاء اللقاء بالمصادفة البحتة؛ فقد كان أشلي في زيارة لأكسفورد ليشرب من المياه المعدنية العلاجية في أستروب، لكن عواقب هذا اللقاء كانت على قدر بالغ من الأهمية بالنسبة إلى لوك على الأقل؛ ففي غضون عام من هذا اللقاء الأول كان لوك قد انضم إلى حاشية أشلي في لندن، ثم بعدها بعام - أي عام 1668 - خضع أشلي، راعي لوك، لعملية جراحية كبيرة لاستئصال كيس متقيح على الكبد تحت إشراف لوك، ونجحت العملية على الرغم من صعوبتها البالغة. وعلى مدار الأربعة عشر عاما التالية «تعلم الإذعان» لنزوات شافتسبري، وشارك سيده أحواله المضطربة. كان الانتقال من عزلة أكسفورد الهادئة والمضطربة أحيانا خلال عصر «إعادة الملكية»، إلى حياة حاشية شافتسبري الثائرة؛ انتقالا بالغ الأثر. لم يهجر لوك وظيفته في أكسفورد طواعية (ففي الواقع، طرد لوك من وظيفته بناء على تعليمات من الحكومة، بعد فراره إلى هولندا عام 1683)، لكن جل طاقاته وآماله ومخاوفه لبقية أيام حياته استقرت في منحى آخر؛ ومنذ ذلك الحين فصاعدا، ارتبط علو نجمه الشخصي وأفوله بعلو وأفول نجم سيده، وبعد وفاة شافتسبري عام 1683، ارتبط بعلو وأفول نجم التجمع السياسي الكبير الذي قاده.
شكل : توماس سيدنهام، أحد رواد الطب، ومصدر الإلهام في كثير من مفاهيم لوك الأولى عن المنهجين الطبي والعلمي.
في السنوات التي تخللت عامي 1667 و1683 كان شافتسبري يمثل في مراحل مختلفة الشخصية السياسية الأكثر نفوذا في بلاط تشارلز الثاني، وقائد إحدى المعارضات السياسية القومية لهذا البلاط، التي مثلت في نهاية المطاف خطرا عليه، بل ربما خططت أيضا لثورة للإطاحة به. أثرت كل من انتصاراته وإخفاقاته على نحو بالغ في مخيلة لوك، وكان شافتسبري هو من علمه فهم المسئوليات الاقتصادية للدولة الإنجليزية في السوق المحلية وفي التجارة الخارجية، وكان هو من علمه أيضا النظر إلى عوامل الازدهار الاقتصادي واحتمالاته، باعتبارهما موضع اهتمام رئيسيا لفن الحكم وإدارة شئون الدولة، وعاملا أساسيا في تقييم مؤهلات أي مجتمع وإمكاناته. ولو أن الآلية القاسية - والمفعمة بالحيوية في الوقت نفسه - للاقتصاد الإنجليزي في زمن لوك، قد سخرت في النهاية طاقات لوك الفكرية تسخيرا سليما، فإن الفضل في ذلك يعود إلى شافتسبري؛ فثمة صلة مباشرة بين استمرار لوك في عمله في مجلس التجارة خلال الفترة التي كان فيها ضمن هيئة مستشاري شافتسبري عام 1672، وبين عمله في لجنة الشئون التجارية أثناء حكومة ويليام في تسعينيات القرن السابع عشر. وبالمثل، ثمة صلة مباشرة بين الفكر الاقتصادي الذي استهله في أول مؤلفاته الاقتصادية عام 1668، وبين أعماله الرئيسية عن تنظيم سعر الفائدة، وعن استرداد العملة التي كتبها على سبيل إسداء النصح إلى حكومة ويليام. كما توجد صلة مباشرة من حيث المحتوى - وإن لم يكن من حيث الدافع غالبا - بين تعهد شافتسبري الراسخ بالتسامح مع «المنشقين» ضد الأنجليكانية في عصر إعادة الملكية، وبين حملة لوك النشطة التي قادها على المستويين العام والخاص في العقدين الأخيرين من حياته، وكانت تنادي بالتسامح وحرية الصحافة. وجلي أيضا الرابط بين إصرار شافتسبري المتأخر نوعا ما أثناء «أزمة الإقصاء» المزعومة (الكفاح من أجل استبعاد جيمس - دوك يورك والأخ الكاثوليكي للملك تشارلز الثاني - من خلافة العرش) على الأساس النيابي للشرعية السياسية، وبين دفاع لوك الهائل في عمله «رسالتان في الحكم» عن حق الأفراد في ألا يحكموا إلا بالتراضي، وحقهم في التصدي للسلطة الجائرة ومناهضتها.
لا شك أن حجم هذا التأثير يرجع غالبا إلى مجال الخبرة الذي انفتح عليه لوك جراء عمله لدى شافتسبري، والرؤية العملية الجديدة تماما للحياة السياسية والاجتماعية التي أتاحتها له تلك الخبرة. لكن من الواضح أيضا أن هذا التأثير كان شخصيا بدرجة كبيرة؛ فعلى مدار حياة لوك كان لديه العديد من الأصدقاء المقربين، وعدد أكبر بكثير من الأصدقاء الذين رغم كونهم أقل قربا منه، فإنهم أيضا كانوا رجالا ونساء ذوي نفوذ أو ثروة هائلين أو شديدي الذكاء للغاية؛ نبلاء سياسيين أمثال بيمبروك وسومرز، وعلماء أمثال روبرت بويل وإسحاق نيوتن، وعلماء لاهوت مثل ليمبورخ. ومع أن شافتسبري أحب لوك كثيرا واحترمه كإنسان، فإنه كان بالطبع سيدا بقدر ما كان صديقا. ومع أنه كان جليا أن صداقتهما غير متكافئة، فإنها لم تكن قط تفتقر إلى الطاقة الوجدانية؛ فعلى مدار الستة عشر عاما تلك كان من الواضح أن شافتسبري - راعي لوك الأكبر - قد جعل منه رجلا مختلفا تماما.
شكل : راعي لوك الأكبر، الإيرل الأول لشافتسبري، الوزير البارز الذي سيصبح فيما بعد خصما لدودا لتشارلز الثاني.
تشكلت حياة لوك في مرحلة النضج من شخصيتين مؤثرتين كونتا معا ثنائيا غريبا ؛ الأب غير البارع الذي يفشل فشلا ذريعا، ورجل البلاط اللامع غير الجدير بالثقة والمدهش إلى أبعد حد، الذي فشل فشلا مريعا في نهاية حياته، وهو ثنائي غريب لكنه كان مفيدا إلى حد كبير؛ حيث ساعد كل منهما على نحو رائع في تعويض النقائص الموجودة في مخيلة الآخر: وساوس الأب الكئيبة التي يتعذر محوها، وقوة شافتسبري ورعونته وعدم شعوره بالمسئولية. ومن واقع الصراع بين الشخصيتين - وبعد وفاة كليهما - تبلور الإطار الفكري الاستثنائي لفلسفة لوك.
من المؤكد أن الانتقال إلى مرحلة الالتزام بالفهم الفلسفي، وهي ثالث مرحلة مؤثرة في حياة لوك، كان أكثر تدرجا وأقل وضوحا لغير المطلعين بالمقارنة مع انتقاله إلى وستمنستر وأكسفورد، أو مع انضمامه إلى خدمة شافتسبري. ويعود انشغال لوك بالقضايا الفلسفية المتعلقة بالسلطة السياسية والتسامح الديني، وتلك المتعلقة بعلم الأخلاق ونظرية المعرفة، إلى أواخر الخمسينيات من القرن السابع عشر على الأقل. وليس ثمة ما يدعو في حقيقة الأمر إلى افتراض أن لوك ما كان ليقدم هذا الكم المستفيض من المؤلفات الفلسفية والفكر الفلسفي لو كان دخل سلك الرهبنة ولم يلتق شافتسبري قط وظل في أكسفورد لبقية حياته؛ أو أنه ما كان لينجح قط - إلى أن يصبح طاعنا في السن ويصيبه المرض - في تحرير نفسه من المسئوليات السياسية والعامة التي أغرقته فيها خدمة شافتسبري منذ البداية. لكن رغم استمرار الفلسفة والسياسة في تنافسهما على الاستحواذ على طاقاته واهتمامه منذ عام 1667 وحتى قبيل وفاته، فإن التوازن بينهما تحقق بدرجات متفاوتة للغاية في مختلف مراحل حياته.
حتى عام 1667، أثناء الخمسة عشر عاما التي قضاها لوك في أكسفورد كطالب في كلية كنيسة المسيح، اقتصرت كتاباته الفلسفية في الأساس على عملين رئيسيين: أولهما مقالان حول أوجه الضعف في المطالبات التي تنادي بالتسامح الديني؛ أحدهما باللغة الإنجليزية والآخر باللاتينية، كتبا عامي 1660 و1661 ولم ينشرا حتى القرن العشرين، وكان عنوان هذا العمل «مقالان في الحكم». وثاني هذين العملين مجموعة من المحاضرات اللاتينية حول قانون الطبيعة، ألقاها عام 1664 باعتباره «مسئول الفلسفة الأخلاقية» في كلية كنيسة المسيح ، ولم تنشر أيضا حتى القرن العشرين، وعنوانها «مقالات حول قانون الطبيعة». ظلت القضايا المتعلقة بنطاق الحرية الدينية وحدودها، والكيفية التي ينبغي أن يعيش الأفراد وفقا لها، قضايا محورية في فكر لوك فيما تلا ذلك من عقود، بيد أن هذين المؤلفين الأولين كانا يفتقران إلى سعة الأفق والنظرة الشمولية والأهمية التي اتسمت بها أعماله الناضجة، كما أنهما أظهرا توجها سياسيا مغايرا للغاية. لم تكن أهم فرصة فكرية حظي بها لوك في أكسفورد خلال تلك السنوات، أنه بدأ يصوغ ما ينبغي أن نعتبره الآن آراء فلسفية وشرع في التعبير عنها بالفعل، وإنما كانت بالأحرى فرصة المشاركة في الأبحاث الكيميائية والطبية لبويل وهوك، ولوار وسيدنهام؛ فقد تعلم لوك من هؤلاء الرجال قيمة الملاحظة المستمرة والمنضبطة، وقيمة التواضع وسعة الصدر والمثابرة في سعي الإنسان نحو فهم أسرار الطبيعة. وكما عبر سيدنهام عن ذلك عام 1669 في مخطوطة كتبها لوك بخط يده:
تنشأ المعرفة الحقيقية في العالم عن طريق التجربة والملاحظة العقلانية في البداية، لكن الإنسان الطموح الذي لا يكتفي بالمعرفة التي هو مؤهل لها، والتي كانت نافعة له، سيحتاج إلى أن يتغلغل في الأسباب الكامنة وراء الأشياء، وأن يؤسس المبادئ، وأن يضع لنفسه مسلمات وثوابت حول عمليات الطبيعة وآلياتها؛ ومن ثم يظن عبثا أن الطبيعة - أو في الحقيقة الإله - ينبغي أن تسير طبقا للقوانين الواردة في مسلماته وثوابته تلك.
شكل : أكسفورد في منتصف القرن: تفاقمت مشكلة التسامح الديني إلى حد المشاحنات المشينة في الكلية (إلقاء الأردية الكهنوتية البيضاء في بالوعات الكلية).
كانت هذه الخلفية من البحث العلمي التجريبي هي ما تأثر به لوك أثناء قراءته للفيلسوفين الأوروبيين العظيمين للثورة العلمية المبكرة؛ رينيه ديكارت وبيير جاسندي، اللذين أثرت آراؤهما فيه تأثيرا عميقا في أواخر الستينيات من القرن السابع عشر. كانت آراء لوك الناضجة أقرب في نواح عدة وعلى نحو ملحوظ إلى آراء جاسندي منه إلى آراء ديكارت، لكن - كما أخبر الليدي ماشام - كانت آراء ديكارت هي أول ما جذبه بقوة إلى مجال الفلسفة، وإلى محاولة فهم ماهية المعرفة التي يكون الإنسان «مؤهلا لها» على أسس دقيقة ومنهجية. كان عمله الصادر تحت عنوان «مقال في الفهم البشري» في حد ذاته، كما ذكر لوك في «رسالة إلى القارئ»، محاولة ل «اختبار قدراتنا، ومعرفة الأشياء التي كان فهمنا مؤهلا أو غير مؤهل للتعامل معها.» وفي الحقيقة، لم يكن معظم المقال قد كتب حتى أواخر الثمانينيات من القرن السابع عشر، إلا أن ثمة مسودات مطولة حول كثير من الحجج الرئيسية كتبت في وقت مبكر من عام 1671 تقريبا. وبالإضافة إلى هذه المسودات الأولى للمقال، كتب لوك أيضا أعمالا أخرى مهمة في هذه الفترة؛ فقد كتب عام 1668 مخطوطة مطولة حول عدم جدوى جهود الحكومة لتنظيم أسعار الفائدة، وكتب عام 1667 مقالا عن التسامح، تغلب عليه روح سياسات شافتسبري في هذا الصدد، ويتنافى على نحو قاطع مع آرائه الأكثر سلطوية التي كان يعتنقها في مطلع الستينيات من القرن السابع عشر. بيد أنه في المجمل كان منهمكا للغاية إبان هذه السنوات في الأعمال الإدارية لشئون شافتسبري العامة أو الخاصة، بوصفه صاحب مستعمرة ومالك أراض عظيما ووزيرا للملك، حتى إن تلك الأعمال لم تكن تدع له متسعا من الوقت للاستغراق في عمل فلسفي ممتد. وبحلول عام 1675، كانت خصومة شافتسبري لحكومة الملك تحت رئاسة دانبي قد بلغت حد المعارضة الصارمة، وكان لوك نفسه معتل الصحة للغاية. وعلى مدار السنوات الثلاث والنصف التي أعقبت ذلك - وهي الفترة التي كان فيها شافتسبري معرضا لخطر كبير - سافر لوك إلى فرنسا، وكان ما ينشده من ذلك غالبا هو مرافقة كالب بانكس، وهو ابن أحد أغنى معاوني شافتسبري السياسيين. وخلال سفرياته التقى لوك العديد من الأطباء والعلماء ورجال اللاهوت الفرنسيين، وكون صداقات حميمة مع العديد منهم، كما ترجم بعضا من المقالات الأخلاقية لبيير نيكول الجنسيني، لكنه فيما يبدو لم يشرع في العمل على أي من مؤلفاته الأصلية الخاصة.
لكنه عاد إلى لندن في نهاية شهر أبريل عام 1679، وشاب حياته شيء من الغموض خلال السنوات الأربع التي أعقبت ذلك، حتى أواخر صيف عام 1683، عندما فر هاربا إلى روتردام. كان راعيه شافتسبري قد فقد بالفعل نفوذه السياسي في البلاط قبيل الوقت الذي فر فيه لوك إلى فرنسا عام 1675. وحتى في تلك اللحظة، لم تكن خدمات لوك له «في مكتبته وحجرته الخاصة» تقتصر على «شئون وزير الدولة»؛ فقد كتب لوك، على سبيل المثال، خلال هذه الفترة مسودة منشور عام 1675، تحت عنوان «خطاب من شخص رفيع الشأن إلى صديقه في البلاد»، الذي يعرض برنامج معارضة شافتسبري، وحاز هذا المنشور مكانة مميزة بحرقه على يد منفذ حكم الإعدام العلني بالمدانين. وبحلول عام 1679 اشتدت معارضة شافتسبري لسياسات حكومة تشارلز الثاني، وخلال السنوات الأربع التالية لذلك، في خضم «أزمة الإقصاء»، نظم حركة سياسية وطنية ضد الملك وقادها. رمت هذه الحركة إلى تعزيز القيود الدستورية على السلطة الملكية، وحماية حقوق مجلس العموم المنتخب، وإقصاء جيمس، الأخ الكاثوليكي لتشارلز الثاني، من خلافة العرش. كان هذا كفاحا مريرا وخطيرا، يصعب فيه دائما تمييز الخط الفاصل بين ممارسة الحقوق السياسية المعترف بها قانونا، وبين ارتكاب الخيانة العظمى؛ لكن لم يكن هناك أدنى شك في رغبة تشارلز العارمة في رسم هذا الخط في أول مرحلة ممكنة. وبحلول عام 1682، إن لم يكن قبل ذلك، كان شافتسبري نفسه ولوك وألجرنون سيدني ولورد ويليام راسل وإيرل مدينة إسكس يقامرون بحياتهم. نجح شافتسبري في خضم تلك الأحداث، على أقل تقدير، أن يولي دبره إلى هولندا؛ حيث سرعان ما وافته المنية هناك. لكن في شهر يونيو من عام 1683، بعد فشل «مؤامرة راي هاوس» في اختطاف تشارلز وجيمس في طريق عودتهما من سباقات نيوماركت، ألقي القبض على كل من سيدني وراسل وإسكس، بعدها انتحر إسكس في برج لندن، فيما أعدم راسل وسيدني شنقا. كان من ضمن الاتهامات التي وجهت ضد سيدني أثناء محاكمته كتابة مخطوطات تحريضية؛ فقد شن سيدني هجوما مطولا على كتاب السير روبرت فيلمر المغالي في تأييد الحكم الملكي بعنوان «السلطة الأبوية» (الذي يدافع فيه عن الحقوق الإلهية للملك)، ذلك العمل الهجومي الذي نشر لاحقا بعد إعدام سيدني ، بعنوان «محادثات عن الحكومة»؛ وبالطبع كان لوك أيضا يخضع لرقابة شديدة من قبل الحكومة في أواخر صيف عام 1683، مع أنه لم يكن غالبا بالشخصية التي تحظى بالأهمية السياسية التي تضاهي أهمية كل من إسكس أو راسل أو حتى سيدني، لكن من المؤكد أيضا - كما يتضح الآن على ما يبدو - أنه كانت بحوزته في ذلك الحين مخطوطة تحريضية للغاية، وهي «رسالتان في الحكم»، هاجم فيها النظريات السياسية لفيلمر، وقد أيدت صراحة حق الشعب في الثورة ضد الملك حتى لو كان ملكا شرعيا، متى أساء هذا الملك استخدام سلطاته على نحو سافر. وكما اتضح، تمكن لوك من الهروب إلى هولندا في سبتمبر عام 1683؛ ومع أن منحته الجامعية في كلية كنيسة المسيح قد سحبت منه عام 1684 بناء على أوامر ملكية، وعلى الرغم من المحاولات الفاشلة التي قامت بها الحكومة البريطانية عام 1685 لمطالبة الحكومة الهولندية بتسليمه هو وآخرين من حزب الويج (الذي صار يعرف في القرن التاسع عشر بحزب الأحرار البريطاني)، ممن كانوا قد غادروا البلاد أيضا، فإن الخطر الذي كان يتهدده صار أقل وطأة منذ ذلك الحين فصاعدا.
لا يزال الوقت الفعلي الذي شرع فيه لوك في كتابة الرسالتين والغرض الذي دفعه إلى ذلك غير واضحين، ومن المحتمل أن يظلا كذلك. كان التحريض عملا خطيرا في إنجلترا خلال القرن السابع عشر، وكان عمله «رسالتان في الحكم»، الذي كتب في خضم أحداث أزمة الإقصاء، عملا شديد التحريض. وبدءا من عام 1683 على الأقل فصاعدا، أظهر لوك قدرا كبيرا من الحيطة والتكتم، لكننا نعرف معلومة أو معلومتين من تفاصيل ما كان يفعله لوك خلال تلك السنوات؛ ففي عام 1680، على سبيل المثال، قضى لوك قدرا لا بأس به من وقته في أوكلي؛ حيث يوجد المنزل الريفي لصديقه جيمس تايرل، الذي نشر هو نفسه عام 1681 هجوما على النظرية السياسية لفيلمر بعنوان «لا سلطة أبوية للملوك». وفي الفترة ما بين عامي 1680 و1682 تقريبا، تعاون تايرل ولوك معا في مخطوطة مطولة (لم تنشر بعد)، يدافعان فيها عن مبادئ التسامح أمام أحد المدافعين الأنجليكانيين البارزين، وهو إدوارد ستيلينجفليت. ومن بين كثيرين، كان تايرل - كما أورد أحد جواسيس الحكومة - هو من أودع إليه لوك «كثيرا من أوراقه» بينما كان يستعد لمغادرة أكسفورد في يوليو عام 1683. وبالنسبة إلى أتباع شافتسبري السياسيين خلال تلك الأعوام، كانت مهمتا الدفاع عن حقوق «المنشقين» السياسية والدينية، ونقد أقوى منظر إنجليزي في مجال الحكم الملكي المطلق، تحظيان بقدر كبير من الأهمية.
عندما هرب لوك من البلاد في أواخر صيف عام 1683 كان قد تجاوز سن الخمسين، ولم يكن قد نشر بعد أي من أعماله المهمة. كان العمل الرئيسي الوحيد الذي ربما نكون موقنين أنه كتب بغرض النشر، «رسالتان في الحكم»، يشكل في ذلك الحين مصدر خطر أكثر منه مدعاة للتفاخر والزهو بالنفس. من ناحية أخرى، مع أن المنفى كان بغيضا وخطيرا في بعض النواحي، فقد أتاح له عددا من الفرص التي من بينها أنه كون العديد من الصداقات، بعضها كان صداقات حميمة للغاية، وسط مجتمع التجار الإنجليز وعلماء اللاهوت الهولنديين، وبين اللاجئين الفرنسيين البروتستانت بعد إلغاء «مرسوم نانت» عام 1685. ومن الفرص الأخرى التي أتاحها له المنفى، أنه وفر له الوقت الكافي للتفكير بأسلوب منهجي ومسهب، دون الخوض في الأحداث السياسية المباشرة المشتتة للانتباه. ربما لم يكن لوك يتمتع بصحة جيدة، ولم تكن احتمالات نجاحه الدنيوية واعدة، لكنه وجد على الأقل الفرصة ليحشد طاقاته ويترك إرثا قيما للأجيال القادمة؛ وفي غضون تلك السنوات كتب كلا من «مقال في الفهم البشري»، و«رسالة في التسامح».
في عام 1688 تحسنت احتمالات نجاحه الدنيوية تحسنا كبيرا مع وفود البروتستانتي ويليام - أمير أورانج - إلى إنجلترا، وهروب الملك جيمس الثاني الذي كان ينتمي إلى طائفة الروم الكاثوليك. وفي مطلع عام 1689، عاد لوك إلى إنجلترا، وطبعت خلال ذلك العام أعماله الثلاثة الكبرى؛ ظهر عملان منها بلا اسم؛ فقد نشر كتاب «رسالة في التسامح» باللغة اللاتينية أولا في هولندا خلال شهر أبريل، ثم أعيد نشره باللغة الإنجليزية في لندن خلال شهر أكتوبر، كما نشر كتاب «رسالتان في الحكم » في لندن في نهاية هذا العام. لكن صدر عمل واحد، هو «مقال في الفهم البشري»، في منتصف ديسمبر في مجلد كبير فخم يحمل اسم لوك بكل وضوح في صفحة العنوان، وكان هذا هو باكورة الأعمال البارزة المنشورة له.
في الأعوام الخمسة عشر الأخيرة في حياته، قبل وفاته في عام 1704، ظلت التزاماته في تنوع مستمر كشأنها دائما، وبعضها كان سياسيا في أضيق مفهوم، مثل: تعزيز الموقف الدستوري والسياسي لويليام، وإعادة تنظيم العملة الإنجليزية، وتأسيس نظام ائتماني فعال للدولة الإنجليزية من خلال بنك إنجلترا الجديد، وتأسيس المعاهد التي تستطيع الحكومة من خلالها أن تمارس مسئولياتها على نحو أكثر فاعلية من أجل ازدهار التجارة الخارجية الإنجليزية. كان للوك نفسه دور فاعل في كل عمل من تلك الأعمال؛ إذ كان منهمكا في الأعمال الثلاثة الأخيرة بوصفه مستشارا فكريا جديرا بثقة رجال الدولة البارزين، وفي مجال التجارة الخارجية بوصفه موظفا عموميا في «مجلس التجارة» الجديد يحصل على مكافآت باذخة. وكانت كل مهمة من تلك المهام هي بقدر ما تنفيذا لبرنامج شافتسبري في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن السابع عشر، وهو برنامج للإمبريالية التجارية الممنهجة للغاية التي لم تكن تحظى باهتمام إنجليزي إلا في نطاق محدود. أما فيما يتعلق بالترتيبات القانونية والسياسية لتسوية مطالبات الثورة المجيدة، فقد لعب فيها لوك دورا أكثر حصافة وأقل تأثيرا للغاية. يبدو أيضا أن المحصلة النهائية في القضية المحورية المتعلقة بالإصلاح الدستوري وزيادة النفوذ السياسي للمجلس التشريعي المنتخب، كانت على الأرجح أبعد ما يكون عن أمنياته، على عكس الحال مع المحصلة النهائية للسياسة النقدية أو المالية أو الاقتصادية؛ وربما الأهم أنه من الجلي أيضا أن الشكل السياسي لتسوية مطالبات الثورة شغل وجدانه ومعتقداته على نحو فاق كثيرا التفاصيل الفنية للسياسة الاقتصادية للحكومة، وأنه رأى أهمية الشكل السياسي لتسوية مطالبات الثورة في سياق أوسع نطاقا وأقل تعصبا بكثير.
بدأ لوك يرى في خضم الجدل الدائر حول حركة الإقصاء - ولاحقا في هولندا في الصحبة المتسامحة والمحنكة للتجار، وعلماء اللاهوت الأرمينيين الهولنديين، وبعض اللاجئين الهوجونوت الأصغر سنا - أن ثمة علاقة وطيدة تربط مصالح الحركة البروتستانتية الأوروبية بمصالح الحرية السياسية. وجاء الاستبداد الكاثوليكي للملك لويس الرابع عشر - بالتهديد العسكري المباشر للدول البروتستانتية الباقية، والالتزام الشديد بالتوحيد الديني - ليجسد على الجانب السياسي كل ما مقته لوك؛ الالتباس الشديد بين غرور البشر وطموحهم وفسادهم، وبين مقاصد الله. وما إن انضم لوك إلى حاشية شافتسبري حتى تبدلت آراؤه بشأن التسامح مع «المنشقين» عن الكنيسة الرسمية، لتصير توجها أقل صرامة وأكثر عملية. وفي السنوات اللاحقة تراجع الفصل والتمييز، وبدأ لوك يرى (والأهم أنه بدأ يشعر) أن التسامح لم يعد قضية تتعلق بسياسة الدولة، وإنما صار تدريجيا قضية تتعلق بحقوق الإنسان الفرد. وفي المنفى لاحظ لوك بخوف متزايد على مدار ست سنوات تقريبا، أن مستقبل أوروبا السياسي والثقافي - بل وربما مستقبلها الديني أيضا - يسير نحو نتيجة غير واضحة بينما انتقلت السلطة الملكية الإنجليزية إلى ملك كاثوليكي، وفيما هدد لويس الرابع عشر بالاستيلاء على آخر المعاقل الكبرى للبروتستانتية الأوروبية في هولندا، وألغى مرسوم نانت، وانشغل بسحق كنيسة الهوجونوت (المسيحيين الفرنسيين)، وإرغام أتباعها البائسين على اعتناق العقيدة الكاثوليكية بالمعنى الحرفي للإرغام (هذا الحدث الأخير كان مأساويا بدرجة هائلة.) سطر لوك عمله «رسالة في التسامح» كرد فعل على تلك الأحداث، لدرء خطر أوروبي لا خطر إنجليزي فحسب، وقد نشر هذا العمل - على خلاف الكتب الأخرى التي نشرها إبان حياته - باللغة اللاتينية أولا، وهي اللغة التي لم تكن تزال تعتبر اللغة العالمية للمفكرين الأوروبيين.
شكل : أول دفاع علني للوك عن حق التسامح الديني. لاحظ النسخة المنشورة في هولندا (التي لم تكن تحمل اسمه)، والإهداء المتحفظ إلى صديقه ليمبورخ، والإقرار المكتوب باللغة اللاتينية بهويته كمحب للسلام وكاره للاضطهاد، وكرجل إنجليزي، وهو إقرار صاغه على القدر نفسه من التحفظ الذي كان عليه الإهداء.
بحلول عام 1689 حملت «الرياح البروتستانتية» ويليام أمير أورانج بسلام عبر القنال الإنجليزي، وأخيرا بدأت كفة الميزان المحبذة لدى لوك ترجح. ترجم كتاب «رسالة في التسامح» إلى الإنجليزية على يد ويليام بوبل، وهو تاجر من أنصار الحركة التوحيدية، وكما رأينا، فقد نشر في إنجلترا في وقت لاحق من العام نفسه الذي نشر فيه في هولندا. كان الكتاب أكثر تطرفا بكثير من حيث إصراره على أن أية محاولة للتدخل البشري في المعتقدات أو العبادة الدينية هي اجتراء سافر يصل إلى حد الكفر، مقارنة بحديثه عن الإعفاءات المتواضعة عن «المنشقين»، التي ظن ويليام وحكومته أن من الحكمة تقديمها. وفي أبريل من العام التالي، تعرض الكتاب لهجوم مسهب في عمل مطبوع كتبه جوناس بروست - أحد رجال الدين من أكسفورد - ليكون بذلك أول عمل من أعمال لوك يلقى هذا الشرف. وخلال السنوات القليلة التالية، نشر لوك عملين مفصلين ردا على بروست، وأعقب هذا رد آخر من بروست نفسه.
لكن لوك لم يصر فقط على عدم إفشاء أمر تأليفه لكتابيه «رسالة في التسامح» و«رسالتان في الحكم»، بل كان أيضا يصاب بحالة هيستريا شديدة عندما كان أصدقاؤه يهددونه - قصدا أو سهوا - بكشف أمره. حتى ليمبورخ الذي كان لوك وفيا له من صميم قلبه، تعرض لتوبيخ شديد من لوك لاعترافه إلى أصدقاء مشتركين لهما في هولندا بأمر تأليف لوك لكتاب «رسالة في التسامح»، ونال تايرل التعيس، الذي كانت علاقة لوك به تزداد توترا، حظه من التأنيب؛ حيث وبخه لوك بعنف بسبب نسبه المقالين إليه. وحتى وقت متأخر من عام 1698، رفض لوك بعناد (مع أنه كان يمر حقا بظروف مضطربة للغاية على نحو يتعذر إنكاره)، أن يعترف كتابيا - ولو حتى لواحد من أقرب أصدقائه وأكثرهم ائتمانا، وهو ويليام مولينيو - أنه فعلا صاحب كتاب «رسالتان في الحكم»، ومما لا شك فيه أنه بحلول ذلك الوقت كانت مسألة تأليفه هذين العملين معروفة للجميع. من الواضح - ليس فقط من منطلق شروط وصيته، لكن أيضا من منطلق بعض مواقف الإطراء على الذات التي كانت تحدث على استحياء ملحوظ (أعمال جون لوك، المجلد الرابع) - أنه استمر يجيز حتى مماته على الأقل الضروريات التي تقتضي مناقشة حججها؛ فضلا عن ذلك، فقد أشرف بعناية على طباعة طبعة ثانية من كتاب «رسالتان في الحكم» عام 1694، وعمل باجتهاد وجدية على إصدار طبعة أخرى تضم بعض الإضافات المهمة التي لم تظهر إلا بعد وفاته.
شكل : ترهيب الهوجونوت: محور التركيز الأساسي ومدعاة التأليف الأولى لأول عمل منشور يدافع فيه لوك عن حق التسامح الديني.
