[1 - سورة الفاتحة]
[1.1]
اختلف فى البسملة هل هى من خصوصيات هذه الأمة أو كانت للأمم قبلها! فنقل أبو بكر التونسي إجماع علماء كل ملة على أن الله افتتح كل كتاب بها، وهذه دعوى لم تعضدها حجة إذ صحة الإجماع متوقفة على ثبوت نقله، وذهب آخرون إلى أنها من خصوصيات هذه الأمة، واحتج له الألوسي بما لا طائل تحته والعجب من هؤلاء كيف يغفلون عن كتاب سليمان الذي صدر بها، وقد حكاه الله فى سورة النمل، أما كونها من القرآن الكريم فهو مما أجمع عليه لعدم الاختلاف فى كونها جزء آية من سورة النمل، وقد أخطأ من نسب إلى أبي حنيفة وغيره القول بأنها ليست من القرآن أصلا، وممن وقع فى هذه العثرة أبو السعود فى تفسيره ومنشأ الخطأ التباس نفى كونها آية من الفاتحة ومن كل سورة صدرت بها بنفى قرآنيتها مطلقا على أن كتابتها فى صدر السور إلا سورة براءة فى المصحف الإمام بإجماع الصحابة (رضى الله تعالى عنهم) وتناقل الأمة لذلك جيلا بعد جيل حجة قاطعة لا تدع مجالا للريب فى أنها آية من كل السور التي صدرت بها كيف والصحابة (رضى الله عنهم) كانوا أشد ما يكونون حرصا على تجريد القرآن الكريم فى كتابته فى المصاحف من كل ما ليس منه. ولذلك جردوا مصاحفهم من عناوين السور فليس من المعقول أن يزيدوا فى مائة وثلاث عشرة سورة ما ليس منها، وهذه المسألة قد كثر فيها الأخذ والرد حتى أن جماعة من العلماء أفردوا لها مؤلفات خاصة، وخلاصة ما فيها أنهم اختلفوا فيها مع إجماعهم أنها جزء آية من سورة النمل، فذهب إلى إنها آية من كل سورة صدرت بها من علماء السلف من أهل مكة، فقهائهم وقرائهم ومنهم ابن كثير وأهل الكوفة ومنهم القارئان المشهوران عاصم والكسائي، وعزى إلى على وابن عباس وابن عمر وأبى هريرة من الصحابة، وإلى سعيد بن جبير وعطاء الزهرى وابن مبارك من التابعين وهو مذهبنا ومذهب الشافعى فى الجديد وعليه أصحابه، ونسب إلى الثورى وأحمد فى أحد قوليه وعليه الإمامية، وذهب جماعة إلى أنها آية مفردة أنزلت للفصل بين السور وليست من الفاتحة ولا من غيرها ما عدا سورة النمل وهو الذى عليه مالك وغيره من علماء المدينة والأوزاعى وجماعة من علماء الشام ويعقوب من قراءة البصرة، وعليه الحنفية، وذهب فريق آخر إلى أنها ليست آية مطلقا من هذه السور ولم تنزل للفصل بينها وإنما هى جزء آية من سورة النمل ونسب هذا القول إلى ابن مسعود وهو رأى لبعض الحنفية، وقال حمزة من قراء الكوفة إنها آية من الفاتحة دون غيرها وهو رواية عن أحمد، وتوجد أقوال أخرى هى إلى الشذوذ أقرب منها أنها بعض آية من جميع السور، ومنها أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور ومنها عكس ذلك، وهذا الاختلاف استتبع الاختلاف فى قراءتها في الصلاة، وفى الجهر والإسرار بها كما سنوضحه إن شاء الله، وحجة القول الأول ما ذكرناه من إجماع الصحابة واستقراء العمل على كتابتها فى صدر كل سورة إلا سورة التوبة، والكتابة حجه معتبرة عند جميع شعوب العالم والمدينة فى العصر الحديث بل الكتابة الرسمية أقوى ما يعتمد عليه عندهم كما جاء ذلك في المنار وقد كانت كتابتها فى المصحف الإمام الذي وزعت نسخة فى الأمصار بأمر الخليفة الثالث وعلى مسمع ومرأى من سادات المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ولم ينكر ذلك أحد منهم وقد كانوا أحذر ما يكونون عن إضافة أى شىء إلى القرآن مما ليس منه، وتوالت من بعدهم أجيال هذه الأمة وكلها مطبقة على كتابتها فى صدر السور وعلى تلاوتها مع القرآن وإن كان منهم من يزعم أنها آية أنزلت بانفراد للفصل بين السور ولا يؤثر هذا الزعم فى الإجماع العملى، ولو أن الناس أنصفوا لكفتهم هذه الحجة عن غيرها ولما أخذوا بالروايات الآحادية الظنية فى مقابل هذه الحجة المتواترة القطعية ولكنهم عولوا على الروايات فسلكوا طرائق قددا
كل حزب بما لديهم فرحون
[المؤمنون: 53] وأصرح ما اعتمدوا عليه من الروايات حديث أبى هريرة رضى الله عنه عند الربيع وأحمد ومسلم وأبى داود والترمذى والنسائى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" قال الله عز وجل قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدنى عبدى، فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى على عبدى، فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدنى عبدى، وقال مرة فوض إلى عبدى، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هذا لعبدى ولعبدى ما سأل "
ووجه استدلالهم بالحديث لعدم ذكر البسملة، قالوا لو كانت من الفاتحة لذكرت فى الحديث، وهو كما ترى استدلال سلبي فى مقابلة الإيجابي القطعي المتواتر وهو إجماع الجميع على كتابتها وتلاوتها فى الفاتحة وغيرها من سور القرآن وأين هذه الحجة السلبية الخفية التي تحمل ضروبا من التأويل من تلك الحجة القطعية الظاهرة التى لا يمكن تأويلها بحال؟ ويكفيك دلالة على ضعف هذه الحجة أن الحديث لم يذكر قسمة الفاتحة بل ذكر قسمة الصلاة والصلاة تشتمل على أذكار وأفعال متعددة وعلى قراءة من غير الفاتحة، وكل هذه الأشياء لم تذكر فى القسمة الواردة فى الحديث، وإنما ذكرت الفاتحة وحدها، بل ذكر منها ما لا يشاركها فيه غيرها من السور، والبسملة قد اشتركت فيها السور كلها ما عدا براءة، وثم جواب آخر هو أن ما فى البسملة من الثناء على الله بوصفه بالرحمة مكرر فى الفاتحة ومذكور فى القسمة فلا يقوى الاستدلال السلبى الذى اعتمدوا عليه على معارضة القطعى، هذا لو سلمت المعارضة بين الحديث وما تدل عليه كتابة الفاتحة فى البسملة وغيرها، وقد علمت أن ليست ثم معارضة، وفى هذا يقول السيد محمد رشيد رضا: " إذا كان من علل الحديث المانعة من وصفه بالصحة مخالفة راويه لغيره من الثقات، فمخالفة القطعى من القرآن للتواتر أولى بسلب وصف الصحة عنه، على أن هذا الحديث هو المعارض بالأحاديث المثبتة لكون البسملة من الفاتحة " ، وللإمام الفخر فى تفسيره الكبير " مفاتيح الغيب " اعترض على استدلالهم بهذا الحديث بما جاء من ذكر البسملة فى بعض طرقه، فقد أخرج الثعلبى بإسناده عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدى نصفين، فإذا قال العبد. بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله سبحانه مجدنى عبدى، وإذا قال الحمد لله رب العالمين، قال الله تبارك وتعالى حمدنى عبدى، وإذا قال الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: أثنى علي عبدى، وإذا قال مالك يوم الدين، قال الله: فوض إلي عبدى،...إلخ "
وتابعه الإمام العلامة أبو مسلم فى نثاره غير أنا لعدم اطلاعنا على إسناد هذا الحديث عند الثعلبى، وعدم معرفتنا بصحته لا نستطيع الاعتماد عليه، ونكتفى بما أسلفنا ذكره فى الإجابة على استدلالهم.
