Aljannar Dabbobi

Taha Husain d. 1392 AH
42

Aljannar Dabbobi

جنة الحيوان

Nau'ikan

وكان الله قد منح صاحبنا حظا من جمال الخلقة، وخلقه في تقويم حسن، فزاده ذلك عناية بنفسه، واهتماما بمنظره، وشجعه الناس على ذلك بما كانوا يهدون إليه من ثناء، وشجعه النساء خاصة على ذلك بما كن يحمدن من صورته الرائعة، وزيه الأنيق، وحسن تلطفه في اللقاء والعشرة والحديث، كل ذلك فرض عليه العناية بجسمه وزيه وشارته أكثر مما تعود الناس أن يصنعوا، فكان يخلو في غرفته كل صباح، وكان يخلو في غرفته كل مساء وقتا غير قصير، ثم يخرج من غرفته ليغدو إلى عمله أو ليروح إلى ناديه، فلا يكاد أهله يرونه حتى يحدث منظره الرائع في نفوسهم فجاءة جديدة على كثرة معاشرتهم له، ومخالطتهم إياه.

وقد خلا في ذلك الصباح إلى نفسه في غرفته فأطال الخلوة، وغير وبدل من زيه ما استطاع التغيير والتبديل حتى إذا أعد نفسه للناس أو اعتقد أنه أعد نفسه للناس، وهم أن يخرج ألقى إلى المرآة هذه النظرة السريعة الخاطفة، التي كان يلقيها إليها دائما كأنما يسألها رأيها الأخير قبل أن يخرج للقاء الناس، وكان رأيها الأخير دائما حسنا مقنعا يشيع في نفسه شيئا من الرضى الهادئ، والثقة المنتظرة، ولكن رأي المرآة الأخير في ذلك الصباح لم يكن حسنا ولا مقنعا، ولا مشبعا للرضى والثقة، وإنما كان مزعجا مروعا فلم تكد عينه تبلغ المرآة حتى ارتدت عنها مذعورة، ثم عادت إليها مشفقة، وارتدت عنها، وقد نقلت إلى قلبه ذعرا يبلغ الهلع، وإذا هو يرتد عن مكانه، ويرجع أدراجه مسرعا، ويحول وجهه عن المرآة تحويلا تاما حتى لا تخطئ عينه فتمتد إليها مرة أخرى، وقد أخذ قلبه يخفق خفقانا شديدا سريعا متصلا، وأخذت جبهته تنضح بشيء من عرق بارد، وأخذت قطرات من هذا العرق تنطبع على وجهه، وجعل الدوار يعبث به، وبكل شيء من حوله حتى خيل إليه أن الغرفة كلها قد استدارت فأصبحت المرآة وراءه، وأصبحت هذه المائدة التي كان يجلس إليها ليصلح من شأنه أمامه، وإذا هو مضطر إلى أن يتماسك ويتمالك، وإذا هو عاجز عن ذلك فيجلس على أول كرسي يبلغه مضطربا ممعنا في الاضطراب حائرا لا يكاد يتبين حيرته، ولا يكاد يتبين مصدرها، ومع ذلك فقد كان مصدر هذه الحيرة يسيرا جدا غريبا جدا في وقت واحد. كان يسيرا؛ لأنه لم يكن إلا ما رأى في المرآة، وكان غريبا؛ لأنه لم ير في المرآة وجهه، وإنما رأى أقبح وجه يمكن أن يكون الله قد خلقه، وأبشع منظر يمكن أن يمتحن الله به الناس أو القرود، وقد طال جلوسه على كرسيه، وإطراقه إلى الأرض، وإغراقه في الحيرة، ثم