Bangarorin Tunani a Tsarin Zamantakewa daban-daban
الجوانب الفكرية في مختلف النظم الاجتماعية
Nau'ikan
تأثير التعامل النقدي
لكي ندرك قوة التأثير المادي والمعنوي الذي أحدثه التعامل النقدي في العصر الرأسمالي المبكر، ينبغي علينا أن نبدأ بكلمة موجزة نعرض فيها لطبيعة النقود من حيث هي قوة اقتصادية؛ فالنقود وسيط يتم عن طريقه التبادل، وهي وسيلة لتخزين الثروة، ومقياس للقيمة، وإن كانت مقياسا متقلبا لا يتسم بالثبات. وقد كانت النقود تتخذ في البداية شكل قطع من المعادن (كالذهب أو الفضة أو النحاس) توزن عند إجراء كل تعامل أو صفقة، ثم صنعت قطع من المعدن لها وزن ثابت وسمك معلوم، وأصبحت الحكومات ضامنة لها، وبهذه الوسيلة أصبح تبادل السلع أيسر بكثير مما كان عليه في نظام المقايضة؛ إذ إن هذا النظام الأخير يحتم على الشخص الذي يريد استبدال سلع أن يجد شخصا آخر لديه ما يريد من السلع، ويريد ما لديه منها، وهو شرط لا يمكن تحقيقه في كل الأحوال. ولذلك كانت النقود عاملا حاسما في ازدهار التجارة، وفي تعميق تقسيم العمل وتوسيع نطاقه. وقد يسرت النقود تكديس الفوائض في الثروة، وبالتالي تكوين رأس المال، وذلك لسهولة تخزينها وإمكان جمعها في حيز محدود، ولأنها لا تفسد كالحاصلات الزراعية مثلا، فضلا عن سهولة نقلها من مصادر متعددة، بحيث يصبح من السهل جمع مدخرات أناس كثيرين في مكان واحد واستغلالها في مشروع أوسع نطاقا.
ولا يمكن القول إن هذا التعامل النقدي قد بدأ لأول مرة في الفترة التي نتناولها هنا بالعرض، إذ إن بوادره الأولى قد بدأت منذ الحضارات القديمة، كالحضارة السومرية، التي ظهرت فيها أول بدايات نظام الائتمان ودفع الفوائد لقاء القروض، كذلك تضمن قانون حمورابي الذي يرجع تاريخه إلى حوالي 1750 قبل الميلاد نصوصا خاصة بالعقود وبالتعهدات والالتزامات في مجال الأعمال الاقتصادية. ولكن أهمية التعامل النقدي، بوصفه عاملا حاسما في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، لم تظهر بوضوح إلا في العهد المبكر للرأسمالية.
ذلك لأن مرونة المال النقدي وسهولة تبادله وتشكيله بأشكال مختلفة، أدت إلى تحرر الأفراد الذين يملكونه من الارتباط بالمكان الثابت الذي كان من قبل هو المصدر الوحيد للثروة، وأعني به الأرض الزراعية، وزيادة قدرتهم على التنقل من مكان إلى آخر، بل من وطن إلى وطن. وكان هذا من العوامل الأساسية التي أدت إلى أن تصبح المدن مركز الثقل في الحياة الاقتصادية في العصر الرأسمالي، بعد أن كانت هذه الحياة تتركز من قبل في الريف. فالحضارة الرأسمالية حضارة مدن قبل كل شيء، بل إن بقايا الطبقة الإقطاعية حين شعرت بالضعف، نظرا إلى ثبات دخلها وافتقارها إلى المرونة، أخذت في بيع أراضيها وتحولت إلى المدينة مستهدفة تحقيق مطالبها فيها، وبذلك ازدادت أهمية الريف ضآلة، وساهم الإقطاع في هدم نفسه بنفسه. وكلما توطدت دعائم حياة الحضر، ازداد المجتمع تعلقا بها، إذ يجد في المدن خير مجال لتبادل السلع، وكذلك لتبادل الأفكار، ذلك لأن التبادل التجاري كان على الدوام أيسر الطرق لتبادل الخبرات والتجارب بين مختلف الجماعات.
