الثعبان
حديث الأوز
قسوة
ثعلب
شياطين البيان
الطفل
الظلال الهائمة
غلظة
الشجاع
سمير الليل
طيف
أم خفيف
الغانيات
البرق الخاطف
حديث القلوب
أضغاث أحلام
ضمير حائر
مدرسة الذباب
الثعبان
حديث الأوز
قسوة
ثعلب
شياطين البيان
الطفل
الظلال الهائمة
غلظة
الشجاع
سمير الليل
طيف
أم خفيف
الغانيات
البرق الخاطف
حديث القلوب
أضغاث أحلام
ضمير حائر
مدرسة الذباب
جنة الحيوان
جنة الحيوان
تأليف
طه حسين
الثعبان
كان مشرق الوجه، باسم الثغر، خفيف الحركة، فصيح اللسان، لا يكاد يجلس إلى أحد أو يجلس إليه أحد إلا أحس جليسه منه قلبا يضطرب تحمسا للإصلاح، ونفسا تتوثب إلى المثل العليا، وعقلا لا يرى حوله إلا شرا، ولا يريد أن يطمئن أو يستقر إلا إذا أزيل هذا الشر، ومحيت آثاره ومعالمه، وقام مقامه هذا الخير المطلق الذي يشمل كل إنسان، وكل شيء، والذي يسبغ على من يشمله وما يشمله جمالا حلوا هادئا، ولكنه قوي ملح كأنه ضوء الشمس، لا يمنح الأشياء والأحباء جمالا وبهاء فحسب، ولكنه يبعث فيها وفيهم حياة وخصبا وقوة ونشاطا.
وكان تحمسه للإصلاح وطموحه إلى الخير ودعاؤه إلى العدل يخرج به أحيانا كثيرة عن طوره، ويتجاوز به الهدوء المألوف إلى شيء من العنف لم يكن المصريون يعرفونه في ذلك الوقت، وإذا هو لا يستقر في مكانه مهما يكن هذا المكان في دار أو ناد أو قهوة أو ديوان، وإنما يثب من مجلسه ثم لا يثبت في مقامه؛ ليتحدث إلى من حوله كما يتحدث الخطيب، وإنما يذهب ويجيء، ويأتي من الحركات بيديه ما كان يخيف جلساءه على ما قد يكون حوله من الأشياء، وإذا آية الغضب تظهر في وجهه، قوية حادة فيظلم بعد إشراق ويعبس بعد ابتسام، ويتطاير من عينيه المضطربتين شرر مخيف، وينفجر من فمه صوت هائل يهدر بالجمل التي تتتابع سراعا في مثل قصف الموج وعصف الريح العاتية، وإذا أصحابه يأخذهم شيء من الدهش لا يلبث أن يستحيل إلى وجوم متصل وذهول غريب، لا يدرون أهما يصوران الإعجاب والرضى، أم هما يصوران الإنكار والسخط، أم هما يصوران الحذر والخوف.
وكان من الحق أن يحذروا أو يخافوا، فلم تكن الأمور في ذلك الوقت تجري في مصر كما أخذت تجري منذ كان في مصر استقلال وحرية ودستور وبرلمان، وإنما كانت الأمور تسعى متعثرة لا تكاد تنهض إلا لتكبو، ولا تكاد تمضي إلا لتقف، فقد كان في مصر احتلال أجنبي يتغلغل سلطانه الظاهر والخفي في جميع المرافق العامة والخاصة، وكان في مصر سلطان وطني شديد الارتياب، عظيم الاحتياط، كثير التلون، يميل إلى المواطنين مرة وإلى المحتلين مرة أخرى، ويحاول أحيانا أن يرضي أولئك وهؤلاء، فلا يظفر إلا بغضب أولئك وهؤلاء.
وكان هذا كله يفسد الجو المصري، ويجعله خانقا منهكا للقوى؛ لأن الناس كانوا موضوع النزاع بين هاتين السلطتين لا يكادون يرضون إحداهما إلا وفي نفسهم إشفاق من الأخرى، وكان لكل واحدة من هاتين السلطتين عيونها وجواسيسها قد انبثوا في الأندية والقهوات والدواوين، واندسوا في المجالس الخاصة. فهم يحصون على الناس ما يقولون، ثم يصورونه كما يحبون، ثم يرفعونه إلى السلطان الأجنبي أو إلى السلطان الوطني، وإذا آثار ذلك واضحة فيما يكون من رضى هذا السلطان أو ذاك، ومن غضب هذا السلطان أو ذاك، فكان المفكرون وذوو الرأي يعيشون في قلق متصل كأنما كانوا يسعون على الشوك، فليس غريبا أن يثير صاحبنا في نفوس جلسائه شيئا من الحذر والخوف إذا أخذته أزمته الإصلاحية تلك، وكانت كثيرا ما تأخذه فيثور، أو قل يستحيل إلى ثورة تريد أن تلتهم كل شيء.