أخذ جسمه يهدأ شيئا فشيئا، وجعل قلبه يستقر في صدره قليلا قليلا، وامتدت يده فاترة إلى منديل أمره على وجهه فجفف به العرق، وارتسمت على ثغره ابتسامة هادئة فيها شيء من غموض وشيء من رضى، فقد ثابت نفسه إليه، وجعل يسخر من هذا الروع الذي ألم به فأكبر الظن أن شيئا من علة قد ألم بمعدته فأفسد عليه مزاجه شيئا ما، ثم أنشأ يسأل نفسه عما طعم أمس وعما شرب، فلم ينكر من طعامه ولا من شرابه شيئا، فقد طعم أمس وشرب كما كان يطعم ويشرب في كل يوم، ولكن بمعدته شيئا من غير شك هو الذي خيل إليه ما خيل حين مد عينه إلى المرآة، ومن المحقق أنه لم يكن يحس ألما، ولا يشعر بشيء مما يشعر به المرضى حين يطرأ عليهم المرض، ولكن لا سبيل إلى تعليل هذه الظاهرة الطارئة إلا بشيء أصاب معدته أو كبده، وهو على كل حال قد استرد شيئا من طمأنينته، فعاد إلى شأنه يصلح منه ما أفسد هذا الاضطراب، فلما بلغ من ذلك ما أرضاه أزمع أن يخرج من غرفته دون أن يسأل هذه المرآة المشئومة عن شيء، ولكن الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس، ألقى في روعه مع كثير من اللباقة والمكر، أن من الحق عليه أن يسأل هذه المرآة التي تعود أن يسألها دائما، والتي تعودت أن تصدقه دائما، فمن يدري لعل شيئا ألم به فغير من وجهه وشكله، وهو لا يدري، وما ينبغي أن يظهر الناس منه على ما لا يحب أن يظهروا عليه، وقد ألقى نظرته إلى المرآة فارتدت عينه مذعورة، ثم عادت إلى المرآة مشفقة ، ثم ارتدت وقد حملت إلى قلبه جزعا وهلعا، وإذا هو يجاهد ليحبس صيحة قد همت أن تخرج من حلقه، فتملأ الغرفة من حوله، وتدعو إليه أهل الدار، ولكنه رد هذه الصيحة إلى مستقرها، ولم يتح لها أن تنفجر، واستأنف اضطرابه ذاك، ثم ثابت إليه نفسه بعد لأي، فيسرع إلى الجرس يدقه، فإذا دخلت عليه الخادم رفع إليها وجهه وظل صامتا حينا يريد أن يعرف أتنكر الخادم من أمره شيئا، فلما رأى الخادم كدأبها كلما دعاها إليه قائمة واجمة تنتظر أمره لا تنكر شيئا، ولا تعرف شيئا أو لا تظهر معرفة ولا إنكارا، قال لها في صوت يكاد يضطرب: أنبئي سيدتك أني أنتظرها. وأقبلت زوجه بعد حين فرأته قائما باسما ينتظر مقدمها، فلما رأته أخذها منظره كما تعود أن يأخذها كل صباح وكل مساء، وسألها هو أتنكرين من أمري شيئا، قالت متضاحكة: وماذا تريد أن أنكر من أمرك؟! إنما أنت كما تعودت دائما أن أراك، رائع الشكل، جميل المنظر، خلابا للنساء، إلى أين تريد أن تغدو اليوم، فإني أراك تكلفت عناية بزيك، قلما تتكلفها؟ قال: وإلى أين أغدو إلا إلى عملي؟!