ومما اعتمدوا عليه حديث أبى هريرة عند أحمد وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
Shafi da ba'a sani ba
" إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي تبارك الذي بيده الملك "
ووجه الاستدلال أن سورة الملك هى ثلالون آية دون البسملة، وأجيب بأن البسملة لم تعد من السورة للإشتراك فيها بينها وبين غيرها، والمراد بالثلاثين آية الآيات الخاصة بالسورة ويدل على ذلك ما روى عن أبى هريرة أيضا أن سورة الكوثر ثلاث آيات مع أن أحمد ومسلما والنسائى أخرجوا من حديث أنس (رضى الله عنه) قال:
" بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فى المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله فقال: " نزلت علي آنفا سورة " فقرأ: { بسم الله الرحمن الرحيم. إنآ أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر } [سورة الكوثر] "
وهذا الحديث دلالته على أن البسملة من سورة الكوثر واضحه مع أنها لم تعد من آياتها لما ذكر، فكونها آية من سورة الفاتحة أولى وهو أصح من حديث أبى هريرة فى سورة الملك لأن البخارى أعله بأن عباس الجشمى راويه لا يعرف سماعه عن أبى هريرة، وتعلقوا بأحاديث عدم الجهر بالبسملة المروية عن أنس بن مالك قال: " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم " رواه أحمد ومسلم، وفى لفظ " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " رواه أحمد والنسائى على شرط الصحيح، وأخرجه ابن حبان والدارقطنى والطحاوى والطبرانى وفى لفظ لابن خزيمة " كانوا يسرون " ولأحمد ومسلم رواية أخرى بلفظ " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا فى آخرها " ولعبد الله بن أحمد فى مسند أبيه عن شعبة عن قتادة عن أنس " صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبى بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم " قال شعبة فقلت لقتادة أنت سمعته من أنس؟ قال نعم نحن سألناه عنه، وللنسائى عن منصور بن زادان عن أنس قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى بنا أبو بكر وعمر فلم نسمعها منهما " وأنت ترى هذه الروايات عن أنس لا تخلو من اضطراب فتجدها تارة نافية لقراءة البسملة وتارة نافية للجهر بها وأخرى نافية لسماعها، ومثل هذا الاختلاف لا تنهض به حجة كما صرح بذلك ابن عبد البر فى (الاستذكار) وهو من أجل أئمة المالكية، والمالكيون لا يرون قراءة البسملة في الصلاة فضلا عن الجهر بها، وهذه المسألة أى مسألة الإسرار والجهر بالبسملة أو تركها رأسا مما وقع فيه الخلاف واضطربت فيه الروايات عن الصحابة والتابعين فنجد الصحابي يروى عنه الجهر والإسرار بها ولم نجد أحدا من الصحابة روي عنه الإسرار وحده إلا ابن مسعود رضي الله عنه، وممن روي الجهر بها عنهم في حال الجهر بالقراءة أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وابن عمر وابن الزبير وابن عباس وعمار بن ياسر، وأبى بن كعب وأبو قتادة والسعيد وأنس وعبد الله بن أبي أوفى وشداد بن أوس وعبد الله بن جعفر والحسين بن علي ومعاوية، وذكر الشوكانى في (نيل الأوطار) عن الخطيب أن من قال بالجهر بها من التابعين أكثر من أن يذكروا وأوسع من أن يحصروا منهم سعيد بن المسيب وطاوس وعطاء ومجاهد وأبو وائل وسعيد بن جبير وابن سيرين وعكرمة وعلى بن الحسين وابنه محمد بن على وسالم بن عبد الله بن عمر ومحمد بن المنكدر وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ومحمد بن كعب ونافع مولى ابن عمر وأبو الشعثاء وعمر بن عبد العزيز ومكحول وحبيب بن أبي ثابت والزهرى وأبو قلابة وعلى بن عبد الله بن عباس وابنه والأزرق بن قيس وعبد الله بن معقل بن مقرن، وممن بعد التابعين عبيد الله العمرى والحسن بن زيد وزيد بن على ابن الحسين ومحمد بن عمر بن علي وابن أبي ذئب والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه، وزاد البيهقي في التابعين عبد الله بن صفوان ومحمد بن الحنفية وسليمان التيمى، ومن تابعيهم المعتمد ابن سليمان، وذكر البيهقى في الخلافيات أنه اجتمع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ويؤيده ما جاء في كتب العترة وهو الذى عليه الشافعى وأصحابه واتفق عليه أصحابنا، وذكر الخطيب عن عكرمة أنه كان لا يصلى خلف من لا يجهر بالبسملة، ويرى جماعة من العلماء الإسرار بها وهو المعمول به عند الحنفية والحنابلة، وقد روى عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين، ومالك لا يرى قراءتها سرا ولا جهرا ونقل عنه قراءتها فى النوافل فى فاتحة الكتاب وسائر القران، ومنهم من يرى جواز الجهر والإسرار بها حكاه القاضى أبو الطيب الطبرى عن ابن أبى ليلى، وإذا تدبرت مجموع الروايات استطعت أن تستخلص منها صحة القول بالجهر، فقد أخرج الإمام الشافعى بإسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال صلى معاوية بالناس فى المدينة صلاة جهر فيها بالقراءة، فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبر فى الخفض والرفع فلما فرغ ناداه المهاجرون والأنصار يا معاوية نقصت الصلاة - وفي رواية سرفت الصلاة - أين بسم الله الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت؟ فكان إذا صلى بهم بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكبر.
والحديث صحيح الإسناد كما أوضح العلامة المحدث أحمد محمد شاكر في شرحه وتحقيقه لسنن الترمذى، وأخرجه الحاكم فى المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم. فأت ترى كيف اجتمعت كلمة المهاجرين والأنصار على إنكار عدم الجهر بالبسملة على معاوية بن أبى سفيان مع شدة بطشه وقوة شكيمته وليس ذلك إلا لتركه واجبا لا يصح التساهل فيه، والحديث ظاهر في أن العمل عند الصحابة رضي الله عنهم قد استقر على الجهر بالبسملة وإلا فكيف يعرفون أن لم يقرأها رأسا ولو كانت مما يخفت في الصلاة وفي هذا الحديث ما يرد على دعوى ابن العربى والقرطبى فى انتصارهما لمذهبهما المالكي في عدم قراءة البسملة في الصلاة بأن ذلك قد استقر عليه العمل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جيلا بعد جيل من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن مالك ولعمرى إن هذه الدعوى لبعيدة المنال، فإن حادثة المهاجرين والأنصار مع معاوية كانت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يبعد أن تكون في مسجده الشريف، فمن أين لابن العربي والقرطبى استقرار العمل في المسجد النبوى على عدم قراءتها.
هذا وقد حاول جماعة الجمع بين روايات أنس المختلفة بأن المقصود من قوله " كانوا لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم " عدم جهرهم بها كما صرح بذلك في رواية " كانوا لا يجهرون " ، وأن المقصود بقوله " كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين " الاستفتاح بهذه السورة بما فيها البسملة على أن أنسا رضي الله عنه قد روى عنه عدم حفظه لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الدار قطنى وصححه عن أبى سلمه قال: - سألت أنس بن مالك أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو " ببسم الله الرحمن الرحيم "؟ فقال: إنك سألتنى عن شيء ما أحفظه، وما سألني عنه أحد قبلك، فقلت أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في النعلين؟ قال نعم، وذكر الشوكاني في " نيل الأوطار " أن عروض النسيان في مثل هذا غير مستنكر، فقد حكى الحازمي عن نفسه أنه حضر جامعا وحضره جماعة من أهل التمييز المواظبين في ذلك الجامع، فسألهم عن حال إمامهم في الجهر والإخفات - قال: وكان صيتا يملأ صوته الجامع - فاختلفوا في ذلك، فقال بعضهم يجهر وقال بعضهم يخفت، وعقب على ذلك السيد محمد رشيد رضا في " المنار " بأن اختلاف هؤلاء المصلين لم يكن في صلاة واحدة بل في جميع الصلوات ورد ذلك إلى الغفلة والناس عرضة لها لا سيما الغفلة عن أول الصلاة وعلل ذلك باشتغال الناس عن مراقبة قراءة الإمام بالدخول في الصلاة وقراءة دعاء الافتتاح وحمل عليه روايات أنس في عدم الجهر بالبسملة أو عدم سماعها، إذ يرى السيد رشيد رضا مرد ذلك إلى بعد أنس عن الصفوف القريبة من الإمام واشتغاله بدعاء الافتتاح والإحرام فلذلك لم يسمع البسملة من الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الثلاثة مع أنه من العادة أن يكون صوت القارىء خافتا في أول القراءة، ورأى كل من الحافظ ابن حجر والشوكانى أن الرواية إثبات الجهر إذا وجدت قدمت على نفيه، لا بمجرد تقديم رواية المثبت على النافى كما هي القاعدة، لأن أنسا يبعد جدا أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مدة عشر سنين ويصحب أبا بكر وعمر وعثمان فلا يسمع منهم الجهر فى صلاة واحدة بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم كأنه لبعد عهده به لم يذكر منه إلا الجزم بالافتتاح بالحمد لله جهرا فلم يستحضر الجهر بالبسملة فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر وهما يشيران بهذا إلى سؤال أبي سلمة بن مالك عما كان رسول الله يستفتح به قراءته وقد سلف ذكره، وأنس بن مالك هو نفسه الذى روى قصة المهاجرين والأنصار مع معاوية وإنكارهم عليه عدم قراءته البسملة الذى استدلوا عليه بعدم جهره بها
وروى البخاري عن أنس أنه سئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد ببسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم، وهو واضح في جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبسملة.
ومما تعلق به القائلون بعدم كونها آية من الفاتحة حديث عبد الله ابن مغفل عند الخمسة إلا أبا داود قال سمعني أبى وأن أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال يا بني إياك والحدث - قال ولم أر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا كان أبغض إليه الحدث في الإسلام منه - فإني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها فلا تقلها إذا أنت قرأت فقل الحمد لله رب العالمين.. والحديث معلول بعبدالله بن مغفل فإنه مجهول لا يعرف ولم يرو عنه إلا أبو نعامة وإن صح فهو محمول على ما حملت عليه أحاديث أنس.