نشر لوك أيضا خلال تلك السنوات عددا من الأعمال الأخرى ذات الأهمية؛ تناول اثنان منها - نشرا عامي 1691 و1695 - موضوع نظام سك العملة، وصدر عمل ثالث بعنوان «آراء في التربية» عام 1693، وطبعت منه خلال السنوات القلائل التالية ثلاث طبعات. ظهر هذا العمل في الأساس في صورة سلسلة من الخطابات المفصلة إلى أحد الأصدقاء، وهو رجل من طبقة النبلاء يدعى إدوارد كلارك من سومرست، وزوجته ماري، مقدما لهما النصيحة بشأن صحة أطفالهما وتنشئتهم، ويعتبر هذا العمل من أكثر أعمال لوك سهولة واستساغة، فهو يعرض وجهة نظر موضوعية على نحو ملحوظ حول التطور النفسي للأطفال على المستويين الفكري والأخلاقي. وبالإضافة إلى ما يلقيه هذا العمل من ضوء على مفهوم لوك حول الكيفية التي يصير بها الإنسان كائنا مفعما بالإنسانية (عن طريق تعلم التحكم في رغباته الأقل استحسانا في الأساس)، فعلى ما يبدو أنه حظي أيضا ببعض الأهمية التاريخية من خلال تصويره أساليب الإنجليز في تدريب أطفالهم على استخدام المرحاض، على الأقل بين الطبقات المثقفة. كان إعراض لوك عن الاعتراف بتأليفه تلك الأعمال أقل بالطبع، مع أنه في الواقع لم ينشر أيا منها باسمه في البداية، لكن في عمله الأخير «معقولية المسيحية» الذي ظهر عام 1695، وهو عمل مهم بلا شك، عاد لوك بإصرار إلى تكتمه الشديد؛ وكما اتضح لاحقا، كان لديه سبب وجيه لذلك؛ حيث تبين أن الكتاب كان مثار جدل وخلاف على نحو بالغ، إذ هاجمه جون إدواردز مرتين خلال عامين، مدعيا أنه ينتمي إلى فكر الحركة «السوسينية»؛ وهي حركة غامضة من حركات الهرطقة الأوروبية تؤكد على سلطة العقل والكتاب المقدس، رفضت عقيدة «التثليث»، وجعلها إدواردز هي والإلحاد على حد سواء. رد لوك على هذين الهجومين في «دفاعين» لا يحملان اسمه، ويشوبهما الخداع إلى حد ما، وما زاد الأمور سوءا أنه تعرض للهجوم مرة أخرى عام 1696 لأسباب مشابهة، لكن هذه المرة على يد خصم أكثر شراسة، وهو إدوارد ستيلينجفليت شخصيا، المدافع الأنجليكاني عن التعصب الديني، الذي تعاون لوك وتايرل معا لدحض آرائه إبان الجدل الدائر خلال أزمة الإقصاء، والذي كان في ذلك الوقت أسقف ووستر.
كان لهذا الهجوم أثر مدمر للغاية؛ ليس فقط لأنه كان من المنطقي جدا توجيه الاتهام باتباع الفكر السوسيني (على عكس الاتهام بالإلحاد) بسبب توافقه مع أفكار لوك الدينية، لكن أيضا لأن ستيلينجفليت اختار ألا يستند في هجومه هذا إلى كتاب «معقولية المسيحية»، ذلك الكتاب الذي لم يكن لوك على الأرجح ليعترف بتأليفه حتى هذه اللحظة، وإنما إلى كتاب «مقال في الفهم البشري»، الذي لم يكن باستطاعته غالبا من حيث المبدأ أن ينكره نظرا لأنه نشر باسمه، والذي كانت تساوره رغبة شديدة في الدفاع عنه على أية حال. رد لوك على ستيلينجفليت ردا وافيا في ثلاثة أعمال أخرى عام 1697، وبغض النظر عن تعديلات الطبعة الرابعة من كتابه «مقال في الفهم البشري» التي ظهرت عام 1700، مثلت هذه الردود في الواقع آخر ظهور فكري معلن له في حياته.
في هذه المرحلة من حياة لوك بدأ نطاق اهتماماته يضيق، وبات في مقدورنا أن نميز على نحو أكثر وضوحا استراتيجية وأساليب حمايته لإرثه الفكري وأساليبه في ذلك. وحري بنا أن نرجئ التقييم المفصل لنطاق إنجازاته الفكرية وحدودها حتى الفصلين التاليين، لكن ربما يقتضي التوضيح أن نتناول باختصار هنا بعضا من الصراعات الأكثر تعميما في هذا الإرث الفكري، والآثار العملية التي ترتبت عليها.
تحمل لوك أخيرا عند موته المسئولية الكاملة عن جميع أعماله المنشورة، لكنه ظل حريصا حتى ذلك الحين، كما رأينا، على فصل «مقال في الفهم البشري» - ذلك العمل الفلسفي الذي طالما أقر أنه من تأليفه - عن كتاباته السياسية والدينية التي كان ينشرها دون أن تحمل اسمه. لا نعرف بوضوح سبب حرصه الشديد على الفصل بينهما، بل ربما لم يكن هو نفسه يعرف السبب بوضوح؛ لكن أحد الأسباب المحتملة هو الاعتراف البسيط، الذي تأكد بداية من عام 1690 فصاعدا، بأن صعوبة السيطرة على الآراء المطروحة في أحد الأعمال، إنما تتجلى بقوة عند وضعها إلى جانب الآراء ذات الصلة بموضوعات أخرى، المطروحة في عمل واحد أو أكثر من الأعمال الأخرى. وكان الدفاع عن «مقال في الفهم البشري» أو تنقيحه مهمة كبيرة في حد ذاتها؛ وطالما كان لوك واثقا أنه أعظم إنجازاته، ولديه سبب وجيه لذلك.
تثير نظرية المعرفة المطروحة في «مقال في الفهم البشري» الشكوك من عدة نواح. كان لوك نفسه يرى أنها لم تشكك مطلقا في صحة العقيدة المسيحية، لكن لم يكن معظم معاصريه يشاركونه غالبا هذا القدر من الثقة، فلو كانت الحجج التي وردت في مقال الفهم البشري صحيحة، فلا بد أن التفاسير المحددة للمسيحية التي يؤمنون هم أنفسهم بها كانت حتما مزيفة. وللأسباب نفسها، ربما يكون رأي لوك المشكك في قدرة الإنسان على المعرفة، وتأكيده القوي على وجوب التسامح مع المعتقدات الدينية التي لا يؤمن بها المرء ولا يحبذها؛ هما مزيجا طبيعيا في شخص قناعاته الدينية واضحة وقوية، لكن بالنسبة إلى أي شخص آخر قناعاته الدينية أقل رسوخا، قد يبدو هذا المزيج اعتباطيا ومتزعزعا على نحو مقلق. لو أن أسباب لوك للإصرار على التسامح الديني كانت أسبابا دينية صريحة (وكذلك الأسباب التي قادته إلى رفض التسامح مع الكاثوليك والملحدين)، فإن عواقب إصراره - إلى جانب التأثير اللاحق لمفهومه عن قدرة الإنسان على المعرفة - ربما تهدف ببساطة إلى إضعاف القناعة الدينية لدى الآخر (وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير). كان هذا الخطر بالطبع هو ما عمد ناقدوه منذ البداية إلى تسليط الضوء عليه - ليس فقط في شكل مجادلات إدواردز الانفعالية المتدنية، أو غطرسة ستيلينجفليت الكنسية، لكن أيضا في شكل التقييمات الفكرية ذات الأهمية الحقيقية، مثل تقييم الفيلسوف الألماني العظيم لايبنتس. بخصوص مسألة التسامح تحديدا، ربما كان لوك يرى بوضوح قبيل وفاته عدم الاستقرار السياسي الشديد لموقفه بين الأنجليكانية السلطوية (مثل أنجليكانية ستيلينجفليت)، التي كانت ببساطة ظلا شاحبا للذرائع الاستبدادية لملك الشمس (لويس الرابع عشر)، وبين الربوبية المتحررة على نحو سافر، التي كان يعتنقها رجال أمثال جون تولاند الذي ادعى بلا خجل أنه يتعقب النتائج المترتبة على نظرية لوك للمعرفة. والحرية الدينية كما أيدها لوك هي حرية المرء في أن يكون متدينا بطريقته الخاصة، ولم تكن الحرية بكل تأكيد - حسبما رآها تولاند مبتهجا - أن يضرب المرء بالاعتبارات الدينية عرض الحائط.
ظهرت إشكالية مشابهة عام 1698 حول مفهوم الواجب السياسي الذي تناوله في عمله «رسالتان في الحكم»؛ كان صديق لوك الحميم، ويليام مولينيو، عضوا في البرلمان الأيرلندي الذي كان في ذلك الوقت معارضا لمجلس العموم الإنجليزي، فيما يخص أحقيته في التحكم في الاقتصاد الأيرلندي ومنع منتجاته من منافسة منتجات إنجلترا، وكان لوك نفسه معنيا عن كثب بصياغة سياسة الدولة الإنجليزية حول هذه المسألة، من خلال عضويته في مجلس التجارة. وفي عام 1698 نشر مولينيو كتابا حول تلك القضية بعنوان «قضية أيرلندا»، الذي أصبح فيما بعد واحدا من النصوص الكلاسيكية التي يدور موضوعها حول القومية الأيرلندية. رأى مولينيو في كتابه أن قيام أحد البلدان بتشريع قوانين لبلد آخر لا يتفق مع نظرية الحقوق السياسية الواردة في كتابه «رسالتان في الحكم»، وتسبب الكتاب في إساءة كبيرة بما استدعى إحراقه بناء على أمر من «مجلس اللوردات»؛ وفي غضون أشهر وفد مولينيو إلى إنجلترا ليلتقي للمرة الأولى بصديقه ويقيم معه. ومن سوء الحظ أنه ليس لدينا أدنى فكرة عما دار بينهما بهذا الصدد، لكن اللقاء كان على درجة كافية من الأهمية حتى مع عدم توافر أية معلومات لدينا عنه؛ ذلك لأن الحجج التي ساقها مولينيو حول تداعيات النظرية السياسية للوك تشابهت كثيرا مع حجج المستعمرين الأمريكيين خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الثامن عشر. وأيا كان ما اضطر لوك أن يقوله ردا عليه، فإنه كان سينطبق على نحو مباشر نوعا ما على الاستفادة التي كان يحققها مؤلفو الكتيبات والمتحدثون الرسميون الأمريكيون - بدءا من جيمس أوتيس إلى توماس جيفرسون - من كتابه. لكن يظل الأهم - كما أشار أحد نقاد مولينيو - أنه في حال أيرلندا، لم يكن ما تضمنته نظرية لوك (إن كانت طبقت من الأساس) أن طبقة الأعيان البروتستانتية الإنجليزية في برلمان دبلن كان لها حق التحكم في اقتصاد البلد القاطنة فيه، وإنما بالأحرى أن المواطن الكاثوليكي الأيرلندي المنشأ هو من كان له الحق في ذلك. من المستحيل أن تفسيرا كهذا كان سيروق إلى لوك على الإطلاق، بالنظر إلى مقته الشديد للكاثوليكية وإحساسه البالغ بالمخاطر الجغرافية والسياسية المحدقة بالبروتستانتية الأوروبية. (بحلول عام 1698 كانت قد مرت ثماني سنوات فقط على معركة بوين؛ أهم اشتباك عسكري اضطر ويليام الثالث أن يواجهه لتعزيز قبضته على التاج الملكي الإنجليزي.) كانت الحرية السياسية التي سعى لوك إلى الدفاع عنها في عمله «رسالتان في الحكم» حرية من أجل البروتستانت المقيمين داخل الدولة البريطانية، وليس ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن لوك كان سيعترض على توسيع نطاقها بما يشمل الكاثوليك الأجانب في الدول الكاثوليكية الأجنبية، ولكن لم يكن مقصودا بكل تأكيد أن تكون تحررا للكاثوليك الأيرلنديين من الحكم الملكي البريطاني.
شكل : معركة بوين، يوليو 1690: المعركة التي شهدت الانتصار العسكري المبدئي الذي أحرزه ويليام في أيرلندا، ولا تزال شعار انتصار البروتستانت على خطر الكاثوليكية المزعوم.
يعزى ببساطة بعض الأثر الذي خلفته كتابات لوك إلى الحجج التي احتوت عليها تلك الكتابات، وإن كان هذا ليس بالأثر الذي كان لوك سيرغب في تركه؛ فمن المحتمل أن كل فكر معقد عرضة له. لكن يعزى أيضا جزء من هذا الأثر - ربما بالأخص في «مقال في الفهم البشري» - إلى الشكل الذي وصلت به كتاباته إلى القراء، وإلى الفئة المعينة من القراء الذين وصلتهم تلك المؤلفات؛ ففي إنجلترا، ذاع صيت «مقال في الفهم البشري» بسرعة نوعا ما، حتى إنه استحوذ على اهتمام الجامعات (التي كانت بوجه عام معادية للأفكار الجديدة، ولا سيما تلك الأفكار التي رأت أنها أفكار هدامة من الناحية اللاهوتية) إبان حياة لوك، لكن القنوات التي وصل الكتاب من خلالها إلى العامة في أوروبا كانت أضيق نطاقا وأكثر وضوحا. كان أول جزء مطبوع من الكتاب في صورة ملخص باللغة الفرنسية، صدر في أمستردام ككتيب منفصل في فبراير عام 1688، لكنه كان معدا في الأساس لدورية فكرية بارزة تدعى «ذا بيبليوتيك يونيفرسال»، وقد أدرج في هذه الدورية أيضا. كما ظهرت مقالات نقدية مفصلة عن معظم أعمال لوك التالية لذلك، في دورية أو أخرى من مجموعة الدوريات الفكرية التي كانت تنشر في هولندا على مدار العقود القلائل التالية، وكان القائمون على تحريرها في سنواتها الأولى غالبا من اللاجئين البروتستانت الفرنسيين، أمثال بيير بيل وجان لو كلير. ونظرا لأن العديد من هذه الدوريات كان يحظى بانتشار واسع النطاق على نحو ملحوظ، فقد وصلت أعمال لوك إلى قطاع عريض من جمهور المفكرين، لا سيما في فرنسا، وبمعدل سريع نسبيا. ثمة قناة انتشار مهمة أخرى، كانت أيضا نتاج علاقات لوك بالبروتستانتية الفرنسية، وكانت وليدة المصادفة، والطابع الشخصي فيها أوضح؛ إذ تبادل جان باربيراك، أحد اللاجئين البروتستانت الفرنسيين، مراسلات مع لوك في السنوات الأخيرة من حياته. وفي أوائل القرن الثامن عشر، بدأ باربيراك سلسلته الرائعة من الترجمات والطبعات النقدية لجروتيوس وبوفندورف وغيرها من النصوص الأوروبية البارزة حول «قانون الطبيعة». وفي هذه الأعمال، قدم باربيراك للمرة الأولى ملخصا كاملا ومقيما بعناية فائقة لمضامين فلسفة لوك وكتاباته السياسية حول القضايا المحورية في مجالي الأخلاق والسياسة. وعلى مدار عدة عقود، كانت هذه النصوص تقرأ غالبا في العديد من البلدان الأوروبية أكثر من المؤلفات الحديثة الأخرى في مجالي الأخلاق والسياسة؛ إذ كانت تشكل موضوع فرع رئيسي في تدريس القانون، في مجموعة كبيرة من الجامعات البريطانية والأوروبية. ومثلما كان ديكارت وجاسندي هما مصدر إلهام معظم الفكر الفلسفي المهم لدى لوك في البداية، كانت دائرة خبراته وصداقاته الأوروبية هي الضمانة التي كفلت لأثره الفكري النجاة من خطر الانحصار في الجزر البريطانية.
خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة من حياته - حين كان لوك قد صار رجلا طاعنا في العمر ومعتل الصحة وذائع الصيت على نحو هائل - وجد لوك نفسه أخيرا في وضع يمكنه من أن يرى حياته ككل بوضوح، وأن يدرك حجم إنجازاته ومدلولها. ترجع أهم إنجازاته إلى تجربة منفاه ومشاقها؛ عندما كان لوك - الذراع اليمنى لشافتسبري - يزاحم من أجل أن يتبوأ المناصب العامة، ويصل إلى السلطة السياسية في بلاده، فعاش ما لم يكن مكيافيللي نفسه ليراه حياة من الفضيلة السياسية. وعندما عاد من المنفى عام 1689، استمر في أداء مسئولياته السياسية، لكنه في المنفى اكتسب لأول مرة في حياته مسئوليات أخرى أكثر إلحاحا، نبعت تلك المسئوليات في الأساس من تغير رأيه بشأن مسألة التسامح؛ فإذا كانت حرية الممارسة الدينية أو تقييدها هي ببساطة مسألة تخص سياسة الدولة، شأنها شأن التجارة الخارجية أو الدفاع، فإنه يستحيل أن يكون ثمة تعارض فعليا بين السياسة الدينية والفضيلة المدنية؛ لكن إذا كان حق الإنسان في عبادة الله بطريقته الخاصة هو حقا فرديا يأتي في مقابل أي نفوذ ممكن للدولة، فمن المهم والمحير إلى حد كبير أن تترك حدود السياسة الدينية لحكم الفضيلة المدنية غير الناضج. وبالنظر إلى العملين الفكريين الكبيرين اللذين تمخضا عن منفاه؛ «رسالة في التسامح» و«مقال في الفهم البشري»، فإن لوك صار لا يضع ثقته في القومية الإنجليزية والظروف السياسية التي تمر بها الدولة الإنجليزية، وإنما في تطبيق ثقافة تقوم على النوايا الحسنة المشتركة على المستوى الديني، والترويج لها ونشرها لدى جموع البشر الآخرين. ولا شك أن لوك استمر - بالرغم من الإعياء والمرض - في بذل قصارى جهده كي يجعل العالم بوجه عام، وإنجلترا بوجه خاص، بيئة أكثر أمانا لاستيعاب هذه الثقافة؛ بيد أن طاقاته الأساسية كانت موجهة نحو تأسيس هذه الثقافة نفسها، والوصول إلى فهم شامل لها، كما كانت موجهة أيضا نحو استكشاف الكيفية التي يمكن بها للقدرات البشرية أن تمكن الإنسان من العيش في تناغم مع عالم الله، وإدراك كونه يعيش على هذا النحو. عول لوك في مسعاه هذا تعويلا كبيرا على الدعم الوجداني الذي كان يلقاه من صديقيه ليمبورخ وويليام مولينيو، وعلى رجال أصغر سنا أمثال أنتوني كولينز - أحد أتباع مذهب الربوبية - وبيتر كينج الذي صار رئيس مجلس اللوردات فيما بعد. كان الوثوق في النوايا الحسنة الدينية المشتركة أيسر من الوثوق في مجرد آمال شخصية؛ بيد أنه عول أيضا - بل كان أيضا في حاجة إلى أن يعول - على أمل واحد على الأقل ذي طابع شخصي صرف؛ وهو الأمل في أنه كلما كان من الممكن فهم هذه الثقافة على نحو أفضل، صار من الأيسر الإيمان بها والعيش وفقا لها. وظل أمله العميق هو الإيمان بمستقبل للبشرية جمعاء، ليس مستقبل وحدة سياسية بعينها، وإنما مستقبل حضارة واعدة مداها الجغرافي وفترتها التاريخية غير محدودين.
لا شك أن الحركات التاريخية العظيمة لا تكون أبدا ثمرة مجهودات فردية، لكن من الإنصاف حقا النظر إلى حركة التنوير الأوروبية بوصفها الإرث الذي خلفه لوك، والذي يجمع كلا من انتصاراته ومآسيه على حد سواء. وكما اتضح لاحقا، فإن الإيمان بتلك الثقافة التي كان لوك يروج لنشرها والعيش وفقا لها لم يزدد سهولة بالوصول إلى فهم أفضل لها، وإنما ضعفت تلك الثقافة وانهارت على نحو مثير للقلق؛ فتراجعت النوايا الحسنة المشتركة على المستوى الديني أمام النوايا الحسنة المشتركة على المستوى العلماني، كما تراجعت الأخيرة أمام الجدالات العنيفة واللاذعة حول تحديد النوايا العلمانية الحسنة حقا. وكلما اتضحت وجهة نظره بشأن ما يمكن للإنسان معرفته، صارت وجهة نظره حول الكيفية التي يكون بها لدى الإنسان سبب وجيه لعيش الحياة أقل إقناعا. وإذا كان التنوير هو الإرث الذي خلفه لوك حقا، فإنه - على أغلب الظن - لم يكن بالإرث الذي تمنى أن يتركه.
ونحن جميعا نتاج إخفاقه في هذا الصدد.
الفصل الثاني
سياسة الثقة
ألف لوك في عام 1660 أول عملين مهمين له (يعرفان عموما باسم «مقالان عن الحكومة»)؛ أولهما مقال باللغة الإنجليزية عنوانه «سؤال: هل يجوز قانونا للحاكم المدني أن يفرض استخدام أمور حيادية فيما يختص بالعبادة الدينية ويحددها؟» والآخر مقال باللغة اللاتينية أشد إيجازا ولكنه أكثر منهجية حول نفس الموضوع.
شهد أيضا عام 1660 إعادة تشارلز الثاني أخيرا إلى العرش الإنجليزي، بعد مرور 11 عاما على محاكمة والده وإعدامه، حينما عاد إلى إنجلترا من منفاه عاقدا العزم على عدم مواصلة ترحاله وسفرياته مجددا. خلال العشرين عاما السابقة على ذلك، سعت سلسلة من الحكومات الإنجليزية المتعاقبة إلى فرض مجموعة كبيرة من الممارسات الدينية على رعاياها المتمردين، وهو ما كان يثير دائما الاستياء لدى الكثيرين ويلقى استحسانا عادة لدى قلة محدودة للغاية. وطالما كان الاضطراب السياسي والصراع الديني متلازمين على نحو معقد، تاركين الأغلبية العظمى من الأمة منهكة من النزاعات المستمرة، ومتعطشة للسلام والاستقرار. مما لا شك فيه أن مقالي لوك يعكسان ما كانت عليه الأجواء خلال هذا العام، ويتصديان لمسألة طالما كانت محور الجدل الديني والسياسي في العقود العاصفة التي أفرزت تلك الأجواء. ومع أن تفاصيل الحجج التي ساقها في كلا المقالين لم تكن ذات أهمية كبرى، فمن المهم أن نفهم الملخص الرئيسي للمسألة التي عالجاها، وأن نحدد الصعاب التي كانت تمثلها هذه المسألة بالنسبة إلى لوك الشاب.
كانت هذه المسألة في حد ذاتها تتعلق بوضوح بالجانب التطبيقي؛ ففي مجتمع آمن كل فرد فيه فعليا بصحة الدين المسيحي، لكن سادت فيه اختلافات عميقة في الآراء حول كيفية ممارسة هذا الدين، من الذي ينبغي أن يقرر أي من الممارسات الدينية جائز وأيها محظور؟ هل ينبغي أن توجد، على سبيل المثال، كنيسة مسيحية واحدة تدار تحت رعاية السلطات السياسية، يكون كل فرد من الرعايا مجبرا على الانتماء إليها، ومرغما على ممارسة العبادة في إطارها على النحو الذي أملته عليه؟ أم هل ينبغي أن تكون العبادة الدينية - بما أنها تعني بمفهومها الصحيح التعبير عن الإيمان الديني الصادق - مسألة متروكة تماما لضمير كل فرد، معاملة خاصة بين الإنسان وربه، تتشكل وفقا لما يراه كل إنسان مؤمن مناسبا له؟ من الصعب لأي مسيحي أن ينكر كلية قوة أي من هذين المفهومين، وكلاهما له ما يؤيده في نصوص العهد الجديد. استشعر لوك نفسه في هذا الوقت قوة كلا المفهومين بوضوح؛ قوة وجود مصدر واحد للدين، وأيضا قوة الواجب وآداب السلوك، لكن لم تكن لديه صعوبة في المفاضلة بينهما وتحديد أولوية كل منهما بالنسبة إلى الآخر.
لو أن ممارسة الدين تترك بسلام للاختيار الشخصي، و«لو أنه يسمح لكل فرد أن يمارس العبادة الدينية بطريقته الخاصة، فلا يتظاهر - بدافع الزهو الشديد بذاته - بأنه أكثر معرفة وأكثر اهتماما بروح غيره من البشر وخلاصهم الأبدي أكثر من اهتمامه بنفسه»، فهذا من شأنه حقا أن «يعزز السلام في العالم، ويعيد في النهاية تلك الأيام المجيدة التي ظل الإنسان يسعى وراءها منذ زمن بعيد، ولكن بطريقة خاطئة» (مقالان عن الحكومة). لكن أظهرت الصراعات الدينية التي استمرت على مدى عشرين عاما خطورة هذا التسامح؛ إذ إن جميع «هذه الثورات المأساوية التي استغلت المسيحية كل هذه السنوات اعتمدت على هذه الركيزة، حتى إنه ما من مخطط شرير إلا وكان يرتدي قناع الدين، وما من تمرد إلا وكان يترفق بنفسه فيتخفى في زي الإصلاح ... وما من أحد شرع في تخريب الدولة إلا وادعى أنه لإعلاء الدين.» فالخلط ما بين «الطموح والانتقام» و«مشيئة الله» هو الذي مزق إنجلترا (مقالان عن الحكومة). وكان إعلاء مبادئ المصدر الواحد للدين (ممثلا في الكنيسة) على مبادئ الواجب وآداب السلوك هو ما حرض على حدوث اضطراب سياسي. وفي عام 1660، كان لوك - شأنه شأن معظم أبناء بلده - يخشى بشدة اندلاع الاضطراب السياسي.
شكل : خطاب بطرد جون لوك من كلية كنيسة المسيح.
فضلا عن ذلك، لم يكن الصدام بين مفهومي آداب السلوك والمصدر الواحد للدين مقصورا على الساحة القومية السياسية فحسب. كان الباعث المباشر لمقال لوك الصادر باللغة الإنجليزية هو عملا لأحد زملائه الطلاب في كلية كنيسة المسيح، يدعى إدموند باجشو، بعنوان «المسألة الكبرى بشأن الأمور الحيادية في العبادة الدينية»، نشر في سبتمبر عام 1660. كان باجشو من المعتنقين المتحمسين للغاية لمبادئ المصدر الواحد للدين، في وقت كانت فيه الممارسات الدينية في الكلية تعود بقوة إلى «التشدد الأنجليكاني» الذي كان ينبذه بشدة. أعيد استخدام الأرغن والزي الكهنوتي الأبيض في كلية كنيسة المسيح في نوفمبر، فيما سرق أنصار باجشو ومؤيدوه في شهر يناير من العام التالي أكبر عدد طالته أيديهم من الأردية الكهنوتية البيضاء، وألقوا بها في بالوعات الكلية. ناصر لوك المزاعم المطالبة بالسلطة على المستويين المحلي والقومي، مشددا على الحالة الصارخة لعدم الجدارة بالثقة التي عليها أغلبية البشر، وهو ما يمثل في أسوأ الأحوال تهديدا حقيقيا بالفوضى، ويمثل على أحسن تقدير معوقا هائلا لآداب السلوك. وكانت الآراء السياسية التي طرحها فظة ومراوغة، والمثير بشأن هذه الآراء أنها كانت تخضع العاطفة الدينية للمتطلبات السياسية وتطوعها لها على نحو صارم؛ فلا بد أن تكون السلطة السياسية - أيا كانت أصولها - شاملة؛ حتى تستطيع الاضطلاع بمهامها. خلق الله العالم والبشر على النحو الذي يعكس تلك الحقيقة؛ ومن ثم لا بد أن تكون مشيئته هي عدم تقيد السلطة السياسية بشيء ما خلا أوامره الصريحة، و«الأمور الحيادية» هي كل الأمور التي لم يعلن الله - سواء أكان بالفطرة أم من خلال وحي إلهي - مشيئته بشأنها. (على سبيل المثال: كانت مسألة الرغبة في ارتداء الأردية الكهنوتية البيضاء من عدمها من الأمور التي افترض قلة من الناس - حتى بين الأنجليكانيين - أن الله قد أعلن مشيئته بشأنها.) لم يستطع منظر سياسي مسيحي أن ينكر على الفرد حقه في الإيمان بمعتقداته الخاصة، ولم تكن المراسم الدينية في حد ذاتها أمورا تتعلق بالإيمان، لكنها ببساطة مسألة تتعلق بالممارسة، وينبغي على المسيحيين الصالحين أن يفعلوا ما يمليه عليهم الحاكم، وأن يؤمنوا بما يؤمنون هم أنفسهم به. وظهرت المشكلة بوضوح عندما بدءوا يعتقدون أنه ما من شيء يلزمهم أن يفعلوا ما أمرهم به الحاكم. أما في حال المراسم الدينية، كانت هذه المشكلة تظهر على نحو متكرر بعض الشيء؛ لم يستطع مفهوم «الأمور الحيادية» حسم هذه المشكلة من حيث المبدأ؛ ومن ثم لم ينجح أيضا مقالا لوك في حلها، وهي أيضا المشكلة التي لم تستطع الكنيسة الأنجليكانية نفسها أن تحلها عمليا خلال فترة «إعادة الملكية».
في هذه اللحظة كان لوك نفسه يتعامل مع هذه المسألة بتجاهلها غالبا ؛ كانت المراسم الدينية مجرد مسألة «حيادية»، متروكة لتقدير الإنسان وحرية تصرفه، وأي مسألة تتعلق ببساطة بتقدير الإنسان وحرية تصرفه، كان يحددها الحاكم المدني على نحو سلطوي؛ لأن الغرض من وجود حاكم في الأساس كان يتمثل تحديدا في الخروج من نطاق التحيز المتعمد للحكم الشخصي لكل إنسان. اقتضى السلام وجود سلطة مدنية، ولكي تحقق السلطة المدنية السلام كان بمقدورها أن تفعل أي شيء - مهما كان - لم يحظره الله نفسه صراحة. ولم يلق أي من هذا الضوء بوضوح على المهام التي ينبغي على السلطة المدنية الاضطلاع بها على وجه التحديد.
مقال في التسامح
بعد مرور سبع سنوات، وبعد أن هرب لوك من عالم التدريس العتيق في أكسفورد إلى العالم البراق والمثير للعمل مع شافتسبري، أعاد لوك النظر في هذه المسائل من زاوية مختلفة تماما، وتوصل إلى نتائج مختلفة إلى حد كبير. تظهر هذه النتائج في كتابه «مقال في التسامح» الذي لم ينشره بنفسه، على عكس عمله الشهير «رسالة في التسامح». كان الحكم العملي الذي توصل إليه في هذا المقال يتطابق إلى حد كبير مع رأي شافتسبري: يعمل التسامح على إرساء دعائم النظام والوئام المدنيين عن طريق «زيادة القوانين التي تنظم المشاركات الكنسية قدر الإمكان» (حياة جون لوك). وتظل مسئولية الحاكم صاحب السيادة هي تنظيم الممارسات الدينية بما يضمن استقرار شعبه وسلامته وأمنه؛ لكن مع أن الحاكم يظل هو بالتأكيد الذي بيده النظر فيما من شأنه تعزيز هذه الغايات، فإنه لم يعد من المتوقع أن يحظى حكمه عمليا بثقة أكبر من حكم أي مؤمن آخر؛ إذ:
يتعين عليه أن يأخذ بالغ حذره كي لا تسن مثل هذه القوانين، ولا تفرض مثل هذه القيود، لأي سبب من الأسباب فيما خلا ضروريات الدولة ورفاهية الشعب الذي نادى بها، وربما لا يكفي أن يظن في ضرورة أو ملاءمة تلك التكليفات أو هذه الصرامة، إذا لم يكن قد فكر فيها مليا دون تحيز، وخاض نقاشات حول ما إذا كانت ضرورية وملائمة أم لا، كما أن رأيه (إذا أخطأ) لن يبرر له سن مثل هذه القوانين، تماما مثلما لن يغفر له ضمير الرعية أو رأيهم مخالفته لتلك القوانين، لو اتضح أن التفكير والنقاش كانا سيؤديان به إلى رأي أكثر استنارة (حياة جون لوك، المجلد الأول).
