186

وانتقد القطب رحمه الله هذين الرأيين لما فيهما من الجمع بين الحقيقة والمجاز، واختار ما تقدم ذكره من أن الايمان بما أنزل يقتضي الايمان بما سوف ينزل، وهو الذي يقتضيه كلام المحقق ابن عاشور، إذ يرى أن الثناء على المهتدين إنما يكون بأنهم حصل منهم إيمان بما نزل لا توقع إيمانهم بما سينزل، لعدم احتياج ذلك إلى الذكر، فإنه من المعلوم أن الذي يؤمن يستمر إيمانه بكل ما ينزل على الرسول، لأن العناد وعدم الاطمئنان إنما يكونان في أول الأمر، فإذا زالا بالايمان أمن من الارتداد، كما قال هرقل: وكذلك الايمان حين تخالط بشاشته القلوب.

فالايمان بما سينزل في المستقبل حاصل بفحوى الخطاب، وهي الدلالة الأخروية، وليس هو مدلولا للفظ الماضي بطريق التغليب، ولكنه مراد من الكلام.

الإيمان بالقرآن الكريم وأثره:

والايمان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون إيمانا تفصيليا، بحيث يقصد المؤمن بإيمانه الكتاب المنزل إليه للاعجاز والهداية الذي رقم في المصاحف وتناقلته الألسنة بالتواتر.

أما الايمان بما أنزل من قبل على سائر الرسل فيكفي أن يكون إيمانا إجماليا، بل هذا هو الواجب نظرا إلى أن المنزل إليهم لم يبق كما هو، بل دخله التحريف والتبديل، فليس ثم شيء معين مما أنزل إليهم باقيا على ما كان عليه حتى يقصد بالايمان، وهذا أحد سببين أوجبا التفرقة في الايمان بين القرآن والكتب السالفة.

وثاني السببين أن القرآن تعبدنا بالعمل به بخلاف تلك الكتب، فقد انتهى أمدها وهيمن عليها جميعا هذا الكتاب الخالد الذي لا أمد لأثره وهدايته، ولا يمكن العمل به إلا بعد تشخيصه في الايمان.

وذهب جماعة، منهم الفخر الرازي وأبو السعود والألوسي، إلى أن الايمان بالقرآن الواجب على العوام هو إيمان إجمالي أيضا كغيره من الكتب المنزلة لتعذر الاحاطة بدقائق حكمه وتفاصيل أحكامه على عوام الناس، وإنما رأوا الايمان به تفصيلا فرضا كفائيا يقوم به العلماء المتبحرون الذين يستخرجون من أعماق بحاره الزاخرة مكنون جواهر حكمه وأحكامه.

وذكر العلامة الألوسي اختلاف الفقهاء في قدر المسافة التي يجب أن يتوفر فيها من يقوم بهذه المهمة بين الناس، فمنهم من رأى وجوب وجود مثله في كل حد مسافة القصر من البلاد الاسلامية لئلا تبقى طائفة من الناس تتخبط في ظلمات جهلها بدون مرشد ولا دليل، ويحرم - عند هؤلاء - على الامام إخلاء مثل هذه المسافة من مثل هذا الشخص الجامع لهذه الصفات.

ومنهم من يرى وجوب توفر مثله في كل إقليم، ومنهم من يرى أن وجود مثله في أي جزء من العالم الاسلامي يسقط هذا الواجب عن جميع الأمة، وفي المقام بحث نرجئه إلى مكانه المناسب بتوفيق الله.

ولا أرى فارقا معنويا بين ما قالوه وما قلته في تحديد الايمان الواجب بما أنزل على الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، فإن مرادهم بالتفصيل الاحاطة بكل محتوى ما يؤمن به، ومرادي به تشخيصه بالايمان وتمييزه عن غيره، واتباع ما جاء به بحيث يصبح مسيطرا على شعاب النفس، وموجها للجوارح والأركان، وهذه هي صفة المؤمنين بآيات الله كما وصفهم بها في قوله:

Shafi da ba'a sani ba