وكان صاحبنا حديث عهد بأوروبا قد أقام فيها أعواما متصلة، وأتم فيها درسه، ورأى فيها حياتها الحرة الطامحة التي لا تقيدها أوضاع النظام الاجتماعي كما كانت تقيد الحياة المصرية في ذلك الوقت، ولا تغلها أغلال السلطان السياسي كما كانت تغل حياة المصريين في ذلك الوقت أيضا، وإنما رأى حياة سمحة طلقة قد عرفت للإنسان كرامته، وللفرد حقه في أن يأتي ويدع من الأمر ما يشاء، وفي أن يرى ويقول ما يشاء ما دام لا يؤذي غيره بقول أو عمل، وقد شارك في هذه الحياة، واستمتع بما كانت تمتاز به من السماح واليسر، وكان كغيره من المصريين الذين يعيشون في أوروبا لا يكاد يرى شيئا يعرفه أو ينكره إلا وازن بينه وبين ما يشبهه في الحياة المصرية من قريب أو بعيد، وكانت هذه الموازنة تغيظه، وتحفظه بالطبع؛ لأنها كانت تضطره دائما إلى أن يعترف فيما بينه وبين نفسه بأن في أوروبا رقيا ماديا ومعنويا، وبأن لأهل أوروبا حرية في القول والعمل، وبأن مصر بعيدة كل البعد من هذا الرقي، وبأن المصريين قد حرموا هذه الحرية كل الحرمان، فعاد إلى مصر وللغيظ في قلبه نار تتوهج، وللغيرة على نفسه سلطان لا يكاد يهدئ من ثورته أو فورته، ومن أجل ذلك كان صورة ناطقة حية قوية للسخط على كل شيء، والضيق بكل شيء، والحرص على تغيير كل شيء، وقد أقبل الشباب عليه حين عاد من أوروبا معجبين بل مفتونين، ولكنهم لم يلبثوا أن فتروا ثم تفرقوا شيئا فشيئا؛ منهم من رده عنه الخوف، ومنهم من رده عنه القصور، ومنهم من رده عنه السأم، ولا بد من الاعتراف بأن أحاديث صاحبنا على عنفها وثورتها كانت تغمض أحيانا فيعجز أوساط المثقفين عن فهمها، وكانت تتكرر أحيانا أخرى فيسأم السامعون لها من كثرة تكرارها، وأكبر الظن أن صاحبنا عاد من أوروبا دون أن يتعمق من أمرها شيئا، وإنما غرته المظاهر فأعجب بها، وخدعته هذه الحضارة الأوروبية ففتن بها، ورأى في هذا الإعجاب، وفي هذه الفتنة شيئا من الامتياز يتملق كبرياءه فأغرق فيهما إغراقا شديدا، وقد كان ما لم يكن بد من وقوعه فنذر به السلطان، وأشفق منه، ونصب له شيئا من كيد خفي حاول أن يثبت له، وينفذ منه، ولكنه لم يستطع ثباتا ولا نفوذا، فاضطر إلى أن يرجع أدراجه، ويعود إلى أوروبا هذه التي ملكت عليه قلبه ونفسه، وفتنته بمحاسنها فتونا، ولم يكد يستقر في أوروبا حتى دهمته الحرب الماضية، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، والظاهر أنه انتفع بهذه الإقامة الثانية انتفاعا عظيما، فقد عاد من أوروبا بعد الثورة المصرية الأخيرة فرأى ما لم يكن ينتظر أن يرى. لم ير تغيرا في الحضارة المادية، ولم ير تطورا ذا بال في الحياة العقلية، ولكنه رأى حرية لم يكن له بها عهد، حرية لا تحفل بمكر الاحتلال الأجنبي، ولا باحتياط السلطان الوطني، ولا بالعيون والجواسيس، ولا بالأحكام العرفية الإنجليزية التي ظلت مفروضة على مصر أعواما بعد انتهاء الحرب، ولا بهذا الاصطدام العنيف الذي كان يحدث من حين إلى حين بين الشباب المصريين، والجنود البريطانيين. رأى حرية لا تحفل بشيء من هذا، وإنما تمضي أمامها لا تلوي على شيء، ولا يردها شيء، ولا تزيدها العقبات والمصاعب إلا قوة واندفاعا، ورأى المصريين يقولون في كل شيء لا يتحفظون، ولا يتحرجون، ورآهم ينكرون من أمرهم أكثر مما كان ينكر هو قبل الحرب فهم لا يرضون عن الاحتلال الأجنبي، وهم لا يرضون عن النظام السياسي الوطني، وهم لا يطمئنون إلى حياتهم الاجتماعية، وإنما يخرجون عليها في رفق مرة، وفي عنف مرة أخرى، وهم على كل حال يتوثبون إلى الإصلاح، ويطمحون إلى المثل العليا، لا يتحدثون إذا لقي بعضهم بعضا إلا في الحق، والخير، والعدل، والحرية، والاستقلال، والرقي في الحياة المادية والعقلية.