يشمل نطاق الأمور التي يكون للحاكم حرية التصرف فيها «الأمور الحيادية» بأكملها، لكن ممارسته لحرية التصرف محكومة بشدة بالغاية التي وجد الحاكم من أجلها. وإذا بذل قصارى جهده للاضطلاع بالواجبات المترتبة على هذه الغاية، فلن يكون حتى «مساءلا في العالم الآخر عما فعله بصفة مباشرة من أجل حماية شعبه واستقراره، بحسب علمه» (حياة جون لوك، المجلد الأول). لكن إذا حاول التدخل في القناعات الدينية لشعبه على هذا النحو (على غرار ما كانت السلطات الأنجليكانية تحاوله بالتأكيد من التدخل في القناعات الدينية للمنشقين)، فإن تصرفاته ستكون جائرة بقدر ما هي باطلة؛ فكل فرد مسئول عن خلاص نفسه، وما من إنسان يمكن أن يكون لديه سبب وجيه كي يعهد بخلاصه لتقدير إنسان آخر، وهو ما يكون تقديرا قاصرا بالضرورة (حياة جون لوك، المجلد الأول). على أية حال، وعلى نحو أكثر حسما، حتى لو ابتغى الإنسان أن يعهد بخلاصه لتقدير إنسان آخر، فلا أحد «يستطيع» أن يفعل هذا بمنتهى البساطة:
ما من إنسان يستطيع أن يمنح غيره سلطانا ... على شيء لا يملك هو نفسه سلطانا عليه. والآن يتجلى من التجربة وطبيعة الفهم عدم قدرة الإنسان على التحكم في فهمه أو تحديد الرأي الذي سيعتنقه غدا على نحو قاطع، فطبيعة الفهم لا يمكنها أن تدرك إلا ما يبدو لها، مثلما لا يمكن للعين أن ترى ألوانا في قوس قزح غير ما تراها، سواء أكانت هذه الألوان موجودة فعليا أم لا (حياة جون لوك، المجلد الأول).
إن «مقال في التسامح» هو رسالة موجهة إلى الحاكم حول الكيفية التي ينبغي أن يوظف بها تقديره الخاص وحرية تصرفه، ويتلاشى بحذر أي تلميح بأن الرعايا لديهم أي حق في حرية التصرف في أمورهم في مواجهة أوامر الملك؛ فواجب الرعية هو الطاعة العمياء. لكن فيما يتعلق بالأمور الحيادية، حدد لوك فعليا منطقة تستحيل فيها الطاعة العمياء، والأبرز من ذلك أنه أوضح أن هذه المنطقة تتجاوز نطاق الأمور الحيادية وحدودها. ولا يمكن أن يخضع الإيمان البشري لمطالب السلطة، ولا يمكن لأي إنسان أن يكون لديه سبب وجيه يدفعه إلى التخلي عن معتقداته فيما يتعلق بالتكليفات التي يطلبها الله منه بأمر إنسان آخر؛ فالبشر - بوصفهم معتنقين للمعتقدات، وعلى نحو أكثر تحديدا بوصفهم معتنقين للمعتقدات الدينية - سواسية؛ فثمة «الأغلبية التي تضيق ذرعا بالقمع كالبحر المضطرب ... التي دائما ما يراها الحكماء وحوشا جامحة، ويطلقون عليها تلك الصفة» (مقالان عن الحكومة)، والحكام الذين تحتاج إليهم هذه الأغلبية لقمع احتيالها وعنفها بعضها تجاه بعض (حياة جون لوك، المجلد الأول). والكل يتحمل المسئولية الكاملة عن معتقداته، وسيتعين عليه الإقرار بذلك أمام الله يوم القيامة. لكن، في الوقت نفسه، على الحاكم أن يولي اهتماما صارما لضرورة الحفاظ على النظام المدني وإقراره، لا أن يحاول عبثا وبكل صفاقة أن ينوب عن الله ويحل محله. ولم يعد من الصعب أن نرى كيف أن واجب الطاعة العمياء سيبدو من وجهة نظر لوك ضربا من الحماقة الشديدة في ظل الظروف المختلفة تماما التي فرضها جدل فترة الإقصاء ومواجهة حاكم عدواني ومحب للانتقام.
رسالتان في الحكم
إننا لا نعرف بالضبط الوقت الذي كتب فيه لوك «رسالتان في الحكم»، بل لا نعرف أيضا يقينا مقدار ما كتبه من هذا العمل في المرة الأولى (أو ما أعاد كتابته باستفاضة) قبل نشره بفترة وجيزة عام 1689. وفي الواقع، ليس لدينا فعليا دليل قاطع أنه كتب أي جزء منه خلال الجدل الدائر في فترة الإقصاء، إلا أن الكتاب الذين تناولوا تلك المسألة في العقود الأخيرة، والذين كانوا على درجة كبيرة للغاية من الإبداع وسعة الاطلاع، اتفقوا على نقطتين على الأقل؛ أولهما: أن لوك كتب الأغلبية العظمى من النص الذي نشره عام 1689، في الوقت الذي رحل فيه من بلاده متجها إلى هولندا في أواخر صيف عام 1683، وثانيهما: أنه كتب فقرات مختلفة من الكتاب (بهيئته التي ظهر عليها عام 1683) على مدار بضع سنوات سابقة؛ ومن ثم يعكس النص عددا من الآراء المتغيرة التي تبناها حزب شافتسبري على مدار فترة الصراع.
وكما نرى هذا العمل اليوم، فإن «رسالتان في الحكم» هو عمل وضع في الأساس للتأكيد على الحق في مقاومة السلطة الجائرة؛ الحق في الثورة كملاذ أخير. (توجد بالطبع موضوعات رئيسية أخرى للكتاب؛ منها: توضيح الأسباب التي تمنح الحكومات شرعيتها في المقام الأول (نظرية التراضي)، والكيفية التي ينبغي أن يفسر بها الرعية والحكام علاقة بعضهم ببعض (نظرية الثقة)، والكيفية التي يمكن أن يصير بها للبشر الحق في حيازة السلع الاقتصادية ومدى أحقيتهم في فعل ذلك وحدوده (نظرية الملكية)، وأوجه التشابه والاختلاف بين الأنواع المختلفة للسلطة البشرية؛ وأخيرا أوجه الاختلاف بين السلطة داخل العائلة والسلطة في الدولة. تدرس كل تلك القضايا في سياق السياسة الإنجليزية في ذلك الوقت، وفي سياق المبدأ الدستوري الإنجليزي.) من الواضح، حتى من الموضوع الأول، أن «رسالتان في الحكم» كان يشكل هجوما على مزاعم الملكية المطلقة، وأنه توصل من خلال هذا الهجوم إلى استنتاجات قاطعة بشأن الحدود الدستورية الموضوعة على سلطات ملك إنجلترا، لكن من غير الواضح بالتأكيد أن لوك عندما استهل كتابة هذا العمل كان يقصد الدفاع عن حق العصيان من جانب مجلس العموم المنتخب، فضلا عن حصول الرعايا الأفراد المتضررين على هذا الحق واستخدامه، وهم الذين لا يشغلون منصبا رسميا داخل السلطة في مجتمعهم. «رسالتان في الحكم» هو عمل طويل ومعقد يحتوي على كثير من النقاشات والحجج، التي معظمها - بطبيعة الحال - حجج لم يطرحها لوك من قبل في أي عمل آخر، بيد أنه فيما يتعلق بحق المقاومة فقط، غير لوك صراحة وعلى نحو قاطع أحد الآراء النظرية التي كان قد دافع عنها بإسهاب في أعمال سابقة؛ ففي كل من «رسالتان في الحكم» عام 1660، و«مقال في التسامح» عام 1667، أكد لوك بوضوح أن واجب الرعية في مواجهة أوامر ملكهم الجائرة هو أن يطيعوا هذه الأوامر طاعة عمياء؛ ليس هذا بالطبع على سبيل الإقرار بعدالتها، لكنه على أقل تقدير على سبيل الاعتراف بالسلطة التي أصدرت تلك الأوامر، وبالتأكيد عدم عرقلتها بالقوة، فضلا عن مهاجمة من أصدرها. وفي وقت متأخر يرجع إلى عام 1676 تقريبا، رأى لوك مرة أخرى أنه على الرغم من أن السلطات السياسية البشرية تعين بموجب القوانين التي وضعها الإنسان، فإن واجب الطاعة السياسية قائم بموجب القانون الإلهي «الذي ينهى عن مخالفة الحكومات أو حلها»، وأنه يتعين على كل إنسان أن يطيع يقينا الحكومة التي يعيش في ظلها (الفكر السياسي لجون لوك).
شكل : التأكيد على حق المقاومة: كتاب لوك «رسالتان في الحكم». لاحظ غياب اسم المؤلف حتى بعد مرور ثماني سنوات على نشره للمرة الأولى.
من الواضح أن الباعث وراء تغيير هذا الرأي تولد مباشرة من مشاركة لوك السياسية خلال سنوات تأليف هذا الكتاب؛ فقد كان تحولا جوهريا في الحكم الفكري كما في الالتزام السياسي؛ إذ كان لوك نفسه قد بدأ يفكر في الآثار المترتبة على رأيه بشمولية بالغة. بالطبع، لم يفكر منهجيا في جميع الآراء التي أكد عليها في كتابه، واختار بالأخص ألا يخوض على الإطلاق في مناقشة الكيفية التي يعرف بها الإنسان بالفطرة قانون الطبيعة، وهو القانون الإلهي الملزم الذي - وفقا لموضوع الكتاب - تستند إليه كل حقوق الإنسان، وتستنبط منه غالبا وعلى نحو مباشر أغلبية واجبات الإنسان. أثار التغاضي عن مناقشة تلك القضايا كثيرا من النقد الفكري لدى كتاب النظرية السياسية الذين جاءوا فيما بعد، كما أنه أثار - إبان نشر الكتاب وفي الآونة الأخيرة - بعض الشكوك في أن النبرة الورعة التي يصطبغ بها نقاشه حول قانون الطبيعة ربما تكون مراوغة ومخادعة، لكن الأكيد أنه حدد بالفعل في محاضراته التي ألقاها عام 1664 في كلية كنيسة المسيح عن قانون الطبيعة، بعض الإشكاليات الرئيسية في المفهوم المسيحي التقليدي لقانون الطبيعة، وأنه غالبا شحذ فهمه لهذه الإشكاليات - خلال عمله الأولي المسجل في مسودات عام 1671 - من أجل عمله «مقال في الفهم البشري». وبحلول عام 1680، على سبيل المثال، كان يعلم بكل تأكيد أن السؤال عن الكيفية التي يعرف بها الإنسان محتوى قانون الطبيعة، هو سؤال إشكالي للغاية ومثار جدل بالغ، ومع ذلك يشير في «رسالتان في الحكم» إلى «معرفة» قانون الطبيعة كما لو أنها معرفة ملزمة بالفعل لجميع البشر، حتى مع تمتعهم بكامل حريتهم في الاختيار ما بين الإذعان لها أو الانصراف عنها؛ فهي «أمر محفور بكل وضوح في قلوب البشر كافة.»
لا صلة لهذه الشكوك على وجه العموم بصلب الموضوع، ولا شك أن محاولة لوك لشرح كيفية معرفة الإنسان قانون الطبيعة كانت محاولة فاشلة في نهاية المطاف حتى من وجهة نظره، لكن ثمة دليلا قويا على أنه مضى في هذه المحاولة وثابر عليها على مدى سنوات عديدة بعد نشر الطبعة الأولى من «مقال في الفهم البشري» عام 1689، ومن الحمق أن نظن أنه ربما فعل ذلك لأنه ظل متمسكا بالأمل في نجاح هذه المحاولة. ومن الواضح أيضا أنه لم يحبذ على الإطلاق - لا في هذه الفترة من حياته ولا في أي فترة أخرى - المفهوم العلماني المتعنت عن قانون الطبيعة باعتباره من النظريات المتوافقة تماما مع الإنسان، وهو المفهوم الذي اعتنقه أناس من أمثال توماس هوبز. وثمة احتمال آخر أكثر جاذبية، استعرضه لوك فيما بعد في عمله «معقولية المسيحية»، وهو تأسيس حقوق الإنسان وواجباته بصورة مباشرة على مذاهب المسيحية المنزلة. لكن، حتى لو كان قد افترض مع عالم اللاهوت الفرنسي البارز بوسويه إمكانية أن تستمد المبادئ السياسية مباشرة من كلمات الكتاب المقدس، لما كان لأمر كهذا أن يخدم أغراض شافتسبري السياسية في صراعه ضد تشارلز الثاني. ومن وجهة نظر غير المؤمنين المحدثين، ثمة ما يدعو بالفعل إلى الشك في قوة إقناع النظرية السياسية التي طرحها لوك في عمله «رسالتان في الحكم»؛ نظرا لاعتماده البائس على تصوره منزلة الإنسان في الطبيعة، الذي يرى فيه أن كل إنسان يعيش حياته بناء على التعليمات الكاملة التي يمليها الله عليه. يجد معظم الناس حاليا (بما فيهم عدد كبير للغاية من المسيحيين المتدينين) صعوبة في فهم هذا الرأي، لكن لا يوجد في التاريخ ما يدعو على الإطلاق إلى الشك في أن يكون هذا الرأي هو ما تبناه لوك.
يرى لوك أن الحقوق السياسية تنبع من الواجبات السياسية، وكلتاهما مستمدة من مشيئة الله وإرادته. وكما طرح السؤال على نحو بلاغي عام 1678: «إذا اكتشف الإنسان أن الله قد أقامه هو وسائر البشر في دولة لا يمكنهم فيها أن يحيوا بمعزل عن المجتمع، فهل من الممكن أن يتوصل إلى استنتاج آخر خلاف أنه مسير، وأن الله يأمره باتباع تلك القواعد التي تؤدي إلى الحفاظ على المجتمع؟» (الفكر السياسي لجون لوك). كان التغير الجوهري في آرائه السياسية، من الالتزام بالطاعة العمياء إلى الدفاع عن الحق في مناهضة السلطة السياسية الجائرة والتصدي لها، هو تغيرا في مفهومه عن الكيفية التي يمكن للإنسان - بل يتعين عليه أيضا - من خلالها أن يقيم ما من شأنه أن يصون مجتمعه. وبدلا من ترك هذا التقدير تماما إلى الحاكم واحتفاظ بقية الشعب بالحق فقط في اعتناق معتقداتهم الدينية (ذلك الحق الذي رأى لوك أنه لم تكن لديهم أي سلطة لتركه)، رأى لوك في «رسالتان في الحكم» أن تقدير كيفية صون المجتمع هو حق وواجب على كل إنسان بالغ. لم يكن هذا بأية حال استنتاجا محدثا أو غير مسبوق، لكن - بالنسبة إلى لوك نفسه - كان الأمر يمثل بالتأكيد تغيرا كبيرا للغاية في رأيه وفكره.
كيف ينبغي بالضبط أن نرى الأسباب التي دفعته إلى تغيير رأيه؟ من الواضح أن تجربة أزمة الإقصاء السياسية المباشرة كانت أسرع الضغوط التي دفعته دفعا إلى تغيير رأيه. وليس ثمة ما يبرر الاعتقاد بأن لوك ما كان ليكتب عملا عن النظرية السياسية على غرار «رسالتان في الحكم»، لولا دور شافتسبري في هذا الصراع السياسي. ولقد ساعد كل من المناسبة التي ألف فيها لوك «رسالتان في الحكم»، والباعث الذي دفعه إلى تأليفه، في أن يجعل من هذا العمل عملا خاصا بأزمة الإقصاء، لكنه في أوجه كثيرة كان ضعيفا في تصميمه حسبما يتضح لنا من جزء «مقدمة إلى القارئ»، ولا يرجع هذا إلى طوله الأصلي فحسب، الذي كان أكثر من ضعف النص الذي نشر في النهاية. جاءت حجج لوك مغايرة على نحو بالغ لأساليب شافتسبري، حتى فيما يتعلق بالقضايا الدستورية التي كانت تحظى بأهمية مباشرة في ذلك الوقت، لكن بعيدا عن هذه التفاصيل المتعلقة بالحكم السياسي العملي، يتضح من مضمون الكتاب ككل أن لوك كان يفكر مليا في الآثار المترتبة على تغيير رأيه، ولم يكن ببساطة بصدد تحرير ملخص شامل من أجل سيده المثير للقلاقل. لقد كانت تجربة لوك السياسية في ذلك الوقت هي ما دفعته إلى تغيير نظرته إلى السياسة، وغيرت في المقام الأول نظرته للعلاقة بين السياسة وسائر حياة الإنسان، وكان الحماس الذي حاول أن يفهم به الآثار المترتبة على تغيير رأيه، هو ما جعل من «رسالتان في الحكم» عملا رائعا حول النظرية السياسية.
لا شك أن معظم الأعمال المهمة في مجال النظرية السياسية كانت تبنى على تلك التجارب السياسية الوليدة المصادفة غالبا؛ فمن الطبيعي أن يكون الدافع لإنعام النظر في شئون السياسة ذا صبغة سياسية صريحة، لكن في حالة «رسالتان في الحكم» تتدخل الظروف العرضية لتأليفه في نص العمل نفسه على نحو بالغ ومحير للغاية؛ فالرسالة الأولى عبارة عن نقد مفصل للمؤلفات السياسية لكاتب سياسي سابق عليه، وهو النبيل السير روبرت فيلمر من مقاطعة كنت، وهو من الكتاب المؤيدين للحكم الملكي في فترة الحرب الأهلية. كان فيلمر من المفكرين الذين لديهم قدرة كبيرة على النقد، وكما رأينا، فقد كتب كل من جيمس تايرل وألجرنون سيدني مقالين آخرين إبان أزمة الإقصاء، يهاجمان فيهما أعمال فيلمر؛ ومن ثم لم يكن استهداف لوك لأعمال فيلمر وتصديه لها بالأمر المستغرب. تميز فيلمر عن غيره من مؤيدي الحكم الملكي - الأحياء منهم والأموات - بالطابع المتعنت لنظريته عن السلطة السياسية؛ فهي تتسم بنبرتها المتدينة، وفروضها التي تبعث الطمأنينة في نفس أي أنجليكاني، لكنها أيضا ذات مطالب استبدادية بالقدر الذي يجعلها تضاهي الدعوات العملية التي تنادي بها نظرية توماس هوبز الأقل تدينا على نحو مقلق. ومن غير الواضح تماما، ما إذا كان اختيار فيلمر خصما في مطلع الثمانينيات من القرن السابع عشر قد جاء تقديرا لشعبيته بين أنصار تشارلز الثاني، أم أنه كان بالأحرى انعكاسا لملكاته التي تجعل منه هدفا فكريا جذابا. لكن، حتى فيما يتعلق بهذا الجانب، لم يكن المهم في جودة الكتاب الذي سطره لوك ومحتواه، الباعث الأساسي الذي دفعه إلى كتابته، وإنما التأثير الفكري لتنظيم أفكاره على هذا النحو البالغ في هجومه على فيلمر، في الرسالة الثانية وكذلك الأولى.
كانت أهم نتيجة مباشرة لهذا التركيز هي معالجته للملكية، ذلك الإنجاز الذي من الواضح أن لوك نفسه كان فخورا به لأقصى درجة (أعمال جون لوك، المجلد الرابع). لكن ربما كان الأهم هو الأثر الإبداعي للتصدي لمثل هذا العرض الواضح للرأي السياسي، الذي بدأ لوك نفسه يرفضه فيما بعد، وهو أثر شمل الكتاب بأكمله. بالنظر إلى السياق السياسي لأزمة الإقصاء، والسياق الاجتماعي لإنجلترا في أواخر القرن السابع عشر قبل الإقصاء وبعده، يتضح أن آراء لوك السياسية لم تكن راديكالية على نحو استثنائي؛ فهو لم يتوقع أن تطبق في أيامه البرامج الراديكالية المنادية بتوسيع نطاق حق التصويت، التي اقترحتها حركة أنصار المساواة إبان الحرب الأهلية الإنجليزية، أو الحركة الميثاقية بعد زمنه بقرن ونصف قرن، بل لم يكن حتى ليرغب في ذلك. لكن النظرية التي طرحها في «رسالتان في الحكم» كانت راديكالية للغاية؛ فهي نظرية تدعو إلى المساواة والمسئولية السياسية بالاستناد إلى حكم كل فرد بالغ، وقد عبر لوك نفسه في أجزاء متفرقة من الكتاب عن النظرية كما لو أنه كان يعتزم أن تفهم بالمعنى الحرفي للكلمة. وبالنسبة إلى الجمهور الذي كان لوك نفسه يفترض أنه يخاطبه، فقد كان ثمة بعض الخطر في أن تؤخذ النظرية على هذا النحو الحرفي. (لم يقرأ معظم البالغين في المجتمع الإنجليزي في ذلك الوقت كتاب «رسالتان في الحكم» ولم يفهموه.) وفي الواقع، كان النقاد المحافظون فقط - الذين تعرضوا لأعمال لوك - هم من تظاهروا بالاعتقاد أنه كان يعني أن تؤخذ آراؤه حول هذه النظرية بالمعنى الحرفي أو أنها كانت تستحق أن تؤخذ كذلك، واستمر الحال على هذا النحو لفترة من الوقت بعد ذلك. لكن هذه النظرية وكذلك بعض الشعارات المطروحة في الكتاب وصلت في حينها إلى قطاع أكبر من الجمهور في إنجلترا وأمريكا، وعندئذ بات من الصعب جدا إنكار طبيعتها الراديكالية الثورية، وكان الوضوح والقوة اللذان عرضت بهما الراديكالية في «رسالتان في الحكم» نتاج استجابة لوك االمبدعة لتحدي فيلمر في المقام الأول.
حقق هذا التحدي أبلغ أثر فكري له في نقده النظريات السياسية، التي سعت إلى استنباط السلطة السياسية وحقوق الملكية من الاختيارات الحرة للبشر، وعلى الرغم من أصدائها الأيديولوجية، فقد كان من الواضح أنها في حد ذاتها لا تليق بأن تكون نظرية عن السلطة الشرعية. كان جوهر آراء فيلمر بسيطا على نحو غريب، بل إن آراءه بدت أيضا لبعض معاصريه أكثر من مجرد آراء غريبة. كان فيلمر يرى أن جميع أشكال السلطة بين البشر تنبثق في الأساس من نفس النوع؛ سلطة الأب في عائلته، وسلطة الملك في مملكته؛ فكل سلطة يمارسها إنسان على غيره من البشر هي سلطة ممنوحة مباشرة من الله، وبما أنه ما من إنسان يملك حق التحكم في حياته، وبما أنه من حق كل الحكام البشر إزهاق أرواح رعاياهم أو الأعداء الغرباء متى تسببوا - بحسب تقديرهم - في الإضرار بالصالح العام، فلا مفر من أن نخلص إلى أن الحكام لم يستمدوا هذا الحق من رعاياهم وإنما من الله نفسه. ويستحيل التوافق بين تحريم المسيحية للانتحار وحقوق الحاكم، إلا بافتراض أن حقوق الحاكم هي عطية الله له. ترصد النصوص المسيحية (أو العهد القديم، لنكون أكثر دقة) مناسبة هذه العطية الربانية على وجه الدقة؛ فقد سلم الله الأرض بأكملها للإنسان الأول آدم، وجميع السلطات السياسية وحقوق الملكية هي نتيجة تاريخية وشرعية لهذه العطية. لقد كانت سيادة آدم حقيقة تاريخية لا يجد مدعاة لإنكارها سوى الآثمين (أو أولئك الأشقياء الذين لم يصادفهم الحظ كي يتلقوا الوحي المسيحي). ومنذ أن فوض الله الإنسان الأول بحكم العالم، صار سلطان آدم - الذي هو شكل من أشكال الملكية بقدر ما هو أحد أشكال حكم البشر وفرض السيطرة عليهم - مقسما بحسب سياق التاريخ الإنساني إلى تقسيمات فرعية، لكن كل تقسيم فرعي كان تعبيرا مباشرا عن العناية الإلهية، ولا بد من النظر إليه باعتبار أنه يمثل مشيئة الله. وكانت المسئوليات السياسية لأي رجل لم يصادف يوما أن صار حاكما (بل أيضا المسئوليات السياسية لأي امرأة) هي ببساطة أن يفعل ما يملى عليه، وأن يقر بالعناية الإلهية في السلطة السياسية التي وجد نفسه خاضعا لها؛ ومن ثم أن يحترم هذه السلطة ويدين لها بفروض الطاعة. ولم يكن بيان فيلمر لهذا الرأي واضحا أو مستوفي الأركان، وكان من المستبعد تماما فيما يبدو أن يقتنع من لم يشعروا أنهم ملزمون بطاعة الحاكم - وهم كثر - بأنهم ملزمون في دخيلة أنفسهم بتلك الطاعة.
لكن إذا كانت نظرية فيلمر تفتقر إلى قوة الإقناع، فإنها أثارت عددا من المشكلات المحيرة لأي شخص يؤمن أن المصادر العملية للسلطة السياسية بشرية محضة. وربما من الأمور المهمة أيضا أن الشكل الذي اتخذته نظريته قدم مزاعم السلطة السياسية المطلقة على نحو مستهجن بوضوح، وكما رأينا سابقا، لم يجد لوك حرجا في اعتبار الطاعة السياسية واجبا بسيطا وجوهريا للغاية بالنسبة إلى معظم الرجال (وكل النساء تقريبا) في معظم الأحيان، وهي نتيجة للقانون الإلهي «الذي ينهى عن مخالفة الحكومات أو حلها.» ومما لا شك فيه أن لوك في خضم الملابسات المحيطة بأزمة الإقصاء، كانت لديه دوافع قوية لإعادة النظر في نطاق هذا الواجب وشموليته، وللتشكك في فرضياته السابقة حول الأمور التي جعلته واجبا بالفعل. مهدت كتابات فيلمر الطريق أمامه بسهولة؛ حيث قدم عقيدة محددة لم يجد لوك عناء في رفضها؛ يرى فيلمر أن حقوق الحاكم هي عطية شخصية من الله، ولا بد من فهمها في الأساس بوصفها حقوق ملكية، تسري على البشر والأرض والسلع المادية؛ فالرعايا ملك للحاكم ويدينون له بالطاعة؛ لأن الله منحه إياهم من خلال تدابير عنايته الإلهية. وردا على ذلك، سعى لوك إلى التمييز بوضوح بين واجبات الرعايا في الطاعة وحقوق الحاكم في إصدار الأوامر وفرض السيطرة. سوف يتعين في أغلب الوقت على معظم الأفراد في المجتمعات أن يطيعوا حكامهم؛ لأن السلام والنظام المدني شرطان أساسيان لأن يحيا الإنسان حياة كريمة، لكن سيكون للحكام في المقابل الحق في إصدار الأوامر فيما يختص بالمواضع التي تكون فيها ممارستهم سلطتهم والأوامر التي يصدرونها جديرة بالطاعة. وإذا كان الحكام أنفسهم يمثلون تهديدا للسلام والنظام المدني، فسيكون لرعاياهم كل الحق في تقدير حجم هذا التهديد ومدى قربه منهم، وإذا بدا هذا الخطر جسيما بما يستدعي المقاومة، فعليهم أن يقاوموه ويتصدوا له بكل ما أوتوا من قوة؛ ومن ثم منح فيلمر لوك ما كان يتمنى أن يدحضه؛ مساواة عملية وصريحة لكل أصحاب المناصب في السلطة السياسية بطبيعتهم البشرية الصرفة مع مشيئة الله نفسه، لكنه وضع لوك إزاء العديد من المسائل الفكرية الشائكة، من أبرزها مسألتان على وجه التحديد؛ إحداهما: مسألة المواءمة بين المصدر البشري المحض للسلطة السياسية من جانب، وحق الاستحواذ على حياة الإنسان وسجل التاريخ العلماني والديني من جانب آخر. وثانيهما: هي مسألة شرح الكيفية التي استطاع من خلالها البشر أن تكون لهم ملكية فردية في أي جزء من أرض الله أو خيراتها.
حق الملكية
كانت مسألة الملكية على وجه التحديد من المسائل المثيرة للتحدي. وجه فيلمر نقده نحو نظرية حق الملكية الأكثر تأثيرا في القرن السابع عشر، التي صاغها كاتب القانون الطبيعي الهولندي البارز هوجو جروتيوس. كان فيلمر ينظر إلى جروتيوس على أنه ينادي بفكرتين متناقضتين؛ وهما: رأيه أن الطبيعة كلها بخلاف الإنسان هي ملكية مشتركة للبشر جميعا، ورأيه أن الأفراد - رجالا ونساء - يمكنهم الاتفاق بالتراضي فيما بينهم على امتلاك أجزاء منها. وما جعل هاتين الفكرتين متناقضتين على نحو واضح، في رأي فيلمر، هو الثغرة التي انطوت عليها كلتا الفكرتين فيما يخص قوانين الله للبشر. يرى فيلمر أن هذه الثغرة اتضحت في موقفي جروتيوس المتناقضين؛ اللذين في أحدهما على ما يبدو «قدم المجتمع» برمته بوصفه مالك الطبيعة، في حين فرض في الآخر الملكية الخاصة. ومن وجهة نظر أي شخص على دراية أكبر بالتطور التاريخي للمجتمع البشري، لم يكن هذا الاعتراض على درجة كبيرة من الأهمية، إلا أن فيلمر استند إليه في صياغة رأيين نقديين آخرين كان من الصعب التغاضي عنهما؛ أولهما: أن فيلمر درس بشيء من التفصيل الصحة التاريخية للتسلسل الذي تصوره جروتيوس، وكان يتطلب من الجنس البشري ككل (أو مجموعات منه في مكان معين) أن يتضافر ويتفق بالإجماع على تقسيم ملكيته لكل الأشياء التي يملكها على نحو جماعي؛ إذا كانت الملكية من قبيل الحق، وإذا كان كل البشر في الأساس يشتركون معا في ملكية كل شيء، فمن غير الممكن إذن أن يفقد إنسان حقه في كل شيء (أو أي شيء) دون أن يختار عن وعي التخلي عن هذا الشيء. وثانيهما: أن فيلمر تساءل عما إذا كان الاتفاق بالإجماع بين جميع البشر الذين هم على قيد الحياة في وقت معين، من شأنه أن يكون ملزما لأي أفراد يأتون لاحقا ولم يكونوا هم أنفسهم طرفا في الاتفاق، أو عما إذا كان الاتفاق بالإجماع سيكون ملزما بالضرورة لأي طرف من أطراف الاتفاق الأصلي، يحتمل يغير رأيه بشأن مزايا هذا الاتفاق وجدواه. يرى فيلمر أن الملكية لا تكون مكفولة عمليا وجائزة قانونا إلا إذا كانت تعبيرا مباشرا عن مشيئة الله، شأنها شأن السلطة السياسية نفسها، وبما أنها تعتمد على قرار البشر والتزامهم، فإن أي حق يخضع لتعديلات لا نهائية. في هذه النقطة على الأقل، كان لوك يتفق إلى حد كبير مع فيلمر. لقد كان السؤال الخاص بكيفية كفالة حقوق الملكية القائمة، في ظل حكومة من اختيار الشعب برمته، هو سبب فشل حملة «أنصار المساواة» في الحرب الأهلية. وحسبما طالب هنري إرتون بشدة قادة حركة «أنصار المساواة» في بوتني في أكتوبر عام 1647: «يسعدني كثيرا أن أعرف ما الذي فعلتموه أيها السادة - أنتم أو غيركم - يمنحكم الحق في امتلاك أي شيء في إنجلترا .» إذا كانت السلطة السياسية لا تستمد مباشرة من الله، وإنما تعتمد على الاختيار البشري، فربما تبدو فكرة حق الملكية واهية وضعيفة على نحو مقلق.
