John Locke Gabatarwa Mai Gajiyarwa
جون لوك: مقدمة قصيرة جدا
Nau'ikan
لكن معظم العالم لم يعد أرضا خربة؛ ليس لأن عمل الإنسان قد رفع ببساطة من إنتاجيته على نحو هائل فحسب، لكن أيضا لأن البشر اكتشفوا طرقا لإيجاد شكل من التفاوت الاقتصادي يختلف عن الشكل الذي أتاحته لهم الطبيعة نفسها بوسائل مباشرة. يشرع العمل مبدئيا «حق ملكية» في الأشياء المشتركة في الطبيعة (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية)، وهو حق يحدده الاستخدام؛ وبذلك فإنه يحل المعضلة التي وضعها فيلمر لجروتيوس. في هذه المرحلة المبكرة من تاريخ البشرية كان حق الملكية مسألة بسيطة وليست موضع نزاع، «ولم يكن ثمة سبب حينها للنزاع حول حق الملكية أو الشك في ضخامة الملكية التي يمنحها هذا الحق، بل صار الحق والملاءمة أمرين متلازمين؛ لأنه كما أن للإنسان حقا في كل ما يستطيع أن يوظف فيه جهده، فإنه لا يبدي الرغبة في العمل بما يفوق مقدار استفادته بهذا العمل وانتفاعه منه» (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية). وكانت الوسيلة التي مكنت الإنسان من الهرب من هذه الحالة هي اختراع النقود، التي هي عبارة عن مخزون دائم للقيمة «يستمد قيمته من رضا الإنسان فحسب؛ نظرا لأنه يمثل قيمة أقل لحياة الإنسان مقارنة بالطعام والكسوة والنقل.» يزيد اختراع النقود من التفاوت بين الملكيات على نحو بالغ، وهو التفاوت الذي أتاحته «درجات الاجتهاد المختلفة» التي يظهرها الإنسان، وبحسب تقدير لوك، فقد أتاح هذا تقريبا للإنسان أن «يمتلك أكثر مما في إمكانه استغلاله»، بما أن في مقدوره أن يكتنز - دون أن يضر بأي شخص - قيمة فائض العائد الذي تدره ملكيته في صورة ذهب وفضة. ولا يعتمد التبادل النقدي على السلطة السياسية، كما أن التفاوت الاقتصادي - الذي هو نتيجة للتبادل النقدي - لا يعتمد في شرعيته على القانون المدني لمجتمع معين (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية).
هنا يشدد لوك على قضية بالغة الحساسية؛ ففي أي مجتمع سياسي، كما يقر تماما، يكون القانون هو المنوط بتنظيم حقوق الملكية (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية)، لكن من الضروري لخدمة أهدافه ألا يكون هذا التنظيم تعسفيا بحق، بل ينبغي عوضا عن ذلك أن توجهه الأغراض التي توجد من أجلها الحكومات والأهداف التي تمنح البشر حقوق السيطرة على العالم المادي. في رأيه، لم تكن حقوق الملكية المستمدة مباشرة من العمل بحاجة إلى التشريع الذي تضعه الحكومات، ولم تجز هذا القدر الكبير من تعديلات الحكومة. لكن العمل لم يقدم للبشرية سوى الخير. أما دور النقود فكان أكثر غموضا في مجمله؛ فقد أوجد المال على أقصى تقدير أسبابا للنزاع حول حق الملكية، وأثار شكوكا حول حجم الملكية وضخامتها. وكان المال هو ما أفاد أنه لم يعد ثمة تلازم بين الحق والملاءمة، فقد تأسس النظام الاجتماعي والاقتصادي بأكمله في إنجلترا خلال القرن السابع عشر على نظام بشري، شعر لوك في قرارة نفسه أن وضعه الأخلاقي متناقض للغاية. وفي هذه الفكرة تحديدا من نظريته ودون مفارقة تاريخية، يمكننا أن نراه وهو يركز بإيجاز - ولكن على نحو ثاقب - على فتور الجانب الأخلاقي للرأسمالية التجارية، لكن بمقدورنا أن نرى ذلك بكل وضوح، ولا يعود الفضل في ذلك إلى بصيرتنا الخارقة أو مزايا الإدراك المتأخر، وإنما لأن لوك نفسه لم يكن يشعر برغبة كبيرة في إنكاره، ولم يكن الغرض من نظرية لوك في الملكية هو إخفاء إحساسه بالخيبة بشأن النظام الاجتماعي والاقتصادي لإنجلترا في ذلك الوقت.