قالت: فإن عملك لا يحتاج إلى كل هذا التأنق، ولكنه أعاد عليها قوله: أفي الحق أنك لا تنكرين مني شيئا؟ قالت: مغرقة في الضحك: في الحق إني أنكر منك هذا الإسراف في التجمل. قال في شيء يشبه الذهول: إن هذه المرآة تنبئني بغير ما تقولين، ثم ألقى على المرآة نظرته الخاطفة تلك، وارتد عنها، وجلا مذعورا يقول لامرأته: التمسي لي طبيبا.

وقد عاده طبيب وطبيب وطبيب، عادوه متفرقين، وعادوه مجتمعين، وفحصوا من جسمه كل ما يمكن أن يفحصوا، وامتحنوا كل ما يمكن أن يمتحنوا، فلم يروا به بأسا، ولم يشخصوا له علة، ولم يصفوا له دواء، وقال له قائلهم: ما نرى بجسمك من بأس، فالتمس دواء نفسك عند نفسك، فما نظن إلا أن في ضميرك شيئا يؤذيك على علم منك أو على غير علم، وقد غيرت المرآة في غرفته مرة ومرة، ولكن المرايا كلها جعلت كلما التمس نفسه فيها ردت إليه صورة غير صورته، وشكلا غير شكله، وملأت قلبه فرقا وروعا، وقد تسامع أعوانه وأصحابه بأنه مريض منذ لزم غرفته، وانقطع عن عمله فجعلوا يسعون إليه ليعودوه، يلقاه أقلهم، ويرد عنه أكثرهم، وينبئ أولئك وهؤلاء من أمره بغير الحق، تخترع لهم العلل، وتبتكر لهم الأدواء فيصدق منهم من يصدق، ويكذب منهم من يكذب، ويشك منهم من يشك، وكنت من هؤلاء الأصدقاء الذين سعوا إليه، وسألوا عنه، ثم أتيح لهم أن يروه، وكنت أثيرا عنده كما كان أثيرا عندي، لا أخفي عليه من ذات نفسي شيئا كما لا يخفي علي من ذات نفسه شيئا، ولقد لقيته فيمن لقيه من أصحابه ذات يوم فسمعنا منه، وقلنا له، وضربنا معه أخماسا لأسداس في أمر علته. نصدق نحن في حيرتنا، ويتكلف هو لنا الحيرة تكلفا لا يكاد يخفى علي، فلما هممنا أن ننصرف استبقاني في لباقة وظرف، فبقيت، ومضى الحديث بيننا ألوانا ساعة من نهار، ثم عدنا إلى علته، فإذا هو يتحدث إلي بأمره كله في وضوح وجلاء.

قلت ضاحكا: ألعلك قرأت هذه القصة الإنجليزية التي كتبها أوسكار ويلد، وسماها صورة دوريان جري، فإن فيها ما يشبه قصتك من بعض الوجوه. قال: فإنك تعلم أني لا أقرأ الإنجليزية، ولا أقرأ لغة أوروبية، ولا أعرف أن هذه القصة قد نقلت إلى العربية.

قلت: أولم يتحدث إليك قط متحدث عن هذا الكتاب وكاتبه، قال: سمعت أطرافا من الحديث عن أوسكار ويلد، ولكن لم أسمع عن هذا الكتاب من كتبه قليلا ولا كثيرا، فحدثني أنت عن هذا الكتاب. قلت: لقد قرأته منذ زمن بعيد، وأذكر أنه يعرض على قرائه قصة فتى حسن، رائع الحسن، جميل بارع الجمال، اتخذ له صديق مصور صورة تطابق شكله جمالا وروعة، وقد اقترف هذا الفتى في مستقبل أيامه سيئات كثيرة، واجترح آثاما مختلفة، فبغضت إليه نفسه أشد البغض، وقبحت صورته المصنوعة في عينه أشنع التقبيح، فنفاها من حجرات داره وغرفاته إلى حيث ينفي سقط المتاع، ولكنه كان يلم بها من حين إلى حين تزيدا من بغضه لها، وسخطه عليها، واستعذابا لهذا السخط وذلك البغض، ثم أصبح الناس ذات يوم فرأوه مقتولا إلى جانب صورته، أراد أن يمزق الصورة فمزق صدره، وقد أراد أوسكار ويلد فيما أظن أن يصور تأثير الندم على ما يقترف من الآثام في بعض الضمائر والنفوس، فلم تكن هذه إلا مرآة لضمير دوريان جري. رأى فيها ما كان يملأ ضميره من السيئات المنكرة، والجرائم البشعة.