كانت استجابة لوك لهذا التهديد بارعة للغاية؛ فهو يرى أن من الصائب على مستوى العقل البشري والوحي الإلهي أن تكون الأرض - شأنها شأن قاطنيها من البشر (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية) - ملكا لخالقها، وأن الله منحها إلى جميع البشر القاطنين فيها كي يستمتعوا جميعا بها. ويرفض لوك فكرة وجود أي حق من حقوق الملكية الخاصة، استنادا إلى افتراض فيلمر أن الله منح الأرض كلها إلى «آدم ونسله تباعا، ما خلا سائر ذريته»، لكنه قرر أن يجيب بنفسه إجابة وافية على الهدف النقدي الرئيسي لهجوم فيلمر على جروتيوس، وهو السؤال عن كيفية أن يكون للإنسان حق خاص في أي جزء من هذا الإرث العام، وكانت إجابته عن هذا السؤال هي الأشهر، وهي التي منحت نظرية الملكية التي صاغها تأثيرها التاريخي البارز والمتنوع. إن العمل هو ما يميز الملكية الخاصة عن الملكية العامة؛ العمل البدني للإنسان وكد يده؛ فالعمل هو ملكية العامل التي لا نزاع عليها، وبمزج العمل بالأغراض المادية - مثل الصيد وجمع الثمار، وأيضا زراعة الأرض - يكتسب الإنسان الحق فيما اشتغله وما صنعه من هذه المواد؛ ف «حياة الإنسان تقتضي العمل ووجود مواد لاستخدامها، وهذا الشرط يستتبع بالضرورة وجود ممتلكات خاصة.» لقد وهب الله الإنسان الأرض «للانتفاع بها وبخيراتها ونعمها الكبرى التي يمكنه الاستفادة منها»، لكن الله منحه الأرض كي يحسن استخدامها بكده، منحه إياها كي «ينتفع بها المجتهدون والعقلاء»، وليس لاستغلالها تبعا «لأهواء المشاكسين والمجادلين أو أطماعهم»، وعلى المجتهدين والعقلاء أن يستفيدوا منها جيدا. وهي ببساطة ليست ملكا لهم، كي يتدبروها حسبما يتراءى لهم تماما؛ فهم وكلاء على العالم، ولا بد أن يظهروا وكالتهم تلك في اجتهادهم وعقلانيتهم. ربما يسيطرون على الطبيعة ويستهلكون خيراتها (هذا هو حرفيا الغرض من الطبيعة)، لكنهم غير مخولين بأية حال لإهدار أي منها، «فما من شيء خلقه الله للإنسان كي يفسده الإنسان أو يدمره». ومن خلال ممارسة المجتهدين لوكالتهم تلك، فإنهم يغيرون العالم الذي منحه الله في الأساس للبشر، بعدد من الطرق الجذرية. إن العمل نشاط إبداعي؛ فهو «يضفي فرق القيمة على كل شيء»، و«يحقق أقصى استفادة من قيمة الأشياء، التي نستمتع بها في هذا العالم.» وفي الأماكن التي لا يجتهد فيها الإنسان كما ينبغي، كما في منطقة مثل أمريكا الغنية بالأراضي التي أمدتها الطبيعة بوفرة كبيرة في المواد، لن تحصل البلاد على جزء واحد في المائة من النعم التي استمتع بها الناس في إنجلترا خلال القرن السابع عشر، «ستجد هناك ملكا صاحب أراض كثيرة ومثمرة، يأكل ويسكن، ويرتدي زيا أسوأ من زي عامل اليومية في إنجلترا.» العمل قوة طبيعية في الإنسان، ومزاولته فرض عليه من الله، ويحض عليه الفهم العقلاني لمنزلة الإنسان في الطبيعة، وغالبا ما تكون ثماره نافعة في مجملها، وهو قديم قدم سقوط الإنسان. «في البدء كانت كل الأرض خربة» (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية)، لكن بحلول القرن السابع عشر تحسن الوضع في كثير من ربوع الأرض بفضل عمل الإنسان وكده. وإذا كان العمل هو أصل الملكية، فإن الحق والأهلية ينصهران معا - في هذا الأصل على الأقل، إن لم يكن بالضرورة بعد توارثه - ولا تدع الثمار التي تعود على البشرية جمعاء مجالا للقلق حيال هذا الأمر. وفي البداية على الأقل، سيكون الأشخاص الذين بحوزتهم ملكية أكبر هم المستحقين لتلك الملكية بالفعل، ولن يكون ثمة ما يعتذرون عنه لمن في حوزتهم ملكية أقل ويستحقونها.
لكن معظم العالم لم يعد أرضا خربة؛ ليس لأن عمل الإنسان قد رفع ببساطة من إنتاجيته على نحو هائل فحسب، لكن أيضا لأن البشر اكتشفوا طرقا لإيجاد شكل من التفاوت الاقتصادي يختلف عن الشكل الذي أتاحته لهم الطبيعة نفسها بوسائل مباشرة. يشرع العمل مبدئيا «حق ملكية» في الأشياء المشتركة في الطبيعة (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية)، وهو حق يحدده الاستخدام؛ وبذلك فإنه يحل المعضلة التي وضعها فيلمر لجروتيوس. في هذه المرحلة المبكرة من تاريخ البشرية كان حق الملكية مسألة بسيطة وليست موضع نزاع، «ولم يكن ثمة سبب حينها للنزاع حول حق الملكية أو الشك في ضخامة الملكية التي يمنحها هذا الحق، بل صار الحق والملاءمة أمرين متلازمين؛ لأنه كما أن للإنسان حقا في كل ما يستطيع أن يوظف فيه جهده، فإنه لا يبدي الرغبة في العمل بما يفوق مقدار استفادته بهذا العمل وانتفاعه منه» (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية). وكانت الوسيلة التي مكنت الإنسان من الهرب من هذه الحالة هي اختراع النقود، التي هي عبارة عن مخزون دائم للقيمة «يستمد قيمته من رضا الإنسان فحسب؛ نظرا لأنه يمثل قيمة أقل لحياة الإنسان مقارنة بالطعام والكسوة والنقل.» يزيد اختراع النقود من التفاوت بين الملكيات على نحو بالغ، وهو التفاوت الذي أتاحته «درجات الاجتهاد المختلفة» التي يظهرها الإنسان، وبحسب تقدير لوك، فقد أتاح هذا تقريبا للإنسان أن «يمتلك أكثر مما في إمكانه استغلاله»، بما أن في مقدوره أن يكتنز - دون أن يضر بأي شخص - قيمة فائض العائد الذي تدره ملكيته في صورة ذهب وفضة. ولا يعتمد التبادل النقدي على السلطة السياسية، كما أن التفاوت الاقتصادي - الذي هو نتيجة للتبادل النقدي - لا يعتمد في شرعيته على القانون المدني لمجتمع معين (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية).
هنا يشدد لوك على قضية بالغة الحساسية؛ ففي أي مجتمع سياسي، كما يقر تماما، يكون القانون هو المنوط بتنظيم حقوق الملكية (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية)، لكن من الضروري لخدمة أهدافه ألا يكون هذا التنظيم تعسفيا بحق، بل ينبغي عوضا عن ذلك أن توجهه الأغراض التي توجد من أجلها الحكومات والأهداف التي تمنح البشر حقوق السيطرة على العالم المادي. في رأيه، لم تكن حقوق الملكية المستمدة مباشرة من العمل بحاجة إلى التشريع الذي تضعه الحكومات، ولم تجز هذا القدر الكبير من تعديلات الحكومة. لكن العمل لم يقدم للبشرية سوى الخير. أما دور النقود فكان أكثر غموضا في مجمله؛ فقد أوجد المال على أقصى تقدير أسبابا للنزاع حول حق الملكية، وأثار شكوكا حول حجم الملكية وضخامتها. وكان المال هو ما أفاد أنه لم يعد ثمة تلازم بين الحق والملاءمة، فقد تأسس النظام الاجتماعي والاقتصادي بأكمله في إنجلترا خلال القرن السابع عشر على نظام بشري، شعر لوك في قرارة نفسه أن وضعه الأخلاقي متناقض للغاية. وفي هذه الفكرة تحديدا من نظريته ودون مفارقة تاريخية، يمكننا أن نراه وهو يركز بإيجاز - ولكن على نحو ثاقب - على فتور الجانب الأخلاقي للرأسمالية التجارية، لكن بمقدورنا أن نرى ذلك بكل وضوح، ولا يعود الفضل في ذلك إلى بصيرتنا الخارقة أو مزايا الإدراك المتأخر، وإنما لأن لوك نفسه لم يكن يشعر برغبة كبيرة في إنكاره، ولم يكن الغرض من نظرية لوك في الملكية هو إخفاء إحساسه بالخيبة بشأن النظام الاجتماعي والاقتصادي لإنجلترا في ذلك الوقت.
لكن، أي نوع من حقوق الملكية رام لوك في الحقيقة الدفاع عنه؟ من الأسهل أن نحدد عن يقين نوع الملكية الذي تمنى أن ينكره، وربما كان هذا هو الأوضح بالنسبة إلى لوك نفسه. كانت «الملكية» حسبما أوردها في أعماله هي الكلمة الرئيسية للتعبير عن حقوق الفرد ومستحقاته، ولو لم تكن ثمة حقوق للفرد، لما ظهر الظلم؛ فإلحاق الظلم بأحدهم يعني أن ينتزع منه شيء له الأحقية فيه؛ على سبيل المثال: حياته، أو حريته، أو ممتلكاته المادية. والغرض من وجود الحكومات هو حماية حقوق الأفراد؛ ومن ثم فالحكومات موجودة كي تكفل لكل البشر حياتهم وحرياتهم وممتلكاتهم المادية. لا شك أن لكل إنسان الحق في صون حياته وحريته، إلا إذا أسقط هذا الحق عنه بالاعتداء العنيف على حياة الآخرين وحرياتهم. بيد أن أحقية الممتلكات المادية كانت أمرا أكثر تعقيدا؛ فالممتلكات المادية التي هي ثمرة مباشرة لعمل الإنسان وجهده، هي ملك له في حقيقة الأمر، ولا يوجد دليل على أن لوك شعر بأدنى قدر من التأنيب لاحتمال أن تكون تلك الممتلكات قد منحت لآخرين في حياة مالكها، أو أن تكون انتقلت إلى ورثته بعد موته (رسالتان في الحكم، الرسالة الأولى). لكن بما أن مقدار التفاوت الاقتصادي كان يعتمد على أحد أشكال العرف السائد بين البشر فحسب، كان من الأصعب تجنب الشكوك المثارة حول ضخامة الملكية، ولا نعرف فعليا وعلى وجه الدقة رأي لوك في هذه المسألة، لكن ثمة العديد من النقاط التي يمكن الجزم بصحتها.
أولى هذه النقاط أن الباعث الرئيسي الذي دفعه إلى أن يناقش في الفصل الخامس من «الرسالة الثانية» الملكية بمفهومنا؛ ألا وهو الحق في الممتلكات المادية. كان الرغبة في إنكار حق الملك الحاكم في أن يفعل ما يحلو له بالممتلكات المادية لرعاياه، دون موافقة صريحة منهم. لقد كان ما زعمه الملك تشارلز الأول حول ممارسته هذا الحق من أجل الصالح العام، هو أحد العوامل الرئيسية التي عجلت من اندلاع الحرب الأهلية في بريطانيا، وقد مثلت احتمالية تجدد هذا الحق على يد ابنه تهديدا سياسيا مهما بالنسبة إلى حزب الويج خلال أزمة الإقصاء، وهذا أيضا من الحقوق التي دافع عنها فيلمر بكل حدة. وكانت الوسيلة الأولى التي استعان بها لوك في تأسيس حق الملكية على العمل، هي الوضوح الذي جابه به هذا التحدي؛ إن الله - وليس العرف السائد بين البشر - هو الذي منح الإنسان الحق في الانتفاع بثمار عمله. وفي الواقع، فإن العرف وحده هو الذي منح الملك هذه السلطة التي يتحكم بها في رعاياه، وبدلا من أن تكون له سيادة ملكية على رعاياه والأراضي التي ورثها مباشرة عن آدم حين منحه الله الأرض واستخلفه فيها، كان على الحاكم ببساطة - حسبما يرى لوك - أن يستخدم هذه السلطة على قدر ما هو متاح منها، وأن يستغلها في حماية الحقوق التي منحها الله نفسه لرعاياه بصورة مباشرة.
كان لوك يدرك بالطبع - حسبما يتضح من صياغته لهذا الرأي - أن سلطة أخلاقية مباشرة وشفافة على الممتلكات ترتكز على الجهد البدني، لم تتسع (ولم يكن من المتوقع أن تتسع) لتشمل نطاق التفاوت الاقتصادي الذي أفرزته عملية التبادل النقدي على مدى فترة زمنية طويلة. لكن لم يكن ما يحتاجه لوك ليدحض مزاعم الملوك بأحقية التصرف في ممتلكات رعاياهم بحسب ما يرون أنه الأفضل، هو نظرية توضح سبب الأحقية الكاملة والصريحة لكل فرد من الرعايا في أي شيء حاز ملكيته بالوسائل القانونية والشرعية، ولكن كان ما يحتاجه ببساطة هو تفسير السبب الذي يمكن به أن تكون الملكية الخاصة (وكثيرا ما كانت كذلك) حقا مناوئا حتى للسلطة السياسية الشرعية. ووفقا لما أورده لوك نفسه، فإن انتزاع ثمرة مجهود شخص ما هو شكل من الظلم مغاير تماما للظلم الذي يتأتى من انتزاع أرباح المضاربة، أو فرض ضرائب على بيان ريع الأراضي لدى أحد الأرستقراطيين، الذي وصل إلى مالكه الحالي عن طريق أعمال النهب في الماضي، أو بمحسوبية أحد الأجداد الأوائل المنتمين إلى نسل الملوك. لكن من وجهة نظر لوك السياسية، كانت الاحتمالات المتعلقة بالمحسوبية الملكية هي بالطبع أبرز التهديدات وأكثرها إلحاحا في ذلك الوقت؛ وما من سبب للاعتقاد بأن لوك كان سيشعر باستهجان أقل في الحالة الثانية عن الأولى.
من الأمور التي يصعب تقييمها رأي لوك في نظريته عن الملكية عندما تأملها بعد سنوات، ولا سيما في السنوات الأخيرة من حياته. ما نعرفه - حسبما ذكر بالفعل - أنه كان يفخر بها، إلا أننا لا نعرف بالضبط الأوجه التي منحته هذا القدر من الرضا. وأجرأ رد على هذه المسألة كان ما قدمه سي بي ماكفرسون على نحو مدهش للغاية؛ وهو أن لوك كان يقصد من نظريته أن تكون تفسيرا للشرعية الأخلاقية للإنتاج الرأسمالي. ثمة حجة ضعيفة لأخذ هذا الرد على محمل الجد، باعتباره تقييما لمقاصد لوك من صياغة نظريته. لكن ثمة سؤال أكثر أهمية؛ وهو: إلى أي مدى قد يصور هذا الرأي - ولو بشيء من المفارقة التاريخية البسيطة - إحساس لوك بالإنجاز الذي حققه بصياغة هذه النظرية؟ لكن يظل هذا الرأي في أقوى أشكاله غير مقنع بالمرة؛ فقد اعتقد لوك - مثل توماس الأكويني - أن كل البشر لديهم الحق في الكفاف المادي، وهذا الحق يتجاوز حقوق ملكية الآخرين. كان لوك يرى أنه حتى إذا كان السعر العادل هو سعر السوق (الفصل الخامس)، فإن الإصرار على عدم البيع إلا بسعر السوق لرجل في احتياج مميت بما يتسبب في هلاك هذا الرجل، هو ضرب من القتل. وكان يرى أن أولئك الذين ظلوا يعملون طوال حياتهم، لهم الحق في أن يعيشوا في الكبر حياة كريمة، وليس الحق في مجرد الكفاف فحسب، وكل هذه حقوق كانت تستند مباشرة إلى منح الله الأرض للبشر أجمعين، وفكرة أن الأعراف البشرية اللاحقة (مثل التبادل النقدي) ربما تكون لها الأحقية في التعدي على تلك الحقوق، تتعارض تعارضا جوهريا مع مفهوم لوك عن الملكية. أقر لوك فعليا أن السيد يمكنه امتلاك العمل المدفوع الأجر لخادمه. لكن هذا الإقرار العارض نسبيا لما كان على أية حال سمة رئيسية للعلاقات الاقتصادية الإنجليزية في زمنه من الصعب أن يكون تأكيدا لحماسه تجاه الدور المحوري لسوق العمالة بالأجر في الإنتاج الرأسمالي؛ إذ ينكر لوك صراحة أن الإنسان الذي حرم من وسائل الإنتاج (التي منحها الله لكل البشر)، يمكن إجباره على الخضوع والإذعان من خلال التحكم في تلك الوسائل (رسالتان في الحكم، الرسالة الأولى).
يمنح «الإحسان» كل إنسان الحق في أن ينهل الكثير مما يوجد بوفرة لدى الآخر، كما يحميه من العوز الشديد؛ حيث لا يملك سبلا أخرى للعيش، وليس ثمة ما يبرر استغلال شخص لحاجة شخص آخر، من أجل إرغامه على الخضوع له، بمنع تلك الإعانة التي يلزمه الله بتقديمها إلى إخوانه المعوزين، أكثر من أن يكون في مقدور هذا الشخص الأقوى الاستحواذ على الشخص الأضعف وتسخيره لطاعته، مطالبا إياه - تحت تهديد السلاح - إما بالموت وإما بالعبودية (رسالتان في الحكم، الرسالة الأولى).
شكل : جون لوك، 1676، للرسام جون جرينهيل.
ثمة سبب وجيه بصفة عامة للاعتقاد بأن لوك شعر أن مفهومه عن الملكية يمثل تقدما هائلا على المنظرين البارزين في مجال حقوق الملكية؛ جروتيوس وبوفندورف، وذلك في شرحه لمنظومة الحقوق التي يبنى عليها المجتمع التجاري. لكن ليس ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأنه كان ينظر إلى منظومة الحقوق هذه بحماس لا يميز بين الجيد والرديء. لقد غيرت إنتاجية العمل البشري وجه العالم بما يحقق متعة الإنسان ، حسبما أراد الله منها؛ وعزز التبادل النقدي - الذي هو وسيلة بشرية خالصة - هذا التحول بالعديد من السبل، لكنه أضر أيضا بالشفافية الأخلاقية للملكية البشرية بما لا يدع مجالا لاستعادتها مرة أخرى، وحيثما تصطدم الحقوق المترتبة مباشرة على العمل، مع تلك التي تعتمد على التبادلات النقدية المعقدة وحدها، سيكون لوك نفسه في وضع صعب لا يسمح له بإجازة الحقوق المترتبة على التبادلات النقدية المعقدة. وفي ذلك الحين كان التاريخ المتشابك لنظرية القيمة المستمدة من العمل، في تبرير الإنتاج الرأسمالي ورفضه، منعكسا بالفعل من خلال أوجه الالتباس في النظرية التي صاغها.
طبيعة السلطة السياسية
كان ثاني تحد أثارته كتابات فيلمر في ذهن لوك، أيسر في مجابهته في بعض النواحي، وأثار ردا أقل أصالة من جهته. لكن لما كان السؤال موضع الخلاف في هذه الحالة سؤالا عن الحق في مقاومة السلطة السياسية الجائرة، فقد تناوله لوك بقدر من الإسهاب والحماس البلاغي يفوق ما خصصه لموضوع حقوق الملكية. كان فيلمر يعتقد - كما رأينا - أن كل الرعية مدينون بالطاعة لحاكمهم؛ لأن الله أسلمهم، حرفيا، إلى هذا الحاكم بما معهم من الأراضي القاطنين فيها. وعلاقة حاكمهم بهم هي علاقة مالك بممتلكاته، وكان لوك نفسه يتبنى في سنوات مبكرة من حياته وجهة نظر إيجابية حول مزاعم السلطة السياسية. لكن ليس ثمة ما يدعو للاعتقاد في أنه كان سيجد في مذهب فيلمر المتعنت أي مصدر جاذبية على الإطلاق. لقد استحسن لوك القوة التي أكد بها فيلمر على الأهمية المحورية التي يمثلها حظر المسيحية للانتحار في النظرية السياسية، لكنه استخدمها لإصابة أفكار فيلمر في الصميم، فلما كان الإنسان في نهاية المطاف ملكا لخالقه وليس ملكا لنفسه، فإن حق أي إنسان في انتزاع حياة غيره (بما في ذلك حياته هو نفسه) يجب أن يستند مباشرة إلى مقاصد الله من خلق الإنسان بوجه عام. ففكرة أن يمتلك إنسان إنسانا آخر بالوراثة، فضلا عن ملايين الأشخاص، ليست لها أية علاقة منطقية بالأغراض التي خلق الله الإنسان من أجلها . لقد حولت الحجج التي ساقها فيلمر كل الرعايا السياسيين إلى عبيد. كانت العبودية هي الجزاء المنصف الذي يمكن أن يلقاه الإنسان جراء اقترافه شرا ما، لكنها كانت على النقيض من حياة الإنسان الحقيقية، ولا يمكن تحت أي ظرف أن تكون نتيجة الآثام التي يرتكبها شخص آخر. (ولا بد أن لوك شعر بإحراج شديد حيال هذا التحفظ بصفته أحد المساهمين في شركة «رويال أفريكا كومبني» لتجارة الرقيق، بما أنه كان يقتضي بوضوح أن العبودية كوضع لا يمكن أن تورث شرعا من جيل لآخر؛ فكل أشكال العبودية الشرعية كانت في الأساس ضربا من العقاب، ولم يكن من الممكن أن تورث جرائم الأب أو الأم إلى أبنائهما.) ومن وجهة نظر لوك، كانت العبودية هي النقيض الصريح للسلطة السياسية الشرعية. وما جعل السلطة السياسية شرعية، وما أعطى الحكام الشرعيين حق السيادة، هو الخدمات الفعلية التي بمقدورهم أن يقدموها إلى رعاياهم، وقد قدموها بالفعل؛ ومن ثم، لا يعد الملوك الشرعيون مالكين لرعاياهم، بل خدم لهم.
رأى فيلمر (حسبما كان في الواقع رأي لوك في شبابه) أن الإنسان عنيد وأناني وميال إلى النزاع بدرجة تحتم ألا يترك دون مساعدة للسعي نحو خلاصه الفعلي، وقد تولت العناية الإلهية حمايته، وكان ذلك في المقام الأول من خلال إخضاعه دائما لمنظومة من السلطة الفعالة. ظل لوك طوال حياته الفكرية متفقا مع هذا التقييم لطبيعة الإنسان والسلوكيات الممكن توقعها منه، لكنه عمد بثقة في «رسالتان في الحكم» إلى توسيع نطاق هذا التقييم ليشمل الحكام بقدر ما يشمل الرعية، واستخلص منه نتائج مختلفة تماما عما استخلصها فيلمر. في كتاباته الأولى كانت ثمة هوة واسعة بين الحاكم الإله وبين الأغلبية «التي يرى الحكماء دوما أنها وحوش جامحة ويطلقون عليهم تلك الصفة» (مقالان في الحكومة)، لكن هذه الهوة اختفت في «رسالتان في الحكم»، وغالبا ما صار ينظر إلى الحاكم بالصورة نفسها التي ينظر بها إلى رعاياه، على أنه يسلك طريق «القوة، التي هي نهج الحيوانات والوحوش» (رسالتان في الحكم).
إن العقل على النقيض من القوة؛ فالعقل هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان، وطريق العقل هو الطريق الذي تريد مشيئة الله أن يسلكه الإنسان، ويستطيع الإنسان - بل يتعين عليه أيضا - من خلال إعمال عقله أن يعرف ما يريد الله منه أن يفعله، والعقل هو الذي يتيح للإنسان تقدير النهج الأفضل في الأمور التي لا يكون لمشيئة الله دخل مباشر فيها. والعقل موجود لدى كل البشر البالغين الأصحاء عقليا؛ فقد ولد جميع البشر أحرارا وعاقلين، وإن كانت هذه ملكات عليهم أن يتعلموا كيفية ممارستها بمرور الوقت، وليست صلاحيات وقدرات يحوزون عليها كاملة عند ولادتهم. وكل البشر - بوصفهم مخلوقات الله العاقلة التي تعيش في عالم من خلق الله - سواسية، سواء في حقوقهم الرئيسية أم في الواجبات المكلفين بأدائها.
وفي ظل هذه المساواة في الحقوق والواجبات، وبعيدا عن الوقائع التاريخية الفعلية لكل زمان ومكان، يجابه البشر بعضهم بعضا فيما يسميه لوك الحالة الأصلية، وهذه الفكرة على الأرجح هي أكثر أفكاره التي أسيء فهمها على الإطلاق؛ نظرا للدور الذي تؤديه فكرة مشابهة جزئيا في كتابات توماس هوبز. يصف هوبز الحالة الأصلية للبشر (في مرحلة ما قبل بناء المجتمعات) بأنها حالة صراع عنيف تتولد عن الحماس والعداء، والعقل وحده هو القادر على إنقاذ الإنسان منها، والخوف من الأخطار المميتة هو الحافز الوحيد الذي لديه ما يكفي من القوة للتغلب على تلك الخصال المعادية للمجتمع لدى الإنسان. ويتبنى لوك وجهة نظر أقل انفعالا بشأن المخاطر الفعلية التي يمثلها البشر بعضهم لبعض، ويقر بالخصال الاجتماعية واللااجتماعية في الطبيعة البشرية، لكنه في المجمل لا يختلف كثيرا عن هوبز (أو في الحقيقة عن فيلمر) في حكمه على ماهية الإنسان والتصرفات المتوقعة منه. لكن بينما يمكننا فهم الحالة الأصلية من وجهة نظر هوبز على أنها صورة توضح الكيفية التي كان الإنسان سيتصرف بها لو لم يكن خاضعا لسلطة سياسية، فإن هذه العبارة وفقا لرأي لوك لا تشير ببساطة إلى ميول الإنسان وتوجهاته على الإطلاق؛ فالحالة الأصلية من وجهة نظره هي الحالة التي خلق الله عليها كل البشر عندما أتى بهم إلى العالم، قبل الحياة التي يحيونها، وقبل المجتمعات التي تأسست بعيش تلك الحياة. ولم يكن الغرض من ذلك هو بيان الحالة التي عليها الإنسان وماهيته، وإنما بيان حقوق البشر وواجباتهم بوصفهم مخلوقات الله.
أقصى حقوق الإنسان وواجباته أن يقدر أوامر خالقه فيما يخص الكيفية التي يريده أن يعيش وفقا لها في هذا العالم، الذي هو أيضا من خلق الله، وما يقتضيه الله من جميع البشر في الحالة الأصلية هو أن يعيشوا طبقا لقانون الطبيعة، ويستطيع كل إنسان بإعمال عقله أن يفهم مضمون هذا القانون وفحواه. لكن مع أن لوك كان مقتنعا تماما أنه يتوجب على البشر فهم هذا القانون والواجب المنوطين به للالتزام بمتطلباته وقدرتهم على ذلك، فإنه لم يكن واثقا البتة في مطلع ثمانينيات القرن السابع عشر في الكيفية التي يعتقد - بل يتعين أيضا - أن يستخدم بها البشر هذه القدرة لفهم هذا القانون. وكما سنرى، انشغل لوك طوال حياته الفكرية بمسألة الكيفية التي يستطيع بها الإنسان التمييز بين القواعد التي يمليها عليه قانون الطبيعة، وأشكال التحيز والإجحاف السائدة في مجتمعه؛ مع ذلك استطاع لوك أن يغض الطرف بسلام عن مسألة كيفية فهم الإنسان لمضمون قانون الطبيعة في كتابه «رسالتان في الحكم»، لكن كان المهم ببساطة هو واجب البشر في الالتزام بهذا القانون وقدرتهم على ذلك، مع قدرتهم أيضا - بوصفهم مخلوقات حرة الإرادة - على اختيار الإخلال به وعدم الامتثال له. ولم تكن ثمة معارضة في صفوف من كان يعتزم لوك الجدال معهم في هذا الوقت على هذا الحكم؛ ولو كان قد حاول إثبات هذا الحكم في معرض نقاشه، لكانت تلك المحاولة غير مجدية ومستنفدة فكريا تماما، شأنها - على سبيل المثال - شأن محاولة إثبات وجود خالق إلهي في هذا العمل نفسه.
في الحالة الأصلية تتساوى الواجبات المنوط بها إلى كل إنسان بموجب قانون الطبيعة مع الحقوق المكفولة له بموجب هذا القانون، وأهم هذه الحقوق هو محاسبة الآخرين على خرقهم لهذا القانون ومعاقبتهم وفقا لذلك: السلطة الإجرائية لقانون الطبيعة التي بمقتضاها فقط يصير هذا القانون نافذا ومعمولا به بين البشر على الأرض؛ فليس لأي إنسان الحق في قتل نفسه؛ لأن كل البشر ملك الله (تقييد واضح لمفهوم وجود أي ملكية للبشر في أجسادهم). لكن يحق لكل إنسان إنزال العقوبات - بما يصل أيضا إلى عقوبة الموت - بأي إنسان ينتهك قانون الطبيعة انتهاكا بالغا يستوجب هذه العقوبة، وبخاصة إنزالها بأي إنسان آخر هدد حياة أي إنسان دون مبرر. فإفساد أي من عطايا الله وإهدارها كان يمثل مخالفة لقانون الطبيعية، لكن سلب حياة أي إنسان أو إهدارها كان يمثل جرما ذا وقع خاص. كانت الحالة الأصلية حالة من المساواة، وكان لا يزال من الممكن فيها - حتى في العالم المتحضر في عصر لوك - أن يلتقي البشر بعضهم ببعض من حين لآخر. ومتى التقى الأفراد خارج إطار سلطة سياسية شرعية مشتركة، فإنهم وفقا لهذا المفهوم يلتقون أيضا بوصفهم سواسية: سواء اجتمع مواطن سويسري وآخر هندي في غابات أمريكا، أو التقى ملك إنجلترا بملك فرنسا في معسكر القماش الذهبي لتقرير مصائر بلديهما. ومن وجهة نظر فيلمر، التي كانت تتفق في الواقع مع وجهة نظر كثير من نقاد القرن الثامن عشر الذين تعرضوا للنظريات المتعلقة بالحقوق الطبيعية، كانت الحالة الأصلية زعما مفتعلا عن ماضي الإنسان، أو تعديلا ملفقا في سجل الكتاب المقدس، أو ضربا من التاريخ التدنيسي المزيف بالكامل، لكن لا شك أنها من وجهة نظر لوك لم تكن ضربا من التاريخ على الإطلاق؛ إذ إنها كانت حقيقة قائمة في العالم في عصره بقدر ما هي حقيقة قائمة منذ آلاف السنين، وترمي بظلالها على جميع المجتمعات السياسية الإنسانية طوال أي مستقبل محتمل. ولم يكن ما أوضحته تلك الحالة للإنسان الشكل الذي كانت عليه حياته في الماضي، وإنما ما يمكن أن تبلغه السلطة السياسية بين البشر مستقبلا.
كانت مسألة ما يمكن أن تبلغه السلطة السياسية بسيطة بما يكفي: الجمع بين السلطات التي في أيدي البشر تنفيذا لقانون الطبيعة، وما يترتب على ذلك من تخلي عموم المجتمع السياسي عن هذه السلطات بمختلف أشكالها. تمثلت مزايا هذا الدمج في أنه يقدم فرصة أكبر للحكم بحيادية على قواعد الحياة العامة ووضعها موضع التنفيذ، وكذلك في تحسين توقعات إقرار السلام التي يطرحها هذا الحياد. أما عن خطورة هذا الدمج، وهي الخطورة التي كانت تستحوذ على ذهن لوك أثناء الكتابة، فقد تمثلت في الزيادة الهائلة في السلطة القسرية التي منحها هذا الدمج للحاكم السياسي صاحب السيادة، بالإضافة إلى الخطر القائم على الدوام في احتمال إساءة استخدام هذه السلطة أيضا؛ فالتحيز سمة رئيسية في الطبيعة البشرية، وكلما زادت السلطة زادت مخاطر التحيز وفداحة عواقبه؛ وحيثما ازداد فساد السلطة بفعل المداهنة والخضوع، صارت مخاطر التحيز أوسع نطاقا. أدرك لوك ما تمثله السلطة العليا من قيمة فعلية لخدمة الأغراض البشرية، لكنه كان يخشاها أيما خشية، وظن - مثلما لا يزال لدينا جميع الأسباب التي تدفعنا إلى أن نظن مثله - أنه لا يمكن الوثوق فيها إلا عندما يرى الأشخاص المنوطون بها أنهم مسئولون (ويمكن أن يتحملوا المسئولية) تجاه الأشخاص الذين يمارسون تلك السلطة عليهم.