الدليل على كون البسملة من الفاتحة: -
أما أدلة إثبات كون البسملة من الفاتحة، وإثبات الجهر بها فكثيرة قد تقدم ذكر بعضها من رواية أنس رضى الله عنه نفسه، وذكر الفخر الرازى في تفسيره لذلك سبع عشرة حجة منها القوي ومنها الضعيف، وتابعه على الاستدلال بها العلامة أبو مسلم في نثاره وحاول العلامة الألوسي نقض هذه الحجج حجة حجة انتصارا لمذهبه الجديد الذى انتقل إليه، وابدى السيد محمد رشيد رضا في تفسيره المنار استغرابه الشديد من صنيع الألوسي الذى حاول بكل وسيلة هدم الحجج الشامخة البنيان، المتينة الأركان من غير داع لذلك إلا التعصب المذهبي، على أن الألوسي نفسه كان من قبل شافعي المذهب ولكنه اتبع مذهب الأحناف تقربا إلى الدولة العثمانية حسبما يقول السيد رشيد رضا ، وسوف أورد (إن شاء الله) بعض هذه الحجج التي أراها صالحة للاحتجاج بها، وأذكر صورة من محاولة الألوسي لنقضها كما اضم إليها بعض الحجج الأخرى.
Shafi da ba'a sani ba
منها حديث أبي هريرة الذى أخرجه الطبرانى وابن مردويه والبيهقي بلفظ " الحمد لله رب العالمين سبع آيات بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن وهى السبع المثانى والقرآن العظيم وهى أم القرآن، وهى فاتحة الكتاب " وأخرجه الدارقطنى بلفظ " إذا قرأتم الحمد لله فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم أنها أم القرآن وام الكتاب والسبع المثانى وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها " والحديث واضح في أن البسملة من الفاتحة، ولكن الألوسي حاول قلب هذه الدلالة الواضحة فقال ما معناه إن المراد من الرواية الأولى أن الحمد لله رب العالمين إلى آخرها سبع آيات كما يقول الحنفية، وقوله صلى الله عليه وسلم " بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن " أراد به إزالة توهم كونها ليست من القرآن لعدم تعرضه لها، وقد جاءت عبارته بأسلوب التشبيه البليغ ومراده أنها كإحدى آياتها في كونها من القرآن، وكذلك قوله في الرواية الأخرى " وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها " وأنت ترى أن في هذا الكلام صرفا للعبارة عن ظاهرها وخروجا بالحديث عن دلالته الواضحه فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد التأكيد على أن البسملة من الفاتحة، وقوله { الحمد لله رب العالمين } علم على هذه السورة، فما الذى يدعو إلى زعم أن البسملة ليست بآية منها مع هذا التصريح في كلامه عليه أفضل الصلاة والسلام بأنها إحدى آياتها، وما الداعي لتقدير أداة التشبيه، ولو كان المراد التشبيه لذكرت أداته لدفع اللبس فإن حذفها لا يكون إلا مع الأمن منه، وفي هذا ما يكفي المستفيد دلالة على طريقة الألوسي في الرد على خصمه الرازى في هذه المسألة.
ومنها ما رواه الشافعي عن ابن جريح عن أبي مليكه عن أم سلمة أنها قالت:
" قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد { بسم الله الرحمن الرحيم } آية، { الحمد لله رب العالمين } آية، { الرحمن الرحيم } آية، { مالك يوم الدين } آية، { إياك نعبد وإياك نستعين } آية، { اهدنا الصراط المستقيم } آية، { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين } آية "
وهذا نص صريح، وجاء هذا الحديث عند أحمد وأبي داود بلفظ:
" سئلت أم سلمة عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت كان يقطع قراءته آية آية، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، "
وفي لفظ ابن الأنباري والبيهقي:
" كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية، يقول بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقف، ثم يقول الحمد لله رب العالمين ثم يقف، ثم يقول مالك يوم الدين "
وفي رواية الدار قطني عن ابن أبي مليكه عن أم سلمة رضى الله عنها أيضا
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقطعها آية آية، وعدها عد الأعراب، وعد { بسم الله الرحمن الرحيم } آية، ولم يعد { عليهم } "
قال اليعمرى: رواته موثقون، وأخرجه أيضا ابن خزيمة والحاكم، وفي إسناده عمر بن هارون البلخى: ضعفه الحافظ لكنه وثق عند غيره، وغاية ما تشبث به الألوسي في الاعتراض على هذا الدليل أمران أحدهما عدم ثبوت سماع أبي مليكه عن أم سلمه رضي الله عنها، ثانيهما أن غاية ما في الروايات قراءة النبي صلى الله عليه وسلم البسملة مع الفاتحة وهو دليل قرآنيتها لا دليل كونها من الفاتحة والجواب عن الاعتراض الأول بأن الذين أعلوا الحديث بالانقطاع كالطحاوى استدلوا برواية الليث عن ابن أبى مليكه عن يعلى بن مالك عن أم سلمه، ورد عليهم الحافظ بأن هذا الذى أعل به ليس بعله فقد رواه الترمذى من طريق ابن أبى مليكه عن أم سلمة بلا واسطة وصححه ورجحه على الإسناد الذى فيه يعلى بن مملك، ويريد الحافظ بذلك رواية الترمذى للحديث وتصحيحه له في باب فضائل القرآن مع العلم أن الترمذى ذكر في باب القراءة أن إسناده ليس بمتصل، ولعل التصحيح لأجل الاتصال وعدم التصحيح في الرواية غير المتصلة كما يقول الشوكاني في " نيل الأوطار ".
Shafi da ba'a sani ba
والجواب عن الاعتراض الثاني أن دعوى كون البسملة آية من القرآن بانفراد ليست من الفاتحة محتاجة إلى دليل، إذ لو كانت كذلك لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومداومته قراءتها مع الفاتحة باستمرار من غير أن يبين للناس استقلالها عنها دليل على أنها جزء منها، وهذه الروايات عن أم سلمة تدل على جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالبسملة وإلا فمن أين لها أن تصف قراءته لها لو أنه كان يخفيها؟.
ومنها حديث أبي هريرة عند النسائي قال نعيم المجمر صليت وراء أبي هريرة فقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } ثم قرأ بأم القرآن - وفيه - ويقول إذا سلم: والذى نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال على شرط البخاري ومسلم، وقال البيهقي صحيح الإسناد وله شواهد وقال أبو بكر الخطيب فيه ثابت صحيح لا يتوجه إليه تعليل.
ومنها حديث أبي هريرة أيضا عند الدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم. قال الدارقطني رجال إسناده كلهم ثقات، وقال الشوكاني إن في إسناده عبد الله بن عبد الله الأصبحي، روي عن ابن معين توثيقه وتضعيفه.
ومنها حديث علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في صلاته.
أخرجه الدارقطني وقال هذا إسناد علوى لا بأس به، وهو وإن أعله الحافظ بأنه بين ضعيف ومجهول يعتضد بالروايات الأخرى التي في معناه، على أن الدارقطني أخرج عنه بإسناد رجاله كلهم ثقات أنه سئل عن السبع المثاني فقال: الحمد لله رب العالمين قيل إنما هي ست فقال بسم الله الرحمن الرحيم.. وأخرج الدارقطني عنه وعن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم، وهو مع ضعف إسناده يعتضد متنه ببقية المتون.
ومنها حديث سمره قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم سكتتان. سكتة إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وسكتة إذا فرغ من القراءة.. فأنكر ذلك عمران بن الحصين فكتبوا إلى أبي بن كعب فكتب أن صدق سمره. أخرجه الدارقطني بإسناد جيد ولا ينافيه ما أخرجه الترمذي وأبو داود وغيرهما عنه بلفظ سكتة حين يفتتح، وسكتة إذا فرغ من السورة لأن المبين مقدم على المجمل.
ومنها حديث أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. أخرجه الحاكم وقال رواته كلهم ثقات. وأخرجه الدارقطني عنه بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، وله طريق أخرى عن أنس عند الدارقطني والحاكم بمعناه. ونحوه عن عائشة رضى الله تعالى عنها من طرق يشد بعضها بعضا.
ومن العجيب أن يزعم القرطبي أن هذه الروايات ليست فيها حجة لأنها آحادية والقرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه، وقد فات القرطبي أن هذه الروايات إنما هي حجة تثبت كيفية قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لها، وتؤكد من ناحية أخرى حجية قرآنيتها، وكونها جزءا من سورة الفاتحة، أما أصل ثبوت قرآنيتها وكونها من الفاتحة فمن النقل للتواتر لها في المصاحف التي نقلتها هذه الأمة جيلا بعد جيل مجمعة على صحتها ولو كان ثبوت قرآنية البسملة متوقفا على تواتر أحاديث تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم تنص على أنها من الفاتحة أو من القرآن لتوقف ثبوت قرآنية أية آية من أية سورة على مثل ذلك وأني لأحد بذلك؟ وإنما ثبتت قرآنية البسملة بنفس ما ثبتت به قرآنية بقية الآيات وهو إثباتها في المصحف الإمام بإجماع الصحابة رضى الله عنهم، وتواتر النقل جيلا بعد جيل لكل ما اشتمل عليه ذلك المصحف من سور وآيات بما في ذلك البسملة، وأعجب من كلام القرطبي قول ابن العربي: " ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها والقرآن لا يختلف فيه، وهو مقال في منتهى الخطورة لمصادمته الإجماع القطعي، فإن البسملة مجمع على أنها جزء آية من سورة النمل، ولا يصح سلب شيء من سور القرآن صفة القرآنية بحال، ولو جاز ذلك لجاز أن تسلب آية الكرسي أو غيرها صفة القرآنية في بعض المواضع.