قال صاحبي في صوت يأتي من بعيد: وما أنا، وهذه القصة. قلت في صوت يأتي من بعيد أيضا: خشيت أن تكون قد قرأتها أو سمعت عنها فأثرت في أعصابك تأثيرا سيئا، فما أكثر ما تؤثر الكتب قيمها وسخيفها في أعصاب الناس، فتحملهم على غير ما أراد المؤلفون أن يحملوهم عليه. قال صاحبي، وعلى ثغره ابتسامة حزينة: هون عليك! فإني لم أقرأ هذا الكتاب، ولم أسمع عنه، ولم أتأثر به قليلا ولا كثيرا، ومع ذلك فإن من حقه أن يقرأ، قلت - وقد ندمت بعد ذلك على ما قلت - فالتمس في أثناء نفسك، وأحناء قلبك خطأ، لعلك قد دفعت إليه، أو مساءة لعلك قد قدمتها إلي بريء. فإني أعلم أنا نجهل من أمر الضمير الإنساني أكثر مما نعلم، ومن يدري لعل في ضميرك الخفي ندما على شيء أتيته ثم أنسيته، ولعلك إن استكشفته أن تصلحه، وتستغفر الله منه فتقل هذا الندم الذي أخشى أن يكون هو الذي ينغص عليك الحياة، وتركت صاحبي حائرا مبهوتا، ثم أنبئت بعد أيام أنه يمرض في بعض المستشفيات، فلما سألت عن جلية ذلك قص على محدثي عجبا من الأمر، فقد كان صديقي هذا البائس من قوم كرام مات أكثرهم، وبقي أقلهم، وكان الذين ماتوا - رحمهم الله - يرتفعون عن الصغائر، ويمتنعون على الدنيات، وتأبى نفوسهم فيما تأبى جحود العارف، وإنكار الجميل، ورثوا ذلك عن آبائهم، وأحبوا أن يورثوه أبناءهم، فحال بينهم وبين ذلك هذا التطور الحديث الذي غير مقاييس الأشياء، وأدار أعمال الناس وأقوالهم على المنافع العاجلة، والمآرب القريبة لأعلى ما كان يألف آباؤنا من رعاية الحق وتقدير المعروف، وكان صديقي هذا البائس أحرص الناس على أن يشبه الذين سبقوه من قومه في كل ما كانوا يأتون ويدعون من الأمر، ولكن أحداث الدهر، وخطوب الأيام، وما تحمل من رغبة ورهبة، ومن إغراء وتنفير كانت أقوى من خلقه وإرادته، فلم يستطع أن يكون خليقا بالذين سبقوه من قومه، وإنما كان خليقا بالذين عاصروه من أترابه كان قومه يستحيون من أنفسهم قبل أن يستحيوا من الناس، وكان هو يستخفى من الناس، ولا يستخفي من ضميره ولا من الله وهما معه أينما كان، فلما قصصت عليه قصة أوسكار ويلد كنت كأنما كشفت عن نفسه الغطاء، فأصبح يتحدث إلى امرأته، وإلى خاصته بأن هذا الوجه القبيح الذي كان يراه في المرآة لم يكن وجهه، فوجهه ما زال جميلا رائعا، وإنما هو مرآة ضميره؛ لأن ضميره بشع دميم.

ثم يمضي في حديثه فيقول: لا تنكروا مما أقول لكم شيئا، فإني لا أرى هذا الوجه البشع إذا نظرت في المرآة فحسب، بل أنا أراه كلما خلوت إلى نفسي، أراه يحمله جسم كجسمي، وأراه يجلس إلى غير بعيد ينظر إلي شذرا أول الأمر، ثم لا يزل يرفق بي، ويظهر الرقة لي حتى أطمئن إليه فيحدثني في صوت هادئ رقيق عن سيئات تقدمت بها إلى الناس فيما مضى من الدهر، ثم يقول لي في صوت هادئ يخيفني أشد الخوف ليتك لم تفعل، فقد كنت أراني جميلا فجعلتني قبيحا بشعا، وكنت أراني سعيدا فجعلتني شقيا بائسا، فقد احتملت وحدي قبحي وبشاعتي وشقائي وبؤسي، ثم أعياني احتمال هذا الثقل، فرأيت أن تشاركني في النهوض به، فسألزمك منذ الآن كما يلزم الظل صاحبه، وأي غرابة في أن يلزم الضمير صاحبه، وكان صديقي البائس يقول ذلك لأهله وخاصته في صوت غريب يملأ قلوبهم خوفا وإشفاقا ورحمة وعطفا، ثم كان يلح عليهم في ألا يخلوا بينه وبين نفسه، فلزموه وأطالوا البقاء معه، ولكن بغضه لظله هذا أو لضميره هذا جعل يعظم ويشتد، كما أن حب ظله وضميره له جعل يعظم ويشتد أيضا، فقد رأى ضميره في المرآة أول الأمر، ثم جعل يراه في الخلوة بعد ذلك، ثم أصبح يراه حين يخلو إلى نفسه، وحين يحيط به أهله وخاصته، وإذا أمره ينتهي به إلى الجنون الثائر أو إلى ما يشبه، وإذا أهله مضطرون إلى أن يمرضوه في بعض المستشفيات التي تعالج فيها الأعصاب المريضة.

ليتني لم أكشف لصاحبي عن نفسه الغطاء، أستغفر الله ماذا أقول! وهل يزيد الكتاب على أن يكشفوا للناس عن نفوسهم الغطاء.

مدرسة الذباب

Shafi da ba'a sani ba