تتوقف البقرة في الساقية، تشرئب بعنقها في الفضاء وتطلق صوتا بالإيقاع ذاته، والماعزة والحمارة والجرو الصغير يرفع رأسه من صفيحة القمامة، والطفل الذي يرضع ثدي أمه فوق الرصيف، والقطط، والكلاب الضالة، والحشائش الصفراء فوق الأرض الجرداء، كلها تغني مع أمها ... - هوه، نامي نينا ... هوووه ...
تفتح عينيها داخل الصندوق وترى وجه أمها يلمع في الظلمة. عيناها تغطيهما طبقة من الماء كالدموع. لا تجف ولا تسقط. تلمع من بعيد في السماء السوداء كنجمة الصباح، وأصوات كثيرة تهدهدها. ملايين الأصوات الناعمة كحفيف الهواء يداعب أوراق الشجر.
براءة إبليس
انغلقت البوابة بعد خروج جنات. طقطقت مفاصلها الحديدية بالصرير العتيق. اهتزت القضبان السوداء ، واهتزت معهما جدران السراي اهتزازة ارتجت لها الأرض، ورءوس الأشجار، والأسلاك فوق السور، تطايرت من فوقها العصافير.
كان واقفا بجوار جذع الشجرة. داخل جلبابه الأبيض. شعر رأسه غزير أسود. عيناه متسعتان ثابتتان تطفو فوقهما دمعة حبيسة. كالسحابة الشفافة. تهتز مع اهتزازة البوابة. من تحتها «النني» ثابت لا يهتز، يتوهج بضوء أسود، حلقات السلسلة الحديدية تصطك بعضها ببعض، والقفل الضخم يتأرجح من اليمين إلى اليسار، يهتز في انتفاضة، كالنفس الأخير قبل أن يكف عن الحركة وتفارقه الروح.
يسقط الضوء الخافت على وجهه. طويل نحيل كوجه أمه، أسمر اللون شاحب. يرمق القفل بنظرة طويلة. تهتز فوقها طبقة من الماء. تنحدر من زاوية عينه، ثم تهبط بطيئة فوق عظمة الخد. تلمع تحت الضوء كفص من اللؤلؤ، قبل أن تسقط.
رفع وجهه ناحية السماء. أنفه من الجانب خط مستقيم، لا يشبه أنف أبيه. شفتاه منفرجتان قليلا، أنفاسه لها رائحة الأطفال. فوق شفته العليا ينبت شارب خفيف. جلبابه مفتوح حتى الصدر. ممزق من الخلف، وجرح قديم غائر تحت لوحة الكتف.
السماء سوداء بلا قمر ولا نجوم. الهواء ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة، رائحة نفط وبارود يحترق. رءوس الأشجار ثابتة كالأشباح الميتة.
في المساحات السوداء تمتد نظرته الطويلة، تروح وتجيء، عيناه تبحثان في الظلمة. تفتشان في الخضم الأسود عن قطرة ضوء. السحب السوداء كالعباءة الكثيفة. ذرات تراب ورمل. عيناه تتيهان في الكون، مفتوح الجفون، منتصب فوق قدميه، ينام وهو واقف.
وفجأة يلمحها. يراها تشق السحب، أول ما يرى منها العينان. تلمعان من بعيد، يزداد اللمعان كلما أمعن النظر، تطلان عليه من الأفق، كعيني أمه تطل عليه من النافذة، وهو يمشي في الطريق، تلقي عليه نظرة أخيرة قبل أن يختفي، وصوتها في أذنيه يسري من بعيد، تقرأ من كراسة المدرسة، قصيدة كتبتها له في الليل:
Shafi da ba'a sani ba