ولعل من أحسن ما قيل في هذا الموضوع ما قاله السيد محمد رشيد رضا في تفسيره " المنار ": إن اختلاف الروايات الآحادية في الإسرار بالبسملة والجهر بها قوى، وأما الاختلاف في كونها من الفاتحة أو ليست منها فضعيف جدا جدا، وإن قال به بعض كبار العلماء ذهولا عن رسم المصحف الإمام القطعي المتواتر، والقراءات المتواترة التي لا يصح أن تعارض بروايات آحادية أو بنظريات جدلية، وأصحاب الجدل يجمعون بين الخث والسمين، وبين الضدين والنقيضين، وصاحب الحق منهم يشتبه بغيره وربما يظهر عليه المبطل بخلابته إذا كان الحن بحجته " وهو كلام نفيس جدا، وقد قال قبله: " ولا يغرن أحدا قول العلماء إن منكر كون البسملة من الفاتحة أو من كل سورة لا يكفر ومثبتها لا يكفر، فيظن أن سبب هذا عدم ثبوتها بالدليل القطعي، كلا إنها ثابتة ولكن منكرها لا يكفر لتأويله الدليل القطعي بشبهة المعارضة التي تقدمت وبينا ضعفها وسنزيده بيانا والشبهة تدر أحد الرده " وأنكر على الألوسي دعواه أن ثبوت البسملة بخط المصحف المتواتر دليل على كونها من القرآن دون كونها من الفاتحة وقال: هو من تمحل الجدل فلا معنى لكونها آية مستقلة في القرآن ألحقت بسوره كلها إلا واحدة وليست في شيء منها ولا في فاتحتها التي اقتدوا بها في بدء كتبهم كلها، إنه لقول واه تبطله عباداتهم وسيرتهم، وينبذه ذوقهم لولا فتنة الروايات والتقليد. فتعارض الروايات اغتربه أفراد مستقلون، وبالتقليد فتن كثيرون " ولله في خلقه شئون " وابدى السيد رشيد رضا استغرابه من اضطراب الألوسي في هذه المسألة، فقد حكم وجدانه، واستفتى قلبه في بعض فروعها فأفتاه بوجوب قراءة الفاتحة والبسملة في الصلاة وخالفه في كونها آية منها، وقال لا ينبغي لمن وقف على الأحاديث أن يتوقف في قرآنيتها أو ينكر وجوب قراءتها ويقول بسنيتها، فوالله لو ملئت لي الأرض ذهبا لا أذهب إلى هذا القول، وإن أمكنني بفضل الله توجيهه، كيف وكتب الحديث ملأى بما يدل على خلافه وهو الذي صح عندي عن الإمام - يعني إمامه أبا حنيفة - وأبدى الألوسي استشكالا في حاشيته على تفسيره ووصفه بأنه إشكال كالجبل العظيم، وأجاب عنه بما لا يروي من ظمأ ولا يشبع من مسغبه، ووجه الإشكال أن القرآن لا يثبت بالظن ولا ينفي به، فكيف يمكن الجمع بين إثبات المثبتين ونفي النافعين للبسملة، وحكى إجابة ارتضاها عن هذا الإشكال ملخصها أن حكم البسملة كحكم الحروف المختلف فيها بين القراء السبعة، فهي قطعية الإثبات والنفي معا، ولهذا اختلف القراء فأثبتها بعض وأسقطها آخرون وإن اجتمعت المصاحف على الإثبات ومثل لذلك بالصراط ومصيطر فقد قرءا بالسين ولم يكتبا إلا بالصاد، وبقوله تعالى:
وما هو على الغيب بضنين
Shafi da ba'a sani ba
[سورة التكوير: 24] فإنه كتب بالضاد وقرىء بها وبالظاء، وأطال السيد محمد رشيد رضا في الرد عليه وتفنيد كلامه ومما قاله " إن الإشكال الذي نظر إليه المفسر بعيني التقليد العمياوين فرآه كالجبل العظيم هو في نفسه صغير حقير، ضئيل قميء، خفي كالذرة من الهباء، أو كالجزء لا يتجزأ من حيث كونه لا يرى ولا يثبت إلا بطريقة الفرض أو كالعدم المحض، ثم أخذ يجيب عن الإشكال الذي فرضه الألوسي وملخص جوابه أنه لم ينف أحد من القراء كون البسملة من الفاتحة نفيا صريحا تعضده رواية متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كل ما يتعلق به النافون شبهة عدم رواية بعض القراء لها وشبهة تعارض الروايات الآحادية السالفة الذكر، وثبوتها قطعي بالروايات المتواترة تواتر سائر آيات الفاتحة، وعدم نقل الإثبات للشيء ليس نفيا له رواية ولا دراية، وقد فرق العلماء بين عدم إثبات الشيء وبين إثبات عدمه كما هو معلوم بالضرورة، ولو فرض أنه روى التصريح بالنفي لكان الواجب الجزم ببطلان هذه الرواية، ومنشؤه التباس نفي الإثبات بإثبات النفي لاستحالة كون المتناقضين قطعيين معا، ورواية الإثبات لا يمكن فيها الطعن، كيف وقد عززت بخط المصحف الذي هو بتواتره خطا وتلقينا أقوى من الروايات القولية، وأعصى على التأويل والاحتمال، ثم رد السيد محمد رشيد رضا على القائلين بأنها آية مستقلة بين كل سورتين للفصل بينهما ما عدا الفصل بين سورتي الأنفال وبراءة، وملخص رده أنه مجرد رأي أريد به الجمع بين الروايات الآحادية الظنية المتعارضة، والجمع بغيره مما لا إشكال فيه ممكن، فلو كان المراد بها الفصل بين السور لم توضع في أول الفاتحة وهي أول القرآن ترتيبا، ولم تحذف من أول براءة لوجود العلة المقتضية للإثبات، ثم تعقب الجواب الذي نقله الألوسي وقال: لا يستغرب صدوره ولا إقراره ممن يثبت الجمع بين النقيضين المنطقيين، ويفتخر بأنه يمكنه توجيه ما يعتقد بطلانه على أنه جواب عن إشكال غير وارد، وبعبارة أخرى ليس جوابا عن إشكال إذ لا إشكال، ثم قال عن الخلاف بين القراء في مثل السراط والصراط ومسيطر ومصيطر وضنين وظنين إنه ليس خلافا بين النفي والإثبات كمسألة البسملة بل هي قراءات ثابتة بالتواتر فأما ضنين وظنين فهما قراءتان متواترتان - كمالك وملك في الفاتحة - كتبت قراءة الضاد في مصحف أبى وهو الذي وزع في الأمصار وقرأ بها الجمهور، وقراءة الظاء في مصحف عبد الله بن مسعود وقرأ بها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، ولكل منهما معنى، وليستا من قبيل تسهيل القراءة لقرب المخرج ثم قال عن السراط والصراط ومسيطر ومصيطر لا فرق بينهما إلا تفخيم السين وترقيقه وبكل منهما نطق بعض العرب، وثبت به النص فهو من قبيل ما صح من تحقيق الهمزة وتسهيلها، ومن الإمالة وعدمها فلا تنافي بين هذه القراءات فيعد إثبات إحداهما نفيا لمقابلتها كما هو بديهي على أن خط المصحف أقوى الحجج، فلو فرضنا تعارض هذه القراءات لكان هو المرجح ولكن لا تعارض ولله الحمد.
هذا ما قاله السيد رشيد رضا في هذه المسألة وهو ناتج عن عمق فهمه وتوقد ذكائه ولعل الذين يقولون أن البسملة أنزلت للفصل بين السور يستدلون بما أخرجه أبو داود والحاكم وصححه على شرط الشيخين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة - وفي رواية انتهاء السورة - حتى ينزل عليه { بسم الله الرحمن الرحيم }.
ولكن ليس في الحديث ما يدل على أنها تنزل استقلالا للفصل وإنما غاية ما فيه أن كل سورة تنزل كانت تصدر بالبسملة فيستدل بذلك النبي صلى الله عليه وسلم على انتهاء السورة التي قبلها واستقباله سورة جديدة تنزل بعدها، ولو كانت لمجرد الفصل لما أثبتت في أول الفاتحة - كما ذكرناه عن صاحب المنار - لعدم تقدمها بسورة قبلها.
هذا ويرى جماعة من العلماء الجمع بين روايات الجهر والإخفاء بما رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وكان المشركون يهزأون بمكاء وتصدية ويقولون محمد يذكر إله اليمامة - وكان مسيلمة الكذاب يسمى " رحمن " - فأنزل الله تعالى: { ولا تجهر بصلاتك } فتسمع المشركين فيهزءوا بك { ولا تخافت بها } عن أصحابك فلا تسمعهم.. وقد قال في مجمع الزوائد إن رجاله موثقون، وقال الحكيم الترمذي: فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذكر الرسم وإن زالت العلة، واعتمده القرطبي والنيسابوري في الجمع بين الروايات، ويرى السيد محمد رشيد رضا أن ترك الجهر كان في أول الإسلام بمكة وأوائل الهجرة، والجهر فيما بعده، وفي نفسي من هذه الرواية ما يجعلني غير واثق من صحتها وذلك لأمرين:
أولهما أن مسيلمة الكذاب لم يشتهر قبل الهجرة ولا فى أوائلها، وإنما اشتهر بالتنبؤ بعد ذلك، وعندئذ لقب برحمن اليمامة فيبعد أن يستخف المشركون بمكة المكرمة بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم عندما يسمعونه يذكر الرحمن، معلقين عليه بأنه يقصد مسيلمة.
