الثعبان
حديث الأوز
قسوة
ثعلب
شياطين البيان
الطفل
الظلال الهائمة
غلظة
الشجاع
سمير الليل
Shafi da ba'a sani ba
طيف
أم خفيف
الغانيات
البرق الخاطف
حديث القلوب
أضغاث أحلام
ضمير حائر
مدرسة الذباب
الثعبان
حديث الأوز
Shafi da ba'a sani ba
قسوة
ثعلب
شياطين البيان
الطفل
الظلال الهائمة
غلظة
الشجاع
سمير الليل
طيف
أم خفيف
Shafi da ba'a sani ba
الغانيات
البرق الخاطف
حديث القلوب
أضغاث أحلام
ضمير حائر
مدرسة الذباب
جنة الحيوان
جنة الحيوان
تأليف
طه حسين
Shafi da ba'a sani ba
الثعبان
كان مشرق الوجه، باسم الثغر، خفيف الحركة، فصيح اللسان، لا يكاد يجلس إلى أحد أو يجلس إليه أحد إلا أحس جليسه منه قلبا يضطرب تحمسا للإصلاح، ونفسا تتوثب إلى المثل العليا، وعقلا لا يرى حوله إلا شرا، ولا يريد أن يطمئن أو يستقر إلا إذا أزيل هذا الشر، ومحيت آثاره ومعالمه، وقام مقامه هذا الخير المطلق الذي يشمل كل إنسان، وكل شيء، والذي يسبغ على من يشمله وما يشمله جمالا حلوا هادئا، ولكنه قوي ملح كأنه ضوء الشمس، لا يمنح الأشياء والأحباء جمالا وبهاء فحسب، ولكنه يبعث فيها وفيهم حياة وخصبا وقوة ونشاطا.
وكان تحمسه للإصلاح وطموحه إلى الخير ودعاؤه إلى العدل يخرج به أحيانا كثيرة عن طوره، ويتجاوز به الهدوء المألوف إلى شيء من العنف لم يكن المصريون يعرفونه في ذلك الوقت، وإذا هو لا يستقر في مكانه مهما يكن هذا المكان في دار أو ناد أو قهوة أو ديوان، وإنما يثب من مجلسه ثم لا يثبت في مقامه؛ ليتحدث إلى من حوله كما يتحدث الخطيب، وإنما يذهب ويجيء، ويأتي من الحركات بيديه ما كان يخيف جلساءه على ما قد يكون حوله من الأشياء، وإذا آية الغضب تظهر في وجهه، قوية حادة فيظلم بعد إشراق ويعبس بعد ابتسام، ويتطاير من عينيه المضطربتين شرر مخيف، وينفجر من فمه صوت هائل يهدر بالجمل التي تتتابع سراعا في مثل قصف الموج وعصف الريح العاتية، وإذا أصحابه يأخذهم شيء من الدهش لا يلبث أن يستحيل إلى وجوم متصل وذهول غريب، لا يدرون أهما يصوران الإعجاب والرضى، أم هما يصوران الإنكار والسخط، أم هما يصوران الحذر والخوف.
وكان من الحق أن يحذروا أو يخافوا، فلم تكن الأمور في ذلك الوقت تجري في مصر كما أخذت تجري منذ كان في مصر استقلال وحرية ودستور وبرلمان، وإنما كانت الأمور تسعى متعثرة لا تكاد تنهض إلا لتكبو، ولا تكاد تمضي إلا لتقف، فقد كان في مصر احتلال أجنبي يتغلغل سلطانه الظاهر والخفي في جميع المرافق العامة والخاصة، وكان في مصر سلطان وطني شديد الارتياب، عظيم الاحتياط، كثير التلون، يميل إلى المواطنين مرة وإلى المحتلين مرة أخرى، ويحاول أحيانا أن يرضي أولئك وهؤلاء، فلا يظفر إلا بغضب أولئك وهؤلاء.
وكان هذا كله يفسد الجو المصري، ويجعله خانقا منهكا للقوى؛ لأن الناس كانوا موضوع النزاع بين هاتين السلطتين لا يكادون يرضون إحداهما إلا وفي نفسهم إشفاق من الأخرى، وكان لكل واحدة من هاتين السلطتين عيونها وجواسيسها قد انبثوا في الأندية والقهوات والدواوين، واندسوا في المجالس الخاصة. فهم يحصون على الناس ما يقولون، ثم يصورونه كما يحبون، ثم يرفعونه إلى السلطان الأجنبي أو إلى السلطان الوطني، وإذا آثار ذلك واضحة فيما يكون من رضى هذا السلطان أو ذاك، ومن غضب هذا السلطان أو ذاك، فكان المفكرون وذوو الرأي يعيشون في قلق متصل كأنما كانوا يسعون على الشوك، فليس غريبا أن يثير صاحبنا في نفوس جلسائه شيئا من الحذر والخوف إذا أخذته أزمته الإصلاحية تلك، وكانت كثيرا ما تأخذه فيثور، أو قل يستحيل إلى ثورة تريد أن تلتهم كل شيء.
وكان صاحبنا حديث عهد بأوروبا قد أقام فيها أعواما متصلة، وأتم فيها درسه، ورأى فيها حياتها الحرة الطامحة التي لا تقيدها أوضاع النظام الاجتماعي كما كانت تقيد الحياة المصرية في ذلك الوقت، ولا تغلها أغلال السلطان السياسي كما كانت تغل حياة المصريين في ذلك الوقت أيضا، وإنما رأى حياة سمحة طلقة قد عرفت للإنسان كرامته، وللفرد حقه في أن يأتي ويدع من الأمر ما يشاء، وفي أن يرى ويقول ما يشاء ما دام لا يؤذي غيره بقول أو عمل، وقد شارك في هذه الحياة، واستمتع بما كانت تمتاز به من السماح واليسر، وكان كغيره من المصريين الذين يعيشون في أوروبا لا يكاد يرى شيئا يعرفه أو ينكره إلا وازن بينه وبين ما يشبهه في الحياة المصرية من قريب أو بعيد، وكانت هذه الموازنة تغيظه، وتحفظه بالطبع؛ لأنها كانت تضطره دائما إلى أن يعترف فيما بينه وبين نفسه بأن في أوروبا رقيا ماديا ومعنويا، وبأن لأهل أوروبا حرية في القول والعمل، وبأن مصر بعيدة كل البعد من هذا الرقي، وبأن المصريين قد حرموا هذه الحرية كل الحرمان، فعاد إلى مصر وللغيظ في قلبه نار تتوهج، وللغيرة على نفسه سلطان لا يكاد يهدئ من ثورته أو فورته، ومن أجل ذلك كان صورة ناطقة حية قوية للسخط على كل شيء، والضيق بكل شيء، والحرص على تغيير كل شيء، وقد أقبل الشباب عليه حين عاد من أوروبا معجبين بل مفتونين، ولكنهم لم يلبثوا أن فتروا ثم تفرقوا شيئا فشيئا؛ منهم من رده عنه الخوف، ومنهم من رده عنه القصور، ومنهم من رده عنه السأم، ولا بد من الاعتراف بأن أحاديث صاحبنا على عنفها وثورتها كانت تغمض أحيانا فيعجز أوساط المثقفين عن فهمها، وكانت تتكرر أحيانا أخرى فيسأم السامعون لها من كثرة تكرارها، وأكبر الظن أن صاحبنا عاد من أوروبا دون أن يتعمق من أمرها شيئا، وإنما غرته المظاهر فأعجب بها، وخدعته هذه الحضارة الأوروبية ففتن بها، ورأى في هذا الإعجاب، وفي هذه الفتنة شيئا من الامتياز يتملق كبرياءه فأغرق فيهما إغراقا شديدا، وقد كان ما لم يكن بد من وقوعه فنذر به السلطان، وأشفق منه، ونصب له شيئا من كيد خفي حاول أن يثبت له، وينفذ منه، ولكنه لم يستطع ثباتا ولا نفوذا، فاضطر إلى أن يرجع أدراجه، ويعود إلى أوروبا هذه التي ملكت عليه قلبه ونفسه، وفتنته بمحاسنها فتونا، ولم يكد يستقر في أوروبا حتى دهمته الحرب الماضية، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، والظاهر أنه انتفع بهذه الإقامة الثانية انتفاعا عظيما، فقد عاد من أوروبا بعد الثورة المصرية الأخيرة فرأى ما لم يكن ينتظر أن يرى. لم ير تغيرا في الحضارة المادية، ولم ير تطورا ذا بال في الحياة العقلية، ولكنه رأى حرية لم يكن له بها عهد، حرية لا تحفل بمكر الاحتلال الأجنبي، ولا باحتياط السلطان الوطني، ولا بالعيون والجواسيس، ولا بالأحكام العرفية الإنجليزية التي ظلت مفروضة على مصر أعواما بعد انتهاء الحرب، ولا بهذا الاصطدام العنيف الذي كان يحدث من حين إلى حين بين الشباب المصريين، والجنود البريطانيين. رأى حرية لا تحفل بشيء من هذا، وإنما تمضي أمامها لا تلوي على شيء، ولا يردها شيء، ولا تزيدها العقبات والمصاعب إلا قوة واندفاعا، ورأى المصريين يقولون في كل شيء لا يتحفظون، ولا يتحرجون، ورآهم ينكرون من أمرهم أكثر مما كان ينكر هو قبل الحرب فهم لا يرضون عن الاحتلال الأجنبي، وهم لا يرضون عن النظام السياسي الوطني، وهم لا يطمئنون إلى حياتهم الاجتماعية، وإنما يخرجون عليها في رفق مرة، وفي عنف مرة أخرى، وهم على كل حال يتوثبون إلى الإصلاح، ويطمحون إلى المثل العليا، لا يتحدثون إذا لقي بعضهم بعضا إلا في الحق، والخير، والعدل، والحرية، والاستقلال، والرقي في الحياة المادية والعقلية.
رأى هذا كله فوقف منه موقف الحيرة، لم يدر أيرضى عنه أم يسخط عليه، ولو أنه جرى مع طبيعته الأولى لرضي كل الرضا عما رأى، ولمضى مع مواطنيه جادا في الإصلاح طامحا إلى الرقي، مطالبا بالاستقلال، ولكن إقامته في أوروبا أثناء الحرب، واحتماله ما جرته الحرب على الناس من خطوب، وما ألقت عليهم من أثقال قد اضطره إلى شيء من المرونة، وسعة الحيلة، وبذل الجهود الملتوية؛ ليتقي الشر إن عرض الشر، وليلتمس الخير إن سنح الخير، فعاد من أوروبا للمرة الثانية، وقد خلقته الحرب خلقا جديدا؛ كان قبل الحرب يسبق مواطنيه إلى الرقي والطموح، فأصبح بعد الحرب يستأخر عن مواطنيه، ولا يكاد يشاركهم في توثبهم إلى الرقي والطموح، ومنذ ذلك الوقت اتخذ لنفسه سيرة وسطا فهو لا يستطيع أن ينكر ماضيه، وهو لا يستطيع أن يقاوم هذا الاندفاع المصري الجارف إلى التطور العنيف، وهو في الوقت نفسه لا يحب أن يشارك مواطنيه فيلهج كما يلهجون بالحرية، ويحرص كما يحرصون على الاستقلال، ويطمع كما يطمعون في مجاراة أوروبا حينا، ومقاومتها حينا آخر، وقد زاده حرصا على هذه السيرة الوسط أنه قد تعب في أوروبا، وشقي بما لقي فيها من جهد وضيق، وعاد إلى مصر، وفي نفسه ميل إلى الدعة، وحاجة شديدة إلى الراحة، ورغبة ملحة في أن يعوض الوقت الذي أضاعه في أوروبا، وأن يستدرك من أمره ما فات، ويحقق لنفسه من المنافع العاجلة والآجلة ما لم يستطع تحقيقه حين كان ثائرا فائرا مطالبا بالإصلاح، وقد رأى المصريين قد انقسموا فيما بينهم قسمين؛ فريق يعتدل، وفريق يتطرف. فلم يرد أن يعتدل مع المعتدلين فيعد مستأخرا، ولا أن يتطرف مع المتطرفين فيتكلف ما يتكلفون من الجهد، ويحتمل ما يحتملون من العناء، وقد رسم له هذا كله سيرته الوسط، فعرف الثورة المصرية، ولم ينكرها، وأثنى عليها، ولم يشارك فيها، واتخذ لنفسه الأصدقاء والأخلاء من المعتدلين والمتطرفين جميعا، ولم يقبل في ذلك مراجعة ولا لوما، فإن الصداقة ترتفع عن السياسة وأعراضها وأمراضها، والرجل الحر حقا هو الذي لا تلهيه السياسة عن إرضاء حاجة قلبه إلى الإخاء الكريم، والمودة الصافية، والوفاء المتين.
وكذلك كنت تراه في مجالس المعتدلين يسمع منهم، ولا يرد عليهم إلا قليلا، وكنت تراه في مجالس المتطرفين، يسمع منهم ولا يجاريهم إلا بمقدار، وكنت تراه في كل حفل يقيمه المعتدلون، وفي كل حفل يقيمه المتطرفون يشهد الحفلين جميعا؛ لأن له الأصدقاء والأخلاء بين أولئك وهؤلاء، ولكنه كان ماهرا أشد المهارة في الاستخفاء حين الجد، وحين تبدي الخطوب عن نواجذها لأولئك أو هؤلاء. هنالك يلتمس القوم صاحبنا فلا يجدونه، ولا يقفون له على أثر، وهنالك يسأل القوم عن صاحبنا أهل المعرفة فلا يحدثهم عن ثابت لاق كما يقول الشاعر القديم، حتى إذا هدأت العاصفة، واستقرت الأمور في نصابها ، واطمأنت القلوب في الصدور، نظر المعتدلون والمتطرفون فإذا صاحبنا يغدو بينهم ويروح كعهدهم به دائما، مشرق الوجه باسم الثغر عذب اللفظ حلو الحديث.
وقد استطاع من الأمر ما لم يستطعه من المصريين إلا الأقلون عددا، فأرضى المحافظين والمسرفين في المحافظة بنوع خاص، وأرضى المجددين والغلاة في التجديد بنوع خاص، ثم جعلت الأحوال تحول، والأمور تتغير، وتتابعت المحن على مصر، وكان الطبيعي حين تمتحن مصر في آمالها وأمانيها، وفي حريتها الداخلية والخارجية أن يتطرف المعتدل، ويجدد المحافظ إن كان صادقا في اعتداله ومحافظته، لا يتأثر فيهما بالمنفعة، ولا يتقي بهما الخوف.
ولكن صاحبنا لم يتطرف، وقد تطرف المعتدلون من حوله، ولم يجدد، وقد جدد المحافظون من حوله، وإنما ظل كعهده دائما مشرق الوجه باسم الثغر خفيف الحركة عذب اللفظ حلو الحديث.