تشكل كثير من الدول في عصر لوك - بحسب معرفة لوك نفسه - عن طريق الغزو والمعارك العنيفة؛ ومن ثم لم تكن السلطة السياسية في تلك الدول ترتكز بأية حال على دمج سلطات مواطنيها تنفيذا لقانون الطبيعة. وحسبما يرى لوك، لم تكن تلك الدول تمتلك سلطة سياسية شرعية على الإطلاق، بل كانت عبارة عن كيانات أسست على القوة، وليس الحق؛ فهي ليست بمجتمعات مدنية على الإطلاق. ولم تكن علاقة المعتدي بالمعتدى عليه، حتى بعد قرون من الزمان، علاقة سلطة سياسية، وإنما هي علاقة حرب مقنعة (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية).
تعتمد السلطة السياسية في المجتمعات المدنية على مبدأ الاتفاق، أو التراضي، في نهاية الأمر. وفي المقابل، يتعارض النظام الملكي المستبد مع المجتمع المدني (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية)، وغالبا ما كان يتعين على المواطنين التابعين للنظام الملكي المستبد أن يطيعوا الممسك بزمام السلطة السياسية، إذا كان ما يأمر به في ذلك الحين فيه نفع، أو إذا كان عصيان أوامره سيلحق ضررا وخطرا بالآخرين؛ بيد أن الممسك بزمام السلطة السياسية ليس له الحق بأية حال في توجيه أوامر إلى رعاياه، وما من شيء يخول لإنسان أن تكون له سلطة سياسية على أشخاص بالغين إلا بموافقة هؤلاء الأشخاص أنفسهم. وكان هذا رأيا خطيرا، أثار إشكاليتين أساسيتين لدى لوك؛ أولهما: الإشكالية التي كانت ذات أهمية بالنسبة إلى فيلمر، وهي إثبات أن هذه الاتفاقيات قد حدثت بالفعل، لا سيما في إنجلترا. وثانيهما: الإشكالية الأهم في ضوء النقد الفوضوي الحديث لمفهوم السلطة السياسية نفسه؛ وهي بيان الأسس المنطقية التي يمكن على أساسها افتراض أن كل فرد بالغ في أي مجتمع سياسي شرعي قد وافق على حاكمه السياسي. لم يكن رد لوك بليغا في أي من الحالتين؛ فقد تملص لوك من التحدي التاريخي الذي يقتضي تقديم نماذج على هذا الاتفاق، وبيان اللحظة الفعلية في تاريخ إنجلترا التي حدث فيها هذا الاتفاق، وبما أن جميع أطراف النزاع في أزمة الإقصاء قد اتفقت على أن إنجلترا دولة شرعية، وتظاهر الجميع بتأييده - ولو بالكلام فقط على أقل تقدير - لدور المؤسسات النيابية الإنجليزية في رفع موافقتهم على التشريع، فلم يكن هذا بوسيلة مكلفة على الإطلاق. أما فيما يتعلق بالتحدي الثاني المتمثل في بيان الكيفية التي يمكن بها افتراض أن كل فرد بالغ في أية دولة شرعية يستطيع الاضطلاع بواجبات سياسية صريحة وواضحة تجاه تلك الدولة، وأنه يتحمل تلك الواجبات بالفعل، فقد تناوله لوك على نحو أكثر تفصيلا من خلال التمييز بين نوعين من الموافقة: الموافقة الصريحة (العلنية)، والموافقة الضمنية. من خلال الموافقة الصريحة يصير المواطن شخصا له كامل العضوية في مجتمعه طوال الوقت، يتمتع بكل الحقوق والواجبات المترتبة على تلك العضوية؛ أما الموافقة الضمنية، وهي الأسلم للمواطن، فإنها تجعل المواطن خاضعا لقوانين دولته ما دام فيها، لكنها لا تمنحه عضوية المجتمع ولا الحقوق المترتبة على هذه العضوية (ويقصد بها حقوق الاختيار السياسي في المقام الأول). فسرت الموافقة الصريحة السبب في تمتع أعضاء نظام الحكم الشرعي بنطاق مناسب من الحقوق والواجبات، لكنها فعلت ذلك من خلال التجاهل المداهن لحقيقة أنه ما من مواطن إنجليزي في ذلك الوقت كان يتحمل طواعية تلك المسئوليات عند بلوغه سن الرشد؛ أما الموافقة الضمنية، فإنها تضمن - على نحو تطميني - أنه على جميع المواطنين في إنجلترا الإذعان للقانون، لكنها تلقي قليلا من الضوء على الذكور البالغين المعاصرين للوك الذين يرى لوك أنهم يتمتعون بكامل العضوية في مجتمعه.
لكن خلال أزمة الإقصاء لم يكن نطاق العضوية في المجتمع السياسي مثار جدل وخلاف بالغ، على نحو ما كان في مناقشات بوتني أثناء الحروب البرلمانية بين رواد حركة أنصار المساواة، وقائديهم العسكريين كرومويل وهنري إرتون في شتاء عام 1647. صاغ لوك معالجته لفكرة التراضي من أجل أن يتناول مجموعة من القضايا الأقل تطلعا، وكان الهدف منها في المقام الأول أن تفسر السبب في إمكانية وجود علامة جوهرية فارقة بين المجتمعات السياسية الشرعية والأخرى غير الشرعية، وهي الإمكانية التي أنكرها كل من فيلمر وهوبز. المجتمعات السياسية الشرعية هي تلك المجتمعات التي يكون للحكومة فيها حق الطاعة. وتقدم الواجبات التي يدين بها الأفراد بعضهم تجاه بعض بموجب قانون الطبيعة - حتى في الحالة الأصلية فيما قبل بناء المجتمعات - تفسيرا كافيا لوجوب طاعة الحكام على معظم الأفراد غالبية الوقت في المجتمع السياسي المستقر. لم تكن نظرية لوك عن التراضي نظرية حول الالتزامات السياسية للمواطنين، والكيفية التي يتسنى بها أن تكون ثمة واجبات سياسية على المواطنين. وعلى نحو أكثر تحديدا، فإنها لم تكن غالبا مجرد محاولة بائسة كي يثبت للساخطين اجتماعيا أن مصدر الأمان الكامل لهم يكمن في الحفاظ على النظام الاجتماعي، وإنما هي بالأحرى محاولة لشرح الكيفية التي يتسنى بها أن تكون للحكام (حكام المجتمعات المدنية، على الرغم من أنهم ليسوا حكاما لأنظمة ملكية مستبدة) حقوق في السلطة السياسية.
لا شك أن ما كتبه لوك كان بغرض الإعلان عن الحق في الثورة، لكنه لم يكن معاديا للسلطة السياسية على الإطلاق؛ فالسلطة السياسية - في إطار حدودها السياسية الواجبة - تعود بنفع هائل على الإنسان. وحتى بعيدا عن التعريف التشريعي لتلك الحدود، يمكن - بل ينبغي أيضا - أن تكون ممارسة الحق الملكي من أجل الصالح العام، على الرغم من حرفية القانون. فمن المتوقع فعليا أن تحوز السلطة السياسية الثقة التي تستحقها إذا مورست على أساس من الحكمة والمسئولية، وإذا كان التمسك بالمبادئ الدستورية بمنظوره الضيق هو في نهاية الأمر محاولة لضمان حكومة تكون السيادة فيها للقانون وليس لفرد، فإن لوك وضع - كملاذ أخير - نوايا البشر الحسنة فوق الصرامة الدستورية؛ وفي النهاية، فإن كل الحكومات التي مرت على البشرية كانت حكومات أفراد (الفكر السياسي لجون لوك). اهتم لوك في جانب كبير من الرسالة الثانية بالقضايا الدستورية، لا سيما العلاقات القائمة بين الملكية الخاصة والرضا الشعبي والمؤسسات النيابية وسلطة سن القوانين (السلطة التشريعية)، وحازت الرسالة الثانية على استحسان المستعمرين الأمريكيين بعد مرور ما يقرب من قرن من الزمان، بفضل إصرارها الشديد على عدم مشروعية فرض الضرائب دون تمثيل نيابي. لكن على الرغم من المعالجة البارعة للقضايا الدستورية في «رسالتان في الحكم»، فإنها لم تكن في صميم التزاماتها الجوهرية عملا مؤيدا للمبادئ الدستورية، بل كانت تنادي بحقين يستعصي تحقيقهما؛ وهما: حق الحاكم في مجتمع سياسي شرعي في استغلال النفوذ السياسي على نحو يتنافى مع القانون من أجل خدمة الصالح العام؛ وحق جميع الأفراد في الخروج على الحاكم - حتى لو كان في مجتمع سياسي شرعي - متى أساء استخدام نفوذه على نحو صارخ.
مركزية الثقة
تقع فكرة الثقة في صميم مفهوم لوك عن الحكومة، وتلعب دورا محوريا في إدراك ازدواجية هذه الرؤية وتناقضها؛ فالحكومة - من وجهة نظر لوك - عبارة عن علاقة بين أفراد، بين أناس يتمتعون بالمقومات التي تجعلهم جميعا أهلا للثقة، ويمكن لأي من هؤلاء الأفراد خيانة هذه الثقة، بل هذا ما يئول إليه الأمر أحيانا. والثقة من أقدم المفردات الواردة في فكر لوك، ووجوب الثقة وخطورتها ضروريان للوجود البشري؛ فالناس «يحيون بالثقة» كما كتب لوك عام 1659. وبعدها بسنوات قلائل، وجه لوك في محاضراته انتقادا غاية في الحدة إلى الرأي القائل بأن مصلحة الفرد يمكن أن تكون الأساس الذي يبنى عليه قانون الطبيعة، وذهب في نقده إلى أن هذا الرأي لا يجعل قانون الطبيعة متناقضا في ذاته فحسب، وإنما تستحيل معه أيضا فكرة المجتمع ذاته والثقة التي هي ميثاق المجتمع (مقالات حول قانون الطبيعة)، ومن أبرز الأمثلة وأوضحها على أهمية الثقة في حياة الإنسان القسم وقطع الوعود؛ فالوعود والأقسام ملزمة لله نفسه (رسالتان عن الحكم). ولعل اللغة هي «الوسيلة المهمة، والرابطة المشتركة التي تربط أفراد المجتمع» (مقال في الفهم البشري)، لكن ما أتاح لها أن تكون فعلا وسيلة للربط بين أفراد المجتمع هو قدرتها على التعبير عن التزامات بعضهم تجاه بعض، وعن التعهدات والأقسام الوعود المغلظة التي تبنى عليها بالضرورة ثقة بعضهم في بعض، والتي تشكلت منها الروابط التي تربط حياتهم المشتركة (رسالة في التسامح). وكانت مخاطر الإلحاد أنه أزال كل الشق الإلزامي من هذه التعهدات؛ مما اختزل قانون الطبيعة إلى مصالح فردية متضاربة وبدد كل الأسس التي تؤيد ضرورة وجود الثقة بين البشر. ولما حرم البشر من العناية الإلهية وتركوا لحالهم، لم يكن لدى الناس أي سبب وجيه ليثق بعضهم في بعض؛ ومن ثم فقدوا القدرة على العيش معا في مجتمع. ولولا فساد الإنسان (سقوط الإنسان)، لظل الناس ينتمون إلى مجتمع واحد (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية). الفساد الأخير هو أن يصير الإنسان غير مدرك لحقيقة اعتماده على خالقه؛ وهو ما أدى إلى تفسخ «الجماعات الصغرى والمتشعبة» العديدة في زمن لوك، إلى أولئك الأفراد المنعزلين والعديمي الثقة الذين كانت تتألف منهم تلك الجماعات. وبقدر ما يستحق البشر ثقة بعضهم في بعض، فإنهم يساعدون في تماسك المجتمع الذي قصده الله لهم، وبقدر ما يخونون ثقة بعضهم في بعض، فإنهم يساعدون في انحلاله وتفسخ أركانه. ومما لا شك فيه أن الممسكين بزمام السلطة السياسية هم من لهم هذه السلطة؛ إما لتعزيز مقاصد الله، وإما لمخالفتها على نحو سافر للغاية. ونظرا لأن الأفراد على دراية تامة بحاجتهم إلى أن يثقوا بعضهم في بعض، ولأنهم يستشعرون العون الذي يمكن أن تقدمه لحياتهم هذه السلطة المجمعة المعنية بتنفيذ القانون الطبيعي، فإنهم بوجه عام سيولون حكامهم الثقة الكاملة على نحو يفوق ما يستحقه هؤلاء الحكام. ولأن السلام ضروري للغاية من أجل العيش في «أمان وراحة ورخاء» (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية)، فإن ثقتهم في حكامهم على هذا النحو هو أمر مرغوب ومستحب بوجه عام.
لم يشكك لوك - على غرار اللاسلطويين المحدثين - في السلطة السياسية نفسها، على الرغم من إدراكه التام بالمخاطر التي تمثلها، وإنما ما شكك فيه بالأحرى هم البشر الذين ترك لهم الحبل على الغارب، أولئك الذين لم يعودوا يفهمون معنى اعتمادهم على خالقهم. يرى البشر الذين لا يزالون على وعي بهذا الاعتماد أن محاولة ثقة بعضهم في بعض، حكاما ومواطنين على حد سواء، هي أمر واجب في ظل قانون الطبيعة، لكنه واجب طلبا للسلام وليس واجبا لإنكار الدروس المستفادة بحكم الخبرة والتجارب. ولا يعني واجب الثقة أن يكون المرء ساذجا، بل ربما لا يكون أيضا حقا ممنوحا للمرء يخول له ذلك، وحتى الملك المستبد - في ظل الحالة الأصلية هو ورعاياه - ليس ببعيد عن أن يكون محل ثقة غيره من البشر. ويحق للحكام المدنيين أن يحظوا بثقة أكبر؛ وإذا كانوا يستحقونها، فربما هم على ثقة في أن ينالوها. لكن خيانة الثقة أمر محتمل لأي إنسان، حتى حاكم المجتمعات الأكثر مدنية، وهكذا هي حياة البشر، ولا بد أن نحاول الوثوق بعضنا في بعض، على المستوى الشخصي وكذلك على المستوى السياسي؛ لكن علينا جميعا أيضا أن نقدر الوقت والحد الذي خان به الآخرون ثقتنا فيهم.
قد تبدو الثقة مفهوما واهيا وأحمق لا يستدعي أن يتصدر مشهد الفهم السياسي، والعلاقات التي تربط بين آراء لوك الدينية ومفهومه عن مدى أهلية الإنسان للثقة لن تحبب الكثيرين اليوم (ومن المفترض ألا تحببهم) في تقديره لتلك الأهلية، لكن لم تكن رؤيته للسياسة وحياة الإنسان بصفة عامة - حسبما ارتآهما - باعتبارهما تستندان في النهاية إلى الثقة؛ وجهة نظر سطحية، وعدم دقتها كان أمرا ضروريا، وكانت استحالة الهروب من حالة عدم الدقة هذه هي نقطتها المركزية، ولا يزال هذا هو النهج في عالم السياسة.
الخيانة عكس الثقة؛ وكان علاج خيانة الثقة في عصر لوك هو الحق في القيام بثورة على الحاكم؛ فوجود سلطة حيادية يمكن اللجوء إليها كان أعظم فائدة يمكن أن يقدمها مجتمع سياسي شرعي لأفراده. وحيثما وجدت هذه السلطة، فإنها تستبعد حالة الحرب بين الأفراد، وتمحو الحاجة إلى الاحتكام إلى الله مباشرة، والذي كان يمثل عنصرا جوهريا وأصيلا في هذه الحالة (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية). لكن الحيادية إنجاز بشري وليست إحدى وقائع القانون الدستوري؛ فالحكام بشر بالمعنى الفعلي للكلمة، وهم يتبوءون السلطة بحكم القانون، وتنبع أحقيتهم في التمتع بطاعة رعاياهم من التطبيق الحيادي لهذا القانون، وحيثما يأتوا بأفعال تتنافى مع هذا القانون أو خارجة عنه بما يضر بمصلحة رعاياهم، فإنهم يصيرون طغاة، وحيثما ينتف القانون، يبدأ الطغيان (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية). والحاكم متولي السلطة الذي يستخدم القوة بما فيه إضرار بمصالح رعاياه وبما يتنافى مع القانون، إنما يدمر سلطته، فهو يضع نفسه في حالة حرب مع رعاياه المتضررين، ولكل فرد من هؤلاء الرعايا الحق في الخروج عليه تماما حسبما كانت ستتعين مقاومة أي معتد غاشم آخر (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية).
كان ينظر إلى هذا الفكر في إنجلترا في عصر لوك على أنه مذهب شديد التطرف؛ وبذل لوك قصارى جهده من أجل التقليل من فداحة الآثار الفعلية المترتبة عليه، وما من حاكم يقصد بحق الخير لشعبه سيخفق في أن يجعل أفراد شعبه يشعرون بذلك، ولا حاجة بمثل هذا الحاكم إلى أن يخشى مقاومة شعبه، وسوف تمر أعمال الطغيان الطائشة دون مقاومة، ما دام أنه لا يمكن لضحاياها توقع الدعم فعليا من إخوانهم المواطنين، ولا يمكنهم أن يأملوا التصدي للطاغية ومقاومته بمفردهم، ووحده التهديد الصريح - الفعلي أو المحتمل - لممتلكات الأغلبية وحرياتهم وحياتهم (وربما دينهم أيضا)، وهذه «سلسلة طويلة من الأفعال»، سيكون كفيلا بإشعال فتيل المقاومة ، لكن إذا اشتعلت نيران المقاومة حقا، فلا غموض حول المسئول عن اندلاعها. تعتبر مخالفة الحكومة وإزعاجها خرقا لقانون الطبيعة؛ والتمرد دون سبب عادل ضد حكومة شرعية يعني بدء حالة حرب (وبدء حالة الحرب فعل جائر، والحروب الوحيدة التي ينظر إليها بوصفها عادلة، هي تلك الحروب التي تشن دفاعا عن النفس). لكن عندما يقاوم المظلومون الطغيان، فإنهم ليسوا هم من يزعجون الحكومة أو يعيدون حالة الحرب؛ فالتمرد هو «معارضة ضد السلطة، وليس ضد أشخاص»، فلا سلطة للحاكم الظالم، والحكام الظالمون هم المتمردون الحقيقيون. وعلى غرار أي شخص يستخدم قوة الحرب لتنفيذ أغراضه على نحو جائر وفرضها على شخص آخر، فإن الحاكم الظالم ينسلخ عن طبيعته «ليتقمص الطبيعة الحيوانية عندما يتخذ القوة - التي هي من طبيعة الحيوانات والوحوش - قاعدة الحق التي يحتكم إليها»، وهو بذلك الصنيع قد جعل نفسه «عرضة لأن يطيح به الشخص المتضرر ومعه بقية البشر الذين سوف ينضمون إليه في تطبيقه للعدالة، شأنه شأن أي حيوان ضار أو مؤذ يستحيل للبشر التعايش معه، أو الشعور بالطمأنينة والأمن في وجوده (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية).»
إن القضاء على الحيوانات الضارة هو حق مكفول للبشر كافة، لكن في المجتمع السياسي الشرعي لا يمكن أن ينظر حتى إلى أسوأ الطغاة على أنه حيوان ضار؛ فإلى جانب حق الفرد في الثأر نظير الأضرار التي تصيبه، عليه واجب أيضا، وهو الحفاظ على المجتمع المدني. الثورة من وجهة نظر لوك ليست عملا انتقاميا، وإنما هي عمل إصلاحي يهدف إلى إعادة بناء النظام السياسي المنتهك. وخلال أزمة الإقصاء، ومرة أخرى إبان حكم جيمس الثاني، صار الملك - من وجهة نظر لوك - طاغية، وأساء استخدام الترخيص الذي حصل عليه بموجب الصلاحيات التي يجيزها له منصبه (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية)، وفي إطار الدستور الإنجليزي، نظرا لأن الملك احتفظ بجزء من السلطة التشريعية المنوط بها سن القوانين، فلم تكن ثمة سلطة أعلى منه يكون ملزما بالمثول أمامها للمساءلة؛ لكن وراء الإجراءات الشكلية للدستور تكمن حقيقة المجتمع الإنجليزي، أو «جموع الشعب» حسبما أوردها لوك في الرسالة الثانية. وحيثما يثار الجدل بين الحاكم وقطاع من شعبه، وحيثما يرفض الحاكم قبول حكم المؤسسات النيابية التي عبرت عن إرادة شعبه، فلا بد أن يكون الفيصل المناسب هو الاحتكام إلى رأي جموع الشعب، التي كانت أول من وضعت ثقتها في الحاكم. وتستطيع جموع الشعب، بل يتعين عليها أيضا، أن تقدر في دخيلة نفسها ما إذا كان لديها سبب وجيه تتظلم به أمام الله للخروج على الحاكم وخلعه بالقوة (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية). وهذه المقاومة هي حق وواجب في آن واحد؛ لأن الشعب هو وحده من في مقدوره الجمع بين حق الانتقام الفردي ومسئولية إعادة بناء النظام السياسي، وحق القضاء على من خانوا ثقته، وواجب استعادة الثقة التي من دونها تستحيل عمليا حياة الإنسان. «رسالتان في الحكم» هو عمل موجه إلى المتطلبات السياسية لإنجلترا، ذلك البلد الذي أثبت قاطنوه - على مدى خبرة تاريخية طويلة - أنهم يشكلون كيانا واحدا، وأن لديهم الكفاءة السياسية للتصرف على هذا النحو. يوجد في إنجلترا دستور قديم ينبغي استرداده وإصلاحه (تمهيد الرسالة الثانية)، وما من وسيلة يمكننا أن نعرف من خلالها إلى أي مدى كان لوك يعتبر أن سكان البلدان التي نعمت بتجارب تاريخية أقل حظا تتمتع بالقدر نفسه من الكفاءة السياسية العملية، ولا شك أن سكان تلك البلدان أيضا لهم الحق - أفرادا كانوا أم جماعات - في مقاومة السلطات الغاشمة والانتقام منها من جراء الضرر الذي ألحقته بهم. لكن حيثما لا يوجد نظام سياسي شرعي من الأساس يستدعي إصلاحه، فمن غير المرجح أن تجتمع معا توقعات الانتقام والبناء. وعلى الرغم من التعقيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يشوب النظام الملكي الاستبدادي (علينا ألا ننسى أن لوك قد عاش لسنوات في فرنسا قبل الفترة التي بدأ فيها الكتابة)، فإنه لم يكن مجتمعا مدنيا على الإطلاق. وفي القرن التالي على ذلك عندما شرع ديفيد هيوم في نقد النظرية السياسية للوك، لم يسؤه شيء أكثر من هذا التناقض اللامبالي والضيق الأفق بين إنجلترا والنظم الملكية المستبدة في القارة الأوروبية. كان هيوم في بعض النواحي ناقدا غير متفهم لحجج لوك ولم يتحر الدقة فيها؛ وبحلول أواخر القرن الثامن عشر، اتضح من مسار الثورة الفرنسية أنه - حتى فيما يتعلق بهذه المسألة - تحمل مفاهيم لوك أكثر مما أقره هيوم. بيد أن هيوم أدرك حقا بوضوح بالغ المدى الذي اعتمدت به آراء لوك السياسية في «رسالتان في الحكم» على تجربة سياسية بعينها، والثقافة التي عززتها هذه التجربة، في مجتمع يتمتع فيه قطاع كبير من المواطنين العاديين بالحق في تمثيل أنفسهم سياسيا، وتوقعهم ممارسة هذا الحق. وكان جوهر فهم لوك نفسه لحق الثورة أنه حق المجتمع في الحفاظ على نفسه كمجتمع، وقدرته على الاضطلاع بهذا الدور، ولم يفترض لوك قط أن الانتقام العادل في حد ذاته سيكفي لخلق مجتمع مدني جديد من العدم.
رسالة في التسامح
كان آخر عمل رئيسي عن النظرية السياسية هو ما كتبه لوك في منتصف ثمانينيات القرن السابع عشر في هولندا، وكان يناقش قضية أوسع نطاقا؛ إنه كتاب «رسالة في التسامح»، وهو أبسط وأكثر شمولية من «رسالتان في الحكم»، وتعتمد حججه في حقيقة الأمر على التسليم بصحة الدين المسيحي (أو على الأقل، صحة بعض الأديان المؤمنة بوحدانية الله، التي يكون فيها الإيمان الصحيح مطلبا أساسيا للعبادة الدينية السليمة، والعبادة الدينية هي الواجب الرئيسي المنوط بالإنسان). لكن داخل العالم المسيحي الأوروبي الحجج محفوظة لكل بلد أو طائفة، إن كانت محفوظة على الإطلاق. ولأن الواجب الرئيسي للإنسان في حياته هو أن يسعى نحو خلاصه (رسالة في التسامح)، ولأن العقيدة والممارسة الدينية هما الوسيلة التي يتعين على الإنسان استخدامها في الاضطلاع بهذا الواجب؛ فلا يجوز شرعا أن يطغى نفوذ السلطة السياسية البشرية على أي منهما. والسلطة السياسية هي المنوط بها حماية الخيرات المدنية، على نحو أكثر تحديدا ثمار جهود الإنسان والحرية والقوة البدنية التي هي وسائل الإنسان لجني تلك الثمار (رسالة في التسامح)؛ فرعاية أرواح البشر ليست من سلطة الحاكم. إذا رأى الحاكم أن أفعاله للصالح العام، ورأى رعاياه العكس، فلا يمكن أن يكون ثمة حاكم بينهما على وجه الأرض (رسالة في التسامح)، ولا بد من ترك الحكم فعليا لله، وحيثما يشكل الاضطهاد العنيف القائم على أسس دينية تهديدا لممتلكات الأفراد وحياتهم، يكون للمضطهدين كل الحق في رد القوة بالقوة (رسالة في التسامح)؛ ويكون في مقدورهم ممارسة هذا الحق وسيمارسونه بالفعل. ويستثنى من حق التسامح الديني فريقان رئيسيان: فريق تتعارض معتقداته الدينية تعارضا مباشرا مع السلطة الشرعية للحاكم، وفريق لا يؤمن بالله.
إن الحق في أن ينقذ الإنسان روحه لا يعني الحق في محاولة فرض حكم سياسي شخصي ضد السلطة المدنية، فلا يوجد حق - كما شدد لوك بالفعل في مقاله الذي كتبه عام 1667 - في إنكار وجود الله، ما دام أن الإيمان بالله هو «الأساس الذي تقوم عليه كل أشكال الفضيلة»، والإنسان الذي يفتقر إلى ذلك هو حيوان ضار غير جدير بأن يكون عضوا في أي مجتمع. لا داعي لاستخدام القوة ضد الآراء التأملية أو المعتقدات الدينية، ما دام أن الحقيقة كفيلة بإظهار نفسها بنفسها، وقلما تلقت كثيرا من العون من جانب القدير (رسالة في التسامح)؛ وهو أمر غير مجد أيضا، بما أنه ما من إنسان يستطيع أن يختار اختيارا مباشرا ما يؤمن أو يشعر به؛ لكن الإلحاد ليس مجرد رأي تأملي، وإنما يشكل أيضا أساسا لأفعال غير أخلاقية لا حصر لها. ولما كان حق التسامح يعتمد على حق كل إنسان وواجبه في السعي نحو خلاصه، فهو إذن ليس بالحق الذي يمكن لأي ملحد أن يطالب به على الدوام.
شكل : هل كان لوك إنسانا بلا عيوب حتى في نظر خادمه؟ لوحة من إعداد كاتب لوك وخادمه الأسبق سيلفانيوس براونوفر، تصور لوك في المنفى بهولندا عام 1685.
إن القناعة بأن الحقيقة كفيلة بإظهار نفسها بنفسها هي بالطبع قناعة متفائلة، بيد أنها لم تكن تمثل الأساس الذي استند إليه لوك في التزامه بالتسامح. والمدهش في الأمر أن وجود الله لم يكن بالحقيقة التي يمكن أن تترك لإظهار نفسها بنفسها؛ ومن ثم فإن رفض التسامح مع الملحدين - على الرغم مما يمكن أن يمثله لنا اليوم من إهانة - لم يكن ليتفق اتفاقا كاملا مع حجة لوك؛ فالكفر بوجود الله، حتى في مجرد الفكر فحسب، يمحو وجود كل شيء (رسالة في التسامح). كتب لوك «رسالة في التسامح» في وقت متأخر من شتاء عام 1685، عقب مناقشات مطولة مع صديقه ليمبورخ، وفي مواجهة الاضطهاد المتفاقم للهوجونوت على يد الملك لويس الرابع عشر. لم يكتب لوك هذا العمل من أجل إنجلترا وحدها، ولكن من أجل شعب أوروبي، وربما كان هذا الشعب هو المستفيد الأكبر من تطبيق مبادئ لوك في هذا العمل؛ ففي القرن التالي على ذلك، رأى فولتير أن كتاب «رسالة في التسامح» يمثل جوهر مفهوم لوك عن السياسة، وهي السياسة المنسجمة تماما مع رسالة مقاله الرائع التي من الواضح أنها وثيقة الصلة بالحياة المدنية في كل مكان على وجه الأرض. لكن إذا كانت رسالته السياسية عالمية بقدر ما هي واضحة، فإنها كانت تستند أيضا في نهاية الأمر إلى قناعة واحدة، وهي القناعة بأن على الإنسان واجبات دينية، ويمكنه معرفة تلك الواجبات وماهيتها، وكان كفاح لوك من أجل تبرير هذه القناعة هو ما أدى إلى وضع مؤلفه هذا، الذي يعد أروع إنجازاته الفكرية على الإطلاق؛ لكن لم يكلل هذا الكفاح بالنجاح، ولكن انتهى بشيء قريب جدا إلى الخضوع والاستسلام.
الفصل الثالث
المعرفة، والاعتقاد، والإيمان
على حد معرفتنا، لم يشك لوك خلال أي مرحلة من حياته في أن بعض الأفراد على علم بالفعل بواجبهم تجاه الله؛ إذ كانت هذه ببساطة حقيقة نابعة من واقع تجربته. لكنه أيضا لم يوضح خلال أي مرحلة من حياته الفكرية أسباب هذه القناعة على نحو واضح وسهل التفسير. وفي أوائل عام 1659، قبل أن يشرع في كتابة أي من مؤلفاته الرسمية، وضع بحماس - وتخيل - تصورا للعلاقة بين معتقدات الإنسان ورغباته التي ينظر فيها إلى العقل بوضوح بوصفه عبدا للعواطف؛ فبدلا من أن يسيطر العقل ببساطة على أفعال الإنسان وتصرفاته، فإنه لا يعدو أن يكون أكثر من مجرد وسيلة لتبرير رغباته. وأسوأ من ذلك أن فشله لم يكن مجرد فشل في السيطرة، وإنما نقيصة أخلاقية. وقد شاب الفشل الأخلاقي بدوره الفهم الإنساني في مجمله، وأخل بكل مفهوم راسخ يقضي بأن لكل إنسان هويته الفردية الخاصة به (رسالة في التسامح). وتتكرر هذه المفاهيم الثلاثة طوال حياة لوك الفكرية؛ تارة بثقة أكبر، وتارة بعناء أكبر. وكان رأيه بأن الكثير من المعتقدات البشرية تستحق اللوم، وأن الأفراد مسئولون في المقام الأول عن معتقداتهم، واحدة من أكثر القناعات رسوخا في فكره، لكنه كان أيضا من الآراء التي وجد صعوبة بالغة في تبريرها. ولكي يكون ثمة ترابط منطقي في أفكاره، كان لا بد من وضع تصور واضح للكيفية التي يمكن بها مبدئيا أن يتخلص الأفراد من المعوقات العاطفية التي تعترض عملية الفهم؛ أي الكيفية التي يمكن أن يفهم بها الأفراد عالم الله وذواتهم، ويستوعبوها بالصورة التي هي عليها وليس كما يؤثرون أن تكون. وإلى جانب ذلك، كان لا بد أيضا من وضع تصور واضح لكل إنسان بوصفه كائنا قادرا على تحمل مسئولية أفعاله. وثمة ارتباط وثيق بين مفهومي التفويض الأخلاقي ونطاق الفهم البشري وحدوده في فكر لوك، وحيثما كان يحتدم الصراع بينهما - كما حدث في السنوات التي أعقبت نشر «مقال في الفهم البشري» - كان لوك يختار تعقب الآثار المترتبة على مفهوم التفويض الأخلاقي، لكن من بين هذين المفهومين، بالطبع، كان تصوره لنطاق الفهم البشري وحدوده الذي طرحه في «مقال في الفهم البشري» هو المفهوم الذي أقر هو نفسه بأنه رائعته الفكرية؛ وكان هذا هو نفسه المفهوم الذي علق في مخيلة الأجيال القادمة.