ثانيهما: لو كان صنيع المشركين هذا داعيا إلى إخفاء البسملة لئلا يسمعوا اسم " الرحمن " فيهزأوا به لكان ذلك يستدعى إخفاء هذا الاسم في كل آية من الكتاب بما في ذلك قول الحق تعالى في الفاتحة { الرحمن الرحيم } ولم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتجنب إعلان اسم الرحمن خشية استخفاف المشركين على أن هذا الاسم الكريم كثيرا ما كان يرد في القرآن المكي كقوله تعالى في سورة الإسراء:
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
وقوله في " طه "
الرحمن على العرش استوى
وقوله في الفرقان
Shafi da ba'a sani ba
الرحمن فسئل به خبيرا، وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن
[الفرقان: 59 - 60] وقوله في سورة الرحمن
الرحمن علم القرآن
[الرحمن: 1- 2].
وإذا اتضح لك أن الراجح كون البسملة آية من الفاتحة ومن سائر السور إلا براءة، ووجوب تلاوتها في الصلاة مع الجهر بها في القراءة الجهرية فاعلم أنه لم يقل أحد من أصحابنا ولا من غيرهم بتكفير أو تفسيق المخالف في هذه المسألة، والذين يقولون بخلاف قولنا يتفقون معنا على عدم تكفير أو تفسيق من يخالفهم اللهم إلا ما يذكر عن أبي بكر الرازي من أن أقل ما في المسألة تفسيق المخالف وقد رد عليه العلامة أبو مسلم رحمه الله في (نثاره) بما يكفي حجة للمستبصر.
من فوائد افتتاح الأعمال باسم الله
والافتتاح ببسم الله الرحمن الرحيم فيه تعليم للناس بأن يفتتحوا أعمالهم ببسم الله، وهذا يعني أن تكون أفعالهم في حدود شرع الله لا تتجاوزه فتبقى دائرة في حدود الواجب والمندوب والمباح، كما أن في ذلك تعليما للناس بأن أعمالهم كلها لازنة لها في كفة الدين ما لم يقصد بها وجه الله سبحانه، والعبد عندما يفتتح أي عمل باسم الله يشعر أن عمله محكوم بشرع الله فليس له أن يتصرف كما يملى عليه هواه، وقد شهر عند الناس الافتتاح بأسماء الأشخاص والمؤسسات لقصد التنويه بها والإشادة بذكرها والإشعار بأن العمل المفتتح ذو صلة بالمؤسسات أو الأشخاص المذكورة أسماؤهم، والمسلم عندما يفتتح باسم الله يعلن شرعيه عمله وهذا يتضح في مشروعية ذكر اسم الله عند الذبح، لأن ذبح الحيوان إيلام له وهو قبيح في العقل، لولا أن الله سبحانه خالق الحيوان ومالكه أباح في شرعه ذبح بعض الحيوانات والانتفاع بلحومها، فالذابح عندما يذكر اسم الله يعلن أن ذبحه تعديا من قبل نفسه وإنما هو بمقتضى الإباحة الشرعية ممن خلقه وخلق ذلك الحيوان.
مباحث العلماء في البسملة
وفي قول الحق سبحانه { بسم الله الرحمن الرحيم } مباحث كثيرة عني بها المفسرون في تفاسيرهم بحسب اختلافهم في العلوم التي يعنون بها، فالنحويون تهمهم المباحث الإعرابية، والبلاغيون يعتنون بالمباحث البيانية، والفقهاء يعتنون بمسائل الفقه، وأول ما بدىء به " الباء " وهي تأتي لمعان ليست كلها سائغة هنا وإنما يسوغ منها معنيان وهما الاستعانة والمصاحبة.. أما الاستعانة فقد رجحها طائفة من المفسرين والنحويين منهم الزمخشري وعولوا على مجموعة من الحجج منها حديث
" باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء "
Shafi da ba'a sani ba
، وتكلف الألوسي رد جميع حجج هؤلاء حجة حجة والانتصار لقول الفريق الأول ولست أجد كبير فائدة في هذا الاختلاف حتى أبحث ما هو الراجح من الرأيين؟ وإنما أتعجب من القرطبي في زعمه أن الباء للقسم، وأن المقسم عليه أن كل ما جاءت به السورة التي تلى البسملة هو حق من عند الله، وأعجب منه نسبة القرطبي هذا القول إلى العلماء مع أنه نفسه حكى الاختلاف في متعلق الباء هل هو خاص أو عام وهو مما ينافي كونها للقسم على أنه يتبادر للإنسان حالما يتلو بسم الله الرحمن الرحيم أن المراد بها غير القسم، وحاصل الاختلاف في متعلق الباء أن بعض العلماء يراه خاصا توحى به قرائن الأحوال فالقارىء عنما يتلو { بسم الله } يقصد أقرأ بسم الله، والذابح يقصد كذلك أذبح باسم الله، والداخل يقصد أدخل باسمه، والخارج يقصد أخرج باسمه، وهكذا في الكتاب، والمسافر، وكل من يعمل عملا يبتدئه باسم الله تعالى، وبعضهم يراه عاما ويقدره " أبتدىء " سواء في القراءة أو الكتابة أو الذبح أو أي شىء آخر، والذين يقدرونه خاصا يستدلون له بالتصريح به في قول الله تعالى:
اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق
[العلق: 1- 2] وأنت ترى أن كلا الوجهين ينافيان ما ذكره القرطبي أن الباء للقسم، ولو كانت للقسم لقدر المتعلق إما أقسم أو أحلف، ولم يذكر شيئا من ذلك القرطبي، ولم ينسبه إلى أحد، ومن العلماء من يرى أن المتعلق فعل أمر تقديره اقرأ وهو خطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى كل قارىء، والظاهر من كلام الإمام ابن جرير أنه يميل إلى هذا الرأى، فقد ذكر بعد إيراده عن ابن عباس رضى الله عنهما أن أول ما نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة والبسملة، وهذا يفهم منه أن مراده اقرأ باسم الله، والاختلاف في جعل المتعلق خاصا أو عاما يرجع إلى الاختلاف في وجهات نظر العلماء المختلفين، فالذين قدروه خاصا راعوا ضرورة استحضار العمل الذي يقترن البدء فيه بالبسملة، ويقول ابن جرير:- " إن ذلك يجري مجرى الأشياء التي تعرف من غير أن تذكر، كقول القائل:- خبزا في جواب ماذا أكلت؟ فإنه يعلم بالضرورة أن مراده أكلت خبزا، وكقول المهنئين بالزواج: " بالرفاء والبنين " فإن المراد واضح وهو تزوجت أو اقترنت بالرفاء والبنين، وكذلك عندما يقرأ القارىء ويتلو { بسم الله } يعرف بالضرورة أن مراده باسم الله أقرأ، وعندما يصنع الصانع ويتلو { بسم الله } يعلم بالضرورة أن مراده باسم الله أصنع.. وهكذا، والذين قدروه عاما نظروا إلى مجيء البسملة في أول الأقوال والأفعال وجعلوه دليلا على أن المراد التبرك بها في الافتتاح، وللفريقين نقاش طويل وبحوث واسعة لا نجد جدوى في إيرادها هنا.
ومما كثر الخلاف فيه الاسم والمسمى، هل هما شىء واحد أو شيئان؟ وقبل التعرض لخلافهم يجدر بنا أن نحدد معنى الاسم.
يرى ابن سيده أن الاسم هو اللفظ الموضوع على الجواهر أو العرض، ويقول الراغب: هو ما يعرف به ذات الشيء وأصله، ويرى أبو حيان أن الاسم هو اللفظ الذي يدل بمقتضى الوضع على موجود في العيان إن كان محسوسا وفي الأذهان إن كان معقولا من غير أن يقترن جوهره بزمان، ويرى السيد رشيد رضا أن الاسم هو اللفظ الذى يدل على ذات من الذوات كحجر وخشب وزيد أو معنى من المعاني كالعلم والفرح، وتخصيص ابن سيده للإسم بما وضع على الجواهر والأعراض يمنع من شمول تعريفه لأسماء الله الحسنى لأن ذات الله تعالى ليست جوهرا ولا عرضا، وكذلك تعريف الراغب له بأنه ما يعرف به ذات الشيء وأصله لا يصح اعتباره منطبقا على أسماء الله، فإن ذات الله - وهي حقيقته الخاصة - لا يعرفها أحد من خلقه كما هي، وإنما غاية ما يمكن التوصل إليه معرفة صفاتها، أما تعريف أبي حيان والسيد رشيد رضا فهما خاليان من الاعتراض، ومن خلال تأملنا لجميع هذه التعريفات يمكننا أن ندرك أن الاسم هو غير المسمى ذلك لأن الاسم لفظ يدل نطقا أو كتابة على المسمى، والمسمى حقيقة سواءا أكانت محسوسة أو معقولة، ومما يؤسف له أن كثيرا من العلماء أضاعوا جهودهم في بحث هذه المسالة ورد بعضهم على بعض بما لا طائل تحته، وقد تعجب الإمام أبو حيان من هذا الاختلاف وهو جدير بأن يتعجب منه، ولولا خشية اللبس لضربت صفحا عن بحث هذه المسألة من أصلها، وإليك من تلخيصها وتحريرها ما يكفيك دليلا لتستبصر في مثل هذه المقامات التي كثيرا ما تنزلق فيها الأفهام.