وكما أدى التبادل النقدي إلى زيادة المرونة في التنقل المكاني، فإنه أدى أيضا إلى زيادة المرونة الاجتماعية؛ ذلك لأن مكانة الفرد لم تعد متوقفة على ما يملكه من الأرض الزراعية، أو على لقبه الوراثي، بل أصبحت تتوقف على مقدار ما يستطيع تكديسه من المال. والمال قيمة اقتصادية تجريدية، لا شأن لها بالأشخاص، تعطي من يملكها - أيا كانت صفاته الأخرى - قوة ونفوذا في المجتمع. وحين لا يعود للعوامل الشخصية دور في تحديد طابع الملكية، أي حين تصبح الملكية ذات صبغة لا شخصية محايدة، فإن الفوارق الجامدة بين الطبقات تبدأ في الزوال، ويصبح الانتقال من طبقة اجتماعية إلى طبقة أخرى أمرا ممكنا، إذا توافر المال اللازم. وهكذا فبينما كانت الوراثة والأصل العائلي تحول دون انتقال أي شخص من الطبقات الدنيا إلى الطبقة العليا، إلا في أحوال نادرة، فإن مثل هذا الانفصال أصبح الآن أمرا ممكنا، بل إن الطبقة العليا القديمة أصبحت عاجزة عن الاحتفاظ بمكانتها، وأصبحت فرص من لا ينتمون إلى هذه الطبقة، في الارتقاء أكبر من فرص كبار الملاك الوارثين؛ لأن أسلوب التعامل النقدي والتجاري لم يكن غريبا بالنسبة إلى الأولين.
وحتى في الحالات التي لم يكن فيها الارتقاء إلى الطبقة العليا ممكنا، كان العامل الذي يظل في الطبقة الدنيا أكثر تحررا من الفلاح المرتبط بأرض الإقطاعي في نواح متعددة؛ ذلك لأن العامل يتلقى أجره نقدا، على حين أن الثاني يتلقاه - في الأغلب - عينا. وحين يتخذ الأجر صبغة النقد القابل للتداول الحر في أشكال لا حصر لها، يستطيع العامل أن ينفقه كيفما يشاء وأينما شاء، ويصبح له بالتالي مزيد من الحريات، من الوجهة النظرية على الأقل.
وهكذا يتضح لنا أن شكل التبادل النقدي لم يقتصر تأثيره على المجال الاقتصادي البحت فحسب، بل لقد امتد هذا التأثير حتى أضفى على الحياة بأسرها طابعا جديدا. وسوف تزداد هذه الحقيقة وضوحا عندما ندرس السمات المميزة للعصر الرأسمالي المبكر.
السمات الفكرية للمرحلة الرأسمالية المبكرة (1)
بينما كان العصر الإقطاعي عصر ثبات وجمود في الأفكار والعادات والقيم، أصبح التغيير هو شعار العصر الرأسمالي في مراحله الأولى؛ فلم يكن الإنسان في ذلك العصر يؤمن بوجود أي نظام راسخ لا يتغير، سواء في الطبيعة وفي المجتمع، بل كان يعتقد اعتقادا جازما بأن قدرته على التغيير تسري على كل شيء، وبأنه لا توجد عوائق تمنعه من استطلاع كل المجالات وإثبات فاعليته فيها. (2)
كان ذلك عصرا اكتشف فيه الإنسان نفسه والعالم المحيط به من جديد. فبعد أن كان اللاهوتيون يوهمونه بأن العالم الآخر هو وحده الذي ينبغي أن تتعلق به آمال الإنسان وتتجه نحوه جهوده، أصبح يتجه بكل قواه نحو استطلاع آفاق العالم الطبيعي بكل تفاصيله، وتمثل ذلك في حركة الكشوف الجغرافية التي تضاعفت بسببها أبعاد العالم المعروف للإنسان، وكشفت فيها قارات جديدة مليئة بالثروات وإمكانات الاستغلال. كما تمثل في عكوف العلماء على كشف أسرار الطبيعة بمناهج واقعية وتجريبية دقيقة، وحرصهم على ملاحظة تفاصيلها ملاحظة تشريحية دقيقة وكأنهم يكتشفون العالم المحيط بهم لأول مرة. (3)
Shafi da ba'a sani ba