Shafi da ba'a sani ba
وربما أحس المحافظون المصرون على المحافظة منه ميلا إليهم، وحرصا على أن تتصل أسبابه بأسبابهم، ولكن على شرط ألا تنقطع أسباب المودة والإخاء بينه وبين المتطرفين. من الحقائق المقررة أن صلات الود والإخاء يجب أن ترتفع عن اختلاف الرأي في السياسة والنظم الاجتماعية. وقد تلقاه المحافظون حفيين به مستبشرين بقربه منهم، واتصاله بهم، وأغضى عنه المتطرفون؛ لأنه صاحب وفاء يرتفع بالصداقة عن أغراض السياسة وأمراضها، ثم أصبحت المحافظة في بعض الأوقات لونا من ألوان الحفاظ والغيرة على مصالح الوطن وكرامته، وأصبح من البدع المحبوب أن يتحدث الناس بأنهم محافظون، وأن يسرفوا في النعي على المتطرفين، فأظهر صاحبنا أنه محافظ يذكر مجد الوطن، ويحرص على تقاليده، وينكر الخروج على النظام المألوف والسنة الموروثة، ولكنه في الوقت نفسه لم يقصر في ذات أصدقائه المتطرفين، وإنما جاملهم حين كانت تحسن المجاملة، وواساهم حين كانت تحسن المواساة، وضمن بذلك رضاهم عنه، وإغضاءهم عن غلوه في المحافظة، وفي أثناء هذا كله مضت أموره على خير ما يجب. شجعه المحافظون حين كان السلطان يصير إليهم، وأغضى عنه المتطرفون حين كان السلطان يستقر فيهم، وعرف عامة الناس وخاصتهم أنه رجل لا يحب الأحزاب، ولا يشارك في سياستها ، وإن كان محافظ الميل قديم الهوى معتدل السيرة والرأي جميعا.
قلت لصاحبي: أتستطيع أن تحدثني بما تريد إليه من هذه القصة التي لا تنتهي، قال صاحبي: لا أريد إلا إلى شيء يسير جدا، وهو أن الذين يريدون العافية، وقضاء المأرب، وتحقيق المصالح، وتجنب الأذى في أنفسهم وأموالهم وأعمالهم، يحسن أن يسيروا سيرة هذا الرجل البارع. قلت لصاحبي: ليس كل الناس يقدر على أن يكون ثعبانا، وليس من الخير أن تكثر في مصر الثعابين.
حديث الأوز
وأنا أعتذر إلى القراء من هذا العنوان الظريف الطريف الذي لم أكن أحب أن أصطنعه على ما فيه من طرافة وظرف؛ لأنه أشبه بأحاديث الفكاهة والمزاح، لا بأحاديث الجد المر الذي يجب أن نحرص عليه حين نأخذ في شئون التعليم.
ولكن صديقا أديبا من أصدقائنا الأدباء أراد أن يتحدث عن نشر التعليم فضرب الأوز له مثلا، يذهب في ذلك مذهب الفكاهة الساخرة، وإن كانت شئون التعليم في هذه الأيام لا تحتمل فكاهة، ولا سمرا.
تحدث الصديق الأديب أن صاحبه جحا زعم لقاضي المدينة أنه يستطيع أن يأتي بتسع عشرة أوزة فيحبسهن في حجرة من الحجرات، ثم يدخل عليهن عشرين رجلا، فلا يخرج واحد من هؤلاء الرجال إلا ومعه واحدة من هؤلاء الأوز، وقد أنكر القاضي هذا الحديث لما بين هذين العددين من الاختلاف، ولكن جحا ألح فيه وأصر عليه، فاضطر القاضي إلى أن يستجيب له، وأقبل جحا بأوزه التسع عشرة، وأدخل القاضي عليهن عشرين رجلا كان بينهم صراع وقراع سالت له الدماء، وشاهت له الوجوه، ثم جعل الرجال يخرجون رجلا في أثر رجل، ومع كل واحد منهم أوزته حتى خرج آخرهم، وليس له شيء، فلما سأل القاضي جحا عن معجزته، أنبأه بأنه لم يرد إلا عبثا ليبين له وللناس أن الديموقراطية الصحيحة لا تحدث المعجزات، ولا تخلق المستحيلات.
والمغزى الذي قصد إليه الصديق الأديب هو أن الذين يريدون أن ينشروا التعليم بغير حساب، وأن يحشروا الأعداد الضخمة في الأماكن الضيقة، إنما يذهبون مذهب جحا حين أراد أن يقسم التسع عشرة أوزة قسمة سواء على عشرين رجلا فلم يبلغ من ذلك ما أراد.
والمثل كما ترى رائع، بارع وقاصم، فاصم لا تقوم له حجة، ولا يثبت له دليل، فليست الديمقراطية إذن كلاما يقال، ولا هي دعوة تنشر وتذاع، وإنما هي أعمال يقدم عليها أصحابها عن بصيرة، ويحققونها عن روية، وليس يكفي أن يقال للناس كلوا ليأكلوا، ويأمنوا شر الجوع، وليس يكفي أن يقال للناس تعلموا ليتعلموا، ويأمنوا شر الجهل، وإنما ينبغي أن يهيأ الطعام على قدر الطاعمين، وأن يهيأ العلم على قدر المتعلمين، فإن لم نفعل كانت دعوتنا إلى الطعام والعلم أشبه بعبث جحا حين أراد أن يقسم تسع عشرة أوزة على عشرين رجلا قسمة سواء.
ومن قبل الصديق الأديب ضربت للتعليم أمثال أخرى تتصل بالطعام؛ فقال قائلون: إن الذين ينشرون العلم بغير حساب، ويحشرون الأعداد الضخمة في الأماكن الضيقة كالذين يلقون الطعام القليل إلى الجماعة الكثيرة، فما هي إلا أن يلقى هذا الطعام حتى يكون الزحام والخصام والاصطدام، ثم يفترق الناس، وقد آذى بعضهم بعضا، ولم يظفر بالطعام منهم إلا قليل.
والغريب أن يقال مثل هذا الكلام في هذه الأيام التي تواجه الحكومات مشكلة التموين، ومعضلة الطعام القليل يلقى إلى الجماعات الضخمة من الناس ... ولا يفكر الذين يقولون هذا الكلام ويكتبونه في أن حوادث حياتهم اليومية تنقض ما يقولون نقضا. فإن الحكومة إنما قامت لتجري الأمور بين الناس بالقسط، وتقضي بينهم بالحق، وتمكن كل واحد منهم من أن يأخذ نصيبه الضئيل من الطعام القليل، لا يعدو في ذلك بعضهم على بعض، ولا يظلم القوي منهم في ذلك الضعيف، وليس المهم أن تنجح الحكومة في ذلك أو تخفق، وأن تعدل الحكومة في ذلك أو تجور، وإنما المهم أنها أنشئت لتجري أمور الناس بينهم بالقسط، ولتطعم عشرين رجلا من تسع عشرة أوزة، والخطأ الذي انحرف فيه جحا عن الصواب، ولم يكن للقاضي أن يجاريه فيه: هو أنه أراد أن يقسم التسع عشرة أوزة على العشرين قسمة سواء ، ولو أنه أصلح الأوز، وهيأه للطعام؛ لجاز أن يغذي بهن مائة أو مئات من الناس دون أن يقع بين هؤلاء الناس صراع أو قراع، ولكن جحا لم يكن مصريا، ولا عربيا، وربما كان له حظ من دعابة، ولكنها دعابة غير عاقلة، ولو قد كان جحا مصريا عربيا لعرف أن في مصر أمة تمتاز بخصلتين؛ إحداهما: القناعة والرضى بالقليل، والأخرى: الإيمان بالمعجزات، والكرامات، وخوارق العادات.
Shafi da ba'a sani ba
وليس كل مصري حريصا على أن يأخذ أوزة صحيحة حية يفرح بها في بيته، وينظر إليها تذهب وتجيء، تبسط جناحيها وتقبضها، وترسل في الهواء صوتها الذي يطرد الملائكة، ويدعو الشياطين، كما يقول أهل الريف. ليس كل مصري حريصا على أن يظفر بين حين وحين بجزء أوزة عظيم أو ضئيل، بل ليس كل مصري حريصا على أن يذوق طعم الأوز أو يشم ريحه، وإنما المصريون قوم قانعون أكثرهم يرى الأوز ويسمع عنه، ولكنه لا يبلو طعمه، ولا يعرف له مذاقا.
وهو على ذلك لا ينكر الحياة، ولا يضيق بها، ولا يسخط عليها فإن أتيح له قليل من لحم الأوز أو من مرقه أو من ريحه حمد الله، وأثنى عليه، وشكر له هذه النعمة التي لم يكن ينتظرها، ولا يرجوها.
وقد أراد الله بالمصريين خيرا فلم يجعل العلم أوزا، ولم يجعل الأوز علما، وإنما جعل العلم شيئا كهذا الهواء الذي يمتلئ به الجو، ويستطيع الناس جميعا أن يتنفسوه، وجعل العلم شيئا كهذا الماء الذي يفيض به النيل، ويستطيع الناس جميعا أن يشربوه، وقد يكون الهواء نقيا، وقد تكدره رمال الصحراء؛ فالناس يتنفسونه على كل حال ... وقد يكون الماء صفوا، وقد تشوبه الجراثيم؛ فالناس يشربونه على كل حال، وقد يكون الطعام كثيرا، وقد يكون قليلا، وقد يكون صالحا، وقد يكون رديئا؛ فالناس يأكلونه على كل حال؛ لأنهم لا يريدون أن يموتوا مختنقين، ولا أن يموتوا ظامئين، ولا أن يموتوا جائعين، وقد تكون المدرسة واسعة، وقد تكون ضيقة، وقد يكون الأستاذ ممتازا، وقد يكون معتدل الحظ من الامتياز، وقد يكون الكتاب ميسرا، وقد يكون معسرا، ولكن الناس يتعلمون على كل حال؛ لأنهم لا يريدون أن يعيشوا جاهلين، ومكان وزارة المعارف في مصر كمكان وزارة التموين. فما رأي جحا التركي إن قيل له: إن في مصر طعاما يكفي لتغذية نصف المصريين، وأن نصفهم الآخر يموت جوعا.
وما رأي جحا التركي إن قيل لوزارة التموين إن في مصر كساء يكفي لنصف المصريين، فيجب أن يكتسي نصفهم، وأن يظل نصفهم الآخر ضاحيا عاريا. وما رأي وزير التموين إن قيل له مثل هذا الكلام؟ وما رأي البرلمان إن قال له وزير التموين مثل هذا الكلام، وأي النصفين من المصريين يستطيع أن يأكل، وأن يكتسي فيعيش، وأي النصفين من المصريين يحب أن يجوع، وأن يعرى فيموت. أما جحا التركي: فلن يرى بأسا في أن يأكل القادر على أن يشتري الطعام، ويكتسي القادر على أن يشتري الثياب، ويموت الذين لا يقدرون على أن يشتروا طعاما ولا ثيابا، وليس على أحد من ذلك بأس؛ فالله قد قسم الحظوظ بين الناس فجعل بعضهم غنيا يستطيع أن يشتري الغذاء والكساء، وجعل بعضهم معدما لا يستطيع أن يجد غذاء ولا كساء.
ولكن وزارة التموين لا تذهب لحسن الحظ هذا المذهب الآثم، وإنما تفعل ما تستطيع؛ ليجد الفقراء والأغنياء ما يقيم الأود، ويستر الجسم، وهي تغذو الأعداد الضخمة بالقليل من الطعام، وتكسو الأعداد الضخمة بالقليل من الثياب؛ توفق أحيانا، ويخطئها التوفيق أحيانا أخرى، والفرق بين جحا المصري وجحا التركي بسيط جدا، فجحا المصري لا يفرق بين العلم والطعام، وجحا التركي يرى أن من حق الناس أن يأكلوا ويشربوا ويعيشوا، وألا بأس عليهم من أن يجهلوا، ويخضعوا لآفات الجهل فيمتاز بعضهم من بعض، ويتفوق بعضهم بعضا، ويصبح بعضهم لبعض عبيدا وتبعا.
وقد نشأ المصريون على ألوان من العقائد يحدثهم بها جحا المصري مصبحا وممسيا؛ فهو يحدثهم بأن النبي
صلى الله عليه وسلم
قد أطعم الأعداد الضخمة من أصحابه حتى أشبعهم بالقليل الضئيل من الطعام الذي لم يكن يكفي إلا لتغذية الرجلين أو الثلاثة، وهو يحدثهم بأن الله قد أنزل على عيسى مائدة من السماء كانت عيدا لأولهم وآخرهم، وهو يحدثهم بأن في ألف ليلة وليلة أوزا لا كالأوز، ودجاجا لا كالدجاج تؤكل الواحدة منها حتى لا يبقى إلا عظمها، قد جرد من كل ما كان عليه من اللحم، ثم يجمع هذا العظم في طبق من الأطباق، ويقال له كلام فينتفض بقدرة الله، ويعود كهيأته قبل أن يؤكل أوزا ودجاجا يستطيع أن يجد فيه الجائع شبعا ولذة، فمصدر هذا كله أن جحا المصري يؤمن بالبركة من جهة، ويؤمن بالعدل من جهة أخرى، ويرى من أجل ذلك أن القليل يجب أن يكفي الكثير، وأن الناس كلهم لآدم، وأن آدم من تراب، وأنهم جميعا من أجل ذلك سواء في الحقوق والواجبات يجب أن يأكلوا ويشربوا ويتنفسوا ويتعلموا، لا يمتاز بعضهم من بعض إلا بالتقوى، والأعمال الصالحات التي هي خير عند ربك ثوابا، وخير مردا.
فأنت ترى فرقا بين التعليم الذي يعلمه جحا المصري للمصريين، والتعليم الذي يلقيه إليهم جحا التركي من مدرسته تلك في جمبولاد، وقد أراد الله أن يفهم المصريون لغة المصريين، وألا يفهم لغة التركي منهم إلا أفراد قليلون، وهم من أجل ذلك لا يشبهون التعليم بأوز جحا التركي، وإنما يشبهونه بهذه المائدة التي أنزلها الله من السماء فكانت عيدا للناس أولهم وآخرهم، وبهذا الطعام القليل الضئيل الذي أشبع منه النبي
صلى الله عليه وسلم
Shafi da ba'a sani ba
مئات من صحابه ثم تركه كاملا موفورا، وبهذا الأوز الذي تحدثني عنه ألف ليلة وليلة بأنه ينفد ليتجدد، ويفني ليبقى، ويموت ليحيا.
وهم يريدون من علمائهم، وأدبائهم، ووزرائهم، وشيوخهم، ونوابهم، وقادة الرأي فيهم أن يؤمنوا مثلهم بهذه الآيات، وألا ييأسوا من روح الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
وهم يريدون من علمائهم، وأدبائهم، وقادة الرأي فيهم أن يعرضوا عن هذا الهزل إلى الجد، وعن الباطل إلى الحق، وأن يعلموا المصريين ما وجدوا إلى تعليمهم سبيلا في المدارس الواسعة، وفي المدارس الضيقة، وفي الهواء الطلق على الكراسي الوثيرة، وعلى الكراسي الخشنة، وعلى الحصر، وعلى الأرض العراء؛ لأنهم يرون الجهل حريقا يلتهم النفوس والقلوب، ويجب أن يطفأ مهما تكن الوسائل التي تتخذ لإطفائه.
وهم يريدون من علمائهم، وأدبائهم، وقادة الرأي فيهم أن يقولوا للدولة: أنفقي، وأنفقي عن سعة، فإن لم تتح لك الميزانية ما تريدينه فافرضي الضرائب في غير تردد، وفي غير مهل، وعلمي حتى لا يبقى في مصر جاهل ولا غافل، ولا معرض للاستغلال مهما يكن المستغل، والاستذلال مهما يكن المستذل، والتسلط مهما يكن المتسلطون، وإنه لمن المؤلم المؤذي حقا أن يحتاج المصريون إلى أن يقولوا هذا للعلماء، والأدباء، وقادة الرأي.