كان العمل الأول الذي حاول لوك فيه أن يستكشف هذه الموضوعات عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي ألقاها في كلية كنيسة المسيح بعنوان «مقالات حول قانون الطبيعة»؛ إذ كان يرى أن القانون الطبيعي مصدره مشيئة الله، وأنه يمكن - بل يجب أيضا - إدراكه بنور الطبيعة من خلال إعمال العقل البشري. وفي إطار النظام الطبيعي، يوضح القانون الطبيعي للإنسان ما ينبغي أن يفعله وما لا ينبغي؛ ما يتطلبه هذا النظام من الإنسان باعتباره مخلوقا عاقلا يتمتع بإرادة حرة (مقالات حول القانون الطبيعي). كان موقف لوك غامضا تجاه الجدل الرئيسي في النظرية الأخلاقية المسيحية منذ العصور الوسطى، المتمثل في الخلاف القائم بين أولئك الذين رأوا الالتزامات البشرية على أنها تعتمد اعتمادا أساسيا على مشيئة الله، وبين أولئك الذين رأوا أنها تعتمد فقط على مقتضيات العقل والخصائص الفعلية للعالم الطبيعي. ومن الواضح أنه شعر (بل ظل بالفعل يشعر طوال حياته) بقوة كل من هذين الرأيين، لكن كلما كان يضطر إلى الاختيار بينهما (وعلى نحو أكثر وضوحا، كلما كان يشعر أن امتثال البشر لقانون الطبيعة أمر مشكوك فيه عن جد)، كان يختار مشيئة الله التي يثق فيها. وفي «مقالات حول القانون الطبيعي» قدم محاولة بسيطة - لكنها غير حاسمة - لبحث التعارضات الواضحة بين هذين الرأيين، ولم يكترث لوك كثيرا بالدفاع عن وجود قانون الطبيعة وقوته الملزمة في مواجهة الاعتراضات المشككة فيه. (لكن من الجدير بالذكر أن استجابته الأخيرة لمثل هذه الشكوك، تمثلت في الجزم بأن غياب قانون الطبيعة من شأنه أن يجعل كل إنسان الحكم المستقل والأعلى على أفعاله (مقالات حول القانون الطبيعي)؛ وهو اعتراض له وقع بالغ الغرابة على آذان الإنسان في العصر الحديث.)
بدلا من ذلك، ركز لوك على السؤال عن الكيفية التي يمكن بها للإنسان أن يعرف بالضبط ماهية قانون الطبيعة، وأوضح أربع طرق محتملة للمعرفة: الكتابة، والتقاليد، والتجربة الحسية، والوحي الخارق للطبيعة أو الوحي الإلهي. لكنه استبعد الطريقة الأخيرة؛ ليس لأي سبب يدعو إلى التشكيك في وجوده، وإنما لأنه من الواضح أنه ليس بالشيء الذي يمكن للإنسان أن يدركه بفكره أو عقله أو تجربته الحسية فقط. (ومع ذلك، يعود لوك إلى هذه الاحتمالية بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما في «معقولية المسيحية».) استبعدت فكرة النقش؛ فلو كان قانون الطبيعة منقوشا حقا في قلوب كل البشر، إذن لاتفق البشر أجمعين ببساطة على كل من المبادئ الأخلاقية والتأملية التي آمنوا بها، ولاستطاع الشباب وغير المتعلمين والهمجيون استيعاب تلك المبادئ بوضوح بالغ (مقالات حول القانون الطبيعي). كما استبعدت التقاليد؛ لأن القناعات الأخلاقية للمجتمعات المختلفة تختلف اختلافا هائلا؛ فما يراه مجتمع على أنه ملكية له، يراه مجتمع آخر على أنه سلب وسطو، وما يراه شعب على أنه فسق، يراه شعب آخر على أنه صحبة جيدة أو عبادة دينية، بل يمكن أيضا أن يمتدح القتل والانتحار في ظل ظروف معينة، وفي بعض البلدان. وحدها طريقة التفسير العقلاني للتجارب الحسية هي التي نجت من الانتقاد، ولكن لم يتحدث لوك إلا قليلا عن رؤيته لآلية عملها، لكنه يؤكد بقوة على أن الدروس الرئيسية التي تطرحها تتعلق بقدرة الله ومشيئته (مقالات حول القانون الطبيعي)، كما يشير بوضوح إلى سبب اعتقاده بأن هذه الطريقة وحدها يمكن أن تقوم بدور حجر الأساس لقانون الطبيعة؛ فالقانون المتسق مع الآليات الواضحة للفهم البشري، الذي يراعي جيدا الخصائص الفعلية للعالم الطبيعي، هو وحده الذي بمقدوره أن يمنح سلطة عقلانية للبشر باعتبارهم مخلوقات طبيعية. وبما أن معتقدات الإنسان موجودة بالفعل، فإنها - كما يصر لوك مرارا وتكررا - تأتي للإنسان في المقام الأول عن طريق كلام غيره من البشر (مقالات حول القانون الطبيعي). يشوب كلام الآخرين فساد الخطيئة البشرية، وفقط عندما تعتمد معتقدات الإنسان على فهمه والعبرات المستمدة من تجاربه الخاصة، حينها فقط يكون لديه مبرر منطقي للوثوق في الآخرين.
مقال في الفهم البشري
في «مقال في الفهم البشري» نفسه، وعلى نحو أكثر تحديدا في أطروحتيه «آراء في التربية» و«آراء في أصول الفهم»، حاول لوك أن يوضح كيف أنه بمقدور الإنسان أن يستعمل عقله كي يعرف ما هو بحاجة إلى معرفته، وأن يؤمن فقط بما ينبغي أن يؤمن به. ولأن البشر يتمتعون بإرادة حرة، فلا بد أن يفكروا ويصدروا الأحكام بأنفسهم، ولا بد أن يكون العقل هو الفيصل والمرشد النهائي في كل شيء. وحيثما لا يوجه العقل آراء الإنسان وتكوينه، فإن آراءه لا تعدو أن تكون «نتائج وليدة الصدفة والمجازفة، عن عقل هائم في كل المغامرات ، دون اختيار ودون توجيه .» وعلى الرغم من أن للتفكير متعه الخاصة، «فإن كل عمل من أعمال التفكير هو بحث وتمحيص ويتطلب الكد والمثابرة» (مقال في الفهم البشري). ولأنه من السهل جدا أن يخطئ الإنسان في الأحكام التي يصدرها، ونظرا لشيوع الضلال والجهل بين البشر عن الحق والمعرفة، فإن كل البشر لديهم سبب وجيه «لقضاء أيام غربتنا على الأرض في كد وجزع» بحثا عن الحق. ما يحاول لوك تقديمه في «مقال في الفهم البشري» هو مساعدة عملية في هذا البحث، وهو يفعل ذلك بطريقتين مختلفتين للغاية؛ أولهما: أنه يحاول توضيح آلية العمل الناجحة للفهم البشري؛ مدى أهليته للمعرفة والتصديق العقلاني، وما يمكن أن يعرفه البشر وما لا يمكن أن يعرفوه. وثانيهما: أنه يشرح الأسباب التي تؤدي بوجه عام إلى إخفاق الفهم البشري عمليا. تمثل هاتان الفكرتان أهمية جوهرية لدى لوك، فإذا كان البشر لا يستطيعون مبدئيا معرفة ما هم بحاجة إلى معرفته، فإن أزمتهم تلك سوف تضع حكمة الخالق أو قدرته موضع شك، لكن إذا كان لا يسعهم التصرف إلا حسبما فعلوا، فلن يكونوا مسيرين فحسب؛ ومن ثم غير مسئولين عن أفعالهم الظاهرة، وإنما سيكون الله نفسه هو أصل كل ما مقته لوك في البشر أشد المقت.
تظهر تلك الفكرتان بوضوح في المسودة الأولية لكتابه «مقال في الفهم البشري» (مسودة (أ) من مقال لوك في الفهم البشري). ويعير النص المنشور من النسخة الأولى انتباها أشمل بكثير للفكرة الأولى، بيد أن التوازن بينهما يعود جزئيا في حياة لوك من خلال سلسلة من التعديلات في الطبعتين الثانية (1694) والرابعة (1700)، وتحديدا من خلال عدوله المهم عن رأيه بشأن طبيعة الإرادة الحرة، ومن خلال الفصلين الجديدين اللذين يدور حديثهما حول الحماس وترابط الأفكار. (كان لهذا الفصل الأخير أهمية هائلة في تاريخ علم النفس، الذي صار علما خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكذلك في تطور الأخلاق النفعية.) لكن حتى بعد إدخال هذه التعديلات، احتفظ «مقال في الفهم البشري» - إلى حد كبير - بشكل وأسلوب أولى طبعاته المنشورة ؛ ومن هذا المنطلق، فإن الصورة التي يقدمها للاعتقاد والمعرفة لدى البشر هي صورة متفائلة في مجملها، ولا يعزى تفاؤلها إلى كونها تقدم وعودا مبالغا فيها حول إمكانية تغيير الطبيعة البشرية من خلال التخطيط السياسي، ولا يعزى أيضا إلى كونها تغالي في حدود المعرفة البشرية أو تقلل من شأن الصعوبات التي يواجهها الإنسان في تنظيم أفكاره ومعتقداته بطريقة عقلانية، وإنما لأنها تدرس آليات عمل العقل البشري بهذه المفردات البسيطة والرصينة والمتواضعة؛ ومن ثم فالتفاؤل فيها مسألة أسلوب ونبرة أكثر منه مسألة محتوى، لكن حتى بوصفه نبرة، فقد تبين أنها نبرة مراوغة للغاية.
تنطوي هذه الصورة في المقام الأول على تأكيد ملحوظ حول نطاق التماثل المحتمل في الفكر البشري.
إنني أميل إلى الاعتقاد بأن الأفراد عندما يقدمون على فحص مفرداتهم، فإنهم يجدون أن كل أفكارهم البسيطة متوافقة عموما، على الرغم من أنهم في أحاديثهم ربما يحير بعضهم بعضا بإطلاق أسماء مختلفة عليها. وأعتقد أن الأفراد الذين يجردون أفكارهم، ويدرسون الأفكار التي تجول في عقولهم جيدا، يستحيل أن يختلفوا كثيرا في تفكيرهم (مقال في الفهم البشري، ومراسلات جون لوك).
شكل : الطبعة الأولى من «مقال في الفهم البشري»، أول عمل فكري للوك ينشره رسميا للجمهور.
إذا استخدم البشر فقط عقولهم وحواسهم - «مداخل» المعرفة - بعناية وصدق، فسيجدون أنفسهم «مجبرين» على معرفة ما ينبغي عليهم معرفته والاعتقاد فيه؛ ومن ثم سيكونون مجبرين على الاتفاق مع إخوانهم الذين يحققون استفادة على القدر نفسه من الرصانة والإخلاص من ملكاتهم. ومن العناصر المهمة لتحقيق هذا التوافق وتعزيزه الإقرار بقيود الفهم البشري وحدوده، وهو ما يطلق عليه لوك نفسه «ضحالة» الفهم البشري. وكما في غير ذلك من المواضع، يكمن في مركز تفكيره نوع من التوازن الدقيق بين الشك والإيمان.
من الصعب ألا نلحظ أهمية الإيمان لدى لوك عند سرده الأمور التي تدخل في نطاق معرفة الإنسان بالفعل، أو عند استعراضه للأسباب الوجيهة التي يعيش الإنسان حياته من أجلها. وأهم عنصر على الإطلاق في المعرفة الممكنة لدى الإنسان هو وجود الله : «إن معرفتنا بوجود الله تفوق في يقينها معرفتنا بوجود أي شيء آخر فيما عدانا» (مقال في الفهم البشري). وما يضفي على هذه المعرفة أهمية بالغة آثارها المباشرة والطاغية على الكيفية التي ينبغي أن يعيش بها الإنسان؛ فقدرة الإنسان على معرفة أي شيء ليست في حد ذاتها بالشيء الذي ينبثق من العدم في تاريخ العالم؛ لذا كان ثمة «زمن كانت فيه المعرفة منعدمة، ثم بدأت في الظهور»، وبالأحرى كانت المعرفة عطية مباشرة من الله العليم الخالد. ويتمثل الأساس الفعلي للأخلاق في «مشيئة وشريعة الله الذي يرى الإنسان في الخفاء، وفي يده الثواب والعقاب والسلطة الكافية لمحاسبة الآثمين الطغاة» (مقال في الفهم البشري).
طبيعة المعتقدات الأخلاقية
يرى لوك أن الأخلاق علم يمكن إثباته، شأنه شأن الرياضيات، حسبما أكد في «مقال في الفهم البشري»، وقد سبب له هذا الأمر كثيرا من العناء فيما بعد؛ حيث ظل الجميع - أصدقاء وأعداء - يسألونه بإصرار عما أنجزه في سبيل هذا الإثبات. وكان ثمة العديد من الأسباب التي تدعوه للوثوق في فكرته؛ فالأفكار الأخلاقية من اختراع العقل البشري، وليست نسخا من عناصر الطبيعة المختلفة، ولهذا التناقض آثار جوهرية على طبيعة الأفكار الأخلاقية، وعلى إمكانية إثباتها والتحقق من صحتها، إن كانت صحيحة من الأساس. يمثل هذا الرأي الركيزة الأساسية في الفكر الفلسفي الحديث الذي يفترض وجود فجوة هائلة بين الحقائق المتعلقة بالعالم (التي ربما يمكن معرفتها)، والقيم الإنسانية (التي يمكن ببساطة قبولها أو رفضها). وكان الفصل بين الحقيقة والقيمة هو نتاج مفهوم لوك عن المعرفة البشرية وهدم معتقداته بشأن القيم الإنسانية. ولأن الأفكار الأخلاقية كانت من اختراع العقل البشري، ولأنها تصاغ في صورة كلمات هي أيضا من اختراع العقل البشري، ففي مقدور الإنسان - إذا هو فقط كلف نفسه عناء ذلك - أن يفهمها فهما كاملا بنفسه، ويناقشها مع آخرين بطريقة تضمن لهم فهما كاملا ومساويا لفهم هذا الإنسان عنها.
أهم من ذلك أن اختراعات العقل البشري في مجال الأخلاق ليست اعتباطية؛ لأن جميع البشر - بحسب رأي لوك - في مقدورهم أن يتوصلوا إلى معرفة مؤكدة بالأدلة بوجود إله قادر يفرض قانونا يضبط أفعال الإنسان ويعاقب أولئك الذين ينتهكونه، ذلك لو أنهم فقط كلفوا أنفسهم عناء التفكير في هذه المسألة. ابتكرت المجتمعات البشرية على مدى تاريخها مجموعة كبيرة من المفاهيم الأخلاقية وتبنت قيما أخلاقية متنوعة للغاية، كما أنها نجحت إلى حد ما في تطبيق هذه القيم، من خلال الإلزام المباشر، ومن خلال الضغوط غير المباشرة لعاملي الاستحسان أو الاستنكار المتبادل، فيما يعرف باسم «قانون السمعة». ليس الوعي الأخلاقي بالأمر المتأصل في البشر بالفطرة؛ وفي الواقع، فإنه يتخذ أشكالا شتى في البلدان المختلفة، لكن من وجهة نظر لوك، ثمة شكل واحد ينبغي أن يتخذه دائما أينما كان؛ وهو: الشكل المبين في الوحي المسيحي الذي يقتضيه قانون الطبيعة؛ ذلك القانون الذي يستطيع الإنسان فهمه على نحو شامل ودقيق بنفس قدر فهمه للحقائق الرياضية. وليس ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن لوك تخلى عن وجهة النظر هذه أبدا، لكن ما تخلى عنه بوضوح حقا، بعد سلسلة من المحاولات الفاشلة لبناء نهج إثباتي من هذا النوع، هو الأمل في أن تمثل هذه المحاولات أية فرصة للتأثير في السلوك الذي يختار معظم الأفراد انتهاجه، والطريقة التي يسلكونها فعليا.
من منطلق ما نعرفه عن تأليف «مقال في الفهم البشري»، يبدو جليا أن التخلي عن هذا النهج كان يمثل تغييرا رئيسيا في الرأي الفكري. وفي الحقيقة، ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن هذا التخلي قد عكس عزوف لوك عن أحد أكبر طموحين لديه أثناء كتابة هذا العمل، بل تبدد أيضا الأمل والغرض الأولان اللذان دفعاه في الأساس إلى كتابته منذ البداية (مقال في الفهم البشري). لكن، على الرغم من الاستهجان الذي لاقته نتيجة كهذه، فإنها لم تكن بالاستنتاج المفاجئ الذي يمكن أن نستخلصه من الحجج والنقاشات المطروحة في المقال ككل؛ فكل من المعرفة والاعتقاد العقلاني - بحسب تفسير لوك - إلزاميان في النهاية. وفي ضوء العلاقة المدركة بوضوح بين الأفكار، أو الدليل المباشر للحواس، أو التوازن الجلي بين الاحتمالات، لا يسع المرء إلا أن يعرف أو يشعر أو يحكم كما تملي عليه تلك الأمور، ولكان علم الأخلاق البرهاني سيتألف من تسلسل من العلاقات القائمة بين الأفكار التي إذا محصت بعناية وحكمة، فلا يسع المرء إلا أن يراها كما هي؛ ومن ثم لا يستطيع إنكارها. وبالمثل، فإن المرء لا يسعه في النهاية إلا أن يفعل ما هو أنسب له ولرغباته، وإن كان يستطيع قطعا - بل كثيرا أيضا ما ينبغي عليه - أن يتحقق من دوافعه، ويلزم نفسه بالتفكير مليا وعن وعي فيما إذا كان الأمر الذي يشعر أنه منجذبا إلى فعله فورا سيكون بالفعل التصرف الأفضل من وجهات النظر كافة. (المهم تحديدا أن يفعل الإنسان هذا، بما أن النعم الغائبة لا تسترعي الانتباه بنفس إلحاح المتاعب الحاضرة؛ ومن ثم تكون أقل تأثيرا في رغبات الإنسان (مقال في الفهم البشري).) فآلية الفهم البشري في حد ذاته وفي معظم النواحي الأكثر أهمية - «تلك النواحي التي تخص سلوكنا» - تسير كما ينبغي، لكن لا يمكن لتلك الآلية أن تسير على هذا النحو إلا في حال استخدم الإنسان هذا الفهم بهمة وعناية وحكمة. وإساءة استخدام العقل البشري في المعرفة العملية للطبيعة، لا تكون على الأرجح متعمدة؛ لذا من المتوقع أن الاهتمام الجيد بالوسائل التي ينتهجها العقل وتؤدي إلى نجاحه في أداء عمله سيساعد الإنسان مستقبلا في استخدام عقله على نحو أكثر فاعلية، وذلك من خلال البحث العلمي والعملي في ماهية العالم الطبيعي، وفي السعي وراء نعم الحياة وخيراتها؛ لكن عندما يتعلق الأمر بتحديد الإنسان للأسلوب الذي يعيش به، فإن كل البشر لديهم دوافع قوية وملحة لعدم الاكتراث كثيرا بهذا الموضوع، والتعامل معه على نحو أكثر مراوغة، وهم لا يملكون تلك الدوافع فحسب، لكن معظم الأفراد - حسبما كان لوك يحاول جاهدا أن يؤكد - كانوا في الحقيقة ينصاعون وراءها، ولا يبدون إلا قدرا ضئيلا للغاية من المقاومة. وبدلا من أن يحيوا حياتهم في ضوء الوعيد الإلهي بالألم المطلق والأبدي، فإن كثيرين حتى في البلدان المتحضرة يحيون كما لو كانوا ملحدين؛ فجميع البشر «عرضة للخطأ، ومعظمهم واقع - لأسباب عديدة سواء أكان بدافع العاطفة أم الرغبة - تحت غواية الخطيئة» (مقال في الفهم البشري). ومن ثم، فإن المطلب الأكثر إلحاحا لتحسين السلوك الأخلاقي لدى الفرد ليس وجود قدر أكبر من الوضوح الفكري، وإنما وجود قدر أكبر من المؤازرة التصورية الفعالة في مقاومة الغواية (ومن هنا جاء قرار لوك في غضون بضع سنوات من نشر «مقال في الفهم البشري» للمرة الأولى بإكمال هذا العمل بعمل آخر هو «معقولية المسيحية»، الذي يستعرض لوك فيه ما اعتبر أنه نسخة من العقيدة المسيحية على قدر بارز من الوضوح والبساطة والتوجيه).
إن هذا التحول في الاهتمام، الذي أعقبته - حسبما حدث بالفعل - إعادة الصياغة الدقيقة للغاية لرسائل القديس بولس (التي خصها لوك بجهد بالغ حتى مماته)، يكشف الكثير من الأمور. وهو يؤكد على اعتماد لوك الوثيق على مفهومه عن الحياة الصالحة للإنسان، على افتراض وجود إله يرى الإنسان في الخفاء، ويراقب سلوكه، ويعاقبه بعد الموت على مخالفة ناموسه. وثمة إضافتان من أهم الإضافات وأروعها إلى «مقال في الفهم البشري» - وهما: المعالجة المعدلة لمفهوم الإرادة الحرة، والفصل الجديد تماما عن موضوع الهوية - تتمركزان حول مسألة كيف يمكن للعقاب الإلهي أن يكون منطقيا وعادلا. لم يكن لوك مستعدا في أي مرحلة من حياته لأن يتأمل تفضيلا إيمانيا واعيا على استنتاجات العقل، وحتى بعد كتابة «معقولية المسيحية»، ظل واثقا من إمكانية إثبات وجود إله من النوع المطلوب، وأنه يمكن - بل ينبغي أيضا - اعتبار ذلك استنتاجا عقلانيا (مراسلات جون لوك). ومن السهل أن نرى السبب الذي جعل هذا الحكم غاية في الأهمية، إذا تأملنا تداعيات بعض الأفكار الرئيسية الأخرى للمقال في غياب هذا الحكم.
إن الإنسان بطبيعته يفتقر إلى الهدوء والثبات عند الشدائد.
قلما نشعر بالارتياح، وقلما نكون متحررين بالدرجة الكافية من إغواء رغباتنا الفطرية أو المكتسبة، لكن التعاقب المستمر لحالات عدم الارتياح بسبب هذا المخزون المتراكم بفعل الاحتياجات الفطرية أو العادات المكتسبة، يجعل الإرادة تنجرف وراءه، وبمجرد أن يصدر فعل ما - نشرع فيه بعزيمة تلك الإرادة - تظهر حالة جديدة من عدم الارتياح كفيلة بأن تجعلنا ننساق وراء رغباتنا واحتياجاتنا من جديد (مقال في الفهم البشري).
الإنسان في العالم «محاط بعوامل شتى لعدم الارتياح» و«مشتت برغبات مختلفة»، ويحرك رغباته الألم واللذة، الخير والشر، وذلك من خلال تداخلها مع مفهومه عن السعادة؛ فكل البشر يسعون دوما وراء السعادة ويرغبون في كل ما يرون أنه جزء منها، وليس هذا بالأمر الاختياري. لا يستطيع الإنسان أن يختار عدم السعي وراء السعادة، لكن هذا لا يقلل بأية حال من مسئوليته عن اختيار أفعاله. الله نفسه «في احتياج إلى السعادة»، ومضمون حرية الإنسان أنه ينبغي أن تكون لديه السلطة والمسئولية ليحكم بنفسه على ما هو جيد حقا (مقال في الفهم البشري). وكما يختلف مذاق الطعام من شخص لآخر - فبعضهم يحب الإستاكوزا، والبعض الآخر يكرهها - كذلك تختلف أذواقهم في هذه المفاهيم الأوسع نطاقا والأكثر تنوعا بشأن اللذة التي تعتمد على العقل؛ فالبعض يقدر الثروة، والبعض الآخر يقدر المتع الجسدية؛ والبعض يقدر الفضيلة، والبعض الآخر يقدر التأمل، ولما كانت اللذة مسألة ذوق، فمن العبث إنكار أن سعادة الإنسان في هذا العالم ستتخذ أشكالا مختلفة للغاية.
لو أن الإنسان فقط يكون لديه أمل في هذه الحياة؛ لو أنه فقط يستطيع أن يستمتع بحياته! فليس من الغريب أو غير المعقول أن يسعى الإنسان وراء سعادته من خلال تحاشي كل الأمور التي تسوءه، والسعي وراء كل ما يبهجه ... لأنه إذا كانت لا توجد فرصة للحصول على هذه اللذة بعد الموت، فقطعا سيصح الاستنتاج التالي: «دعونا نأكل ونشرب، دعونا نستمتع بما نجد فيه لذتنا؛ لأننا غدا سنكون في عداد الأموات» ... ربما تختلف اختيارات الأشخاص، لكنهم جميعا يتفقون على اختيار الصواب، على افتراض أنهم يشبهون بالأحرى شرذمة من الحشرات الهزيلة، التي بعضها نحل يجد لذته في الأزهار ورحيقها، والبعض الآخر خنافس تجد لذتها في أنواع أخرى من الطعام، والتي بعد أن استمتعت طوال فترة حياتها، ينبغي الآن أن تنتهي حياتها وتموت، ولن يكون لها وجود مرة أخرى للأبد (مقال في الفهم البشري).
يحاول لوك بين الحين والآخر أن يشير إلى أنه حتى في هذه الحياة ثواب الفضيلة يفوق ثواب الرذيلة (مقال في الفهم البشري)، غير أن الأهمية الرئيسية لحكمه تتعارض بوضوح مع هذا الرأي (أعمال جون لوك، المجلد الثالث). إذا كانت السعادة تعتمد على ذوق الفرد وحده، والذوق نفسه فوق الانتقاد، فلا يمكن كبح شهوات الإنسان إلا بوسائل الوعيد المعلومة لديه؛ النفسية والأخلاقية والبدنية. وحتى في هذا العالم، سيكون كبح شهوات الإنسان أمرا لا غنى عنه إذا أردنا للمجتمع أن يظل قائما. «تكمن مبادئ الأفعال حقا في شهوات الأفراد، لكنها أبعد ما تكون عن المبادئ الأخلاقية المتأصلة في الإنسان بالفطرة، التي إذا تركت دون كبح جماحها، فسوف تؤدي بالإنسان إلى ما هو عكس كل الأخلاق» (مقال في الفهم البشري). ولو أن طبيعة الإنسان أجبرته على أن يرى أزماته الأخلاقية كما رآها لوك - «لذة تغوي، وإله قادر ترى يده مرفوعة، وعلى أهبة الاستعداد للبطش» - لكان معظم البشر قطعا سيغيرون اختياراتهم المعتادة، لكن إذا بدأ عقل الإنسان يتشكك ويرفض حقيقة هذا الوعيد، فسوف يتضح أن اختياراته المعتادة قد جرى التفكير فيها مليا، حتى إنه يمكن مضاهاتها على نحو إيجابي باختيارات لوك نفسه. والحكم الرئيسي للوك أن الإنسان يستحق العقاب على ارتكابه فعلا شريرا؛ لأن هذا الفعل يبرهن أن الإنسان «أفسد ذوقه وقدرته على التمييز» (271)، ويعتمد هذا الحكم في ترابطه، وكذلك في قوة حجته، على كونه مقياسا سليما لسلوك الإنسان لا صلة له بما يروق للإنسان وما ينجذب إليه.
طبيعة المعرفة
لا يولي الجزء الأكبر من «مقال في الفهم البشري» اهتماما مباشرا بالمسائل الأخلاقية، لكن حتى في أجزاء الكتاب التي يستعرض لوك فيها نظريته حول الكيفية التي يمكن للإنسان بها معرفة الطبيعة، كثيرا ما يلعب مفهوم لوك عن العلاقات بين الله والبشر دورا مهما، وهو لا يلعب هذا الدور من خلال عرض استنتاجات نظرية لوك الطموحة والشديدة المنهجية، وليس أيضا من خلال التشكك في أية نظرية من هذا النوع، لكن بالأحرى من خلال وضعها في إطار تصوري متجانس؛ ففي بعض النواحي، يرى لوك أن نطاق المعرفة البشرية شديد التقيد والمحدودية، لكنه في حدود هذا النطاق، لا يساوره أدنى شك على الإطلاق في حقيقة كونها معرفة. ومع أنه ينكر صراحة أن المعرفة تدخل التاريخ مع الجنس البشري، فإنه ينظر إلى المعرفة على أنها شيء ربما نكون على يقين تام من أن الإنسان مؤهل له بالفطرة، ولعل الله - بل الملائكة والمخلوقات الأخرى أيضا - لديه معرفة مباشرة وأوسع نطاقا بكثير مما لدى الإنسان (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله، الطبعة السابعة). ربما جانب الصواب كل البشر في كثير من معتقداتهم (مع أنه كان في الواقع يرتاب فيما إذا كانت المعتقدات التي يعتنقونها بالفعل، كثيرا ما تكون على القدر نفسه من اللامنطقية الذي عليه الكثير من معتقداتهم المزعومة (مقال في الفهم البشري).) لكن أي إنسان لديه من سرعة التفكير والبديهة ما يؤهله لإنعام النظر في هذه المسألة، ربما يكون على ثقة ودراية تامة بأنه مؤهل للمعرفة.
تغطي نظرية لوك العديد من المسائل الفلسفية الكبرى: علاقة أفكار الإنسان وخبراته بأهدافه، وكيفية اكتساب الكلمات لمعانيها والاحتفاظ بها، وآلية الإدراك الحسي لدى الإنسان، وآلية المعرفة والفهم البشري، وحسبما أوضح لوك، لم يكن مقصودا أن تصير نظريته نظرية علمية؛ والنظرية العلمية هي نظرية تدور - على سبيل المثال - حول الكيفية التي يمكن بها للأشياء المادية التي يراها الإنسان أن يكون لها دور في تعديل آرائه (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله، الطبعة السابعة)، أو الأسباب الدقيقة التي تجعل أجزاء من الطبيعة تؤثر في أجزاء أخرى على النحو الذي نشاهده بالفعل. كان لوك شديد التشكك فيما إذا كانت القدرات الفطرية للإنسان تؤهله للفهم على نحو عميق ودقيق، وأحيانا كان ينساق وراء هذا الشك على نحو بالغ، حسبما اتضح بعد ذلك. لكن على عكس هذه القيود المؤكدة دينيا، كان لوك يعتقد بشدة أن الإنسان يمكنه أن يفهم بوضوح كيف يميز بين ما في وسعه أن يأمل معرفته، وما ليس كذلك؛ ولكن الأهم أنه كان على يقين أيضا من أن الإنسان إذا طبق هذا الفهم فعليا في استخدام عقله في الحياة الواقعية، ففي مقدوره أن يكون واثقا ليس فقط من معرفة الكثير من المعلومات المفيدة عمليا، وتوسيع نطاق فهمه العلمي للطبيعة، وإنما سيكون واثقا أيضا من السلوك الذي عليه أن يسلكه بوصفه مخلوقا يتمتع بقدرة على التمييز الأخلاقي، تجعله يفرق بين الخير والشر. وبدلا من أن يطلق الإنسان أفكاره «في محيط الوجود الشاسع»، فالأفضل هو أن ينصح الإنسان بالتفكير جديا في قدرات فهمه، وبتوجيه أفكاره وأفعاله وفقا لتلك القدرات (مقال في الفهم البشري).
