Jawahir Tafasir
جواهر التفسير
Nau'ikan
[الأنفال: 22 - 23]. فهؤلاء كلما صاح بهم صائح الحق فزعوا ونفروا وأعرضوا واستكبروا، ففي أنفسهم شعور بالحق، ولكنهم يجدون فيه زلزلة كلما لاح لهم شعاعه يحجبونه عن أعينهم بأيديهم. وسبب ذلك أنهم لم يستعملوا أنظارهم في فهم الحق، ويخافون أن لو استعملوها أن ينقصهم شيء مما يظنونه خيرا ويتوهمونه معقودا بعقائدهم التي وجدوا عليها آباءهم وساداتهم.
ومنهم من مرضت نفسه واعتل وجدانه، فلا يذوق للحق لذة، ولا يجد نفسه فيه رغبة، بل انصرف عنه إلى هموم أخر ملكت قلبه وأسرت فؤاده، كالهموم التي غلبت أغلب الناس اليوم على عقولهم ودينهم، وهي ما استغرقت كل ما توفر لديهم من عقل وإدراك، واستنفدت كل ما يملكون من حول وقوة في سبيل كسب مال أو توفير لذة جسمانية أو قضاء شهوة وهمية، فعمي عليهم كل سبيل سوى سبل ما استهلكوا فيه، فإذا عرض عليهم الحق أو ناداهم إليه مناد رأيتهم لا يفهمون ما يقول الداعي، ولا يميزون بين ما يدعو إليه وبين ما هم عليه، فيكون حظ الحق منهم الاستهزاء والاستهانة بأمره، فإذا وعدهم أو أوعدهم النذير قالوا لا نصدق ولا نكذب حتى ننتهي إلى ذلك المصير، وهذا القسم كالذي قبله كثير العدد في الناس في كل زمان ومكان، خصوصا في الأمم التي يفشو فيها الجهل وتنطمس من أفرادها أعين الفطرة ، وتنضب من أنفسهم ينابيع الفضائل، فيصبحون كالبهائم السائمة لا هم لهم إلا فيما يملأ بطونهم أو يداعب أوهامهم، ويصح جمع هذين القسمين تحت قسم واحد، وهو قسم المعرضين الجاحدين الجاهلين.
والقسم الأول هو قسم المعاندين المكابرين.
هذا كلامه، وهو مع نفاسته ينبغي أن ينظر فيه، فإن الشواهد قائمة على كثرة أفراد القسم الأول. فاليهود الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم قال الله فيهم:
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون
[البقرة: 146].
وقد ذكرهم الله في كثير من الآيات بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون ما أنزل الله فيما بأيديهم من الكتاب من آيات كاشفة للحق لأجل منفعة مادية زائلة، أو من أجل حسدهم أهل الحق أو بباعث العنت والاستكبار، وقد كانوا يستفتحون بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من العرب الأميين فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، ومن فحص أحوال اليهود، وجدهم من أعرف الناس برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقها، وإنما آثروا ما توهموه مصلحة لهم على الايمان فباؤوا بالخسران وهووا في دركات الهوان.
أما مشركو العرب فإنهم وإن كانوا على جاهلية جهلاء وأمية متأصلة فيهم، فقد كانوا يتصفون برقة الشعور ودقة النظر، وقد أوتوا من ملكة البيان ما كانوا به متفوقين على غيرهم، فلم يكن يعزب عن أذهانهم صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وما كانوا عميا عن إشراق حجته ونصوع دليله.
كيف وقد كان عليه أفضل الصلاة والسلام مشهورا بينهم بالصدق والأمانة لا يختلف في ذلك اثنان منهم، وكان القرآن يصبحهم ويمسيهم بقذائف إعجازه ويدعوهم إلى التحدي والمعارضة بأسلوب يبعث عزائم الخاملين منهم، وقد وقفوا مشدوهين أمام سطوع حججه، وظهور براهينه، ولم تحدثهم نفوسهم العاتية بأن ينزلوا إلى ميدان المعارضة فيحاولوا أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة من سوره، وهم الذين لا يصطلى بنارهم في البيان، ولا يجرى في مضمارهم في منثور القول ومنظومه.
على أن كل ما كان يدعو إليه صلى الله عليه وسلم من عقيدة وأعمال وأخلاق، هو نفسه شاهد على صدقه، لأنه نابع من الفطرة الانسانية وملب لضرورات البشر، فلم يكن الباعث على كفرهم إلا العناد والمكابرة، كما ثبت ذلك في أقوال بعض كبرائهم.
Shafi da ba'a sani ba