وقد مرت على المصريين أيام كانوا يساقون إلى المدارس بقوة السلطان، ويدفعون إليها دفعا بالإكراه، ويفرون بأبنائهم من التعليم. فقد انعكست الآية، وتغيرت الأيام، وأصبح الجاهلون يطلبون العلم فيردهم عنه العلماء، فإذا ألحوا في ذلك سيقت إليهم أحاديث الأوز، وقصت عليهم قصص جحا، وعبثه في جمبولاد.
كلا أيها السادة، يجب أن يخلص العلماء للعلم، وأول مراتب الإخلاص له أن ينشروه بكل وسيلة، وأن يذيعوه من كل سبيل، وألا يكونوا كهذا البخيل الذي يقول فيه بشار:
وللبخيل على أمواله علل
زرق العيون عليها أوجه سود
قسوة
في مصر ظاهرة غريبة لست أدري أتوجد في غيرها من البلاد أم لا توجد؟ وأكبر الظن أنها ظاهرة طبيعية في البلاد التي لم يتم تطورها بعد، ولم تتحضر قلوب فريق من أبنائها تحضرا صحيحا، وإنما اتخذت من الحضارة غشاء رقيقا يخفي وراءه جاهلية جهلاء، وقسوة قاسية منكرة، وهذه الظاهرة هي قسوة الذين لهم باللين عهد حديث، وغلظة الذين أدركتهم النعمة بعد أن ذاقوا ألم الشقاء، وبلوا مرارة البؤس والحرمان.
Shafi da ba'a sani ba
ينشأ أحدهم كما تنشأ الكثرة الضخمة من الشعب المصري في أسرة شقية بائسة أو في أسرة متوسطة متواضعة، فيتكلف أهله ما يتكلفون من الجهد، ويحتمل أبواه ما يحتملان من المشقة والعناء؛ ليرفعاه إلى حال خير من حالهما، ولينزلاه منزلة أرقى من منزلتهما، وفيه هو ما في الكثرة الضخمة من الشعب المصري من هذا الذكاء الحاد، والعقل الخصب، والطموح إلى الخير، والقدرة على الجد، فما يزال الأبوان يكدحان ويشقيان، وما يزال هو يكد ويجد، وما يزال التعاون بين كدح الأسرة وجد الفتى الناشئ يؤتي ثمره قليلا قليلا، حتى يبلغ الفتى بعض ما أرادت له الأسرة أو كل ما أرادت له الأسرة، وبعض ما أراد لنفسه أو كل ما أراد لنفسه، وإن كانت حاجة من عاش لا تنقضي كما يقول الشاعر القديم، وإذا صاحبنا فتى موفق موفور قد بلغ من لين الحياة وخفض العيش ما لم تبلغ أسرته؛ فعلم وكانت أسرته جاهلة، ونعم وكانت أسرته بائسة، وابتسم وكانت أسرته عابسة، واستقبل الحياة في رجاء كثير وأمل واسع، فجعل لا يرقى إلى درجة إلا طمع في أن يرقى إلى درجة أعلى منها، وجعل لا يظفر بخير إلا حرص على أن يبلغ خيرا أكثر منه، وأصبحت الحياة بالقياس إليه ميدان سباق إلى التفوق لا ميدان جهاد لكسب القوت.
هنالك يتنكر لماضيه القريب، وينسى تلك الدموع التي سكبتها الأمهات في كثير من مواطن البؤس والشقاء، وذلك العرق الذي سكبه في كثير من مواطن الجد والعمل، وتلك المواقف الحرجة التي وقفتها الأسرة في كثير من مواطن الأزمة والضيق، والتي كانت ترده عن المدرسة؛ لأن الأسرة لم تكن تملك المصروفات، وكادت تضطره إلى الجهل والخمول؛ لأن الأسرة لم تكن تجد ما تنفق على نفسها فضلا عن أن تجد ما تنفق عليه، ولكن الأم نزلت عن آخر ما بقي لها من الحلي أو استغنت عن بعض ما في بيتها من المتاع، ولكن الأب ضاعف الجهد، ووصل الليل بالنهار في العمل، وأراق ماء وجهه عند فلان أو فلان يقترض منه مقدارا ضئيلا أو ضخما من المال، واستطاعت الأسرة بفضل هذا الشقاء المتصل، والعذاب الأليم أن تحل الأزمة، وتخرج من الحرج، وتؤدي المصروفات، وتقوم له بما يحتاج إليه ليمضي في درسه وادعا مطمئنا ناعم العين رضي البال، ولعل الأسرة لم تتعرض لهذا الحرج مرة واحدة ولا مرتين، وإنما تعرضت له مرات ومرات حتى أتم الفتى درسه، وبلغ ما أرادت له الأسرة، وما أراده هو لنفسه.
ينسى هذا كله نسيانا يسيرا سهلا؛ ينساه بالقياس إلى نفسه فيحسب أنه قد نشأ في النعمة والرخاء، وأن ليس له بالضنك والضيق عهد، وينساه بالقياس إلى أسرته فيحسب أنها لم تقدم إليه شيئا؛ لم تشق ليسعد، ولم تكد ليستريح بالنعيم. ثم هو ينساه بالقياس إلى الجيل الناشئ؛ فلا يفكر في أن بين هؤلاء الأطفال والصبية الذين يبسمون فتبتسم الحياة، والذين يمرحون فيشيع من حولهم الرضى والغبطة مئات ومئات، إنما يشتقون ابتساماتهم هذه الحلوة من عبوس الآباء والأمهات، وإنما يشتقون ضحكهم هذا المرح من حزن الآباء والأمهات كما كان هو يشتق ابتسامه ومرحه من عبوس أبويه، وحزنهما في العهد القديم.
ينسى هذا كله نسيانا، ويجهله جهلا، وتمحوه الحياة من قلبه محوا قاسيا؛ فإذا هو يرى الناس كلهم ناعمين كما ينعم، راضين كما يرضى، قادرين على الإنفاق كما هو يقدر على الإنفاق، ليس عليهم إلا أن يريدوا ليظفروا، وليس عليهم إلا أن يضعوا أيديهم في جيوبهم ليجدوا ما يحتاج إليه أبناؤهم من هذه النفقات التي تزداد كلما تقدمت الأيام. يرى نفسه موفورا فيحسب الناس كلهم موفورين، ويجد نفسه سعيدا فيحسب الناس كلهم سعداء.
وهو من هنا قاس أشد القسوة، عنيف أشد العنف، ينظر إلى الرحمة على أنها خور في الطبيعة كما كان يراها وزير عربي قديم، وينظر إلى العدل على أنه قوة في يد الدولة ترفع بها من تشاء إلى حيث تشاء، وتخفض بها من تشاء إلى حيث تشاء.
ثم ينظر إلى الحياة على أنها جهاد لا ينال خيرها إلا بالكد والجد والعناء كما يتصور هو الكد والجد والعناء، وهو على ذلك صورة عابسة لدولة عابسة لا شر فيها ولا رضى، ولا رفق فيها ولا ابتسام، إنما هي القسوة المنكرة، والعنف المسلط على الرءوس والنفوس، وعلى كل شيء من حوله حتى تستحيل الحياة جحيما أو شيئا يشبه الجحيم.
وأنت تستطيع أن تنظر في حياتنا العامة على اختلاف فروعها فسترى كبارا يقسون على صغار؛ لأنهم نسوا أنفسهم أو قل نسوا ماضيهم، ولم يذكروا أنهم كانوا صغارا، وأنهم شقوا بهذه القسوة من كبار الجيل الماضي، وأن الحق عليهم لأنفسهم وللناس أن يمحوا هذا الشقاء، ويجنبوا الناشئ ما شقي به الجيل الماضي لا أن يثأروا لأنفسهم من الأبرياء؛ فكثير من هؤلاء الكبار القساة إنما يصطنعون القسوة متأثرين بشعور عميق خفي هو شعور الحاجة إلى التشفي والانتقام؛ لكثرة ما ذاقوا من الشدة والجهد حين كانوا صغارا.
وشر من هؤلاء قوم قست عليهم الحياة، ورفقت بهم الدولة؛ فأعانت أسرهم على تربيتهم وتعليمهم، ومكنتهم من أن يتموا الدرس على أحسن وجه، ويتقلبوا في المناصب حتى تصير إليهم الأمور، وإذا هم ينسون في وقت واحد قسوة الحياة عليهم فيقسون على الناس، ورفق الدولة بهم فلا يرفقون بأحد. أخذوا لأنفسهم ما استطاعوا من لين الحياة، وهم يأخذون لأنفسهم وسيأخذون لأنفسهم ما يستطيعون من لين الحياة، ولكنهم لا يعطون شيئا، لا من ذات أيديهم، ولا مما في يد الدولة؛ لأنهم إنما نعموا بالحياة، وينعمون بها من حيث إنهم ممتازون قد اشتقوا من عناصر ممتازة، وهم ليسوا كغيرهم من الناس، ولا ينبغي أن يشبه بهم الناس من قريب أو بعيد، وصدق الله العظيم في قوله الكريم:
ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين .
كل هذه الخواطر الحزينة الشاحبة التي تملأ النفس بؤسا وحزنا ومرارة، وإنما تخطر لي في هذه الأيام حين تنتهي إجازة الصيف، ويستقبل الناس العام الدراسي الجديد. من شأن هذه الأيام أن تكون أيام ابتهاج حلو، واكتئاب هادئ لا مرارة فيه. من شأنها أن تكون أيام ابتهاج؛ لأن الأطفال، والصبية، والفتيان يستقبلون عامهم الدراسي الجديد الذي سيملؤه النشاط الخصب فتنمو عقولهم وأخلاقهم وأجسامهم، ويخطون إلى الرجولة خطوات مباركة ترقبها الأسر سعيدة مبتهجة.
Shafi da ba'a sani ba
ومن شأن هذه الأيام أن تكون أيام اكتئاب هادئ لا مرارة فيه؛ لأن الأطفال، والصبية ، والفتيان سيفارقون الأسر إلى حيث معاهدهم العلمية، فتحزن الأسر شيئا، ولكنه حزن باسم إن صح أن يبتسم الحزن، ويحزن التلاميذ والطلاب شيئا، ولكنه حزن قصير رقيق لا يلبث أن تمحوه حياة الدرس، ولكن هذه الأيام عندنا ليست أيام ابتهاج باسم، واكتئاب هادئ، وإنما هي أيام الحزن الممض والشقاء الملح، والعذاب الأليم، والصراع بين القدرة والعجز وبين الأمل واليأس وبين القوة والضعف، وهي الأيام التي يجب أن يشقى فيها الآباء والأمهات ليجدوا لأبنائهم ما ينفقون، وليؤدوا عنهم أجور التعليم، وأجور التعليم في مصر ليست سهلة ولا يسيرة، وإنما هي أجور ثقيلة عسيرة قد فرضت على أساس أن الأمة غنية أو أن التعليم حق للأغنياء دون غيرهم من الناس، وأين يجد الآباء ما يحتاج إليه أبناؤهم من نفقة يعيشون بها في عاصمة الدولة أو في عواصم الأقاليم، وأين يجد الآباء ما يؤدون إلى وزارة المعارف أو إلى الجامعة ليتعلم أبناؤهم. يجب إذن أن تنزل الأمهات عما بقي لهن من حلي، وعن بعض ما في بيوتهن من متاع، ويجب أن يريق الآباء بعض ما في وجوههم من ماء؛ ليقترضوا من هنا وهناك ما يعينهم على تعليم أبنائهم.
ما أروع نظامنا الاجتماعي في تكدير الحياة، ومن حقها أن تصفو، وفي تنغيص العيش، ومن حقه أن يكون حلوا رقيقا.
إن الطالب الأوروبي ينفق أكثر أيام الطلب لا يكلف أهله شيئا من نفقات التعليم؛ لأن الدولة تعلمه بلا أجر، فإذا أتم تعليمه الثانوي، وأراد الاتصال بالجامعة فهو في بعض البلاد لا يكلف أهله شيئا؛ لأن الدولة تعلمه في الجامعة بغير أجر، وهو في بعض البلاد الأخرى لا يكلف أهله شيئا يذكر؛ لأن الجامعة تأخذ منه أجرا صوريا. فليعلم المصريون أن مصروفات التعليم في كليات الآداب والعلوم في فرنسا مثلا لا تزيد على سبعين قرشا مصريا في العام، أي أنها لا تبلغ ما يدفعه الطلاب عندنا رسما للمكتبة والاتحاد، فأما مصروفات التعليم عندنا فيعرفها الآباء الذين يسعون، ويعرفها الأمهات اللائي ينزلن عما لهن من حلي أو عن بعض ما في بيوتهن من متاع، ويعرفها رجال وزارة المعارف ورجال الجامعتين الذين تعلمت كثرتهم الكثيرة على حساب الدولة بالمجانية في مصر وفي أوروبا؛ لأن الدولة كانت محتاجة إلى المتعلمين ثم هم الآن يقاومون المجانية ما وجدوا إلى مقاومتها سبيلا، ويحتالون في التخلص منها، يسلكون إلى ذلك الطرق الملتوية إذا لم يستطيعوا أن يسلكوا إليها الطرق المستقيمة. يرفعون نفقات الطعام والكتاب، ويحسبون أنهم يحتفظون بالمجانية.
ويحكم أيها الناس، ومن أين لغير الأغنياء بأثمان الطعام والكتاب التي تطلبونها، لا تنظروا إلى أنفسكم الآن، ولكن انظروا إلى أنفسكم حين كنتم صبية وأطفالا وفتيانا، واذكروا كيف كانت أسركم تشقى بدفع المصروفات، وكيف كانت أسركم تسعد أن أتيحت لكم المجانية، واجتهدوا في أن تجنبوا أسر هذا الجيل ما احتملت أسركم من شقاء، واجتهدوا في أن تتيحوا لأسر هذا الجيل ما أتيح لأسركم من السعادة حين ظفرتم بالمجانية، واحذروا أن تكونوا من الذين قال الله فيهم:
ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون .
اللهم اشهد أني ما ذهبت قط إلى الجامعة أو إلى وزارة المعارف إلا كانت هذه القصة ملء قلبي، وإلا ذكرت أني كنت سعيدا حين تعلمت على حساب الدولة، فمن الحق علي أن أتيح بعض هذه السعادة لأكبر عدد ممكن من شباب مصر، ولو استطعت لأتحتها لهم جميعا.
ومن يدري فما لم نستطعه أمس قد نستطيعه غدا، ولا بد من أن يبلغ الكتاب أجله، ولا بد لمصر من أن تظفر بحقها من العدل في يوم من الأيام.
ثعلب
لو رأيته قبل عشرين سنة يا سيدتي لما أنكرت منظره هذا الغريب، حين رأيته يقبل متدحرجا كأنه البرمة الهائلة، لم ترتفع في الجو كثيرا، ولكنها اتسعت عن يمين وشمال، وامتدت من خلف وأمام، وهي تسعى مع ذلك خفيفة لا تكاد الأرض تحس لها ثقلا؛ لأنها اتخذت من لحم وعظم، ولم تتخذ من حجر وصخر.
