Bangarorin Tunani a Tsarin Zamantakewa daban-daban
الجوانب الفكرية في مختلف النظم الاجتماعية
Nau'ikan
ولم يكن من الممكن أن يتم هذا التحول لو لم يكن الإنسان في ذلك العصر قد أصبح متفائلا معتدا بنفسه وبقواه، مؤمنا بأهمية العمل، وبأن كل جهد يبذله لا بد أن يعود عليه بمزيد من النفع والرخاء. ولقد كانت تلك بالفعل سمة بارزة من سمات المرحلة الرأسمالية المبكرة، ميزتها بوضوح عن المرحلة الإقطاعية التي كان يسودها الإحساس بالتشاؤم وبالانصراف عن العالم وبعدم جدوى أي جهد يبذله الإنسان في هذه الحياة. وكان للعقيدة البروتستانتية التي أخذت عندئذ في الانتشار في أجزاء هامة من أوروبا - بعد أن ظلت الكاثوليكية هي المذهب الرسمي للمسيحية طوال ما يقرب من ألف وخمسمائة عام - دور هام في وضع أسس هذه النظرية الجديدة إلى العالم، بل إن بعض الكتاب، مثل ماكس فيبر
Max Weber
وتاوني
Tawney
يرون أن للبروتستانتية تأثيرا مباشرا في ظهور الرأسمالية؛ ذلك لأن الروح البروتستانتية قد أزالت العوائق التقليدية التي كانت تقف حائلا في وجه الرغبة في التملك، ولم تكتف بتأكيد أن دافع الربح مشروع، بل لقد نظرت إلى السعي إلى الربح على أنه أمر تتجه إليه الإرادة الإلهية مباشرة. وكل ما ينهى عنه الله هو الترف المفرط والتبديد، أما الاستخدام الرشيد للثروة من أجل تحقيق مصالح الفرد والمجتمع فأمر تدعو إليه العقيدة الجديدة بحماسة. كذلك كانت هذه العقيدة تعلي من قدر العمل الدائب، المستمر، الشاق، سواء كان عملا يدويا أم عقليا، وفي ذلك كانت تختلف اختلافا واضحا عما تدعو إليه الفلسفة اليونانية، ممثلة في قطبيها الكبيرين أفلاطون وأرسطو، من احتقار للعمل اليدوي واعتقاد بأنه يحط من قدر من يشتغل به وينزع عنه إنسانيته. وهكذا كانت البروتستانتية تحمل بشدة على حياة التكاسل والاسترخاء، حتى بالنسبة إلى من تسمح لهم ثروتهم بمثل هذه الحياة. وقد بلغ الأمر بالعقيدة الجديدة إلى حد أنها دعت إلى ممارسة العمل لذاته، بوصفه شيئا يأمر به الله، لا من أجل ما يجلبه من جزاء، وكان ذلك في رأي البعض مظهرا من مظاهر حاجة الرأسمالية في بداية نشأتها إلى عمال يمكن استغلالهم اقتصاديا على أساس من العقيدة، وهو نوع من التبرير لم يعد ضروريا بعد أن اكتملت السيطرة الرأسمالية في مرحلة لاحقة من تاريخها. (4)
على أن هذا العصر، في تفضيله للنزعات المتعلقة بالدنيا على الروح الزاهدة، لم يكن على الإطلاق عصرا لا دينيا، وكل ما في الأمر أنه كان مضادا لسلطات الكهنوت والكنيسة الرسمية، بقدر ما كانت تضع قيودا على نشاط الإنسان في استغلال العالم المحيط به. وترتب على ذلك أن الدين أصبح ينظم العالم الداخلي الباطن للإنسان، أما العالم الخارجي فإنه يترك للإنسان حرية التصرف فيه، ولا يتدخل في أفعاله الظاهرة. وكان ذلك عاملا ساعد على إطلاق طاقات الإنسان الأوروبي بعد أن كانت أحكام الدين تتدخل حتى في أبسط ما يقوم به من أفعال، وتنظم كافة مظاهر سلوكه وفقا لمبدأ الزهد والانصراف عن شئون الحياة. (5)