لكن، أي نوع من حقوق الملكية رام لوك في الحقيقة الدفاع عنه؟ من الأسهل أن نحدد عن يقين نوع الملكية الذي تمنى أن ينكره، وربما كان هذا هو الأوضح بالنسبة إلى لوك نفسه. كانت «الملكية» حسبما أوردها في أعماله هي الكلمة الرئيسية للتعبير عن حقوق الفرد ومستحقاته، ولو لم تكن ثمة حقوق للفرد، لما ظهر الظلم؛ فإلحاق الظلم بأحدهم يعني أن ينتزع منه شيء له الأحقية فيه؛ على سبيل المثال: حياته، أو حريته، أو ممتلكاته المادية. والغرض من وجود الحكومات هو حماية حقوق الأفراد؛ ومن ثم فالحكومات موجودة كي تكفل لكل البشر حياتهم وحرياتهم وممتلكاتهم المادية. لا شك أن لكل إنسان الحق في صون حياته وحريته، إلا إذا أسقط هذا الحق عنه بالاعتداء العنيف على حياة الآخرين وحرياتهم. بيد أن أحقية الممتلكات المادية كانت أمرا أكثر تعقيدا؛ فالممتلكات المادية التي هي ثمرة مباشرة لعمل الإنسان وجهده، هي ملك له في حقيقة الأمر، ولا يوجد دليل على أن لوك شعر بأدنى قدر من التأنيب لاحتمال أن تكون تلك الممتلكات قد منحت لآخرين في حياة مالكها، أو أن تكون انتقلت إلى ورثته بعد موته (رسالتان في الحكم، الرسالة الأولى). لكن بما أن مقدار التفاوت الاقتصادي كان يعتمد على أحد أشكال العرف السائد بين البشر فحسب، كان من الأصعب تجنب الشكوك المثارة حول ضخامة الملكية، ولا نعرف فعليا وعلى وجه الدقة رأي لوك في هذه المسألة، لكن ثمة العديد من النقاط التي يمكن الجزم بصحتها.
أولى هذه النقاط أن الباعث الرئيسي الذي دفعه إلى أن يناقش في الفصل الخامس من «الرسالة الثانية» الملكية بمفهومنا؛ ألا وهو الحق في الممتلكات المادية. كان الرغبة في إنكار حق الملك الحاكم في أن يفعل ما يحلو له بالممتلكات المادية لرعاياه، دون موافقة صريحة منهم. لقد كان ما زعمه الملك تشارلز الأول حول ممارسته هذا الحق من أجل الصالح العام، هو أحد العوامل الرئيسية التي عجلت من اندلاع الحرب الأهلية في بريطانيا، وقد مثلت احتمالية تجدد هذا الحق على يد ابنه تهديدا سياسيا مهما بالنسبة إلى حزب الويج خلال أزمة الإقصاء، وهذا أيضا من الحقوق التي دافع عنها فيلمر بكل حدة. وكانت الوسيلة الأولى التي استعان بها لوك في تأسيس حق الملكية على العمل، هي الوضوح الذي جابه به هذا التحدي؛ إن الله - وليس العرف السائد بين البشر - هو الذي منح الإنسان الحق في الانتفاع بثمار عمله. وفي الواقع، فإن العرف وحده هو الذي منح الملك هذه السلطة التي يتحكم بها في رعاياه، وبدلا من أن تكون له سيادة ملكية على رعاياه والأراضي التي ورثها مباشرة عن آدم حين منحه الله الأرض واستخلفه فيها، كان على الحاكم ببساطة - حسبما يرى لوك - أن يستخدم هذه السلطة على قدر ما هو متاح منها، وأن يستغلها في حماية الحقوق التي منحها الله نفسه لرعاياه بصورة مباشرة.
كان لوك يدرك بالطبع - حسبما يتضح من صياغته لهذا الرأي - أن سلطة أخلاقية مباشرة وشفافة على الممتلكات ترتكز على الجهد البدني، لم تتسع (ولم يكن من المتوقع أن تتسع) لتشمل نطاق التفاوت الاقتصادي الذي أفرزته عملية التبادل النقدي على مدى فترة زمنية طويلة. لكن لم يكن ما يحتاجه لوك ليدحض مزاعم الملوك بأحقية التصرف في ممتلكات رعاياهم بحسب ما يرون أنه الأفضل، هو نظرية توضح سبب الأحقية الكاملة والصريحة لكل فرد من الرعايا في أي شيء حاز ملكيته بالوسائل القانونية والشرعية، ولكن كان ما يحتاجه ببساطة هو تفسير السبب الذي يمكن به أن تكون الملكية الخاصة (وكثيرا ما كانت كذلك) حقا مناوئا حتى للسلطة السياسية الشرعية. ووفقا لما أورده لوك نفسه، فإن انتزاع ثمرة مجهود شخص ما هو شكل من الظلم مغاير تماما للظلم الذي يتأتى من انتزاع أرباح المضاربة، أو فرض ضرائب على بيان ريع الأراضي لدى أحد الأرستقراطيين، الذي وصل إلى مالكه الحالي عن طريق أعمال النهب في الماضي، أو بمحسوبية أحد الأجداد الأوائل المنتمين إلى نسل الملوك. لكن من وجهة نظر لوك السياسية، كانت الاحتمالات المتعلقة بالمحسوبية الملكية هي بالطبع أبرز التهديدات وأكثرها إلحاحا في ذلك الوقت؛ وما من سبب للاعتقاد بأن لوك كان سيشعر باستهجان أقل في الحالة الثانية عن الأولى.