لو رأيته قبل عشرين سنة يا سيدتي لما أنكرت منظره هذا الغريب حين أقبل فحيا ، ثم تقدم يسعى حتى إذا بلغ مكانه جلس، وكأنه الكثيب المنهال، فكان الناظر إليه يسأل نفسه لأول وهلة أيرى إنسانا جالسا أم يرى كومة من الرمل، قد استخفى فيها شخص ضئيل لا يكاد يظهر منه إلا تقاطيع وجهه ضئيلة غائرة خليقة ألا ترى. لولا هذا الصوت الذي يخرج منها ضئيلا نحيلا، ولولا هذا الشرر الذي يتطاير من عينين صغيرتين لا تفتح عنهما الجفون إلا في بطء بطئ وثقل ثقيل كأنما تشد بخيط قد ركب في قفاه، وقام شخص من ورائه يجذبه متكلفا بين حين وحين.
Shafi da ba'a sani ba
فلم تكن هذه حاله قبل 20 سنة، وإنما كان فتى نحيفا ضعيفا ونحيلا ضئيلا رشيق الحركة كثير الاضطراب لا يعرف السعي الهادئ، ولا المشي المطمئن، وإنما كان يجري على الأرض أو كان يجري فوق الأرض، كأنه شيء من هذه الحيوانات الصغيرة الخفيفة التي ملئت نشاطا وقوة وحياة، والتي تريد أن تطير في الجو لولا أن الله لم يرزقها جناحين.
ولم تكن هذه حاله إذا انتقل من حيز إلى حيز فحسب، وإنما كانت هذه حاله أيضا إذا استقر في مكان، وأقبل على عمل من الأعمال. فقد كان متحركا دائما مضطربا دائما، لا تكاد العين تلحظه إلا رأت شيئا من شخصه يتحرك فوجهه ملتفت مرة إلى يمين ومرة إلى شمال، ورأسه يرتفع حينا أو ينخفض حينا آخر، ويداه تذهبان وتجيئان، ورجلاه تداعبان الأرض مداعبة متصلة، ولسانه لا يكاد يستقر في فمه، وإنما هو متحرك دائما ببعض القول، ولم يكن شخصه المعنوي أقل حركة واضطرابا من شخصه المادي؛ فقد كان عقله مفكرا دائما، وكان قلبه متوثبا دائما، وكان انطلاق لسانه في فمه مصورا دائما لهذا العقل الذي لا يني في التفكير، ولهذا القلب الذي لا يفتر عن الشعور، وكان على هذا كله، ولهذا كله، ومع هذا كله لا أدري، متوقد الذهن حاد الذكاء، لا تعرض له مسألة من المسائل إلا سبق أترابه إلى تعمقها، والنفوذ إلى دقائقها، واستخراج ما كان يمكن أن يستخرج منها، وكان على ذلك أو لذلك أو مع ذلك لا أدري، ماكرا شديد المكر عابثا غاليا في العبث، حتى أحبه أترابه أشد الحب، وخافوه أعظم الخوف، أحبوه لذكائه وخفته، وخافوه لتفوقه ولحيلته هذه الواسعة، وعبثه هذا المتصل، ودعابته هذه التي لا تنقضي.
وكانوا يسمونه فيما بينهم الثعلب، وربما بهرهم مكره، وتعاظمتهم حيلته الواسعة فسموه الثعلبان. يرون في هذه الصيغة خطأ أو صوابا مبالغة فيما يريدون أن يخلعوا عليه من صفات الثعلب من الخفة والرشاقة، ومن المكر والدهاء.
ولم يكن أترابه من التلاميذ وحدهم هم الذين يعجبون به، ويعجبون منه، وإنما كان أساتذته كذلك يكبرون ذكاءه، ويقدرون نشاطه، ويرضون عن جده في الدرس، واجتهاده في التحصيل وإسراعه إلى الإجابة كلما ألقي سؤال، وتفوقه في الامتحان مهما يكن عسيرا، وهم من أجل ذلك كانوا يرعونه، ويتعهدونه بالسؤال عنه، والتشجيع له، والتتبع لتقدمه في الدرس حتى كأنه كان ابنا لكل واحد منهم، وكان إعجاب رفاقه به، ورعاية أساتذته له يشعرانه الرضى عن نفسه، والثقة بها، ويملآن قلبه أملا حلوا في مستقبل باسم سعيد، وكان مع ذلك من أسرة متواضعة أشد التواضع، ضيقة الحال أشد الضيق، تجد الجهد كل الجهد في كسب القوت فضلا عما تحتاج إليه من مرافق الحياة، وكان الصبي يرى ذلك، ويشقى بآثاره، ولكنه لم يكن يحفل به كثيرا؛ لأنه كان راضيا عن نفسه وأثقالها، مطمئنا إلى أمله الباسم الحلو، ومستقبله الرضي السعيد، وقد أتم الدرس الابتدائي، وهم أهله أن يصرفوه عن التعليم؛ ليوجهوه إلى بعض العمل لعله يعينهم على بعض ما يلقونه من البؤس، ويشقون به من الضيق، ولكن الصبي بكى، وأغرق في البكاء حتى رقت له أمه، ورثي له أبواه، وتكلفت الأسرة ما تكلفت فجد الأب في الكسب، وخرجت الأم عما بقي لها من حلية، وتوسط بعض أساتذته في إعفائه من أجر التعليم فظفر بالمجانية، ومرق من التعليم الثانوي كما يمرق السهم من الرمية لم تعرض له عقبة إلا ذللها، ولا صعوبة إلا قهرها، لم يعرف الرسوب في الامتحان، ولم يعرف التخلف عن الأقران، وإنما كان السابق المتفوق دائما حتى إذا انقضت تلك الأعوام الثلاثة التي كان التلاميذ ينفقونها في التعليم الثانوي كان الفتى قد جمع شهادتين من شهادات الحكومة كما كان أبوه يقول لأمه إذا خلا إليها، وكما كانت أمه تقول لصاحباتها إذا تحدثت إليهن.
وكان أبوه حريصا أشد الحرص على أن يضاعف الجد والكد، وكانت أمه شديدة الحرص على أن تلتمس عملا كريما في أسرة كريمة ليستطيع الفتى أن يمضى في درسه حتى يظفر بالشهادة الثالثة، وإنما هي أعوام تنفق في هذه المدرسة أو تلك من المدارس العليا؛ ليصبح الفتى رجلا متفوقا ممتازا يستطيع أن يطمح إلى مناصب المتفوقين الممتازين بين رجال الدولة الذين يحلون ويعقدون، وينقضون ويبرمون، ولكن لله في خلقه حكمة بالغة لا يعرف كنهها، ولا تدرك أسرارها، فلم يكد يتقدم الصيف في ذلك العام حتى اعتل أبو الفتى أياما، ثم تقطعت به أسباب الحياة وأسباب الأمل جميعا ففارق هذه الدار، ولم ينعم بما كان يتمنى به من ظفر ابنه بالشهادة الثالثة، واشتغاله بخدمة الحكومة في منصب من هذه المناصب الممتازة التي لا يظفر بها إلا المتفوقون الممتازون، ولم ير الفتى بدا من أن يتلمس العمل ليحيا، ولتحيا أمه، وفي الشهادة الثانوية مقنع للشاب الذي يريد عملا متوسطا، بل في الشهادة الابتدائية مقنع في ذلك الوقت للصبي الذي يريد عملا متواضعا، وما هي إلا أن يسعى الفتى، ويعينه بعض أساتذته في هذا السعي، وإذا هو يظفر بمنصب متوسط في بعض الدواوين، وقد ضمن لأمه ولنفسه الغذاء والكساء كما يقال في هذه الأيام، ولكن الفتى حول يحسن مقارعة الدهر لا يسد عليه مسلك من مسالك الحياة إلا فتح له مسلك آخر من مسالكها كما يقول الشاعر القديم، والتعليم في ذلك الوقت ميسر أكثر مما هو في هذه الأيام لقلة المتعلمين، وشدة الحاجة إليهم. فما يمنع صاحبنا أن يختلف إلى الديوان وجه النهار، وإلى مدرسة المعلمين آخره، وقد فعل، وما هي إلا أعوام حتى يبشر أمه أنه قد نال الشهادة الثالثة، وإذا علمه يتغير، وأجره يرتفع، وإذا هو لا يقنع لأمه ونفسه بالغذاء والكساء، وإنما يضيف إليهما شيئا من طيبات الحياة، وقد جعل رضى الفتى عن نفسه يشتد، وجعلت ثقة الفتى بنفسه تزداد، وجعل الأمل يهدي إليه ابتسامات فيها شيء من سعة، وجعل المستقبل يدعوه بإشارات فيها شيء من إلحاح، وقد سأل الفتى نفسه ما الذي يمنعه من أن يختلف إلى عمله وجه النهار، وإلى مدرسة الحقوق آخره، وما الذي يرغبه عن ذلك، وليس له أرب في هذه الحياة الفارغة التي يحياها أترابه من الشبان إذا تقدم النهار، وقد فعل، وما هي إلا أعوام حتى يقبل الفتى سعيدا محبورا فينبئ أمه بأنه قد ظفر بالشهادة الرابعة، والشيخة راضية؛ لأن ابنها يرقى ويرقى، ويكدس الشهادات لنفسه تكديسا، والشيخة محزونة؛ لأن زوجها لا يشاركها في هذا الرضى، ولا يشاطرها هذا النعيم، والفتى مقبل على أيامه ينتهبها انتهابا، وقد زاد رضاه عن نفسه، وثقته بها، وقد زاد ابتسام الأمل له سعة، واشتد دعاء المستقبل عليه إلحاحا، وهو يسأل نفسه لم لا يظفر بشهادة خامسة، وبشر أمه ذات يوم بأنه قد ظفر بهذه الشهادة الخامسة، ولكنه أنبأها في الوقت نفسه بنبأ مزق قلبها تمزيقا، وأجرى دموعها على خديها غزارا. فقد عرفت له الدولة نبوغه، وقدرت تفوقه، ورأت أن الشهادة السادسة يجب أن تضاف إلى الشهادات الخمس، وأن هذه الشهادة السادسة لا تطلب من مصر، وإنما هي بعيدة، بعيدة، يعبر لها البحر، وتطلب من بلاد الإنجليز، ولم يكن الفتى أقل من الدولة اعترافا بنبوغه، ولا إقرارا بحقه في الظفر بالشهادة السادسة، والعلم يطلب ولو في الصين، والشهادات تطلب ولو في بلاد الإنجليز، ولا يتقدم الصيف حتى يكون الثعلب قد هيأ نفسه للرحلة البعيدة، والغياب الطويل، وقد غاب ما غاب، ثم آب ومعه الشهادة السادسة والشهادة السابعة، وإذا هو رجل مرموق لا يذكر إلا أكبره ذاكروه، ولا يرى إلا أشير إليه بالبنان؛ هذا فلان، أترى إلى فلان، إنه ذو الشهادات السبع.
وقد أكبرته الدولة، وعرفت له حقه وحق شهاداته هذه الكثيرة التي يمكن أن تبسط على جدار من جدران مكتبه فتكسوه كله بهذا الورق الجميل يملأ الثناء الجميل، وقد رضي الفتى عن نفسه كل الرضى، ووثق بها كل الثقة، ولكنه زهد في الشهادات كل الزهد، وأدركه شيء يشبه التخمة، فاتجه نشاطه اتجاها آخر ملائما كل الملائمة لطبيعة الحياة المصرية في ذلك الوقت.
فقد كانت الثورة المصرية قد غيرت أشياء كثيرة من أمور الناس، ومن أمور الحكم، ومن أمور المستقبل الذي يطمع فيه الشباب. نشأ نظام الأحزاب، ونشأ الصراع بين هذه الأحزاب.
ونشأت الفرص الكثيرة التي ينتهزها الأذكياء؛ ليستفيدوا من صراع الأحزاب، ونظر الثعلب ذات يوم فإذا الحياة المصرية كلها تلقي في نفسه أنه قد خلق للفوز، وأن الفوز قد خلق له؛ لأن الحياة المصرية لم تكن في وقت من الأوقات ملائمة لخفة الثعالب ورشاقتها وذكائها ونهمها منها في هذه الأيام، وما ينبغي لمن يريد الفوز في هذه العواصف العاصفة، وفي هذه المصالح المشتبكة، والخصومات المتصلة، والمنافع المعقدة إلا أن يكون فطنا، وصاحبنا شديد الفطنة، لبقا، وصاحبنا عظيم الحظ من اللباقة، خفيفا، وصاحبنا أخف من النسيم، ماكرا، وصاحبنا أمكر من المرأة، صامتا، وصاحبنا أشد صمتا من الصخرة الصماء.
وقد ينبغي أن يضيف المرء إلى هذه الخصال ليبلغ ما يجب من الفوز، خصلة أخرى تشتق من هذه الخصال جميعا، فيتلطف حتى يشعر الأحزاب جميعا بأنها جميعا محتاجة إليه، وحتى يشعر المرافق العامة جميعا بأنها كلها تستطيع أن تنتفع به، وحتى يشعر الساسة جميعا بأنه رجل فن لا رجل سياسة، وقد استطاع صاحبنا أن يبلغ من هذه الخصال كلها ما أراد.
فقد كان ثعلبا في المدرسة الابتدائية، وكان ثعلبا في المدرسة الثانوية، وكان ثعلبا في الدواوين التي اختلف إليها وجه النهار، وفي المدارس التي اختلف إليها آخره، وكان ثعلبا في بلاد الإنجليز، وعاد منها أشد إغراقا في خصال الثعلب، ومكنته شهاداته السبع من أن يتثعلب في فروع مختلفة من فروع العلم والمعرفة.
Shafi da ba'a sani ba
وإذا الأحزاب كلها عنه راضية، وبه معجبة، وإليه محتاجة، ولكنه فقد من خصال الثعلب خصلة واحدة هي التي حملتك يا سيدتي على أن تضحكي منه حين رأيته يقبل كأنه البرمة الضخمة، وحين رأيته يجلس فينهال كما ينهال الكثيب.
ذلك أن الأيام أحبته حبا شديدا، فأخذت لا يمر به يوم منها إلا خلع عليه قميصا من الشحم قد فصل على قده تفصيلا، وجعلت هذه الثياب الشحيمة تتراكم وتتراكب حتى مدته إلى يمين وإلى شمال، وزادته بسطة في الجسم من خلف ومن أمام، وجعلته كما ترين جبلا يتحرك في خفة، ويعمل في ذكاء.
قالت السيدة، وكانت أدبية أريبة، أرجو ألا يكون ثعلبك هذا الغليظ من ثعالب المتنبي التي يقول فيها:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمنا، وما تفنى العناقيد
شياطين البيان
صدقني يا سيدي أو لا تصدقني لن يغني هذا عن الحق شيئا، والحق الواقع، وهو أن هذه القصة ليست مخترعة، ولا مصطنعة، وليس للخيال فيها أثر قليل أو كثير، وإنما هي شيء وقع، كما أن من الأشياء الواقعة أني قد خرجت من داري حين ارتفع الضحى، فسعيت إليك متثاقلا أستمتع بهذا الجو الرائق، وبهذه الشمس الفاترة، وبهذا النسيم البارد الرقراق، وأدير في نفسي ما وقع لي من الأمر، واستعرض بعض الصور التي أريد أن أصطنعها لأقصه عليك، وأجيل في نفسي أيضا ما سيكون بينك وبيني من أخذ ورد مستنكرا علي حديثي، وسأحاول إقناعك بأنه صحيح، وسيشتد بينك وبيني خصام لا بد من أن يثور بيننا كلما حدثتك ببعض الأمر؛ لأنك رجل لا تؤمن إلا بما ترى وتحس، ولا تصدق من أنباء الناس إلا قليلا.