لا ريب أنك تدرك إذا أدرت لسانك على ذكر اسم شيء لا يحضر ذلك الشيء بعينه فلو ذكرت زيدا أو محمدا أو عامرا أو سعيدا لحصل لك ذكر الإسم دون المسمى وإلا للزم أن تروى غلتك إذا ذكرت اسم ماء بلسانك وأنت ظمآن، وأن تحترق لسانك بمجرد ذكرك لاسم النار، ومع ظهور ذلك بداهة فإن جماعة من العلماء أصروا على أن الاسم هو عين المسمى ومن هؤلاء ابن الحصار والقرطبي والألوسي ونسبه الرازي إلى الأشعرية والكرامية والحشوية ولم يكتفوا بالوقوف عند هذا الحد، بل أخذوا يشنعون على مخالفيهم، فالقرطبي ينسب قولهم إلى أهل الحق ومفهومه أن قول مخالفيهم هو قول أهل الباطل، بل صرح ابن الحصار بأن القول الآخر هو قول أهل البدعة، ولم يأل الألوسي جهدا في الانتصار لقولهم هذا مستندا إلى فلسفات متنوعة ليست من القرآن ولا من السنة في شيء، وفي مقابل هؤلاء نجد الإمام ابن جرير الطبري والفخر الرازي وابن القيم والسيد محمد رشيد رضا يخالفونهم تمام المخالفة ويعدون القول بأن الاسم هو عين المسمى من الأخطاء التي أوقع أصحابها فيها قلة فهمهم لمقاصد النصوص، ولقطب الأئمة رحمه الله كلام في (هيميانه) يفيد تعذر كون الإسم هو المسمى، وحمل كلام أصحابنا بأن أسماء الله هي ذاته على أن مرادهم بذلك مدلول أسمائه، ونحوه ما أفاده نور الدين السالمي رحمه الله في مشارقه، ومنشأ اللبس الذي سبب الخلاف أن القائلين بأن الإسم هو عين المسمى رأوا أن الله تعالى أمر بذكره وتسبيحه في آيات من الكتاب وبذكر اسمه وتسبيح اسمه في آيات أخرى فقد قال عز من قائل:
واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا
[المزمل: 8]
واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا
[الإنسان: 25]
Shafi da ba'a sani ba
ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا
[الحج: 40]
فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين
[الأنعام: 118]
وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه
[الأنعام: 119]
فاذكروا اسم الله عليها صوآف
[الحج: 36] وقال سبحانه:
يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا..
[الأحزاب: 41- 42]
Shafi da ba'a sani ba
فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم
[البقرة: 198]
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبآءكم أو أشد ذكرا
[البقرة: 200]
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض..
[آل عمران: 191]
فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم
[النساء: 103] ونحوه قوله في التسبيح:
إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون
[الأعراف: 206] وقوله:
Shafi da ba'a sani ba
سبح اسم ربك الأعلى
[الأعلى: 1]
فسبح باسم ربك العظيم
[الواقعة: 74] وقال تعالى:
فتبارك الله أحسن الخالقين
[المؤمنون: 14]
تبارك الذي نزل الفرقان
[الفرقان: 1]
تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام
[الرحمن: 78] وقد دعاهم هذا إلى الجمع بين هذه الآيات بأن يجعلوا الاسم عين المسمى، وأن يجعلوا ذكر الله وتسبيحه وذكر اسمه وتسبيح اسمه واحدا لأن اسمه عين ذاته، والصواب - كما يقول صاحب المنار - أن الذكر في اللغة ضد النسيان وهو ذكر القلب ولذلك قرنه الله بالتفكر في سورة آل عمران حيث قال:
Shafi da ba'a sani ba
الذين الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض..
وقال:
واذكر ربك إذا نسيت
[الكهف: 24] كما يطلق الذكر على النطق باللسان لأنه دليل على ذكر القلب وعنوان له، وذكر اللسان للاسم دون المسمى كما هو الشأن في سائر الأسماء فإذا قال قائل نار، لا تقع النار على لسانه فتحرقه، وإذا قال الظمآن ماء لا يجري الماء على فيه فيروي ظمأه - كما ذكرنا من قبل، فالمراد من ذكر الله بالقلب تذكر جلاله وعظمته وكبريائه ونعمه والمراد من ذكره باللسان ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر والثناء إليها، وهكذا يقال في التسبيح فالقلب واللسان يشتركان في التسبيح وإنما تسبيح القلب اعتقاد كما له وتنزهه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه، وتسبيح اللسان إضافة التسبيح إلى أسمائه، ولو لم ينطق بكلمة اسم، ويدل على ذلك ما أخرجه الإمام الربيع رحمه الله عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه لما نزل قول الله تعالى
فسبح باسم ربك العظيم
[الواقعة: 74] قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" اجعلوها في ركوعكم "
ولما نزل قوله:
سبح اسم ربك الأعلى
قال:
Shafi da ba'a sani ba
" اجعلوها في سجودكم "
ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حيان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، وروى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه
" سبحان ربي العظيم "
وفي سجوده
" سبحان ربي الأعلى "
فظهر من هذا كله أن الاسم غير المسمى وأن ذكر كل منهما مشروع والفرق بينهما ظاهر وكذلك يقال في التسبيح والتبارك فكما يعظم الحق سبحانه يعظم اسمه الكريم فلا يذكر إلا مقرونا بالحمد والشكر والثناء والتقديس، وقد صرحوا أن تعمد إهانة أسماء الله تعالى في اللفظ والكتابة كفر، لأنه لا يمكن أن يصدر ذلك من مؤمن .
وهذا ملخص تحرير صاحب المنار لهذه المسألة وهو منتهى الوضوح وفي غاية التحقيق.
ومما تعلق به القائلون بأن الاسم عين المسمى قول لبيد:
إلى الحق ثم اسم السلام عليكما
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
Shafi da ba'a sani ba
فقد قال القرطبي: استدل علماؤنا بقول لبيد هذا على أن الاسم هو المسمى، واستدل أبو عبيدة معمر بن مثنى بالبيت على أن اسم صلة زائدة أقحمت في بسم الله الرحمن الرحيم، وأن الأصل بالله الرحمن الرحيم، وهو كلام مردود، فإن اعتبار شيء من كلمات القرآن مقحما أمر لا يخلو من سوء أدب مع كلام الله تعالى، أما البيت فقد أجاب عنه ابن جرير بجوابين:
أولهما أن مراد لبيد به: عليكما اسم الله أي ألزمناه فقدم المفعول على اسم الفعل فرفعه كما هي القاعدة ألا ينصب اسم الفعل المفعول به إن تقدمه.
ثانيهما أن مراده بقوله: ثم اسم السلام عليكما ثم بركة اسم السلام عليكما، كما يقال في ما يقصد تعويذه اسم الله عليه، والقول باتحاد الاسم والمسمى نسبه غير واحد إلي سيبويه من أئمة اللغة العربية وخطأ صاحب صاحب المنار هذه النسبة معولا على ما قاله ابن القيم في (بدائع الفوائد) ما قال نحوي قط ولا عربي أن الاسم عين المسمى، وللفخر الرازي في تفسيره نقاش طويل يدحض به شبه القائلين باتحادهما نرى الاستغناء عنه بما ذكرناه.
وكلمة اسم على وزن فعل حسب أصلها وأصلها عند البصريين سمو مأخوذة من السمو لأن الاسم يعلو مسماه بكونه عنوانا له ودليلا عليه، وقيل لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به، وقيل بأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره، وأصله عند الكوفيين وسم، مأخوذ من السمة وهي العلامة، لأن الاسم علامة لمن وضع له، وعلى الرأي الأول هو محذوف اللام على وزن إفع سكنت فاؤه فاجتلبت له همزة الوصل في ابتداء الكلام، وعلى الثاني هو واوى الفاء حذفت فاؤه فاجتلبت له همزة الوصل ووزنه إعل، ويدل للأول تصريفه فإنه يصغر على سمي لا على وسيم ويجمع على أسماء لا على أوسام، والتصريف يرد الكلمات إلى أصولها، وإنما كانت نظرة الكوفيين مبنية على أن المراد من وضع الأسماء للمسميات أن تكون علامة ودليلا عليها، ولم ينظروا إلى تصريف الكلمة بينما البصريون عولوا على التصريف مع نظرهم إلى أن الاسم يظهر بمسماه والظهور في حقيقته سمو وارتفاع.