من الأمور التي يصعب تقييمها رأي لوك في نظريته عن الملكية عندما تأملها بعد سنوات، ولا سيما في السنوات الأخيرة من حياته. ما نعرفه - حسبما ذكر بالفعل - أنه كان يفخر بها، إلا أننا لا نعرف بالضبط الأوجه التي منحته هذا القدر من الرضا. وأجرأ رد على هذه المسألة كان ما قدمه سي بي ماكفرسون على نحو مدهش للغاية؛ وهو أن لوك كان يقصد من نظريته أن تكون تفسيرا للشرعية الأخلاقية للإنتاج الرأسمالي. ثمة حجة ضعيفة لأخذ هذا الرد على محمل الجد، باعتباره تقييما لمقاصد لوك من صياغة نظريته. لكن ثمة سؤال أكثر أهمية؛ وهو: إلى أي مدى قد يصور هذا الرأي - ولو بشيء من المفارقة التاريخية البسيطة - إحساس لوك بالإنجاز الذي حققه بصياغة هذه النظرية؟ لكن يظل هذا الرأي في أقوى أشكاله غير مقنع بالمرة؛ فقد اعتقد لوك - مثل توماس الأكويني - أن كل البشر لديهم الحق في الكفاف المادي، وهذا الحق يتجاوز حقوق ملكية الآخرين. كان لوك يرى أنه حتى إذا كان السعر العادل هو سعر السوق (الفصل الخامس)، فإن الإصرار على عدم البيع إلا بسعر السوق لرجل في احتياج مميت بما يتسبب في هلاك هذا الرجل، هو ضرب من القتل. وكان يرى أن أولئك الذين ظلوا يعملون طوال حياتهم، لهم الحق في أن يعيشوا في الكبر حياة كريمة، وليس الحق في مجرد الكفاف فحسب، وكل هذه حقوق كانت تستند مباشرة إلى منح الله الأرض للبشر أجمعين، وفكرة أن الأعراف البشرية اللاحقة (مثل التبادل النقدي) ربما تكون لها الأحقية في التعدي على تلك الحقوق، تتعارض تعارضا جوهريا مع مفهوم لوك عن الملكية. أقر لوك فعليا أن السيد يمكنه امتلاك العمل المدفوع الأجر لخادمه. لكن هذا الإقرار العارض نسبيا لما كان على أية حال سمة رئيسية للعلاقات الاقتصادية الإنجليزية في زمنه من الصعب أن يكون تأكيدا لحماسه تجاه الدور المحوري لسوق العمالة بالأجر في الإنتاج الرأسمالي؛ إذ ينكر لوك صراحة أن الإنسان الذي حرم من وسائل الإنتاج (التي منحها الله لكل البشر)، يمكن إجباره على الخضوع والإذعان من خلال التحكم في تلك الوسائل (رسالتان في الحكم، الرسالة الأولى).
يمنح «الإحسان» كل إنسان الحق في أن ينهل الكثير مما يوجد بوفرة لدى الآخر، كما يحميه من العوز الشديد؛ حيث لا يملك سبلا أخرى للعيش، وليس ثمة ما يبرر استغلال شخص لحاجة شخص آخر، من أجل إرغامه على الخضوع له، بمنع تلك الإعانة التي يلزمه الله بتقديمها إلى إخوانه المعوزين، أكثر من أن يكون في مقدور هذا الشخص الأقوى الاستحواذ على الشخص الأضعف وتسخيره لطاعته، مطالبا إياه - تحت تهديد السلاح - إما بالموت وإما بالعبودية (رسالتان في الحكم، الرسالة الأولى).
شكل : جون لوك، 1676، للرسام جون جرينهيل.
ثمة سبب وجيه بصفة عامة للاعتقاد بأن لوك شعر أن مفهومه عن الملكية يمثل تقدما هائلا على المنظرين البارزين في مجال حقوق الملكية؛ جروتيوس وبوفندورف، وذلك في شرحه لمنظومة الحقوق التي يبنى عليها المجتمع التجاري. لكن ليس ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأنه كان ينظر إلى منظومة الحقوق هذه بحماس لا يميز بين الجيد والرديء. لقد غيرت إنتاجية العمل البشري وجه العالم بما يحقق متعة الإنسان ، حسبما أراد الله منها؛ وعزز التبادل النقدي - الذي هو وسيلة بشرية خالصة - هذا التحول بالعديد من السبل، لكنه أضر أيضا بالشفافية الأخلاقية للملكية البشرية بما لا يدع مجالا لاستعادتها مرة أخرى، وحيثما تصطدم الحقوق المترتبة مباشرة على العمل، مع تلك التي تعتمد على التبادلات النقدية المعقدة وحدها، سيكون لوك نفسه في وضع صعب لا يسمح له بإجازة الحقوق المترتبة على التبادلات النقدية المعقدة. وفي ذلك الحين كان التاريخ المتشابك لنظرية القيمة المستمدة من العمل، في تبرير الإنتاج الرأسمالي ورفضه، منعكسا بالفعل من خلال أوجه الالتباس في النظرية التي صاغها.
طبيعة السلطة السياسية
Shafi da ba'a sani ba