ولست أخفي عليك أني أعذرك ولا ألومك، فقصتي لا تخلو من غرابة، وآية ذلك أني أنا نفسي أنكرتها أشد الإنكار، وكنت واثقا كل الثقة بأني رأيتها فيما يرى النائم، وكنت أتحدث إلى نفسي بأنها حلم غريب، طريف، وكنت ألتمس العلة لهذا الحلم، وكنت أجدها في غير مشقة، وكنت أستمتع بحلمي، وأستمتع بما بذلت في تعليله من جهد، وأستمتع كذلك بما سأتحمل في تأويله من عناء، ولكن رأيتني حين تقدم الليل، وكاد ينهزم أمام النهار، واقفا أمام داري ألتمس المفتاح لأديره، فيفتح لي الباب، وأنسل إلى غرفتي في هدوء وخفة حتى لا يحس أهلي عودتي في آخر الليل، فلا أجد المفتاح، وقد تعودت ألا أخرج مع الليل إلا أخذت معي هذا المفتاح أوفر بذلك على أهلي حريتهم وراحتهم ونومهم، وأجنبهم بذلك أن يسهروا منتظرين عودتي أو أن يهبوا من نومهم حين أعود ليفتحوا لي الباب، ولكن المقادير أرادت أمس أن تجري الأمور على غير ما تعودت أن تجري عليه، فأنسيت المفتاح، وما أنسانيه إلا الشيطان، وسترى أن هذا لم يكن غريبا، فقد كانت المقادير قد قدرت أن تكون ليلتي هذه من قسمة الشياطين، والشيء الذي ليس فيه شك هو أني التمست المفتاح حيث تعودت أن أحفظه فلم أجده، فجعلت أفتش في جيوبي كلها وما أكثرها فلم أجده، وقد ضقت بذلك أشد الضيق، حسبت أول الأمر أني قد أضعته، ثم لم ألبث أن ذكرت أني خرجت مسرعا مع بعض الأصدقاء، وأعجلني الحديث فلم آت هذه الحركة اليسيرة التي انتزع بها المفتاح من مكانه، وأضعه في الجيب الذي تعودت أن أضعه فيه.
فلما تبينت ذلك غشيني من الهم ما غشيني، ووقفت واجما أول الأمر مترددا بعد ذلك. أأطرق الباب فأزعج من في الدار، أم أقوم مكاني حتى يسفر الصبح، ويهب النوام، أم أعود أدراجي فأطوف في شوارع الحي أتلهى بهذا التطواف عن الانتظار، وقد طال علي هذا التردد فتحولت عن مكاني، ولكني لم أخرج من الحديقة، وإنما جعلت أطوف حول الدار، وأردد في نفسي قول الشاعر القديم:
أدور ولولا أن أرى أم جعفر
Shafi da ba'a sani ba
بأبياتكم ما درت حيث أدور
ولم أكن أدور لأرى أم جعفر، وإنما كنت أدور مخافة أن أوقظ أم جعفر أو أزعجها، فيكون شر في هذه الدار التي لم تعرف الشر إلا قليلا.
ولست أحدثك بما كان حين انجلى الصبح، وأشرقت الشمس، وفتحت الأبواب، واندفعت إلى غرفتي، وأسرعت إلى مضجعي، والتمست الراحة فلم أظفر منها بشيء ثم نهضت مكدودا مجدودا، وأقبلت أسعى إليك، ولم أذق للنوم طعما في هذه الليلة الطويلة القصيرة التي امتلأت من الأمر بأشده غرابة، وأعظمه سخفا، ولولا قصة المفتاح هذه، لما شككت في أني رأيت حلما من هذه الأحلام الكثيرة التي تعبث بنفوس الناس حين يجن عليهم الليل، ولكنك ترى أني مستيقظ منذ أشرق الصباح أمس، ولعلك تذكر وما أظنك نسيت أننا قد قضينا شطرا من الليل عند صديقنا فلان نسمر حول أحاديث الجن والشياطين، وما تزعم العرب من الصلة التي تكون بينهم وبين الشعراء، والخطباء، والكتاب، والذين يتعرضون لألوان البيان، وقد قال قائل منا: إن العرب في جاهليتهم وإسلامهم لم يتحدثوا بما يكون بين الشياطين والخطباء والكتاب من صلات، وإنما زعموا أن الشياطين قد وكلوا بالشعراء خاصة حتى إذا كان ابن شهيد في الأندلس زعم لنا في قصته المشهورة التوابع والزوابع أن للخطباء والكتاب شياطين كما أن للشعراء شياطين، وقد قص علينا في رسالته تلك زيارته لوادي الجن، وما كان من حوار بينه وبين خطباء الجن وكتابهم أولئك الذين كانوا يلهمون خطباء الإنس وكتابهم، وسمى لنا شيطان عبد الحميد الكاتب، وشياطين غيره من أعلام البيان، وسمى لنا شياطين جماعة من خصومه ومنافسيه في الفن، وزعم لنا أنه خاصمهم فخصمهم، وناظرهم فتفوق عليهم، وقد أخذت بحظي من هذا السمر كما أخذتم بحظوظكم منه، فلما تفرقنا بقيت في نفسي هذه الأبيات التي ألقاها زهير بن نمير. ذلك الدليل الجني لابن شهيد في زياراته المتصلة لتلك الأندية التي كان يجتمع فيها شياطين البيان، ولعلك تذكر أن زهيرا ألقى أبياته هذه إلى صاحبه ابن شهيد، وجعلها آية بينه وبينه، فكلما احتاج ابن شهيد إلى صاحبه أنشد هذه الأبيات، فيسرع إليه زهير، ويجيبه من الأمر إلى ما يريد.
وقد جعلت أردد هذه الأبيات في نفسي، وأنا أمضي متباطئا إلى الدار، ثم لست أدري لماذا لم أكتف بإدارة هذه الأبيات في نفسي، وإنما جعلت أنشدها في صوت خافت لا يكاد يسمعه غيري:
وإلى زهير الحب يا عز إنه
إذا ذكرته الذاكرات أتاها
إذا جرت الأفواه يوما بذكرها
يخيل لي أني أقبل فاها
فأغشى ديار الذاكرين وإن نأت
أجارع من داري هوى لهواها
Shafi da ba'a sani ba
ولكني لم أكد أفرغ من إنشاد البيت الثالث حتى أحسست الرعدة تأخذني أخذا عنيفا كدت أهوى له إلى الأرض لولا أني تماسكت، ولولا أن ذراعا قوية عصمتني من السقوط. فقد سمعت صوتا غريبا نحيلا يأخذني من جميع أقطاري، وهو يقول لبيك لبيك هأنذا زهير بن نمير خليل شاعرك الأندلسي ابن شهيد في الزمان الأول، والدهر القديم. ولست أخفي عليك أني قد أنكرت من هذا الأمر مثل ما تنكر، ولم ترتسم على وجهي هذه الابتسامة الساخرة التي ترتسم على وجهك الآن، وإنما تقبض وجهي تقبضا شديدا، وجعل العرق البارد يبل جبهتي، وهم لساني أن يدور في فمي صائحا مستغيثا، ولكني أسمع الصوت النحيل يسعى إلي، وكلما دنا مني زال عنه نحوله، وجعل يمتلئ شيئا فشيئا، وجرت فيه نغمات عذبة، وهو يقول: لا بأس عليك لا ترع، واتل معي قول الله عز وجل:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، فقد تلا هذه الآية من قبلك جماعة من أمثالك العرب حين روعوا بمثل ما تروع به الآن من لقاء أصدقائهم من الجن.
وقد سمعني أتلو هذه الآية الكريمة مع صاحبي، ثم رأيتني أثوب إلى نفسي أو رأيت نفسي تثوب إلي، وإذا قلبي آمن كله، وإذا أنا هادئ هدوءا لا أكاد أعرفه من نفسي حين يفاجئها ما لا تنتظر، وإذا أنا أسعى مع صاحبي كما تعودت أن أسعى معك في غير وحشة ولا تكلف، كأنما كان بيني وبينه ود قديم قد بعد به العهد، وطال عليه الزمان، ويجب أن أعترف لك بأني أحسست في ذلك الوقت أن لي شخصين مختلفين؛ أحدهما: يساير صاحبي فيسمع منه، ويتحدث إليه، والآخر: عاكف على نفسه في ناحية من نواحي الضمير يرقب ويسمع ويرى، ويحاول التحليل والتعليل، ويزعم لي أن ما أنا فيه إنما هو لون من ألوان الحلم لا عرض من أعراض اليقظة، ولكني شغلت عن هذا الشخص الذي انتبذ ناحية من نواحي الضمير بهذا الرفيق الذي جعل يتحدث إلي بالأعاجيب.
فقد كان يقول لي: صدقني إن هذا العلم الذي أخذه قدماؤكم عن اليونان، وأخذه محدثوكم عن الأوروبيين قد أفسد عليكم شيئا كثيرا، وأشاع في نفوسكم فنا من الكبرياء والغرور حرمكم متاعا لا حد له. فأنتم تنكرون ما كان يعرفه قدماؤكم من معاشرة الجن، ومخالفة شياطين الفن، فإذا تحدث إليكم أبو العلاء بشيء من ذلك في رسالة الغفران، أو إذا تحدث إليكم ابن شهيد بشيء من ذلك في رسالة التوابع والزوابع لم تصدقوه، ولم تطمئنوا إليه، وإنما استمتعتم به في شيء من السخرية والتكذيب على أنه من آثار الخيال، وفن من فنون الصنعة، وما أبعد الفرق بين من يستمتع بالخيال المخترع، ومن يستمتع بالحق الواقع الذي لا شك فيه، وإنكم تنكرون المصادفة، وتردون كل شيء إلى ما تسمونه الأصول والقوانين، فردوا الأشياء إلى ما تريدون، ولكن اعترف بأن المصادفة وحدها هي التي أنطقتك بهذه الأبيات، فإذا أنا أستجيب لك مسرعا لأجدد معك ذلك العهد القديم الذي كان بيني وبين ابن شهيد شاعر الأندلس وخطيبها وكاتبها، وأنت من غير شك حريص كما حرص ابن شهيد على أن تفر من حياة الناس لحظات طوالا أو قصارا دون أن تقطع الصلة بينك وبينهم، وإنما تراهم في شياطينهم، أو ترى شياطينهم وهم يزينون ما سيملئون به قلوبهم، ويحركون به ألسنتهم، ويجرون به أقلامهم من ألوان القول.
وقد زرت ابن شهيد على ظهر جواد أصيل، أما أنت فقد ظهرت لك فجأة لم تدر أنجمت لك من الأرض أم هبطت عليك من السماء، وما أظنك تنكر من ذلك شيئا، فأنتم لا تتخذون الخيل الآن أداة للانتقال، وإنما تنتقلون في سياراتكم وطياراتكم وقطاراتكم هذه التي تخيلون إلى أنفسكم أنكم قد أحدثتم بها المعجزات، وابتكرتم بها الأعاجيب، وأظنك توافقني على أننا معشر الجن أقدر منكم على اختراع الطرائف، وابتكار الأعاجيب، وأين تقع طرائفكم وأعاجيبكم مما كنا نأتي به من الطرائف والأعاجيب في عهد سليمان عليه السلام، وإذا كنتم قد بلغتم ما بلغتم من المهارة والبراعة في عشرين قرنا فأحرى أن نبلغ نحن من المهارة والبراعة في هذا الأمد الطويل بالقياس إليكم، القصير بالقياس إلينا ما لا يخطر لكم على بال.
وما أريد أن أشق عليك، ولا أن أكلفك من الأمر ما لا تحب، وإنما أريد أن أزور معك ناديا من أنديتنا هذه التي يجتمع فيها شياطين البيان، وأن أظهرك عليهم حين يخلو بعضهم إلى بعض، وقد فارقوا قرناءهم من كتاب الإنس حين تقدم الليل، وآوى كتاب الإنس إلى مضاجعهم، وأقبل شياطينهم إلى ناديهم يجدون حينا، ويعبثون في أكثر الأحيان. وهممت أن أرد على صاحبي رجع حديثه، ولكني أراني في قصر فخم لا أدري أنقلت أنا إليه أم نقل هو إلي، ولكني أجد نفسي فيه دون أن أتكلف لذلك سعيا أو حركة، وأسمع صاحبي زهيرا يقول متضاحكا: قد يخيل إليك أن هذا النادي في ضاحية من ضواحي القاهرة كهذه الأندية التي تنبث حول مدينتكم هذه الصغيرة، ولكن لا تجزع نفسك فإن بينك وبين القاهرة آمادا لا تقطعها السيارات ولا الطيارات ولا القطارات، ولولا أني رفيق بك وفي لك لأظهرتك على بعض ما بينك وبين القاهرة من أمد، ولكن أخشى أن أروعك فأعد معي تلاوة الآية الكريمة:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب . وأنا أتلو معه الآية الكريمة، وأجد الطمأنينة والأمن، وأهم أن أتحدث إلى صاحبي، ولكنه يبتدرني بالحديث فيقول: تعلم أن هذا النادي الذي أنت فيه مقصور على شياطين البيان الذين يلوذون بأدبائكم أنتم المصريين دون غيرهم من الأدباء. فلن ترى في هذا القصر إلا قرينا لكاتب أو شاعر أو خطيب من هؤلاء الذين يملئون الجو في بلدكم فصاحة، وبلاغة، وبيانا.
فأي شيطان من هؤلاء الشياطين تحب أن ترى؟ ولأيهم تحب أن تسمع؟ ومع أيهم تحب أن تأخذ في الحديث؟ قلت: لا أدري فإني أعرف كتابنا وشعراءنا وخطباءنا؛ لكثرة ما أقرأ وأسمع من آثارهم، ولو خيرتني لاقترحت عليك أن تزور معي ناديا من أندية الشياطين الذين يوحون إلى جيل آخر من أجيال الأدباء، قال زهير: سبحان الله ما زلت بعد غارقا فيما يغرق أمثالك فيه من الوهم. إنك لا تعرف كاتبا، ولا شاعرا، ولا خطيبا حق المعرفة حتى ترى شيطانه، وتسمع منه؛ لأن ما يلقى إليكم من آثار الأدباء ليس إلا صدى ضئيلا لهذا الصوت الخصب الذي ينفث في القلوب، ويطلق الألسنة، ويجري الأقلام، وسترى بعد لحظات أنك لا تعرف من أمر أدبائكم إلا أيسره وأهونه شأنا فامض معي.
ولم نكد نخطو خطوات حتى دفعنا إلى بهو رحب بعيد الأرجاء تضطرب فيه ظلال غريبة ضئيلة، وهي تتصايح وتتصاخب، ويكاد بعضها يمزق بعضا لو أن الظلال يمكن أن تتمزق أو يدركها البلى.
وقد انفرد من بين هذه الظلال شخص غريب مرتفع في السماء ممتد في الفضاء كثير حركات الوجه كثير اضطراب الأعضاء لا يستقر في مكان، ولا يستقر لسانه في فمه، ولا تكاد أعضاؤه تستقر في مواضعها من جسمه، وإنما هو حركة متصلة، وصياح لا ينقطع، وقد حرص على ألا يدنو من الظلال الأخرى التي تضطرب في البهو فتملؤه دويا كدوي النحل، وإنما هو ممتاز منها دائما لا تكاد تدنو منه إلا نأى عنها، ولا تكاد تسعى إليه إلا ارتد في أنفة وكبرياء، وتجافى في غلظة منكرة.