وفي إضافة اسم إلى لفظ الجلالة خلاف، هل هي للعهد أو للجنس الذي يحمل على الاستغراق؟ وهو مبني على أن الإضافة تأتي لما تأتي له أل من المعاني، وعلى الأول فالمقصود اسم معهود من أسماء الله، والأجدر أن يكون اسم الجلالة لشيوعه وذيوعه، وعلى الثاني فالمراد الافتتاح بجميع أسماء الله الحسنى، والأولى أن تكون الإضافة هنا البيان، ووصف اسم الجلالة هنا بالرحمن الرحيم يؤكد ذلك، وإنما كان الافتتاح باسم الجلالة دون غيره لأن جميع الأسماء تابعة له فلذلك يوصف بها ولا توصف به، وفي افتتاح الكلام باسمه تعالى تفخيم له وتعظيم من شأنه، وهذا مما جرت به العادة عند الناس كما أشرنا من قبل، فهم عندما يريدون أن يفتتحوا مشروعا جديرا بالعناية يفتتحونه باسم شخص مشهور كسلطان أو أمير أو باسم مؤسسة ذات شأن..
ويعني ذلك أنه لولا صاحب الاسم لم يفتتح المشروع، وبما أن القرآن الكريم جاء لتطهير العقيدة من جميع أدران الشرك ولوثات الزيغ فإنه علمنا كيف نخص اسم الله الرحمن الرحيم في افتتاح الأقوال والأعمال، وهذا لأن العبد عندما يقول { بسم الله الرحمن الرحيم } يعلن براءته من الحول والطول وعدم قدرته على أى عمل إلا بعون الله كما يعلن أن قيمة العمل تكون يقدر الإخلاص لله سبحانه، وفي الافتتاح باسمه تعالى إضفاء صفة شرعية على العمل المفتتح، ومن ثم قال العلماء " إن الأعمال غير المشروعة لا تفتتح باسم الله، ولأجل ذلك كرهوا افتتاح دواوين الأشعار بالبسملة لما يكون فيها من المجون والأقوال المجانبة للحق، فالشعراء هم كما وصفهم الله بقوله:
والشعرآء يتبعهم الغاوون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا
[الشعراء: 224 - 227] وفي هذا الاستثناء ما يدل على أن الشعر إن كان خالصا من الشوائب، بعيدا عن المنكرات، لا يمنع من افتتاح ديوانه بالبسملة.
{ الله } اسم خاص لا يطلق إلا على رب العالمين، وقالوا في تعريفه: هو علم على ذات واجب المستحق لجميع المحامد لذاته، واختلف في أصله، فالجمهور يرون أن أصله إله، فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام وأدغمت اللام في اللام ثم فخمت، ولأجل أن الألف واللام للتعويض اجتمعتا مع حرف النداء ولا تجتمع أداة التعريف في غير هذا الاسم مع يا إلا مقرونة بأي، وأصل إله أله بمعنى عبد عند ابن جرير وجماعة من علماء العربية والتفسير وعضده ابن جرير بما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ
ويذرك وآلهتك
Shafi da ba'a sani ba
[الأعراف: 127] وفسره بمعنى عبادتك، وذكر علماء العربية أن أله كعبد وزنا ومعنى، يقال أله إلهة وألوهة وألوهية كعبد عبادة وعبودية وعبودة، وقيل أصله أله على وزن سمع بمعنى تحير لأن العقول تتحير في معرفته سبحانه، ويرد على هذا أن الأصل في الاشتقاق أن يكون لمعنى في المشتق والحيرة إنما هي في العباد، وقبل أصله من أله بمعنى فزع لأن الخلق يفزعون إلى الله سبحانه
وهو يجير ولا يجار عليه
[المؤمنون: 88] وقيل من أله بمعنى سكن لأن النفوس تسكن إليه تعالى
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد: 28] وقيل هو مأخوذ من وله بمعنى تجبر فيكون على هذا أصل إله ولاه وإنما أبدلت الهمزة واوا كما قيل في وشاح إشاح، وقيل غير ذلك، وهذه الأقوال كلها مبنية على التخمين الذي لا يشفي غليلا، والظاهر أن اسم الجلالة غير مشتق والألف واللام فيه ليستا للتعريف فإن هذا الاسم الكريم هو أعرف المعارف فليس بحاجة إلى أن تجتلب له أداه تعريف والقول بعدم اشتقاقه محكي عن الخليل بن أحمد الفراهيدي مع حكاية القول الآخر عنه وذكر بعض المؤلفين أن الخليل رؤي في المنام بعد موته فقيل له ما فعل الله بك فقال رحمني بقولي إن اسم الجلالة غير مشتق، ولابن مالك النحوي الشهير في المقام تحرير " ما أظن أن شبهة تبقى معه لمدعى اشتقاق هذا الاسم الكريم وأن أصله إله، وحاصل ما يقوله أنه يكفي في رد دعوى القائلين بالاشتقاق أنهم ادعوا ما لا دليل عليه، لأن الله والإله مختلفان لفظا ومعنى أما لفظا فلأن الله عينه حرف علة والإله صحيح العين واللام وإنما فاؤه همزة فهما من مادتين، وردهما إلى أصل واحد تحكم من سوء التصريف، وأما معنى فلأن الله لم يطلق في جاهلية ولا إسلام على غير الحق تبارك وتعالى وأما الإله فأصل وضعه لمطلق المعبود ولكنه خص بالمعبود بحق، ومن قال أصله الإله لا يخلو من أمرين، إما أن يقول أن حذف الهمزة كان ابتداء ثم ادغمت اللام، أو يقول إن حركتها أزيلت وألقيت إلى اللام قبلها ثم حذفت على القياس، والأمران باطلان أما الأول فبطلانه لأجل دعوى حذف الفاء بلا سبب ولا مشابهة ذي سبب من اسم ثلاثي ولا يصح أن يقاس هذا الحذف على الحذف في يد وما شابهه لأن الحذف في باب يد في الأواخر، ويترخص فيها ما لا يترخص في فاء الكلمة ثم لا يقاس على الحذف في باب عدة لأن الحذف فيه محمول على الحذف في المضارع من بابه وهو يعد، ولا على رقة بمعنى ورق لمشابهته عدة وزنا وإعلالا، ولولا أنه بمعناه لألحق بباب لثه وهو الثنائي المحذوف اللام، وأما (ناس) فأصله أناس، فالناس من نوس والأناس من الأنس، ولو سلم أن أصلهما واحد فالحمل عليه زيادة في الشذوذ وكثرة مخالفة الأصل بلا داع.
وأما الثاني فبطلانه لاستلزامه مخالفة الأصل من وجوه، أحدها نقل حركة بين كلمتين على سبيل اللزوم ولا نظير له، (الثاني) نقل حركة همزة إلى مثل ما بعدها وهو يوجب اجتماع مثلين متحركين وهو أثقل من تحقيق الهمزة بعد ساكن، (الثالث) الرجوع إلى تسكين المنقول إليه الحركة وهو يبطل النقل لأنه يعود عملا كلا عمل، وهو مستقبح في كلمة فكيف بالكلمتين، (الرابع) إدغام المنقول إليه في ما بعد الهمزة وهو مجانب للقياس لأن الهمزة المنقولة الحركة في تقدير الثبوت، فإدغام ما قبلها في ما بعدها كإدغام أحد المنفصلين، وقد اعتبر أبو عمرو في الإدغام الكبير الفصل بواجب الحذف كالياء في نحو (يبتغ غير) فلم يدغم.
فاعتبار غير واجب الحذف أولى والذين يزعمون أن أصله إله يقولون: إن الألف واللام عوض من الهمزة، ويرده أن المعوض والمعوض عنه لا يحذفان معا وقد حذفت الألف في قول الشاعر:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب
عنى ولا أنت دياني فتخزوني
وقالوا: (لهي أبوك) فحذفوا لام الجر والألف واللام وقدموا الهاء وسكنوها فصارت الألف ياء، وهذا يدل أن الألف كانت منقلبة لتحركها وانفتاح ما قبلها فلما وليت ساكنا عادت إلى أصلها وفتحتها فتحة بناء وسبب البناء تضمن معنى التعريف عند أبي علي، ومعنى حرف التعجب إذ لم يقع في غيره وإن لم يوضع له حرف عند ابن مالك، هذا ملخص كلامه وهو منتهى الجودة ولكن لعل خصومه يجدون في قول الله تعالى:
Shafi da ba'a sani ba
لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا
[الكهف: 38] حجة يستندون إليها في الرد عليه في إنكاره إدغام ما قبل الهمزة فيما بعدها، اعتبارا للمحذوف في حكم الثابت سواء كان واجب الحذف أو جائزه فإن كثيرا من أئمة التفسير والعربية نصوا على أن الأصل { لكن انا هو الله ربي } فحذفت ألف أنا وأدغمت نون لكن في نونها، وممن نص على ذلك ابن جرير والزمخشري غير أن لابن مالك أن يقول كما يقول أبو حيان في (البحر المحيط) بأن ذلك غير متعين لإمكان أن تكون (لكن) مشددة هنا وحذف اسمها وهو ضمير وهو ضمير المتكلم أي (لكنني أنا هو الله ربي) كما حذف اسمها ضميرا في قول الشاعر: -
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب
وتقلينني لكن إياك لا أقلي
فأصله (لكنني)، وفي قول الآخر:-
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي
ولكن زنجي عظيم المشافر
على رفع زنجي وتقديره (ولكنك زنجي).