على أننا نستطيع أن نقول إن أبرز السمات التي تميزت بها المرحلة الرأسمالية المبكرة عن المرحلة الإقطاعية السابقة عليها تميزا قاطعا، كانت الاعتراف بالسيادة المطلقة للعقل، والتخلي عن كل النزعات اللا عقلية التي كانت تسود العصر السابق. ولا شك في أن عنصر التعامل النقدي، الذي أشرنا إلى أهميته من قبل، كان مرتبطا بهذا الإعلاء من شأن العقل؛ إذ إن التعامل النقدي يتسم، كما بينا، بأنه تجريدي، لا شأن له بالعوامل الشخصية، وتلك بدورها سمة هامة من سمات التفكير العقلي الذي يترك المحسوسات جانبا ليتعامل مع المجردات، فضلا عن أنه لا يعمل حسابا للانفعالات والمشاعر الشخصية، وكلما تمكن من التخلي عن العوامل الذاتية كان أقدر على أداء وظيفته الحقة. وفضلا عن ذلك فإن التعامل النقدي، وما يرتبط به من حسابات مالية ومصرفية معقدة، يحتاج إلى تقدم في التفكير الرياضي العقلي، ومن هنا لم يكن من المستغرب أن تحرز الرياضيات في ذلك العصر تقدما كبيرا بالقياس إلى فترة الركود التي مرت بها منذ انقضاء العصر اليوناني القديم.
ولقد كان من الضروري للتاجر، ثم لصاحب المصنع فيما بعد، أن ينظر إلى كل الظواهر على أنها قابلة للتنبؤ، وللحساب الدقيق، بحيث يرى العالم كله كما لو كان مصنعا آليا ضخما يمكن حساب كل ما يجري فيه من عمليات. وكانت تلك القدرات العقلية على حساب التفاصيل والتنبؤ - على أساس مدروس - بتطورات الأحداث جزءا لا يتجزأ من تكوين رجل الأعمال الناجح في ذلك العصر. بل لقد كانت الواقعية الصارمة صفة لا بد منها لمثل هذا الرجل، ولم تكن الروح المكيافيلية إلا تعبيرا صادقا عن أخلاق العصر الرأسمالي الأول، وعن القيم العقلية السائدة فيه، كما أن قصة مثل «دون كيخوته» لم تكن بدورها إلا تأكيدا، لا يخلو من مرارة، لانقضاء عهد الفرسان النبلاء المؤمنين بقيم الشهامة والبطولة الفردية، وظهور عالم واقعي صارم يحسب كل شيء فيه بحساب العقل الموضوعي الدقيق.
ولم يكن من الممكن أن يصمد في المنافسة الحادة التي أصبحت تميز ميدان الأعمال الاقتصادية إلا من توافرت له صفات الذكاء الفردي والمهارة والصرامة والقدرة على التوقع واستباق الحوادث. أما الصفات المكتسبة من الحسب والنسب والمزايا الوراثية فلم تعد تجدي نفعا. وهكذا فإن وزن الأمور كلها بميزان العقل الدقيق، بغض النظر عن أي اعتبار شخصي، أصبح هو السمة التي ينبغي أن تتوافر في الإنسان كيما يتحقق له النجاح.
بل إن الحروب ذاتها قد اصطبغت بهذه الصبغة العقلانية اللا شخصية، فقد كان حلول المدفع محل السيف تعبيرا رمزيا عن الانتقال من عصر شخصي إلى عصر عقلاني صارم؛ لأن القتال بالسيف قتال بين شخص وآخر، أو بين إنسان وإنسان، على حين أن المدفع يصيب دون التحام مباشر بين أشخاص، ولا يميز في الإصابة بين إنسان وآخر، بل لا يعرف من الذي يصيبه. ولو أمعنا الفكر قليلا لتبين لنا وجود نوع من التوازن بين الانتقال من التعامل العيني بالسلع إلى التعامل النقدي المجرد، أو من إنتاج الثروة في مزرعة يملكها سيد إقطاعي إلى مصنع يعمل فيه عمال لا تربطهم بصاحب العمل أية صلة شخصية، وبين التحول الذي أشرنا إليه في أساليب الحرب من السيف والدرع إلى المدفع والبارود. (6)
Shafi da ba'a sani ba