Shafi da ba'a sani ba
قلت لصاحبي: زهير ما هذه الظلال؟ قال ضاحكا: هي جماعة من الشياطين لم تأخذ من الفن بحظ، ولكنها خدعت عن أنفسها، وملأها الغرور، فقامت في هذا البهو مضطربة صاخبة تريد أن تقتحم على شياطين الفن ناديهم فلا تبلغ من ذلك شيئا؛ لأنها ترد عن نادي الفن ردا عنيفا: وليس اضطرابها هذا الذي ترى، وليس عجيجها هذا الذي تسمع إلا مظهرا من مظاهر الغيظ، وفنا من فنون الحنق، وضربا من ضروب الإلحاح في قرع الأبواب لعلها أن تفتح لها. قلت: وما هذا الشخص الذي يمتاز من هذه الظلال فيأبى أن يدنو منها أو أن يخلط نفسه بها، ولا يؤذن له مع ذلك في أن يتجاوز هذا البهو، فهو يتحرك وكأنه ساكن، ويسعى وكأنه واقف، وينطق وكأنه صامت، ويصخب وكأنه لا يقول شيئا؟ قال: هذا مسيلمة الشياطين، أراد أن يكون شيطانا من شياطين الفن فلم يستطع إلا أن يكون ثرثارا مكثارا مهزارا لا حظ لقلبه من غناء، ولا حظ لعقله من علم، ولا حظ لضميره من حكمة، وإنما أتيح له حظ من قدرة على الاضطراب والصخب لم يتح لغيره من هذه الظلال، فهو ينأى عنها، ولا يستطيع أن يقطع ما بينه وبينها من الأسباب، وليس من شك في أنه يمتاز منها بعض الامتياز، ولكن ليس من شك في أن ما يراه لنفسه فنا، وما يحاول أن يلقيه إلى بعض من يتكثرون عندكم بالقول لا يعدو أن يكون كما يروى من قول مسيلمة الإنس: يا ضفدع بنت ضفدع، نقي ما تنقين أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين.
وهممت أن أتعجل صاحبي زيارة شياطين البيان، ولكن أراني في مكاني ذاك من الطريق إلى داري، وأسمع صاحبي زهيرا يقول لي في صوته النحيل الذي جعل ينأى عني شيئا فشيئا: حسبك من ليلتك هذه ما رأيت، فإن راقتك صحبتي، وشاقتك زيارة شياطين البيان، فأنشد ما كان ينشد شاعر الأندلس وكاتبها وخطيبها ابن شهيد:
وإلى زهير الحب يا عز إنه
إذا ذكرته الذاكرات أتاها
إذا جرت الأفواه يوما بذكرها
يخيل لي أني أقبل فاها
فأغشى ديار الذاكرين وإن نأت
أجارع من داري هوى لهواها
ثم أطرق صاحبي لحظة، ورفع إلي رأسه، وهو يقول في صوت هادئ منكسر: صدقني يا سيدي أو لا تصدقني فإن ذلك لا يغني عن الحق شيئا، والحق الواقع الذي لا شك فيه هو أني قد رأيت وسمعت كل ما أحدثك به الآن.
قلت متضاحكا: فلا تنشد هذا الشعر مرة أخرى وأنا معك، فإني لست في حاجة إلى أن أرى شيطانك الأندلسي. قال وهو يضحك ضحكا فيه كثير من السخرية: لا بأس عليك، فقد أنسيت أن أنبئك بأنه زعم لي أنه لن يستجيب لإنشاد هذا الشعر إلا إذا كان هذا الإنشاد بعد أن يتقدم الليل.
Shafi da ba'a sani ba
الطفل
لا تقولي إنه رد إلى الطفولة بعد أن قطع مراحل الصبا والشباب والكهولة، ولم يكد يخطو في مرحلة الشيخوخة إلا خطى قصارا، ولكن قولي يا سيدتي: إنه لم يخرج قط من طور الطفولة، ولم يكد يعرف من الأطوار الأخرى التي يعرفها الناس، والتي ذكرتها آنفا شيئا ما. فإنك إن قلت ذلك كان قولك أدنى إلى الحق، وكان رأيك أدنى إلى الصواب، واضحكي ما شئت أن تضحكي فلست أكره لك الجذل والابتهاج، ولكن الإنكار برفع الرأس وهز الكتفين لا يغير من الحق شيئا كما أن الإغراق في الضحك حتى تنهل الدموع من عينيك الجميلتين على خديك الأسيلين لن يحول الخطأ إلى صواب.
فأنت مخطئة يا سيدتي حين تظنين أنه رد إلى الطفولة قبل أن يبلغ الستين أو قبل أن يبلغ أرذل العمر، وصاحبنا بعيد كل البعد عن أرذل العمر. فالذين يغلون في تقدير سنه يقولون إنه قد قارب الستين، والذين يقتصدون في ذلك يقولون إنه لم يكد يتجاوز نصف القرن. أما هو فيخفي سنه، ولعله لا يعرف من أمرها شيئا فقليل من الأطفال، ومن أطفالنا المصريين خاصة، من يعرفون أسنانهم.
وأنا أعلم أن الجيل الجديد قد أخذ يقلد أجيال الغرب في الاحتفال بأعياد الميلاد، وأخذ الأطفال والصبية يعرفون أسنانهم في هذه الأيام بحكم هذا التقليد، ولكن صاحبنا ليس من صبية الجيل الجديد، وإنما هو من صبية جيل آخر قد مضى، ولم يكن الناس يعرفون فيه إلا مولد النبي
صلى الله عليه وسلم ، وموالد الأولياء والصالحين، وميلاد الخديو السابق. فأما عامة الناس فكانوا يجهلون الأيام التي ولدوا فيها فضلا عن أن يذكروها ذكرا منظما، وأن يحتفلوا بها في كل عام. وصاحبنا لم يولد في القاهرة، ولا في الإسكندرية، ولا في مدينة من هذه المدن التي يشتد فيها الاتصال بالأوروبيين، ويسهل فيها تبادل السنن والعادات، بل هو لم يولد في مدينة من مدن الأقاليم التي كان يكثر فيها اليونان الذين يشتغلون بالتجارة، ويلم بها الموظفون من الإنجليز أيام كان الموظفون من الإنجليز يطوفون في المدن؛ ليتعهدوا شئون الإدارة والري والتعليم، وإنما ولد صاحبنا في قرية صغيرة يسيرة من قرى الريف لا يكاد سكانها يتجاوزون بضع عشرة مائة، ولا تكاد هي تمتاز عن أمثالها من قرى الريف المصري في أواخر القرن الماضي، حين كان الحديث عن القاهرة والإسكندرية يملأ النفوس روعة وإعجابا كأنه الحديث عن الأساطير، وحين كانت المدن في الأقاليم لا تبلغ إلا على ظهور الإبل أو على ظهور الحمير، وحين كان الناس في القرى لا يحفلون بتسجيل أبنائهم وبناتهم حين يولدون، وإنما كانوا يتركون ذلك للداية تبلغه أو لا تبلغه إلى الحكومة، تذكره مرة وتنساه مرة أخرى، تهتم له مرة وتعرض عنه مرة أخرى، فليس غريبا أن يجهل صاحبنا سنه، وليس غريبا أن يجهل الناس معه هذه السن.
وأنت تنكرين أن يجتمع على الرجل الواحد هذان الشيئان المتناقضان، فيكون له جسم الشيخ، وتكون له كل الخصائص الظاهرة التي يمتاز بها الشيوخ، ثم يكون مع ذلك طفلا لم يمر بأطوار الصبا والشباب والكهولة، وهذا غريب من غير شك، ولكن من الذي قال: إن الغرائب لا توجد في هذه الحياة، ومن الذي يستطيع أن ينكر أن من الناس من تنمو أجسامهم نموا مطردا مألوفا، وتختلف عليها الأطوار المعروفة التي يمر الناس بها في حياتهم، ولكن نفوسهم تبقى مع ذلك محتفظة بطورها الأول قد انتهت إلى حد من النمو لم تستطع أن تتجاوزه إلى غيره من الأطوار.
وليس من شك في أن جسم صاحبنا قد نما وتطور كما ترين؛ فعليه من مظاهر الشيخوخة هذا الشعر الذي وخطه شيب، وهذه التجاعيد التي تظهر في جبهته، وهذه التجاعيد الأخرى التي تمتد حول أنفه من يمين ومن شمال، وهاتان العينان اللتان لا تنفرج عنهما الجفون إلا في شيء من الجهد، حتى يخيل إلى من يراه، وقد أغمض جفنيه وتحدث أو تحرك، أنه إنسان يحيا من وراء ستار ، وهاتان الشفتان المنفرجتان اللتان لا تجتمعان إلا في شيء من العناء، سواء تكلم صاحبنا أو لبث صامتا، وهذا التهدل والترهل في وجهه الضخم، وجسمه الذي يريد الشحم أن يكسوه فلا يستطيع، وهذه الحركات البطيئة المتكسرة والمتعسرة التي تخيل إلى من يراها أنها تصدر عن مجموعة عصبية قد شملها الفتور، وأخذ يشيع فيها الفناء، وهذا الصوت المحطم الذي لا يكاد السامع يسمعه حتى يستحضر إناء من الزجاج وإناء من الفخار قد أصابه شق يسير فهو لا يرسل الصوت إذا مس إلا حدثنا بهذا الانحطام، وهذا التنفس السريع الذي يتبع بعضه بعضا في غير أناة، كأنه تنفس المكدود المجهود، والذي يسمعه القريب من مصدره، والبعيد عنه كأنه يخرج من أنف قد كثرت فيه الأعشاب فهو لا ينفذ من بينها إلا نفوذا عسيرا.
كل هذه مظاهر تدل على أن صاحبنا قد كان طفلا وصبيا، وقد كان شابا وكهلا، وهو الآن شيخ يخضع لما يخضع له الشيوخ من أعراض الضعف والفناء، ولكن التحدث إليه والاستماع منه، والأخذ معه في فنون الحوار، كل ذلك يصور لنا صبيا كسلا لم يتجاوز طور الصبا، فهذا هو الذي قد خيل إليك يا سيدتي أنه رد إلى الطفولة قبل الأوان، ومصدر هذا أنك لم تعرفيه إلا منذ قت قصير، فأما أنا فقد عرفته منذ أعوام طوال لا أعدها لك؛ لأني لست في حاجة إلى أن تعرفي عددها، ولكني عرفته حين كنت شابا، وحين كان جسمه في طور الشباب، ثم عرفته حين تقدمت بنا السن، وحين اختلفت علينا ظروف الحياة وتجاربها، وحين عرضت لنا المشكلات والخطوب، وأنا أراه الآن فلا أنكر منه شيئا؛ لأني عرفته دائما في هذه الحال التي ترينها، ولأني ضحكت منه دائما مع أترابنا كما تضحكين أنت منه الآن، ولأني قلت فيه دائما لأترابنا، وسمعت فيه دائما من أترابنا هذه الجملة: ما زال فلان طفلا، ويظهر أنه سيظل طفلا مهما تقدم به السن، ومهما تختلف عليه أطوار الحياة.
وربما كان من الحق علينا أن نسجل الواقع؛ فصاحبنا قد نشأ كما نشأ أترابه، واختلف إلى الكتاب، وأوجعت فيه عصا سيدنا أحيانا، واختلف إلى المدارس المدنية، وبلى فيها من حياة التلاميذ والطلاب حلوها ومرها فأخفق حينا ونجح أحيانا، حتى أتم الدرس العالي كما أتمه كثير من أترابه، ثم عبر البحر إلى أوروبا، فدرس في بعض أقطارها أعواما، ثم عاد إلى قريته فائزا مظفرا، وسعيدا موفورا، وكل هذا من غير شك لا يدل على طفولة، ولا يدل على أن نمو قواه العقلية قد كان محدودا، ولكن الغريب أنه إلى جانب هذا النمو المطرد قد احتفظ بشيء من خصال الأطفال لم يفارقه في لحظة من لحظات حياته، ولم يستطع أترابه الذين رافقوه في المدارس المصرية، وفي الجامعات الأوروبية، وفي الحياة العملية بعد ذلك أن يجهلوه أو يتجاهلوه، فقد كان دائما سريع التأثر جدا بما يسر، وسريع التأثر جدا بما يسوء، وكان دائما ينتقل من الرضى إلى السخط، ومن السخط إلى الرضى في غير تمهل ولا أناة، ولا شيء يشبه الروية أو التفكير، وإنما كان أيسر الأشياء يدفعه إلى الرضى فإذا هو فرح مرح، وإذا ضحكه يملأ الجو من حوله، وإذا حركاته العنيفة تضحك منه أصحابه، وتلفت إليه غيرهم من الناس، وكان أيسر الأشياء يسخطه فإذا هو مغضب قد خرج عن طوره، وإذا عيناه تقدحان شررا، وإذا فمه ينفجر عن أشنع اللفظ وأبشعه، وإذا جسمه يدفع إلى حركات مضطربة تدعو إلى الإشفاق عليه حينا، وإلى الإشفاق منه حينا، وإلى الضحك منه في أكثر الأحيان.
وكان حكمه على الأشياء قاصرا أو واهيا منحلا، لا يعتمد على تفكير صحيح، ولا على منطق دقيق، ولا على شعور صادق بحقائق الأشياء، وإنما كان له وما زال له منطق خاص لا يكاد الناس يفهمونه عنه، ولا يكاد الناس يقبلونه منه، وإنما يسمعونه إذا تكلم فيدهشون، ويأخذهم شيء من العجب، فإذا ردوا عليه منكرين أخرجه إنكارهم عن طوره، ودفعه إلى الغضب الثائر والسخط العنيف. فهم بين اثنتين؛ إما أن يجاوره فيرضى وتغضب عقولهم، وإما أن يخاصموه فيغضب وترضى عقولهم، وقد هموا بالثانية فوجدوا منه شططا، وأرهقوه من أمرهم عسرا، وانتهت طفولته الجامحة إلى أن تنتصر على عقولهم الراجحة.
Shafi da ba'a sani ba
وأكبر الظن أنه قد تعود هذه المجاراة والمداراة منذ طفولته الأولى، فاستجاب أبواه إلى كل ما كان يريد، وحققا له كل ما كان يبتغي، فنشأ واثقا بأن العالم قد خلق له يدعو فيجاب، ويأمر فيطاع، وبأن كلمة لا لم تخلق لتسمعها أذناه، وإنما خلقت لينطق بها لسانه، وأكبر الظن أيضا أن هذا الحظ قد رافقه في دراساته الأولى، وآية ذلك أن سيدنا لم يكد يغضب عليه ويؤذيه بعصاه مرة حتى حوله أبواه من الكتاب إلى المدارس النظامية التي لا يضرب فيها التلاميذ. وليس من شك في أن حب أبيه له ورعايته لهذا المزاج المدلل الرقيق، وحرصه على ألا يتعرض لما يكره أو أن يرد عما يريد كل ذلك قد رافقه من قريب أو بعيد فلم تصدمه التجارب القاسية، ولم تعلمه المصاعب أن ظروف الحياة يجب أن تتسلط على الناس أكثر مما يتسلط الناس عليها، وأن تؤثر في الناس أكثر مما يؤثر الناس فيها.