يقدم «مقال في الفهم البشري» نفسه تعهدا ب «التفكير في ملكات التمييز عند الإنسان، فيما تستغل في التمييز بين الأشياء التي يتعين على الإنسان التعامل معها.» ومن خلال «هذا النهج التاريخي الواضح»، يطمح المقال إلى تقديم «تفسير للطرق التي يتوصل بها الفهم البشري إلى تلك المفاهيم التي لدينا عن الأشياء.» يهاجم لوك في الجزء الأول من هذا العمل مبدأ الأفكار الفطرية المتأصلة، وهي الأفكار التي يولد بها الإنسان؛ فقد كان لوك يرفض بالفعل الرأي القائل بأن الإنسان يولد ولديه أفكار أخلاقية ودينية متأصلة، كما رأينا في كتابه «مقالات حول قانون الطبيعة». وبالنظر إلى تنوع القيم الأخلاقية والمعتقدات الدينية في المجتمعات المختلفة التي كان على دراية بها، فإنه لم تكن لديه أدنى صعوبة في إثبات حماقة هذا الرأي. تسبب التهكم الذي تناول به لوك هذا الموضوع في إهانة شديدة بين رجال الدين الأنجليكانيين في ذلك الوقت، وكان سببا رئيسيا لذيوع صيت لوك بوصفه مروجا للآراء المخالفة للدين، وأهم من ذلك في المقال ككل أن لوك رفض الرأي القائل بأن قدرة الإنسان على فهم الطبيعة، إنما تعتمد أيضا على المعرفة المتأصلة بعدد من مسلمات العقل مثل «ما سيكون سيكون» (مقال في الفهم البشري)، وكان ديكارت من معتنقي هذا الرأي على سبيل المثال. وبما أن معظم البشر (وفي الواقع كل الأطفال الصغار) ليسوا على دراية بأي من تلك المسلمات، فمن الحمق إذن أن ننعتهم بمعرفة تلك المسلمات. إن الإنسان يتوصل إلى فهم حقيقة تلك المسلمات بتجربة أمور معينة، ولما كان الإنسان يعتمد حقا في هذا الفهم على إعمال قدراته العقلية، نفى هذا على الإطلاق فكرة أن معرفة تلك المسلمات متأصلة في الإنسان.
تستعرض الأجزاء الثلاثة المتبقية من «مقال في الفهم البشري» نظرية لوك الحاسمة حول السبيل الذي يسلكه الإنسان للمعرفة، وسبيله إلى تكوين معتقدات يرى أن من العقلاني الإيمان بها. يتناول أول هذه الأجزاء تفسير لوك لطبيعة الأفكار بوصفها الموضوعات المباشرة الوحيدة للفكر البشري؛ ومن ثم الموضوعات الوحيدة التي يكون لدى الإنسان معرفة «متعمقة» بها (ما كان يقصده لوك ببساطة بكلمة «فكرة» هو «أي موضوع - أيا ما كان - يستحوذ على فهم الإنسان وتفكيره»)؛ ويدور ثاني تلك الأجزاء حول طبيعة الكلمات، واللغة بوجه عام؛ بينما يلخص الجزء الثالث نتائج الجزأين الأولين في نقاش جريء حول طبيعة المعرفة البشرية. المعرفة نفسها هي نوع من الإدراك؛ إدراك «ترابط أي من أفكارنا وتوافقها، أو اختلافها وتعارضها»؛ فما يدركه الإنسان - بل حتى ما يفكر فيه - مباشرة، يكون دائما عبارة عن أفكار بعينها موجودة في ذهنه. وأي استنتاجات عامة حقيقية يتوصل إليها الإنسان لا تصح إلا بقدر ما تتفق معها علاقات أخرى بعينها في الطبيعة، أو في فكر أناس آخرين. والأفكار نفسها تكون جميعها إما بسيطة وإما معقدة؛ فإذا كانت بسيطة، فإنها تكون مستمدة مباشرة من الحواس، بوصفها مداخل المعرفة؛ أما إذا كانت معقدة، فإنها تتشكل من خلال الجمع العقلي الطوعي للأفكار البسيطة. تنشأ كل المعرفة البشرية وتستمد في نهاية المطاف من التجربة، إما من خلال ملاحظة الأشياء المحسوسة في العالم، أو عن طريق إعمال الإنسان لعقله وتمحيصه للأفكار التي تجول فيه. يستطيع الإنسان أن يفكر ويعرف ويحكم بنفسه، ولا بد أن يفعل ذلك بما أنه لا يستطيع في نهاية المطاف أن يضع ثقته في آخرين ليتولوا هذا الأمر عنه. عقول الأطفال عند الميلاد تشبه الورقة البيضاء، ومع أنهم في البداية يتأثرون بوضوح بالتأثير الفطري تماما لأفكار بعينها من خلال الحواس، فإنهم سرعان ما يشوهون أيضا بتعاليم الكبار الخرافية وغير المنطقية في أغلب الأحوال، وحالما تتشوه عقولهم على هذا النحو، حيث يفوق العرف في قوته قوة الطبيعة، فلا سبيل إلى إصلاح هذا التشوه إلا عن طريق الجهد المتواصل الذي يستحثه الحب المتأصل لدى الإنسان لمعرفة الحقيقة.
والكلمات التي يعبر بها الإنسان عن أفكاره هي إحدى الطرق الرئيسية التي يتعرض من خلالها لهذا التشويه. وحسبما يقر لوك نفسه، ورد النقاش المنهجي لمسألة اللغة كفكرة متأخرة في الجزء الثالث، لكن لم يساوره أدنى شك فيما يمثله هذا النقاش من أهمية عملية؛ إذ إن «الجزء الأكبر من الأسئلة والمسائل الخلافية التي تحير البشرية معلق بالاستخدام المبهم والملتبس للكلمات»، وبما أن معظم الأفراد يصوغون أفكارهم في أغلب الأحيان في شكل كلمات، وبما أن الحقائق العامة غالبا ما يعبر عنها بالكلمات، فمن الممكن أن يؤدي الالتباس أو الغموض غير اللازم في استخدام تلك الكلمات إلى حدوث ضرر هائل. ولأن الكلمات «تقحم نفسها بقوة بين المفاهيم التي لدينا وبين الحقيقة»، فإن غموضها والتباسها يمكن أن «أن يلقي غشاوة أمام أعيننا»، وهذا التأثير يكون مأسويا بوجه خاص في القانون واللاهوت والنقاش الأخلاقي (مقال في الفهم البشري).
إن هذا الإصرار على أهمية الوضوح اللفظي، والتأكيد الذي يضعه لوك على الدور المهيمن للحواس في تزويد الإنسان بمعرفة الطبيعة، ومفهومه عن عقل الرضيع بوصفه ورقة بيضاء تكتب فيها الخبرات؛ ربما يكون على الأرجح أكثر الموضوعات التي تناولها لوك في «مقال في الفهم البشري» تفاؤلا. لا يزال الموضوعان الأولان يلقيان بعض الاستحسان في الفلسفة الحديثة؛ وكان لهذه الموضوعات الثلاثة دور مهم في بلورة صورة لوك بوصفه من قدم الأساس الفلسفي لروح التفاؤل التي سادت عصر التنوير. وعلى النقيض من ذلك، فإن تأكيده على قوة العرف، وعلى العمليات المنمقة والخادعة التي يصوغ بها الأفراد معتقداتهم ويعدلونها ويحمونها، وطبيعة الرغبات الدنيوية التي لا عظة فيها ولا عبرة لدى معظم الأفراد، يوحي على نحو قاطع باستنتاجات أكثر تشاؤما؛ وبالطبع لا يشجع هذا التأكيد مطلقا على آمال عصر التنوير الأكثر تطرفا المتعلقة بإصلاح الطبيعة البشرية ككل من خلال السيطرة السياسية على البيئة التي ينشأ فيها الأفراد. ويمثل هذا الأمر أهمية خاصة؛ نظرا للعلاقات الوثيقة التي ارتآها لوك نفسه بين الأسباب التي تدعو الأفراد إلى الثقة في حواسهم من جانب، وقوة رغباتهم الدنيوية من جانب آخر. وكان الملاذ الأخير أمام لوك أنه رفض الشكوك الارتيابية حول ما إذا كانت حواسنا تمدنا حقا بأي معرفة على الإطلاق، واستند في ذلك إلى سببين مختلفين للغاية. ويمكن استعراض مفهومه حول كيفية قيام الحواس بهذا الدور بإيجاز، لكن لا بد أولا من شرح الأسباب التي جعلته يرفض مذهب الشك.
أحد هذه الأسباب - الذي هو انعكاس لتأثير ديكارت الجزئي - بسيط وديني ومن المستبعد أن يستهوي الجمهور العلماني؛ ألا وهو أن الخالق بفضل صنيعه ما كان ليهب الإنسان حواس تضلله بطريقة ممنهجة («مقال في الفهم البشري»، «استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله»، الطبعة السابعة). أما السبب الثاني، فإنه أكثر تعقيدا للغاية ولا يقتضي التدين على الإطلاق؛ فالأدلة التي تأتينا من كل حاسة لا تؤكد حقيقتها وثبوتها عبر الزمن فحسب، وإنما تؤكد أيضا حقيقة الحواس الأخرى وثبوتها، والثقة في الحواس أمر لا غنى عنه للحياة العملية، ويرتبط ارتباطا مباشرا بمثيرات اللذة والألم القوية للغاية - «المحاور التي ترتكز عليها عواطفنا» (مقال في الفهم البشري) - حتى إن لوك لا يستطيع أن يصدق أن أي إنسان يمكن أن يرتاب عن جد في صحة التجربة الحسية، فضلا عن أن يحيا كما لو كان قد افترض أنها وهمية. وأيا كانت قوة الحجج التي تدعم الشك الارتيابي، فلا يمكن له إلا أن يكون شكا عديم الأهمية؛ لأن الحواس تلعب دورا محوريا في طريقة تكيف الإنسان مع الطبيعة وسيطرته عليها. ونظرا للمفهوم الواضح الذي اعتنقه لوك فيما يتعلق بمقتضيات الفضيلة (رسالة في التسامح) وإغراءات الرذيلة، ونظرا لأن الإيمان بالله أمر بالغ الضرورة لتعزيز هذا المفهوم ، لم يستخلص لوك نفسه أية نتائج قوية من هذه العلاقة القائمة بين الحواس والرغبات؛ فمن وجهة نظره، التي تتفق مع وجهة نظر نيتشه الذي جاء بعده بقرنين تقريبا، لو انتفى وجود الله، فإن الإنسان «ما كان ليكون لديه قانون سوى إرادته، ولا غاية سوى نفسه، ولصار إله نفسه، ولأصبح إرضاء رغبته هو المقياس والغاية الوحيدة لكل أفعاله» (الفكر السياسي لجون لوك)؛ ومن ثم كان سيصبح الاختيار الأساسي المتاح للإنسان هو أن يختار نوع المخلوق الذي يريد أن يكونه. لكن من وجهة نظر أولئك الذين كانت مخيلاتهم أقل تقيدا بالفضيلة والعفة ومتطلباتهما القمعية (أمثال جيرمي بنثام)، كانت هذه العلاقات المتعددة بين الحواس والرغبات توحي بنمط حياة أكثر راحة وأكثر تعلقا بالنواحي الدنيوية. لم يكن لوك نفسه نفعيا إلا في نظر من أتوا بعده، لكن من السهل أن نرى كيف تمكن الفلاسفة وأصحاب الرأي الأقل تدينا من أن يؤسسوا مذهبا نفعيا دنيويا خالصا على مفهومه عن الفهم البشري. وأيا كان رأي لوك الفلسفي عن كيف يتسنى أن يكون لدى الأفراد الذين فقدوا إيمانهم بالله سبب وجيه للحياة، فمن السهل أيضا أن نرى كيف كان لوك في ظل هذه الظروف سيتوقع منهم عمليا أن يختاروا الحياة. وبالنظر إلى تاريخ الاعتقاد الديني في أوروبا الغربية منذ وفاته، من الصعب أن نتصور أن تاريخ الاعتقاد والحس الأخلاقي المقابل قد أتى إليه بمحض المصادفة.
أنواع المعرفة
يعبر لوك في «رسالة إلى القارئ»، التي يستهل بها «مقال في الفهم البشري»، عن التطلع إلى خدمة رواد العلوم الطبيعية ومؤسسيها في القرن السابع عشر - بويل وهويجنز ونيوتن - بوصفه مجرد مساعد بسيط «يزيل بعضا من المعوقات التي تعترض طريق المعرفة» (مقال في الفهم البشري). ويمكن إزالة تلك المعوقات بطريقتين رئيسيتين؛ إحداهما سلبية والأخرى إيجابية. فيما يختص بفهم الطبيعة، لا بد من كبح القوى الإبداعية للعقل على نحو صارم، والوثوق في أقل شهادة تصورية للحواس؛ فلا يمكن للإنسان أن يأمل في فهم آليات الطبيعة بذلك الوضوح الذي يفهم به علم الجبر على سبيل المثال، لكن بفهم الإنسان لآلية عقله عند اكتساب المعرفة، من خلال الملاحظة المتأنية للطبيعة والتعبير الدقيق عن نتائج هذه الملاحظات، في مقدوره أن يأمل في توسيع نطاق فهمه على نحو هائل. يميل عقل الإنسان بطبيعته إلى المعرفة، وأحد الأسباب التي تجعل الشك الشمولي ضربا من الحمق أن التباين الذي يستدعيه بين الحقيقة والوهم يعتمد على القدرة على التمييز التي ينكرها؛ «لا يمكننا القيام بأي فعل إلا عن طريق ملكاتنا وقدراتنا، كما لا يمكننا أن نتحدث عن المعرفة نفسها إلا بمساعدة تلك الملكات المؤهلة لفهم ماهية المعرفة نفسها» (مقال في الفهم البشري).
يتمتع الإنسان بثلاثة أنواع رئيسية من المعرفة: المعرفة الحدسية، والمعرفة البرهانية، والمعرفة الحسية (وضع الذاكرة في المعرفة غير واضح بعض الشيء). المعرفة الحدسية هي أكثر أنواع المعرفة التي نحن على يقين بوجودها؛ لأنها أقلها من حيث إمكانية تجنبها؛ فمعرفة الله معرفة حدسية، فهو يرى كل شيء في ساعته وتوه؛ ومن ثم لا حاجة له إلى العقل («استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله»، الطبعة السابعة). إن الحقيقة الأساسية التي يعرفها الإنسان حدسيا هي حقيقة وجوده؛ فلا يمكن أن يشك الإنسان في ذلك. ولا شك أن الدليل السليم يعتمد على المعرفة بقدر ما يعتمد على الحدس، لكن بما أنه ينطوي حتما على علاقات بين عدة أفكار مختلفة، فإنه «مؤلم، وغير مؤكد، ومحدود» («استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله»، الطبعة السابعة) بالمقارنة مع الحدس؛ ويمكن أن يكون الإنسان - وغالبا ما يكون - مخطئا في افتراض أنه توصل إلى هذا الدليل. أما المعرفة الرياضية فهي معرفة برهانية، لكن أهم حقيقة يمكن للإنسان أن يعرفها على نحو برهاني هي وجود الله. وأخيرا المعرفة الحسية، وتنشأ من خلال التأثير الذي تمارسه العناصر الموجودة في العالم على حواس الإنسان (مقال في الفهم البشري)، ولا نعرف بالضبط كيف تنشأ تلك المعرفة («استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله »، الطبعة السابعة)، لكن الجهل بمنشئها لا يجعلنا أقل يقينا بها (مقال في الفهم البشري)؛ فعندما نرى ورقة بيضاء أثناء الكتابة عليها، لا يمكننا الارتياب في اللون الذي نراه أو الوجود الحقيقي للورقة، تماما مثلما لا يمكننا الارتياب في فعل الكتابة نفسه أو حركة اليد القائمة بفعل الكتابة؛ «إنه أقصى يقين تسمح به طبيعتنا البشرية - فيما يتعلق بوجود أي شيء - بعد يقيننا بوجودنا نحن وبوجود الله.» وتستحق المعرفة الحسية عن جدارة أن توصف بكونها معرفة؛ فنطاقها يتسع «بالقدر الذي تستخدم به شهادة حواسنا الحاضرة في إدراك موضوعات معينة، تؤثر فيها بعد ذلك، وليس لأبعد من هذا»، مع الاستثناء الأساسي بأن ذاكرتنا - عندما تكون دقيقة - تمنحنا معرفة بالوجود السالف لبعض الموضوعات التي أكدتها لنا حواسنا من قبل (مقال في الفهم البشري).
الذاكرة مكمل مهم للمعرفة البرهانية وكذلك للمعرفة الحسية، ومن دونها لم تكن لتعرف أية حقائق عامة في مجال الرياضيات، ولم نكن لنتمكن من الوصول حتى إلى المعرفة «المعتادة» لصحة أي براهين كنا قد أكملناها في الماضي، ما لم نكن نعرف في الحاضر كيف نكررها؛ ولم يكن ليقال عن نيوتن - على سبيل المثال - إنه كان على دراية بما برهنه في كتابه «الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية»، إلا عندما صاغ سلسلة الاستدلالات العقلية الكاملة الخاصة به «بمنظور واقعي» (مقال في الفهم البشري).
شكل : لوك بوصفه عدوا لدودا لما بعد الحداثة: القناعة بأن الحقيقة هي عكس الزيف، وأنه يمكن العثور عليها، وأنها تستحق أن يسعى في طلبها.
تعرض هذا المفهوم الخاص بالمعرفة للنقد من زوايا عدة، وربما كان من الممكن أن يقبل نفر قليل من الفلاسفة المحدثين الدليل العملي الذي أقامه لوك على وجود الله، لكن الهجوم الأهم والأوسع انتشارا على الإطلاق سدد إلى تحليله للمعرفة الحسية؛ فقد شككت مجموعة متعاقبة من النقاد البارعين ذوي الآراء المتباينة للغاية - بدءا من بيركلي وتوماس ريد وكانط، ووصولا إلى وقتنا الحالي - في توافق المكونين الرئيسيين لوجهة نظره تلك؛ وهما: أن الحواس تتيح للإنسان معرفة العالم الخارجي، وأن كل أنواع المعرفة تتضمن إدراكا عقليا للأفكار. في الواقع، مذهب لوك هو مذهب معقد ودقيق، وكثير من الاعتراضات التي وجهت إليه باءت قطعا بالفشل؛ فقد كان يرى بالفعل أن تلك الأفكار البسيطة عن العناصر الطبيعية تتطابق إلى حد كبير مع الشكل الذي عليه تلك العناصر الطبيعية بالفعل؛ أي إنها تمنح الإنسان معرفة بخصائصها وصفاتها، وبذلك تختلف تلك الأفكار اختلافا جذريا عن المفاهيم الأخلاقية - على سبيل المثال - التي لا تتضمن محاولة لمطابقتها مع «نموذج أصلي» موجود خارج عقل الإنسان. ومما لا شك فيه أيضا أنه كان يعتنق نظرية سببية في جوهرها حول الإدراك الحسي، مفادها أن الحواس تتيح لنا معرفة الطبيعة عن طريق خصائص الأشياء المسببة للأفكار في عقولنا. كما يتصور بوضوح الآليات السببية التي هي موضع خلاف شديد للغاية فيما يتعلق بالمفهوم العلمي للمادة والحركة في القرن السابع عشر (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله، الطبعة السابعة): من الواضح أن «الحركة تستنزف في إنتاج تلك الأفكار، ومن المفترض أن الحركة بهذا التعديل الذي يطرأ عليها هي السبب في تولد تلك الأفكار لدينا.» بيد أنه لم يفترض لبرهة واحدة أن الإنسان في عصره كان لديه أي فهم واضح بشأن الآلية الفعلية لهذه السببية، وشكك بوضوح في أن تكون الحواس حادة وواضحة بالدرجة التي تهيئ الإنسان لفهمها، حتى ولو على نحو مبدئي. لكن، على الرغم من أن نظريته بذلك كانت أكثر تفصيلا وتشككا مما عرف عنها أحيانا، فإنه كان يشوبها الكثير من نقاط الضعف المهمة، ومن المنطقي التأكيد على أن المعرفة الكاملة تنطوي على فعل عقلي وجانب ما من الوعي. ولا يزال من الآراء المنطقية، فيما يتعلق بالعالم الخارجي على الأقل، أنه «بما أن الموضوعات، التي يتأملها العقل، لا يكون أي منها - إلى جانب العقل نفسه - حاضرا جاهزا للفهم، فمن الضروري أن موضوعا آخر - كعلامة دالة على الموضوع الذي يتأمله العقل أو تمثيل له - يكون حاضرا جاهزا للفهم؛ وتلك هي الأفكار» (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله ، الطبعة السابعة). ومع ذلك، فإن الرأي القائل بأن قدرة الإنسان على المعرفة يمكن تفسيرها في مجملها تفسيرا وافيا بأنها اكتساب أفكار بسيطة يدركها الإنسان عن طريق الحواس، أو يحصل عليها من خلال التأمل؛ يظل غير مقنع.
على الرغم من ذلك، استطاع لوك - على هذا الأساس - أن يقدم تحليلا رائعا للفلسفة الطبيعية: «معرفة الأشياء كما هي في كينوناتها السليمة، وقوانينها، وخواصها، وعملياتها» (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله، الطبعة السابعة). أقر لوك في هذا الرأي بمظاهر التضليل والخداع المحتملة للحواس والذاكرة، دون الاستسلام للشك الشمولي؛ فقد ميز جيدا - إن لم يكن بوضوح شديد دائما - بين تلك الخواص «الأولية» للطبيعة (مثل الشكل) التي توجد في أجسام بمعزل تام عن مشاهديها من البشر أو غيرهم، وبين الخواص «الثانوية» (مثل اللون) التي تعتمد جزئيا على القدرات الإدراكية لدى القائم بالمشاهدة؛ فالإنسان يدرك المكعب المصمت على هذا النحو لأن تلك هي الحالة التي هو عليها ببساطة، سواء تفقده الإنسان أم لم يتفقده، لكنه يدرك اللون الأحمر للوردة؛ لأنه عندما يراها في ضوء النهار تؤدي خواصها الفيزيائية إلى أن يدركها بهذا اللون؛ ومن ثم فجميع الأفكار البسيطة تتسبب فيها «خواص» العناصر بوسائل لا نفهمها، وغالبا لا نستطيع أن نفهمها، لكن على عكس الخواص الثانوية، لا تعتمد الخواص الأولية على العلاقة بين البشر والعناصر الخارجية. ومن الطبيعي أن يفكر الإنسان في كلا نوعي الخواص على أنهما موجودان ببساطة في العناصر الخارجية، لكن لا يكون هذا الاعتقاد الطبيعي صحيحا تماما إلا في حالة الخواص الأولية.
تقتصر معرفة الطبيعة على الأفكار الحسية البسيطة، التي يدركها الإنسان في الحاضر أو يستدعيها إلى ذهنه من خلال الذاكرة. لكن لا ريب أن اعتقاد الإنسان عن الطبيعة يمتد لما هو أبعد من ذلك بكثير؛ فهو يعتمد في الأساس على أحكام الاحتمالية، بناء على مقارنات مفصلة بين الأفكار البسيطة وتوليفات منها؛ ومن ثم، فهو ليس شكلا من أشكال معرفة الطبيعة، وإنما شكل من التخمين المدروس جيدا عن الطبيعة. وعلى مدى معظم القضايا الأكثر أهمية في حياة الإنسان، لا يستطيع الإنسان أن يعرف حقا ما يفعله حيال تلك القضايا أو ماهيتها، كل ما بوسع الإنسان فعله هو إبداء رأيه في هذه القضايا على نحو متعقل قدر المستطاع، وهو أمر لا بد له قطعا من فعله. وإصرار الإنسان على طلب المعرفة في المسائل التطبيقية التي تستحيل معرفتها يكون له أثر هدام في النفس؛ فهذا من شأنه أن يعوق الإنسان عن اتخاذ أي إجراء على الإطلاق ويعطل حياته. لا يمكن معرفة حقائق عامة عن الطبيعة؛ ومن ثم لا يوجد ما يسمى بعلم الطبيعة بالمعنى الصارم للكلمة؛ فالإنسان محق تماما في أن يرى أنه يعرف أن أفكاره الحسية والتأملية البسيطة تتطابق مع الواقع والحالة التي عليها العالم والحالة التي عليها الإنسان نفسه، لكن عندما يحاول أن يفهم نفسه والطبيعة من حوله، فإن الأفكار المعقدة التي يصوغها في عقله من هذه الأفكار المادية البسيطة لا يمكن التيقن من تطابقها مع الواقع؛ وما يضطر الإنسان إلى فعله، بدلا من ذلك، هو أن يحكم على ما إذا كان الواقع يتطابق مع أفكاره المعقدة أم لا. وإذا أصدر الإنسان حكمه هذا بإنعام وتعقل، فسوف يخدم ذلك كل الأغراض التطبيقية كما ينبغي؛ فما يطلبه الله من الإنسان يستحيل ألا يكون الإنسان على معرفة به، لكن التعامل بفاعلية مع الطبيعة لا يتطلب معرفة، وإنما يتطلب فقط تخمينا بارعا.
لكي يكون لدى الإنسان علم حقيقي عن الطبيعة الخارجية، يجب أن تكون لديه معرفة حسية بالحقائق العامة المتعلقة بآليات تلك الطبيعة، وسيتعين عليه أن يكون قادرا بالمعنى الحرفي للكلمة على أن يرى الأسباب التي تتمخض عنها كل النتائج الطبيعية وكيفية تمخضها عنها. يتصف الله نفسه بكل تأكيد بهذه القدرة على الرؤية المباشرة، بل من الممكن أن تكون الملائكة أيضا - ولو بدرجة أقل - قادرة على إدراك بعض آليات الطبيعة مباشرة. لكن البشر - نظرا لمحدودية حواسهم - لا بد أن يعتمدوا إلى حد كبير في فهمهم للطبيعة على التحكم في مفاهيمهم وتصنيفاتهم على أساس من الوعي الذاتي؛ فإذا كانوا لا يستطيعون أن يتوصلوا إلى معرفة حقائق عامة عن الطبيعة، فلديهم كل الدوافع العملية لأن يحاولوا تكوين معتقدات عامة سليمة عن آلياتها. ولكي يزيدوا من احتمالات النجاح في هذه المجازفة، لا بد أن يولوا اهتماما خاصا بالوسائل التي يصوغون بها أفكارهم المعقدة، ويوظفون بها الكلمات التي يستخدمونها في تسمية هذه الأفكار؛ فالأفكار البسيطة هي علامات طبيعية على خواص العناصر الطبيعية، والكلمات هي علامات بشرية على الأفكار الموجودة في العقل. الأفكار البسيطة لا إرادية، في حين أن الكلمات إرادية تماما، ونظرا لأن الأفكار المعقدة كانت تقع في مكان وسط بينهما، فمن الممكن إخضاعها للتنظيم المدروس والمتعمد من جانب العقل، لكنها تعتمد اعتمادا كليا على شهادة الحواس فيما يتعلق بعناصرها المادية. ولكي يضمن الإنسان أقصى قدر من التحكم في توجيه مفاهيمه وآليات فهمه، يلزمه قدر فائق من الوعي الذاتي على المستويين العقلي واللفظي. ويعتبر البحث العلمي المنهجي والخطاب الفلسفي هما الوسيلة العامة والعملية للتعبير عن أحد أشكال الرعاية والمسئولية العقلية التي يتوجب على جميع البشر أن يتحملوها في حدود فرصهم الاجتماعية.
إن البحث العلمي - حسبما يرى لوك - لا يؤدي إلى المعرفة؛ ومن ثم يرى لوك أنه لا يستحق أن ينعت بكونه علما، لكنه قطعا يتيح للإنسان تحسين فهمه للطبيعة؛ فقد أحرز البحث العلمي مؤخرا تقدما هائلا في أعمال معاصريه الموقرين أمثال بويل ونيوتن وغيرهما من أعضاء الجمعية الملكية، الذين كانوا بمنزلة علامات مضيئة ورائدة في مجالاتهم. ومن غير الواضح إلى أي مدى كان لوك نفسه يتوقع أن يسهم هذا البحث المتخصص والمنهجي والنظري بدرجة كبيرة في العالم الطبيعي، في حد ذاته، في زيادة سيطرة الإنسان على الطبيعة أو تعزيز استمتاعه بالحياة في هذا العالم. (في مجال الطب، كان لوك يتمنى بالطبع أن يعود البحث العلمي على الأفراد ببعض المنافع الدنيوية المباشرة، لكن من الواضح أنه لم يكن يتوقع تحولا في قدرة الإنسان على السيطرة على الأمراض أو تخفيف الآلام.) ومع ذلك، أيا كانت الإسهامات المميزة للبحث العلمي ، كان لوك يرى بوضوح أن البحث العلمي امتدادا طبيعيا للجهود الفعالة والعملية لفهم الطبيعة والتحكم فيها، التي ميزت الأمم «الراقية» عن الأمم «الوضيعة»، وجعلت الحياة في الأمم «الراقية» أكثر إمتاعا بكثير منها في الأمم «الوضيعة» بحسب رأيه (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله، الطبعة السابعة).
لعل أروع ملمح من ملامح هذا الفهم عن العلوم الطبيعية هو تفسيرها لحدود المعرفة الطبيعية لدى الإنسان، ومن الواضح أن لوك أساء حقا تقدير هذه الحدود في بعض النواحي، عندما رأى بين التصنيف البشري وآليات الطبيعة فجوة أكثر اتساعا من تلك التي بررها التاريخ اللاحق للكيمياء أو حتى لعلم الأحياء. لكن يظل تقدير لوك جيدا فيما يبدو للتوازن بين الثقة في القوة التفسيرية للنموذج الميكانيكي، والقناعة بأن الإنسان لا يمكنه أن يعرف آليات الطبيعة معرفة مباشرة. لدى فلاسفة العلوم الطبيعية المحدثين علوم مختلفة تماما ليفكروا فيها، وبعضها له نتائج عملية مذهلة، وهم يشاركون لوك عددا من الافتراضات، أو حتى الاهتمامات، وعلى خلاف لوك لا يعتقدون أيضا أن المعرفة نوع من الرؤية، ولا يقارنون حدود معرفة الإنسان عن الطبيعة برؤية الله العليم التي يفترض أنها رؤية كاملة؛ لكنهم على الرغم من كل اختلافاتهم، يضعون في الأغلب هذه الثقة - بقدر ما يستطيعون حشده في المقام الأول - في التصرفات المباشرة للحواس، وفي القوة التفسيرية للنماذج، كما أنهم ينكرون قدرة البشر على أن يعرفوا بالضبط السبب وراء آلية الطبيعة وعملها على هذا النحو؛ وعليه، فإن العلوم الطبيعية ليست شكلا من أشكال المعرفة (كما أشار لوك)، إنما هي بالأحرى شكل من أشكال المعتقدات المعقدة والمضللة على نحو غريب؛ فهي مسألة تقدير (أو تخمين) وليست رؤية مباشرة.