واختلفوا في الفرق بين الإله والله، فالسيد السند يرى أنهما علم لذاته تعالى، ولكن إله يطلق على غيره تعالى ، والله لا يطلق على غيره سبحانه أصلا، وقال السعد: " إن الإله اسم لمفهوم كلى هو المعبود بحق، والله علم لذاته، وقال الرضى هما قبل الإدغام وبعده مختصان بذاته تعالى لا يطلقان على غيره أصلا إلا أنه قبل الإدغام من الأعلام الغالبة وبعده من الأعلام الخاصة، وأنت تدري أنه إذا أطلق اسم الجلالة لم يتبادر إلى ذهن أي أحد من أي ملة كان إلا أن المراد به الحي الدائم خالق كل شيء، وأما الإله فهو يطلق على المعبود وإنما خص في الإسلام بالمعبود بالحق سبحانه وتعالى، ولذلك إذا أطلقه غير المسلم قد يتبادر أن المراد به غير الله تعالى والله سبحانه قد حكى في كتابه عن المشركين قولهم
أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب
Shafi da ba'a sani ba
[ص: 5] كما حكى عنهم قولهم
واصبروا على آلهتكم
[ص: 6] وقولهم
إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها
[الفرقان: 42] ولم يحك عنهم ما يدل على أنهم يطلقون اسم الجلالة على غيره تعالى بل حكى عنهم ما يدل على أنهم يخصونه به سبحانه فقد قال تعالى:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله
[لقمان: 25] وفي هذا ما يدل على اختلاف مفهوم الكلمتين عندهم فالإله هو المعبود والله هو الخالق القادر على كل شيء، وإنما انحصر معنى الإله عند المسلمين في الله سبحانه لأنه المعبود بحق، وكل ما يعبد سواه فهو معبود بباطل، وبهذا يتضح أن الإله معناه كلي ينحصر في فرد، ولو لم يكن كذلك لما كان قول الموحد " لا إله إلا الله " توحيدا إذ لو كان المعنى المتبادر من اللفظين واحدا من أول الأمر لكان ذلك بمثابة قول القائل " لا إله إلا إله " وفي هذا ما يؤيد رأي ابن مالك في أن كل واحد من اللفظين مستقل وضعا.
ومن أغرب ما قيل أن هذا الاسم الكريم ليس بعربي الأصل وهو رأي لا يلتفت إليه ولعل من قال به حيره اختلاف العلماء فيه هل هو مشتق أو غير مشتق؟ وما هو أصل اشتقاقه فلم يستطع أن يخلص من ذلك إلا إلى القول بأنه أعجمي الأصل.
وأما علمية هذا الاسم فقد استدل عليها بوجوه: -
أولها: أنه يوصف ولا يوصف به، قال الله تعالى:
Shafi da ba'a sani ba
الله لا إله إلا هو الحي القيوم
[البقرة: 255] وقال:
هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارىء المصور له الأسمآء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم
[الحشر: 22- 24] وأما قراءة { صراط العزيز الحميد الله } في سورة إبراهيم بالجر فمحمولة على البيان.
ثانيهما: أنه لا بد من اسم تجرى عليه صفاته، فإن كل ما تتوجه إليه الأذهان ويحتاج إلى التعبير عنه وقد وضع له اسم، سواء كان توفيقا أو اصطلاحيا، فمن المستحيل أن يهمل الخالق تعالى الذي هو مصدر الأشياء جميعا، فلا يكون له اسم يجري عليه ما يعزى إليه، وأسماء غيره لا تصلح له لانفراده تعالى بكونه واجب الوجود لذاته غير مماثل لشيء من مخلوقاته، ولا يصح أن يكون اسم جنس معرفا لأنه غير خاص وضعا، وكذلك لا يصح أن يكون علما منقولا من الوصفية، لأنه يستدعى أن لا يكون في الأصل مما تجري عليه الصفات.
ثالثهما: أنه لو كان وصفا لجاز اتصاف غيره بأصل ذلك الوصف ولو كان مجازا إن كان من الصفات التي تجري على المخلوقين كالعلم والقدرة والمشيئة والحياة والسمع والبصر، وذلك يمنع الاكتفاء به في التوحيد نحو (لا إله إلا العالم القدير السميع العليم) لإمكان أن يراد غير الله تعالى بهذه الصفات لعدم تعذر إطلاقها على غيره بخلاف اسم الجلالة لاختصاصه به سبحانه.
ولسبب اختصاص الله تعالى بهذا الاسم الكريم وكونه علما على ذاته صرف جميع خلقه عن التسمى به، ولم تحدث أحدا نفسه - وإن كان من أعتى العتاه - أن يتسمى به أو يسمى به غيره، فلو سئل أحد من أهل الجاهلية: هل اللات هي الله؟ أو العزى أو مناة؟ لأنكر ذلك، ومن ثم قال غير واحد من أئمة التفسير وغيرهم إن هذا الاسم هو المراد في قوله سبحانه:
هل تعلم له سميا
[مريم: 65] أما الإله فلم يكن الناس في جاهليتهم يتورعون من وصف غير الله به، لأن أصله لمطلق المعبود، والإسلام حصره في المعبود بحق كما ذكرنا فمن وصف به أي شيء غير الله تعالى فقد جعل لله ندا، ولذلك أنكر القرآن تسمية المشركين أصنامهم آلهة، ويرى السيد محمد رشيد رضا أنه أنكر عليهم تأليهها وعبادتها لا مجرد تسميتها، فقد سماها هو آلهة في قوله:
وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جآء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب
Shafi da ba'a sani ba
[هود: 101] قال ولا يظهر في هذه الآية قصد الحكاية، وفي كلامه هذا نظر فإن الإله لو لم يمنع شرعا إطلاقه على غير الله لما كان قول " لا إله إلا الله " توحيدا، ونجد في القرآن الكريم الإنكار الذي يلي الإنكار على من يصف غير الله بالألوهية وقد تكرر ذلك في سورة النمل قال تعالى:
أإله مع الله بل هم قوم يعدلون
[النمل: 60]
أإله مع الله قليلا ما تذكرون
[النمل: 62]
أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون
[النمل:61]
أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
[النمل:64] وأما قوله:
فما أغنت عنهم آلهتهم
Shafi da ba'a sani ba
[هود:101] فليس فيه ما يدل على إقرار هذه التسمية لأنه مسوق مساق التهكم والاستخفاف بهم، وهؤلاء المشركون وإن استجابوا عبادة هذه الأشياء فإنما يعتبرون العبادة وسيلة إلى الله فإنهم يقولون:
ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى
[الزمر: 3] أما لو سئلوا هل خلق شيء من هذه الأصنام التي يعبدونها شيئا من هذه الكائنات لأجابوا بالنفي، بدليل قوله تعالى:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله
[لقمان:25].
{ الرحمن الرحيم } صفتان لله تعالى اشتقاقهما من الرحمة وهي انفعال نفسي يحمل صاحبه على الإحسان إلى غيره وهو محال على الله بحسب المعنى المعروف في البشر لأنه في البشر ألم يلم بالنفس لا يشفيه إلا الإحسان، والله تعالى منزه عن الآلام والانفعالات، وإنما يحمل وصف الله تعالى بالرحمة على أثرها وهو الإحسان ومثل هذا مألوف عند العرب، وكون صفتي " الرحمن الرحيم " مشتقتين من الرحمة هو رأي الجمهور، وذهب بعضهم إلى أن " الرحمن " اسم وليس بصفة وأنه غير مشتق لأنه لو كان مشتقا من الرحمة لجاز اتصاله بالمرحوم فيقال: الله رحمن بعباده كما يقال رحيم بعباده، وأيضا لو كان مشتقا من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعته إذ لم يكونوا ينكرون رحمة بهم، وقد قال الله عنهم:
وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن
[الفرقان: 60] واستدل ابن العربي بقولهم " وما الرحمن " ولم يقولوا ومن الرحمن على أنهم جهلوا الصفة دون الموصوف واعترضه ابن الحصار محتجا عليه بقوله تعالى:
وهم يكفرون بالرحمن
[الرعد: 30] ويؤيد رأي الجمهور ما رواه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
Shafi da ba'a sani ba
" قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته "
وليس في عدم اتصاله بذكر المرحوم ما يدل على عدم الاشتقاق فإنه استدلال سلبي قي مقابلة الدليل الثبوتي، وإنكار العرب للرحمن ناشيء عن تعنتهم في الكفر وإصرارهم على التكذيب وإلا فقد كانوا غير جاهلين به، كيف! وقد ورد في أشعارهم كما ذكره ابن جرير، ومنه قول أحد الجاهلية الجهلاء:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها
ألا قضب الرحمن ربي يمينها
وقول سلامة بن جندب الطهوي: -
عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم
وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
ومما يستغرب ما نسبه ابن الأنباري إلى المبرد وأبو إسحاق الزجاج إلى أحمد بن يحيى أن اسم الرحمن عبراني وليس بعربي، واستدل لذلك بقول جرير:
لن تدركوا المجد أو تشروا عباءكم
بالخز أو تجعلوا الينبوت ضمرانا
Shafi da ba'a sani ba