فأدرك الشباب على هذه الحال مؤمنا بنفسه كما يؤمن الطفل بنفسه، مغامرا كما يغامر الطفل، لا يفكر ولا يقدر، ولا يرجو لشيء وقارا، وإنما يريد فيقدم على ما يريد، والغريب أنه كان يبلغ كل ما يريد. كان يبلغ كل ما يريد؛ لأنه نشأ في أسرة موفورة لها حظ من ثراء، ونصيب من الاتصال بالأغنياء وأصحاب الجاه، فكان ثراء الأسرة، وحبها له، وعطفها عليه كل ذلك يذلل له المصاعب الخاصة، وكان اتصال الأسرة بأصحاب الجاه والغنى يذلل له المصاعب الاجتماعية التي كان يمكن أن تعترض طريقه في الحياة، وليس أدل على ذلك من أنه رأى الناس يكتبون فحاول أن يكتب، ثم أظهر أسرته على ما كتب، فأثنت عليه عن علم أو جهل، ثم أظهر من تتصل بهم أسرته على ما كتب فأثنوا عليه عن علم أو جهل. ثم رأى الناس ينشرون فهم أن ينشر كغيره من الناس، ولكن الصحف امتنعت عليه فوجد من ذوي الغنى والجاه من يتوسط له عند هذه الصحيفة أو تلك، وإذا هو يرى اسمه مطبوعا في مجلة شهرية أو أسبوعية، ثم في صحيفة سيارة متواضعة، ثم في صحيفة سيارة واسعة الانتشار، وإذا هو كاتب كغيره من الكتاب يقرأ نفسه ولا يقرؤه الناس بعد ذلك، فأما الذين يرونه ويعرفونه فيرضون ويثنون ويشجعون، وأما الذين لا يرونه ولا يعرفونه فقد يرضون وقد يسخطون، وقد يعرفون وقد ينكرون، ولكن صاحبنا لا يعلم من ذلك شيئا، ولا يعنيه أن يعلم من ذلك شيئا.
والمهم أنه لم يكد يتم الدرس حتى كان في رأي نفسه، ورأي ذوي معرفته كاتبا ممتازا، ولم يكد يعود من أوروبا حتى هجم على التأليف كما هجم من قبل على التحرير، وإذا له كتب تذاع وتباع، وإذا أيسر الثناء على فصل يحرره أو كتاب ينشره، يثير في نفسه من الرضى ما يخرجه عن طوره، وإذا أيسر النقد لفصل يحرره أو كتاب ينشره يثير في نفسه من السخط ما يخرجه عن طوره، وإذا ثقته بنفسه على نحو ما يثق الأطفال بأنفسهم تفرضه على قراء الصحف والكتب والمجلات، ثم لا تكاد الأيام تتقدم حتى تضيف الحياة إلى هذه الثقة ثقة أخرى، وإذا الأمر يستحيل في نفسه إلى الغرور الذي لا حد له في طول أو عرض أو عمق إن صح أن تكون للغرور أبعاد، فقد اتصل صاحبنا بوجوه الناس وسراتهم، واختلف إلى أنديتهم ومجالسهم، وفرض نفسه عليهم بحكم المودة والقرابة والصلات المختلفة، فأصبح واحدا منهم يشارك فيما يشاركون فيه من شئون الحياة العامة والخاصة، ويسرف على نفسه وعلى الناس في هذه المشاركة، والأيام تبسم له في أكثر الأحيان، ولا تعبس له إلا قليلا، وهي لا تعبس له مع ذلك إلا بمقدار.
وفي أحداث التطور السياسي، والاضطراب الخلقي، والانتقال الاجتماعي، وما كان من تغير القيم، واختلاف المقاييس ما يتم القصة إن كانت في حاجة إلى إتمام، ويكمل الصورة إن كانت في حاجة إلى إكمال، ولكن الشيء المحقق هو أن الحياة المستقرة الثابتة، التي تجري الأمور فيها على إذلالها، تعلم الناس أن ذكاء القلب، ونفاذ البصيرة، ومضاء العزيمة، والصبر على المكاره، والاحتمال للخطوب، وأخذ النفس بما يشق عليها، وتجنبها الطرق الممهدة، والأمور الميسرة هي الخصال التي تبلغ بالناس ما يسمون إليه من نجح وفوز، ولكن الحياة المنتقلة المتطورة التي لا تهدأ إلا لتثور، ولا تسكن إلا لتضطرب تعلم الناس أن الطفولة المتصلة قد ترفع أصحابها إلى مكان الأفذاذ.
قالت السيدة، وكانت أدبية أريبة: لقد أخطأ علماء البيان حين لم يرضوا عن هذا البيت الصادق الجميل من قول الشاعر:
والعيش خير في ظلا
ل النوك ممن عاش كدا
الظلال الهائمة
لم يشعر بطرق الباب حين طرق، ولا بفتحه حين فتح، ولم يحس مكان الخادم حين أقبلت تحمل الشاي، فوضعته على المائدة عن يمينه، وألقت إليه نظرة سريعة فيها شيء من عجب، وكادت ترفع كتفيها ساخرة، لولا أملكت نفسها واستحضرت ما يجب عليها من توقير سيدها، فانصرفت متباطئة متثاقلة حتى إذا بلغت الباب فتحته في شيء قليل من العنف، وأغلقته من ورائها في شيء قليل من العنف أيضا تريد أن تنبه هذا الذي لا يتنبه لشيء؛ لأنه مغرق في قراءته. على أنها لم تكد تغلق الباب من ورائها حتى أحست شيئا من راحة الضمير، فقد أدت الواجب كاملا، حملت إلى سيدها الشاي في إبانه، وطرقت الباب، وخيل إليها أنها سمعت الإذن لها بالدخول، فدخلت وخرجت، وأتت من الحركات ما يوقظ النائم، فكيف بتنبيه الغافل أو الذاهل أو المغرق في القراءة؟ لقد أدت الواجب كاملا، فلا عليها أن يتنبه سيدها أو لا يتنبه، ولا عليها أن يشرب الشاي، وهو ساخن كما يحب أو أن يشربه، وقد أدركه الفتور أو البرد أو ألا يشربه أصلا، والواقع أن سيدها لم يتنبه لمقدمها، ولا لانصرافها، ولا للشاي الذي كان يدعوه عن يمينه، ولكنه لم يكن يسمع دعاء، ولا يجد الظمأ كما تعود أن يجده كل يوم في هذا الموعد الذي كان يقدم إليه فيه الشاي .
كان مغرقا في القراءة، ثم انتهى من الكتاب الذي كان يقرأ فيه إلى فصل لم يتجاوزه، وإنما عاد إليه فقرأه مرة ومرة، ثم كف عن القراءة، ولكنه وصل بصره في هذا الفصل الذي أعاد قراءته، وظل مطرقا ممعنا في الإطراق والتفكير، ثم رفع رأسه، وعلى ثغره ابتسامة يسيرة، ثم نظر أمامه لا يريد أن يرى شيئا، وإنما هو واجم باسم ينظر ولا يرى، ويفكر ولا يحقق شيئا، ثم تتسع ابتسامته قليلا، ثم ينفرج فمه عن ضحك يريد أن يعلو، ويملأ الغرفة لولا أنه يمسكه، ويوشك أن يرده إلى جوفه ردا؛ لأنه قد ثاب إلى نفسه فجأة، وأشفق أن يسمع ضحكه من وراء الباب، فتظن به الظنون، هنالك التفت فرأى إبريق الشاي كئيبا مستخذيا؛ لكثرة ما دعا إلى نفسه، وألح في الدعاء فلم يستجب له أحد؛ لأن دعاءه لم يبلغ أحدا.
Shafi da ba'a sani ba
فأقبل صاحبنا على الإبريق يمسه بيده مسا خفيفا، ثم يمسحه بيده مسحا متصلا كأنما يترضاه ويعزيه، وقد أحس برد هذا الإبريق، وعرف أن الشاي الذي يحتويه لم يعد ملائما لذوقه وإلفه، وهم أن يدق الجرس، ويدعو الخادم لتأتيه بشاي جديد، ولكنه استحيا، وأشفق أن تسخر منه الخادم إذا رأت شايها لم يمس، وأن تعيد القصة على امرأته وبنيه فلا يفرغ منهم، ولا من عبثهم إذا كان العشاء. فلم ير بدا من أن يشرب الشاي كما هو، وقد ملأ قدحه، وجعل يدير فيه الملعقة يريد أن يذيب هذا السكر الذي يستعصي ولا يريد أن يذوب في هذا السائل البارد.
ولكن صاحبنا نسي الشاي مرة أخرى، وجعلت يده تدير هذه الملعقة في هذا القدح إدارة آلية غير شاعرة بنفسها؛ لأنه عاد إلى التفكير في هذا الفصل الذي كان يردد قراءته آنفا. ثم عاد إلى التفكير في هذا الفصل، ثم لم يطل الوقوف عنده هذه المرة، وإنما ذهب به الخيال مذاهب مختلفة لم تلبث أن ردته إلى الابتسام، ثم إلى الضحك المكظوم.
وكان هذا الفصل من كتاب الفصول والغايات لأبي العلاء، ويجب أن أروي لك بعضه لتعذر صاحبنا في إطالة الوقوف عنده، والتفكير فيه، ثم في اتخاذه معراجا يرقى فيه إلى سماء بعيدة جدا من سماوات الخيال: «يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعام بأذنه، ويشم الروائح بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته ...»
فقد وقفه هذا الكلام الغريب، أضحكته الصور الظاهرة منه أول الأمر، ثم جعل يستعرض طائفة من أصدقائه وذوي معرفته، فيتخيل بعضهم ماشيا على رأسه قد اتخذ الطربوش أو العمامة أو القلنسوة غطاء لرجليه، ويتخيل بعضهم باكيا بإحدى أصابعه أو آكلا بإحدى أذنيه. فتدفعه هذه الصور مطبقة - على ما يعرف من أصحابه - إلى الإغراق في الضحك، ثم تثوب إليه نفسه شيئا فشيئا، ويقدم عقله على الجد قليلا قليلا، وإذا هو ينظر إلى الأمر نظرة فلسفية حازمة، فيرى أن صاحب هذه الخواطر لم يخطئ، فقد خلق هذا العالم على هذا النحو الذي نعرفه، وكان من الجائز أن يخلق على نحو آخر، بل من الجائز أن يحوله خالقه من هذا النحو الذي خلقه عليه إلى نحو آخر يمشي فيه الناس على رءوسهم، وينظرون بأقدامهم، ويذوقون بآذانهم ... إلى آخر ما زعم أبو العلاء.
وما دامت قدرة الله شاملة فلن يعجزها شيء ثم يتلو في نفسه الآية الكريمة:
وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم
قدرة الله إذن شاملة لا يعجزها شيء مهما يكن، وقد جعل هذا الخاطر يتردد في نفسه ملحا عليها إلحاحا شديدا، وجعل خياله يتصور ألوانا من الأشياء لم يرها الناس، ولم يتعودوا أن يروها أو يتحدثوا عنها، ويقول لنفسه: إن الله قادر على أن يخلق هذه الأشياء كما أتخيلها، وأشياء أخرى لا أتخيلها أنا، وإنما يتخيلها غيري من الناس أو لا تخطر للناس على بال، ثم تعرض لخياله صور يقف عندها وقوفا طويلا، فالله قادر على أن يصور ما يمتاز الناس به من الفضائل في شكل فتيات حسان يوسعن أصحابها ثناء وتشجيعا، والله قادر على أن يصور ما يتصف به الناس من الرذائل في شكل فتيات قباح يشبعن من يتصف بهن ذما ولوما وتقريعا.
ثم يأخذ في استقصاء ما يعرف من أخلاق نفسه، فيرى وفاءه للأصدقاء، وبره بهم، وإيثاره لهم بالمعروف، وقد تصور أمامه فتاة حسناء تهدي إليه ابتسامات حلوة من بعد، ثم تدنو منه قليلا قليلا، ثم تلحظه لحظا فيه كثير من الحب والعطف والحنان، ثم تدنو منه قليلا قليلا، ثم ترسل إليه صوتا عذبا كأنه صوت الملائكة لو أنه سمع للملائكة غناء أو حديثا، وهذا الصوت يحمل إليه دعابة حلوة، وتحية كريمة، وهو يجد اللذة كل اللذة فيما يرى، والمتعة كل المتعة فيما يسمع، ولكن هذا الوجه الرائع الجميل الذي يدنو منه شيئا فشيئا لا يلبث أن تغشاه سحابة رقيقة من الكآبة والحزن، ثم تزداد هذه السحابة كثافة وثقلا وبشاعة كلما دنا منه ذلك الوجه الذي كان يراه رائعا جميلا، وقد خطر له في أثناء ذلك أنه لم يكن وفيا كل الوفاء، ولا برا كل البر، وأنه في ذات يوم قد خان العهد، وجحد المودة، وأنكر الجميل، وعق الصديق، وأنه قد أقدم طائعا أو كارها على بعض الغدر الذي يحاول أن ينساه فلا يستطيع، ولا يكاد يفرغ من هذا التفكير حتى يحس شخصا منكرا بشعا قد وقف عن يمينه، وجعلت أصابعه الغلاظ السمجة تعبث في شعره ذاهبة جائية، وجعل صوته خافتا أشد الخفوت، ولكنه منكر أشنع النكر يقول له: يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدميه، ويمشي على رأسه، ويقدر ربنا أن يحيي الموتى، ويقدر ربنا أن يصور ما في نفوس الناس من الفضائل فتيات حسانا، ويقدر ربنا أن يرد هؤلاء الفتيات الحسان قبيحات بشعات منكرات اللفظ واللحظ والصورة، ويقدر ربنا أن يخرج هؤلاء الفتيات من القبح إلى الحسن، ومن البشاعة إلى الجمال، فالنفس الإنسانية واحدة تحسن مرة ، وتسيء مرات، والله قادر على أن يصور لها عملها فتاة يسبغ عليها الجمال والحسن مرة، ويصب عليها القبح والبشاعة مرة أخرى. انظر ويفتح عينيه، فيرى فتاته تلك قد عادت إلى جمالها وروعتها، وقد أخذت ابتساماتها تمتلئ سحرا، ولحظاتها تمتلئ فتونا، وصوتها يمتلئ موسيقى تخلب القلوب، وتعبث بالألباب، وهي تتلو
خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ، وقد تنبه صاحبنا مذعورا أشد الذعر، وظن أن قد أخذته غفوة فنام، وعبثت به خواطر أبي العلاء فصور له في غفوته هذا الحلم الغريب، وقد أخذ يسترد نفسه النافرة، ويدعو خواطره الشاردة يستعين على ذلك بهذا القدح من الشاي عن يمينه فهو يرفعه إلى فمه فيفرغه في لحظة، ثم يرده إلى مكانه في شيء من عنف مقصود يريد أن يحدث صوتا يعيد إليه صوابه كله، ويطرد من هذه الغرفة ما رددت فيها الأحلام من تلك الأصوات، ولكنه ينظر فإذا أشخاص قائمة في أقصى الغرفة منها الحسن الرائع، ومنها القبيح البشع، وكلها تنطق بصوت يوشك أن يكون صوتا واحدا، يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدميه ويمشي على رأسه. ويقدر ربنا أن يحيي الموتى، ويميت الأحياء، ويقدر ربنا أن يصور الفضائل والرذائل فتيات حسانا أو قباحا، ويقدر ربنا أن يملأ الأرض بهؤلاء الفتيات تصور كل واحدة منهن ما يحدث الناس من أعمال فيها الخير والشر، وفيها العرف والنكر، ويقدر ربنا أن يخفي هذه الظلال عن أعين الناس ما شغلتهم الحياة، وأن يظهر هذه الظلال لأعين الناس إذا خلوا إلى أنفسهم، وحاسبوها حسابا عسيرا أو يسيرا.