لم يساور لوك الشك في أن شيئا ما يدفع الطبيعة إلى أن تعمل على ذلك النحو الذي تعمل عليه بكل تفاصيله؛ فالعناصر لها خواص، والإنسان يعرف بوجود هذه العناصر لأن خواصها تؤثر في حواسه بطرق معينة، لكن - على خلاف أرسطو - كان لوك يشك فيما إذا كانت الطبيعة نفسها مقسمة إلى أنواع متباينة من العناصر التي توجد حدود واضحة بينها، وكان واثقا من أن البشر لا يستطيعون معرفة كيفية تقسيمها بالضبط، كما كان على يقين تام بأن البشر لا يمكنهم معرفتها من خلال المعرفة الدقيقة لآلية تقسيمها. لكن، أيا كانت آلية تقسيم الطبيعة نفسها - سواء أكانت تشكل تسلسلا غير واضح، أم تتألف من العديد من أنواع العناصر المتباينة تماما - فإنها تجعل الإنسان يراها بالكيفية التي يراها عليها، ويمكن أن يرى الله بوضوح كيفية فعلها لهذا وسببه. لكن كل ما بوسع الإنسان أن يفعله هو جمع أفكاره البسيطة بعناية ودقة، واستخدام العلامات اللفظية التي تشير إلى هذه الأفكار المجمعة بالقدر نفسه من العناية والدقة. وما يمكن أن يعرفه الإنسان عن الطبيعة (بعيدا عن الأفكار الحسية والتأملية البسيطة) هو الكيفية التي يدرك بها الإنسان نفسه هذه الطبيعة ويفهمها، فهو لا يستطيع أن يعرف بصفة عامة ما يفكر فيه أو يتحدث عنه، ولا يمكنه - فيما خلا لحظة بعينها - أن يعرف كنهها بحق.
لكن الأمر يختلف كثيرا في حال الأفكار التي تشكل الفعل، ولا سيما الأفكار الأخلاقية؛ ففي هذه الحالة، لا توجد فجوة بين ما يفكر فيه الإنسان وما عليه الحال بالفعل. من السهل أن يحتار المرء بشأن القضايا الأخلاقية، بما أنه لا يوجد ببساطة معيار خارجي ملموس، توفره الحواس، يتعين على الإنسان مطابقته ومقارنة أفكاره وفقا له؛ بيد أن الأفكار الأخلاقية التي يفكر فيها الإنسان بسهولة هي الحقائق التي يحاول التفكير فيها. ونظرا لأنه لا توجد فجوة - وفقا لهذا المفهوم - بين ما يطلق عليه لوك «الجوهر الاسمي» و«الجوهر الفعلي» للأفكار، يمكن فهم الأفكار المرتبطة بالأخلاق بوضوح تفتقر إليه بالضرورة الأفكار المتعلقة بالطبيعة؛ ولهذا السبب افترض لوك أن الأخلاق يمكن الاستدلال عليها، وظل يفترض ذلك حتى بعد مرور وقت طويل على توقفه عن محاولة الاستدلال عليها بنفسه.
وربما ما جعل المفاهيم الأخلاقية غاية في الوضوح (وجعل سوء الفهم الأخلاقي أمرا واردا للغاية من الناحية العملية)، هو غياب عالم معين لتلك المفاهيم لمضاهاتها به والاحتكام إليه؛ بيد أنه من غير المستغرب أن هذا الغياب نفسه قد جعلها موضع شك بطريقة أخرى؛ فكل البشر - كما رأينا - لديهم مبادئ داخلية قوية للسلوك تحثهم على التصرف بطريقة مخالفة تماما للمعتقدات الأخلاقية التي كان يعتنقها لوك. إن ما أتاح إقامة المجتمعات البشرية هو أن الأفراد يكبحون هذه الدوافع، بفعل الضغط الذي يمارسه عليهم المجتمع في المقابل الذي يتمثل في الاستحسان والاستنكار من جانب، والتهديدات النافذة للعقوبة القانونية من جانب آخر. ويمثل كلا العاملين عائقا عمليا أمام سعي الإنسان وراء اللذة، ولا يمكن لهذين العاملين في حد ذاتهما أن يكونا سببا يستحث الإنسان على التصرف على نحو أخلاقي، أو على اختيار التصرف على نحو أخلاقي حينما يكون واثقا من تفادي تلك التهديدات؛ ومن هنا تأتي الأهمية الحتمية لمفهوم لوك عن الأخلاق، المتمثل في ضرورة وجود تهديد لا يمكن لأحد أن يأمل على نحو عقلاني أن يتحاشاه؛ ألا وهو عقاب الله «الذي يرى الإنسان في الخفاء». عرض لوك هذا الارتباط بوضوح شديد في مسودة غير مكتملة بعنوان «حول الأخلاق بوجه عام»، التي ربما كان المقصود بها أن تكون الفصل الأخير من «مقال في الفهم البشري» (مقالات حول قانون الطبيعة). وفي مواجهة هذا الارتباط، يتضح في «مقال في الفهم البشري» ككل عيب صارخ؛ فالحجج التي أقامها لوك على وجود الله لا تسهم مطلقا في ترسيخ حقيقة وجود «إله» معني بمعاقبة البشر أو خلاصهم، ولا يمكن تبرير المفهوم المسيحي الواضح لوجود الله، الذي قامت عليه قناعات لوك الأخلاقية، إلا باللجوء إلى فكرة الوحي الإلهي. (من حسن الحظ أن قانون الطبيعة الإلهي ومشيئة الله المعلنة كانا متطابقين لا محالة، وقدما «المحك الحقيقي والمعيار الوحيد للنزاهة الأخلاقية» (مقال في الفهم البشري).)
الإيمان
بناء على ذلك، اتجه لوك بحزم في عمله الرئيسي الأخير نحو الوحي الإلهي، وحسبما يتضح من عنوان العمل، فإن السبب في ذلك يرجع جزئيا إلى رغبته في نشر «معقولية المسيحية كما قدمت في الكتاب المقدس». (إن العقل هو الذي يجب أن يحكم ما إذا كانت رسالة بعينها هي وحيا من الله أم لا، وهو الذي يجب أن يفسر بدقة ما تعنيه تلك الرسالة.) لكن ثمة شيء أكثر إلحاحا دفعه إلى ذلك؛ لأن الوسيلة الوحيدة التي تجعله يحتفظ بثقته في أن الواجبات الأخلاقية للإنسان سوف «تعلن للبشر كافة» على نحو فعال، هي الوحي المسيحي. ولم يبرهن أحد قط على صحة قانون الطبيعة بمداه الكامل (معقولية المسيحية كما قدمت في الكتاب المقدس)، وبحلول عام 1694 كان لوك قد فقد الأمل في إثبات صحته بنفسه (مراسلات جون لوك)؛ لكن الله أظهر للبشر كافة الطريقة التي تمنى لهم أن يعيشوا وفقا لها، وذلك عن طريق قانون الإيمان الذي نشره إليهم من خلال المسيح المنتظر. لقد ساهمت العلاقة الوثيقة بين نبوءات العهد القديم عن المسيح المنتظر وبين أحداث حياة المسيح، بالإضافة إلى المعجزات التي صنعها، في إعطاء الحواريين معرفة موحى بها بأنه كان «المسيح المنتظر». ونشر المسيح نفسه قانون الإيمان؛ حيث دعا البشر إلى الإذعان له ووعدهم بالخلاص في المقابل («معقولية المسيحية كما قدمت في الكتاب المقدس»، «أعمال جون لوك»).
بعد مرور ما يقرب من سبعة عشر قرنا، لا يمكن أن يتوقع الإنسان ممارسة هذا النهج نفسه من الإجبار المباشر لتصديق أن الحواريين استمتعوا بحياتهم، بما أن الوحي الإلهي التقليدي يعتمد على الاستدلال التاريخي وليس على التجربة المباشرة (مقال في الفهم البشري). لكن إذا فكر الإنسان في الأدلة وفتح قلبه، فإنه لن يحرم من الإيمان. والإيمان بأن يسوع هو المسيح المنتظر، بالإضافة إلى بذل جهد حقيقي للإذعان لناموسه، كافيان لخلاصه؛ فالإيمان ضرب من الثقة، وهو أمر لا يناقض العقل ولكنه يفوقه؛ فهو يتطلب مجهودا (وهذا ما يمكن أن يجعل الخيانة إثما)، لكنه يتيح حقا لكل إنسان الفرصة كي يحيا حياة صالحة.
وهذا ليس نتيجة ملهمة لرحلة بحث فلسفية استمرت على مدى ثلاثة عقود ونصف، وليس ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن لوك نفسه قد أعارها الحماس الكافي، وغالبا ما كان ليسر بتأييده لها منذ البداية؛ علاوة على ذلك ، فقد كان لهذه النتيجة عدد من الآثار المفجعة؛ فقد كانت تعني على سبيل المثال أنه ليس بمقدور الإنسان - وفقا لمعيار لوك، ونظرا لحدود قدراته الطبيعية - أن يعرف كيف يعيش، كما أنه ليس لديه الفرصة ليعرف ذلك. ولعل الدينونة والإيمان كافيان للخلاص، لكن ما يقدمانه لا يعد شكلا من أشكال المعرفة؛ علاوة على ذلك، كان من الصعب - وفقا لهذا الرأي - المواءمة بين مصير كل هؤلاء البشر، الذين لم يكونوا محظوظين بالدرجة الكافية لأن يستقبلوا بشرى الوحي المسيحي السارة، وبين مفهوم لوك عن منزلة الإنسان في الطبيعة وفهمه لقدرة الله وإحسانه.
شكل : الرجوع إلى الإيمان، بأن يسوع هو المسيح المنتظر. ليست هذه بالطبع قناعة جديدة بالنسبة إلى لوك، وإنما قفزة جديدة تماما على قناعته.
لكن مع أن هذه النتيجة كانت محبطة حتما للوك نفسه، فإنها تلقي الضوء بالفعل على عدد من القيود المهمة على مخيلته؛ فالدينونة والإيمان معا يمكن أن يمنحا الإنسان السبب الكافي كي يعيش بالطريقة التي افترض لوك أنه يتعين على الإنسان العيش وفقا لها. وفي الحالة الأخيرة، كانت ضرورة وجود سبب كاف لدى الإنسان للعيش بهذه الطريقة أهم، من وجهة نظره، من ضرورة أن تكون لديه القدرة على معرفة كيفية العيش؛ وعليه يتضح عمليا أن المعرفة الحقيقية بالأخلاق أمر بعيد المنال عن الإنسان بقدر ما هو بعيد عنه علم الطبيعة الحقيقي. وما يحل محل المعرفة الحقيقية في حياة الإنسان الواقعية، كما تصورها لوك، هو مزيج من الدينونة والثقة في الإحسان الإلهي. وكان تصوره عن قدرات الإنسان على معرفة الطبيعة - باعتبارها قدرات فطرية متواضعة - عكس تصوره عن قدرة الله على معرفة الطبيعة. وإزاء هذه القدرات الفطرية المتواضعة، يبدو الشك الارتيابي مصطنعا وسخيفا؛ لأنه على عكس هذه القدرات، لا يمكنه أن يلعب دورا في تلبية المطالب العملية للحياة اليومية، وبطريقة ما (وهنا انشغال لوك العميق بفلسفة ديكارت منحه شيئا من البصيرة الحقيقية) تأتي قوة الشك في المقام الأول من تناقض ضمني بين قدرات الإنسان الأكثر تواضعا، على نحو ملموس، على فهم الطبيعة، وبين نوع من الفهم - الواضح والمميز والنهائي والأكيد - الذي ربما ينسبه الإنسان حقا إلى الله، لكن لا يمكنه قطعا الوصول إليه بنفسه. بعبارة أخرى، ينبثق الشك - من وجهة نظر لوك - عن دعوة متعجرفة بأن الإنسان ينبغي أن يكون قادرا على فهم الطبيعة بنفس الوضوح الذي يفهم به الله.
مع تذبذب الثقة في وجود الله، ستبدو حتما كل من المعرفة الفطرية والأخلاق مختلفتين للغاية عن الطريقة التي رآهما بها لوك؛ ومن الأكيد أن رسم ملامح الشك وحدوده في عالم لا يؤمن بوجود الله كان أصعب بكثير (وهذا ما ثبت بالفعل).
خاتمة
في يناير 1698، لخص لوك في خطاب إلى صديقه ويليام مولينيو قناعات حياته كلها، كما يلي:
إن كان بمقدوري أن أشبه العلاقة بين المناقشات والحجج وفهمها بالعلاقة بين أنواع الطعام المتعددة والأذواق والرغبات المختلفة - بحيث إن ما يراه البعض كريها وضارا يراه البعض الآخر لذيذا ونافعا - فلا بد ألا أفكر في الكتب والبحث مرة ثانية، وحري بي أن أفكر في قضاء وقتي في لعبة مثل لعبة القبعة والدبابيس بدلا من القراءة أو الكتابة. لكني على قناعة بالعكس؛ بأنني أعلم بوجود حقيقة عكس الزيف، وهي أمر ربما يمكن للإنسان الوصول إليه إذا أراد، وأمر يستحق بالفعل أن يسعى في طلبه، وهي ليست أثمن شيء في العالم فحسب، وإنما هي أيضا أكثر الأشياء بهجة (مراسلات جون لوك).
إن فكرة أن الوصول إلى الحقيقة أمر لا علاقة له برغبات الإنسان وأذواقه، وأن جزءا منه على الأقل في متناول فهم الإنسان؛ قناعة بسيطة ومنتشرة، بيد أنها ليست بالقناعة التي من السهل تفسيرها وتبريرها بأي قدر من العمق. ويرى لوك أن مهمة الفيلسوف أن يقدم مثل هذا التفسير والحجة، وكثيرون من الفلاسفة المحدثين يساورهم الشك فيما إذا كان من الممكن بناء أي من هذه الحجج أم لا. وحتى بين الذين يؤمنون بإمكانية ذلك، قليلون هم من يرون أن محاولة لوك أحرزت نجاحا استثنائيا.
شكل : لوك في السنة الأخيرة من حياته: رجل طاعن في السن، ومعتل الصحة، وذائع الصيت للغاية.
ما من سبب للجدل حول هذا الرأي؛ فما يميز لوك اليوم عن الأغلبية العظمى من الفلاسفة ليس قوة حجة نقاشاته بوجه عام، وإنما بالأحرى فهمه العميق لتأثير الفلسفة في أن يكون لدى الإنسان سبب وجيه ليعيش حياته. إذا كانت الحقيقة في النهاية تعتمد على رغبة الإنسان، وإذا لم تكن لدى الإنسان غاية إلا رغباته، فإن الحياة إذن، التي كان لوك نفسه يحياها، هي ممارسة هزلية لإنكار الذات. وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة قرون، لا يزال من المحتمل أن ينطبق هذا الرأي نفسه على العديد من جوانب حياتنا؛ ففكرة أن الحكم على منطقية حياتنا من عدمها ربما يعتمد على مشاورات أقسام الفلسفة بالجامعات، هي فكرة تبدو للوهلة الأولى هزلية بعض الشيء، لكن هذه المزحة تنقلب علينا في النهاية حسبما يرى لوك؛ فحالما نفقد الضمانة الدينية بأن العقل الذي هو «نبراس الرب»، يعمل على نحو فعال بما يتفق مع جميع مقاصدنا، فما لدينا من سبب قاطع بعد ذلك لأن نتوقع أن يعمل العقل على نحو فعال بما يتفق مع أي مقصد. وبمجرد أن نصير غير قادرين على رؤية مقاصدنا كما كلفنا بها على نحو جازم من خارج ذواتنا، يصير من الصعب للغاية أن نحدد المقاصد التي لدينا سبب وجيه للتفكير فيها باعتبارها مقاصدنا الخاصة (أو كي نجعلها كذلك).
وفي مواجهة هذين الخطرين المتمثلين في تذبذب إيمان الإنسان بأبديته، وغموض الكيفية التي يمكن أن يوجد بها سبب وجيه لدى الإنسان ليعيش حياته، تقدم لنا فلسفة لوك قدرا أكبر من التنوير فيما يخص القضية الأولى عن الثانية. ليس هذا بالطبع ما كنا نتمناه، لكنه أمر من السهل تفسيره؛ فمن غير المستغرب أن كثيرين من الفلاسفة اليوم يشاركونه اعتقاده في أن الحقائق المتعلقة بالطبيعة وبالاختراعات المعقدة للعقل البشري مثل الرياضيات والمنطق، لا علاقة لها برغبة الإنسان؛ لكن لوك يرى أن الحقائق المحورية بشأن الكيفية التي يكون بها لدى الإنسان سبب وجيه ليعيش حياته، تكون منفصلة عما يرغب فيه الإنسان عن وعي في وقت معين، وقليلون هم من يشاركونه هذا المعتقد اليوم بأي قدر من الثقة؛ وربما لا توجد فكرة اليوم عن كيفية الدفاع عنه. لكن لا يزال البعض يعيشون (وعدد أكبر منهم يحاولون على نحو متقطع العيش) كما لو كان هذا المعتقد حقيقيا في الواقع، ووفقا لما قاله كولريدج، ذلك الناقد الشرس لأخلاقيات لوك، منذ قرن وثلاثة أرباع قرن: «الجميع تقريبا في الوقت الحاضر يتصرفون ويشعرون على نحو أكثر نبلا مما يظنون.»
إن الرأي القائل بأن لعبة القبعة والدبابيس (وهي لعبة كانت منتشرة منذ القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر) مفيدة مثل الشعر، ما دام الإنسان يستمتع بها؛ هو شعار أكثر النظريات الحديثة تأثيرا فيما يتعلق بنفع البشر وصالحهم؛ ألا وهي نظرية النفعية لجيرمي بنثام؛ وما دفع لوك إلى رفضها ليس الزعم ذا النزعة النفعية المماثلة (وغير المقنع إلى حد كبير) بأن الحقيقة هي أكثر شيء ممتع في العالم، وإنما القناعة الأهم بأن الحقيقة تختلف عن الزيف، وأنها يمكن الوصول إليها، وأنها تستحق السعي وراءها، وأنها عند الوصول إليها سوف تخبر الإنسان بكل وضوح الكيفية التي ينبغي أن يعيش وفقا لها. كانت هذه هي القناعة التي وضع لوك ثقته فيها، وعاش حياته مدافعا عنها، وبسببها لا يزال يقدم لنا عبر القرون القدوة في الشجاعة الفكرية الدائمة. وربما جانبه الصواب كثيرا عندما وثق فيها، وإن كان الأمر كذلك، فلا يمكننا الاعتماد على تفكيره لحسم جدالاتنا، لكن الشيء الأكيد أننا أيضا في أمس الحاجة إلى هذه الشجاعة الفكرية في كل منحى من مناحي حياتنا مثله تماما.
المراجع
The manuscript by Sydenham quoted on p. 10 is from Kenneth Dewhurst,
John Locke, Physician and Philosopher: A Medical Biography (Wellcome Historical Medical Library, 1963). Henry Ireton’s question to the Leveller leaders in the Putney debates quoted on p. 43 is taken from A. S. P. Woodhouse (ed.),
(J. M. Dent & Son, 1938). Coleridge’s comment cited on p. 97 comes from Kathleen Coburn (ed.),
The Notebooks of Samuel Taylor Coleridge,
ii. 1804-1808 (New York, 1961), entry 2627.
قراءات إضافية
Full bibliographical details of the editions of Locke’s works that have been used in references are given in the list of abbreviations at the beginning of the book.
The Clarendon Press is at present engaged in publishing an edition of all Locke’s published writings and many of his unpublished manuscripts. The
Essay concerning Human Understanding
and (thus far) eight volumes of his
Correspondence
were the first to appear, superlatively edited by Peter Nidditch and E. S. de Beer respectively. A single volume of
Selected Correspondence , edited by Mark Goldie (Oxford University Press), now makes some of the vividness and fascination of the full
Correspondence
accessible to a wider readership. A final volume, along with a full index to the
Correspondence
as a whole, will be issued shortly. These two works have since been joined by A
(ed. Arthur A. Wainwright, 2 vols., 1987),
Some Thoughts on Education (ed. John W. & Jean S. Yolton, 1989),
Drafts for the Essay concerning Human Understanding and other Philosophical Writings (ed. Peter H. Nidditch and G. A. J. Rogers, 1990),
Locke on Money (2 vols., ed.
The Reasonableness of Christianity (ed. John Higgins-Biddle, 1999). There are also excellent modern editions of the Two
Treatises of Government (ed. Peter Laslett, Cambridge University Press, 2nd edn., 1988),
Two Tracts on Government (ed. Philip Abrams, Cambridge University Press, 1968),
Essays on the Law of Nature (ed. W. von Leyden, Clarendon Press, 1954), and a somewhat less satisfactory edition of the
Letter on Toleration (ed. R. Klibansky and J. W. Gough, Clarendon Press, 1967). There are also very useful selections across the range of Locke’s views about politics in David Wootton’s
Locke (Penguin, 1993), a full and careful presentation of many of his incidental writings on politics in Locke,
Essays,
ed. Mark Goldie (Cambridge University Press, 1997), and a valuable selection of Locke’s
Writings on Religion (ed. Victor Nuovo, Clarendon Press, 2002). Other published works of Locke are still most conveniently consulted in the 18th - or 19th - century editions of his
Collected Works.
Maurice Cranston’s
John Locke: A Biography (Longman, London, 1957) is informative but less vivid than Laslett’s Introduction to the
Two Treatises . There is a major modern biography of Shaftesbury by K. H. D. Haley,
The First Earl of Shaftesbury (Clarendon Press, Oxford, 1968), and a remarkable (if not invariably reliable) study of Locke’s role in Shaftesbury’s political enterprises in the late Richard Ashcraft’s
Revolutionary Politics
and
Locke’s Two Treatises of Government (Princeton University Press, 1986). The Introductions by von Leyden and Abrams are particularly illuminating on the development of Locke’s understanding of morality. The best systematic treatments of this are now provided by John Colman,
John Locke’s Moral
(Edinburgh University Press, 1983) and A. John Simmons,
The Lockean Theory of Rights (Princeton University Press, 1992); but see also, more broadly, Ian Harris,
The Mind of John Locke (Cambridge University Press, 1994). Locke’s religious views are clearly (and on the whole approvingly) presented in M. S. Johnson,
Locke on Freedom (Best Printing Co., Austin, Texas, 1978). They are also now widely discussed in studies of his political thinking (see, e.g., Dunn, 1969; Tully, 1980 and 1993; Marshall, 1994; Harris, 1994 below).
Michael Ayers’s superb two-volume study
Locke. Epistemology and Ontology (Routledge, 1991) stands head and shoulders above all other modern philosophical treatments of his philosophy as a whole. Amongst other helpful works, written from a wide variety of perspectives, are John W. Yolton,
Locke and the Compass of Human Understanding (Cambridge University Press, 1970); Roger Woolhouse,
Locke’s Philosophy of Science and Knowledge (Basil Blackwell, Oxford, 1971); Richard I. Aaron,
John Locke,
3rd edn. (Clarendon Press, Oxford, 1971); James Gibson,
Locke’s Theory of Knowledge and its Historical Relations (Cambridge University Press, 1917); Kathleen Squadrito,
Locke’s Theory of Sensitive Knowledge (University Press of America, Washington, DC, 1978); J. L. Mackie,
(Clarendon Press, Oxford, 1976); Jonathan Bennett,
Locke, Berkeley, Hume: Central Themes (Clarendon Press, Oxford, 1971) and
Learning from Six Philosophers , 2 vols. (Oxford University Press, 2001), principally in Vol. 2; Peter A. Schouls,
The Imposition of Method (Clarendon Press, Oxford, 1980); and the essays collected in I. C. Tipton (ed.),
Locke on Human Understanding (Clarendon Press, Oxford, 1977). See now, too, Peter Schouls,
Reasoned Freedom: John Locke and Enlightenment (Cornell University Press, 1992) and several of the chapters in Vere Chappell (ed.),
The Cambridge Companion to Locke (Cambridge University Press, 1994). There are a number of important articles by Michael Ayers (see particularly 'Locke versus Aristotle on Natural Kinds’,
Journal of Philosophy,
May 1981; 'Mechanism, Superaddition and the
Essay ’,
April 1981; 'The Ideas of Power and Substance in Locke’s Philosophy’,
Quarterly,
January 1975). The central importance for Locke of men’s responsibility for their own beliefs is brought out very elegantly in John Passmore, 'Locke and the Ethics of Belief’,
Academy,
1978. The relation between his conception of men’s natural cognitive powers and the challenges with which History confronts them is discussed in J. Dunn, '“Bright Enough for all our Purposes”: John Locke’s Conception of a Civilised Society’,
Notes and Records of the Royal Society,
43 (1989). On his conception of education, see (in addition to the edition of J. W. and J. S. Yolton, 1989) Nathan Tarcov,
Locke’s Education for Liberty (University of Chicago
Mattern, 'Moral Science and the Concept of Persons in Locke’,
January 1980, and David Wiggins, 'Locke, Butler and the Stream of Consciousness and Men as a Natural Kind’, in A. O. Rorty (ed.),
The Identities of Persons (University of California Press, Berkeley, 1976). For the formation of Locke’s own identity, see J. Dunn, 'Individuality and Clientage in the Formation of Locke’s Social Imagination’, in Reinhard Brandt (ed.),
John Locke (W. de Gruyter, Berlin and New York, 1981). The originality and influence of Locke’s conception of language is discussed magisterially in Hans Aarsleff,
From Locke to Saussure (Athlone Press, London, 1982).
The best introductions to Locke’s political thought are Geraint Parry,
Locke (George Allen and Unwin, 1978) and Richard Ashcraft,
Locke’s Two Treatises of Government (George Allen and Unwin, 1987); but compare Ruth W. Grant,
John Locke’s Liberalism (University of Chicago Press, 1987). The
Two Treatises
itself is discussed in J. Dunn,
The Political Thought of John Locke (Cambridge University Press, 1969). There are now also extremely valuable overall treatments of the
Two Treatises
in A. John Simmons,
The Lockean Theory of Rights
and
On the Edge of Anarchy (Princeton University Press, 1992). Its analysis of property is best treated in James Tully,
A Discourse of
(Cambridge University Press, 1980). But compare Tully’s recent collection,
An Approach to Political Philosophy. Locke in Contexts (Cambridge University Press, 1993), Jeremy Waldron’s careful and forceful,
The Right to Private
(Clarendon Press, Oxford, 1988), C. B. Macpherson,
The Political Theory of Possessive Individualism (Clarendon Press, Oxford, 1962), the Introduction to Istvan Hont and Michael Ignatieff (eds.),
Wealth and Virtue (Cambridge University Press, 1983), and Matthew Kramer,
John Locke and the Origins of Private Property (Cambridge University Press, 1997).
Hobbes and Locke (Macmillan, London, 1981); compare J. Dunn,
(Cambridge University Press, 1980), chapter 3. On toleration see especially the essays by Dunn and Goldie in O. P. Grell, Jonathan Israel, and Nicholas Tyacke (eds.),
From Persecution to Toleration (Clarendon
American Journal of Political Science,
46, 2002. Two major recent systematic studies of his work as a whole from a historical point of view are Ian Harris,
The Mind of John Locke
and John Marshall,
John Locke, Resistance, Religion and Responsibility (Cambridge University Press, 1994). Both authors (alongside John Milton and Victor Nuovo) also have extremely valuable essays in M. A. Stewart (ed.),
English Philosophy in the Age of Locke (Clarendon Press, 2000). There are several helpful articles in J. W. Yolton (ed.),
John Locke. Problems and Perspectives (Cambridge University Press, 1969); see especially Ashcraft and Aarsleff. The most penetrating discussion of the evolution of Locke’s own political commitments is to be found in Ashcraft’s study,
Revolutionary Politics (Princeton University Press, 1986), in a number of studies by Mark Goldie, notably, 'John Locke and Anglican Royalism’,
March 1983, and in the Introduction to Laslett’s edition of the
Two Treatises . There is a thoughtful and politically alert analysis of Locke’s understanding of the conditions for governmental legitimacy in Peter Josephson’s,
The Great Art of Government: Locke’s Use of Consent (University of Kansas Press, 2002): compare Kirstie McClure,
Judging Rights: Lockean Politics and the Limits of Consent (Cornell University Press, 1996). For the pressing issue of how far Locke succeeded or failed in doing justice to the formidably different practical predicaments and interests of women, see especially Carole Pateman,
The Sexual Contract (Polity, 1988), and A. John Simmons, 'The Conjugal and the Political in Locke’,
Locke Studies,
1 (2001), responding to Ruth Sample’s, 'Locke on
The Locke Newsletter,
31, 2000.
The writings of the main target of the
Two Treatises , Sir Robert Filmer, are available in convenient modern editions by Peter Laslett (Basil Blackwell, Oxford, 1949) and Johann P. Somerville (Cambridge University Press, 1991). The distinctiveness of Filmer’s views is best brought out in James Daly,
Sir Robert Filmer and English Political Thought (University of Toronto Press, 1979). The background to his thinking can be approached through Gordon J. Schochet,
(Basil Blackwell, Oxford, 1975). The relations between the political theory of Locke and his 18
th
century successors are discussed in J. Dunn, 'The Politics of Locke in England and America in the Eighteenth Century’,
chapter 4, and 'From Applied Theology to Social Analysis: The break between John Locke and the Scottish Enlightenment’, in Hont and Ignatieff (eds.),
Wealth and Virtue,
in Stephen Dworetz’s somewhat brash,
The Unvarnished Doctrine (Duke University Press, 1990), and in Michael Zuckert’s learned and intelligent
Natural Rights and the New Republicanism (Princeton University Press, 1995). I have attempted to assess the varying longevity and weight of Locke’s impact upon subsequent political thinking in 'What is Living and What is Dead in Locke’s
Interpreting Political Responsibility (Polity, 1990), 'The Contemporary Political Significance of John Locke’s Conception of Civil Society’, in Sudipta Kaviraj and Sunil Khilnani (eds.),
Civil Society: History and
(Cambridge University Press, 2001), and 'Measuring Locke’s Shadow’, in
Locke’s Letter on Toleration and Two Treatises of Government (ed. Ian Shapiro, Yale University Press, 2003). There are important modern studies on Locke’s political theory in French (notably those of Jean-Fabien Spitz), German, Japanese, and Italian. An annual periodical,
The Locke Newsletter (up to 2000), now
Locke Studies , published by Roland Hall, Department of Philosophy, University of York, provides regular information on current research into Locke’s life and thought. Its first issue was an invaluable bibliography, since republished in a fuller form as Roland Hall and Roger Woolhouse,
Eighty Years of Locke Scholarship. A Bibliographical
Guide (Edinburgh University Press, 1983).
Six works which illuminate the background to important aspects of Locke’s writings are Michael Hunter,
Science and Society in Restoration England (Cambridge University Press, 1981); Quentin Skinner,
The Foundations of Modern Political Thought (2 vols., Cambridge University Press, 1978); Richard Tuck,
Natural Rights Theories: Their Origins and Development (Cambridge University Press, 1979); and
(Cambridge University Press, 1993); John W. Yolton,
John Locke and the Way of Ideas (Clarendon Press, Oxford, 1956); Richard H. Popkin,
The History
of
Scepticism from Erasmus to Spinoza (University of California Press, Berkeley, 1979).
مصادر الصور
(1-1) Mary Evans Picture Library. (1-2) Mary Evans Picture Library. (1-3) By courtesy of the National Portrait Gallery. (1-4) The Bodleian Library, University of Oxford, shelfmark G.A.Oxon a.25. (1-5) The Bodleian Library, University of Oxford, shelfmark 80 N 67 Th. (1-6) Musée Carnavalet, Photothèque des Musées de la Ville de
(1-7) National Library of Ireland. (2-1) The Bodleian Library, University of Oxford, shelfmark MS 375/1r. (2-2) The Bodleian Library, University of Oxford, shelfmark 80 Q 15 Th. (2-3) By courtesy of the National Portrait Gallery. (2-4) By courtesy of the National Portrait Gallery. (3-1) The Bodleian Library, University of Oxford, shelfmark Vet. A3 c.78. (3-2) The State Hermitage Museum, St Petersburg, Russia/SCR
(3-3) The Bodleian Library, University of Oxford, shelfmark Vet. A3 f.532.
خاتمة (1) Yale Center for British Art, Paul Mellon Collection.
Shafi da ba'a sani ba