وقد امتلأ قلب صاحبنا رعبا، وهم أن ينهض بنفسه من هذه الغرفة المشئومة الموبوءة، وليجد عند أهله وبنيه أنسب من هذه الوحشة، ولكنه لا يجد قوة على النهوض كأنما اتصل بكرسيه اتصالا، وكأن كرسيه قد سمر في الأرض، وإذا صيحة هائلة تملأ الغرفة، ويفتح لها الباب، وتدخل منه امرأته مروعة تسأله: ما خطبك؟ فيجيب في صوت غريب يمتزج فيه الخوف بالهدوء، والضحك بالخجل: ما أدري لعلي غفوت فأخذني ما يشبه الكابوس، ولكن صوتا خافتا جدا يسمعه هو، ولا تسمعه امرأته، وهذا الصوت يهمس في أذنه، كلا لم تغف ولم تروعك الأحلام والكابوس، وإنما رأيت الظلال الهائمة، ولن تأمن منذ اليوم أن تراها.
Shafi da ba'a sani ba
قلت لمحدثي، وكان طبيبا بالأعصاب: أتريد أن تقول: إن من الخير أن يحسن الناس اختيار ما يقرءون من الكتب، فإن القراءة التي يمضي فيها أصحابها على غير اختيار سابق لما يلائم أعصابهم وأمزجتهم، قد تنهي بهم إلى شر عظيم. قال محدثي: هيهات، وكيف السبيل إلى تنظيم القراءة للرجال العاقلين، وكيف السبيل إلى أن يعرف الناس ما يلائمهم وما لا يلائمهم مما يقرءون؟ هيهات لم أرد إلى هذا، ولا يمكن أن أريد إنما أحببت أن أبين لك أن قلب الإنسان غريب يقسو أحيانا فإذا هو كالحجارة أو أشد قسوة، ويلين أحيانا فإذا هو كهذه الأرض الرخوة التي امتلأت ماء لا تكاد تمس حتى تنفجر منها العيون والينابيع، وقلب صاحبنا هذا قد قسا فكان كالحجارة أو أشد قسوة، فأتى ما أتى من الشر، ولان فكان كهذه الأرض التي امتلأت ماء، مسها أبو العلاء بخاطره هذا الغريب، فتفجر منها هذا الينبوع الذي نستطيع أن نسميه: ينبوع الندم.
وأطرق محدثي الطبيب ساعة، ثم رفع رأسه إلي ضاحكا، وهو يقول: نعم، إن قلب الإنسان لغريب، أتذكر ما قال فيه جوته؛ إنه كبير جدا لا يملؤه شيء، وهش جدا يحطمه أيسر شيء.
غلظة
كان محمد بن عبد الملك الزيات قاسي القلب غليظ الكبد جافي الطبع بليد المزاج، وكان على هذا كله أديبا مرهف الحس نافذ البصيرة رقيق الشعور، صافي الذوق مترف العقل ممتازا فيما يكتب من نثر، وفيما يقرض من شعر، وكانت السياسة وحدها هي التي أتاحت لهذين الشخصين المتناقضين أن يعيشا في جسم واحد، وأن يتسميا باسم واحد، وأن يصدر عنهما مع ذلك من الأعمال والأقوال ما ليس إلى التوفيق بينه سبيل.
فقد كان محمد بن عبد الملك الزيات أقسى الناس في القول والعمل ما تولى أمور الحكم، وكان أرق الناس قولا وعملا ما فرغ لحياته الخاصة، وقد ذهبت حياته الخاصة مع ما يذهب من حياة الناس، وبقيت من حياته العامة آثار تصور نفسه البشعة، وقلبه القاسي، وطبعه الجافي، وعنفه الذي لم يكد تاريخ المسلمين يعرف له نظيرا.
وكان محمد بن عبد الملك الزيات يقول فيما كان يقول: إن الرحمة خور في الطبيعة، وكان محمد بن عبد الملك الزيات يقترف فيما كان يقترف من الآثام. أذاق الناس ألوانا من العذاب لم يعرفها قبله عرب ولا عجم، والله عز وجل يعجل الانتقام حينا، ويملي للقساة الجفاة الظالمين أحيانا، وقد عجل الانتقام من محمد بن عبد الملك الزيات، فذاق العذاب الذي أذاقه الناس أيام حكمه، وكان معذبه يقول له:
ذق إنك أنت العزيز الكريم .
ولست أدري لم ذكرت محمد بن عبد الملك الزيات، وقصته هذه البشعة، وسيرته هذه المنكرة، وحكمه هذا البغيض، وقد تغيرت حياة الناس فرقت طباعهم بعد جفوة، ولانت قلوبهم بعد قسوة، ولم يبق بينهم في مصر على الأقل من يقول إن الرحمة خور في الطبيعة، ومن يعذب الناس في تنور قد فرشت أرضه بالمسامير المدببة، وقد امتدت هذه المسامير المدببة في سقفه وجنباته فما يقيم فيه المعذب البائس إلا على هذه المسامير تأخذ لحمه من كل ناحية إن أقام ساكنا أو تحرك في تنوره هذا المنكر البشع.
ليس في مصر شيء من هذا؛ لأننا قد تحضرنا فرقت طباعنا، وصفت أذواقنا، ولانت قلوبنا، وتهذبت نفوسنا، وإذن فما الذي يذكرني بمحمد بن عبد الملك الزيات في القرن الرابع عشر للهجرة، وفي مدينة القاهرة التي هي عاصمة مصر التي قال عنها إسماعيل العظيم رحمه الله: «إنها جزء من أوروبا.»
ذكرني بمحمد بن عبد الملك الزيات في قسوته الغليظة الجافية ما ألاحظه من أن الترف لم يغير من غرائزنا شيئا، وإنما علمها القسوة المترفة، وعلمها الافتنان في العذاب، وعلمها الترف في ألوان الانتقام، فنحن لا نعذب الأجسام، وإنما نعذب النفوس، ونحن لا نلقي الناس في تنور أشرعت فيه المسامير من جميع أقطاره، وإنما نلقي الناس في ألوان من العذاب ليست أقل بشاعة ولا نكرا من هذا التنور الذي ابتكره ذلك الوزير العباسي في القرن الثالث للهجرة، وفي مدينة السلام.
Shafi da ba'a sani ba
وليس في هذا شيء من الغرابة، فإن تقدم الحضارة الإنسانية لم يرق العقل وحده، ولا الذوق وحده، وإنما رقى الغرائز أيضا، وعلمها فنونا من القسوة ما كانت لتخطر لمحمد بن عبد الملك الزيات وأضرابه على بال، وللفرنسيين تعبير يصور هذا الترف في القسوة، وهذا الافتنان في الانتقام، فهم يقولون فيمن يصب على الناس عذابا هادئا، ولكنه متصل منته إلى أبشع الغايات، إنه ينضج من يعذبه على نار هادئة، ونحن والحمد لله بارعون كل البراعة في الإنضاج على النار الهادئة، نجد في هذا لذة آثمة خبيثة توشك أن تكون مسخا لما كان الإنسان يظن أنه يمتاز به من ذكاء القلب، ونفاذ البصيرة، وصفاء الذوق، ودقة الطبع.
وأي شيء أبغض وأبشع وأشد في النفوس نكرا من أن تصب على خصمك هذا العذاب الهين اللين الرقيق، الذي لا يكاد يرى ولا تكاد آثاره تحس، ولكنه يتصل ويمضي مع الدقائق والساعات، ومع الأيام والليالي، ومع الأسابيع والأشهر والأعوام، حتى يبلغ ببطئه هذا الفظيع أضعاف ما كان يبلغه محمد بن عبد الملك الزيات بعذابه المنكر السريع.
وأبشع من هذا كله، وأشد من هذا كله نكرا أن يصطبغ هذا العذاب الهادئ المتصل البطيء بصبغة من العدل أو مما اتفقنا على أن نسميه عدلا، فلا يجوز إنكاره، ولا يباح نقده، ولا يصح أن يلام فيه الذين يقترفونه؛ لأنهم ينفذون القانون، وينفذونه في دقة حازمة صارمة، وهم يحمدون لذلك ولا يلامون فيه، وكيف يلام الناس حين ينفذون القانون؟ وكيف يعاب الناس حين ينشرون هذا العدل الذي يصنعونه صناعة، ويتكلفونه تكلفا، ويناقضون به طبائع الأشياء، ويناقضون به هذه القوانين العليا التي لم يضعها برلمان، ولم يشرعها ملك ولا حاكم، وإنما ركبت في نفوس الناس تركيبا، وجعلت جزءا من فطرتهم.
وما أشد حاجة الناس إلى أن يفرغوا لأنفسهم بين حين وحين، ويتدبروا أعمالهم وأقوالهم بين وقت ووقت، ويضعوا أنفسهم حين يضعون ضحاياهم، ويسألون أنفسهم أيصبرون لما يصبون على الناس من هذا العذاب الهادئ البطيء المتصل لو أن غيرهم صبه عليهم في هدوء وبطء واتصال، هذا الموظف في وزارة المعارف الذي أراد أن يلحق طفلا من أطفاله بروضة من رياض الوزارة؛ لينشأ مع أخويه فلم تكتف الوزارة بأن ردت طفله الجديد، ولكنها ألحقت به في البيت أخويه اللذين أقاما في الروضة عامين أو أكثر من عامين، ثم حولتهما بعد ذلك إلى روضة خيالية قد أنشئت في عقول الموظفين في وزارة المعارف، ولم تر الشمس إلا بعد وقت غير قصير، وقد ذهب هذا الموظف بأطفاله إلى روضتهم الجديدة البعيدة فلم يجد شيئا، ثم ذهب بهم فلم يجد شيئا، ثم فتش واستقصى، وسأل القاصي والداني، وسأل مكتب البريد فلم يجد شيئا، ثم ذهب بعد ذلك فوجد دارا مهدمة ليس فيها مرفق، ولا أداة من أدوات التعليم والتربية واللعب، ليس فيها طعام يؤكل، ولا ماء يشرب، فعاد بأطفاله إلى داره كئيبا محزونا كاسف البال، وكان قد شكا للوزير فلم يسمع الوزير له أو لم يعلم الوزير بأنه قد شكا إليه.
وقد جعل كل ما أصبح رأى أطفاله يبكون؛ لأن سيارة الوزارة التي كانت تحملهم إلى الروضة في الأعوام الماضية تمر بهم مصبحة ممسية فلا تغدو بهم على الروضة، ولا تروح بهم منها، وإنما تمر بهم ساخرة منهم مزدرية لهم، تحمل أترابهم فرحين مرحين، يبتسمون للصبح المشرق الذي يسوقهم إلى المدرسة، ويبتسمون للنهار المبصر الذي يردهم إلى دورهم، وهؤلاء الأطفال البائسون يرون سيارتهم، ويرون أترابهم دون أن يستطيعوا ركوب السيارة أو مشاركة الأتراب في ابتسامات الغدو أو ابتسامات الرواح.
رأى هذا الموظف أطفاله على هذه الحال، وذاق هذا الموظف مع أطفاله مرارة الحرمان، وقسوة هذا العذاب، وقد أراد سوء حظه وسوء حظهم أن يكون هؤلاء الأطفال اليتامى قد فقدوا أمهم كما كان هو مترملا قد فقد زوجه، وكان هذا الموظف يجد في تربية أطفاله وتنشئتهم من العزاء عن فقد زوجه، وكان معتقدا أنه يرضي نفس امرأته كلما نجح في العناية بأطفاله وفي تربيتهم؛ لأنه يؤدي لهم ما كانت خليقة أن تؤديه لو أتيح لها البقاء. فلما أوذي الأطفال في تعليمهم وفي لعبهم، ولما أوذي الأب في تربية أطفاله وتنشئتهم، ولما رأى الأب دموع أطفاله مع الصبح، ودموع أطفاله مع المساء، وضجر أطفاله أثناء النهار لم يستطع على ذلك صبرا، ولم يملك نفسه، فشكا في الصحف لعل الوزير يقرأ شكاته فيمسه بشيء من الإنصاف، ويمس أطفاله بشيء من العطف، ويرد إليهم وإليه حقهم من العدل الذي كلف أن يشيعه بين الناس.
شكا، ولكن الوزير لم ينصفه، ولم يعطف على أطفاله، ولم يرد إليهم ولا إليه قليلا من العدل ولا كثير، لم يفكر في الأب الأرمل، ولا في الأم الميتة، ولا في الأطفال الصغار اليتامى، وإنما فكر في الموظف الذي نقد الوزارة في الصحف، ورأى أن هذا النقد إثم في ذات الحكومة، وأن القانون المالي يعاقب عليه.
يا للعقول الواسعة، يا للقلوب الرحيمة، يا للطباع المهذبة، يا للأذواق المصفاة. أما الأبوة البائسة، وأما الطفولة التعسة فلا يحفل بها الوزراء، ولا يلتفتون إليها، ولا يقفون عندها؛ لأنهم إن فعلوا ذلك كانوا رحماء، والرحمة خور في الطبيعة كما كان يقول محمد بن عبد الملك الزيات.
وأما أن يلفت موظف وزارة المعارف إلى واجبها، ويدلها على خطئها، ويدعوها إلى إصلاح هذا الخطأ، فهذا هو الإثم كل الإثم، والإجرام كل الإجرام، وهو التقصير في ذات القانون، وهو الخروج على النظام، والسكوت على هذا كله ضعف أي ضعف، والعقاب على هذا كله عدل أي عدل وحزم أي حزم. ألا بعدا للعدالة والحزم إن كانت غايتها إهدار أبوة الآباء وبنوة الأبناء، وتضييع ما للناس على الدولة من حق، وإلغاء ما على الدولة للناس من واجبات.
أساء الموظف إذن إلى الدولة في رأي الوزير فيجب أن يعاقب، فأما إساءة الوزير إلى الأمة في أشخاص هؤلاء الأطفال الصغار، فيجب أن تذهب هدرا، كذلك يريد العدل المصنوع. وقد حقق مع هذا الموظف فألقيت عليه أسئلة صريحة أجاب عليها إجابة صريحة، وكان من الممكن أن يقرأ الوزير، وأن يقدر أبوة هذا الأب البائس، وبنوة هؤلاء الأبناء البائسين، ولكن الوزير لم يقدر أبوة ولا بنوة، وإنما قدر أن الحكومة قد أسيء إليها، فيجب أن تنتقم من المسيء، فأصدر أمره بنقل هذا الموظف إلى الصعيد الأعلى، هناك حيث لا توجد رياض الأطفال، وحيث لا يجد هؤلاء الأطفال الذين نشئوا في القاهرة ما يلائم حياتهم الهانئة المتواضعة، ولو أن لهؤلاء الأطفال أما ترعاهم لسافر أبوهم إلى الصعيد الأعلى جادا كادا ملتمسا له ولهم أسباب الرزق، ولكن الأطفال يتامى لا يعولهم إلا أبوهم، ولا يستطيع أن يعولهم في الصعيد الأعلى، فطلب الموظف إلى الوزير أن يعفيه من هذا النقل؛ ليرعى أطفاله، ويقوم منهم مقام الأب والأم جميعا.
Shafi da ba'a sani ba