رأى هذا كله فوقف منه موقف الحيرة، لم يدر أيرضى عنه أم يسخط عليه، ولو أنه جرى مع طبيعته الأولى لرضي كل الرضا عما رأى، ولمضى مع مواطنيه جادا في الإصلاح طامحا إلى الرقي، مطالبا بالاستقلال، ولكن إقامته في أوروبا أثناء الحرب، واحتماله ما جرته الحرب على الناس من خطوب، وما ألقت عليهم من أثقال قد اضطره إلى شيء من المرونة، وسعة الحيلة، وبذل الجهود الملتوية؛ ليتقي الشر إن عرض الشر، وليلتمس الخير إن سنح الخير، فعاد من أوروبا للمرة الثانية، وقد خلقته الحرب خلقا جديدا؛ كان قبل الحرب يسبق مواطنيه إلى الرقي والطموح، فأصبح بعد الحرب يستأخر عن مواطنيه، ولا يكاد يشاركهم في توثبهم إلى الرقي والطموح، ومنذ ذلك الوقت اتخذ لنفسه سيرة وسطا فهو لا يستطيع أن ينكر ماضيه، وهو لا يستطيع أن يقاوم هذا الاندفاع المصري الجارف إلى التطور العنيف، وهو في الوقت نفسه لا يحب أن يشارك مواطنيه فيلهج كما يلهجون بالحرية، ويحرص كما يحرصون على الاستقلال، ويطمع كما يطمعون في مجاراة أوروبا حينا، ومقاومتها حينا آخر، وقد زاده حرصا على هذه السيرة الوسط أنه قد تعب في أوروبا، وشقي بما لقي فيها من جهد وضيق، وعاد إلى مصر، وفي نفسه ميل إلى الدعة، وحاجة شديدة إلى الراحة، ورغبة ملحة في أن يعوض الوقت الذي أضاعه في أوروبا، وأن يستدرك من أمره ما فات، ويحقق لنفسه من المنافع العاجلة والآجلة ما لم يستطع تحقيقه حين كان ثائرا فائرا مطالبا بالإصلاح، وقد رأى المصريين قد انقسموا فيما بينهم قسمين؛ فريق يعتدل، وفريق يتطرف. فلم يرد أن يعتدل مع المعتدلين فيعد مستأخرا، ولا أن يتطرف مع المتطرفين فيتكلف ما يتكلفون من الجهد، ويحتمل ما يحتملون من العناء، وقد رسم له هذا كله سيرته الوسط، فعرف الثورة المصرية، ولم ينكرها، وأثنى عليها، ولم يشارك فيها، واتخذ لنفسه الأصدقاء والأخلاء من المعتدلين والمتطرفين جميعا، ولم يقبل في ذلك مراجعة ولا لوما، فإن الصداقة ترتفع عن السياسة وأعراضها وأمراضها، والرجل الحر حقا هو الذي لا تلهيه السياسة عن إرضاء حاجة قلبه إلى الإخاء الكريم، والمودة الصافية، والوفاء المتين.
وكذلك كنت تراه في مجالس المعتدلين يسمع منهم، ولا يرد عليهم إلا قليلا، وكنت تراه في مجالس المتطرفين، يسمع منهم ولا يجاريهم إلا بمقدار، وكنت تراه في كل حفل يقيمه المعتدلون، وفي كل حفل يقيمه المتطرفون يشهد الحفلين جميعا؛ لأن له الأصدقاء والأخلاء بين أولئك وهؤلاء، ولكنه كان ماهرا أشد المهارة في الاستخفاء حين الجد، وحين تبدي الخطوب عن نواجذها لأولئك أو هؤلاء. هنالك يلتمس القوم صاحبنا فلا يجدونه، ولا يقفون له على أثر، وهنالك يسأل القوم عن صاحبنا أهل المعرفة فلا يحدثهم عن ثابت لاق كما يقول الشاعر القديم، حتى إذا هدأت العاصفة، واستقرت الأمور في نصابها ، واطمأنت القلوب في الصدور، نظر المعتدلون والمتطرفون فإذا صاحبنا يغدو بينهم ويروح كعهدهم به دائما، مشرق الوجه باسم الثغر عذب اللفظ حلو الحديث.
وقد استطاع من الأمر ما لم يستطعه من المصريين إلا الأقلون عددا، فأرضى المحافظين والمسرفين في المحافظة بنوع خاص، وأرضى المجددين والغلاة في التجديد بنوع خاص، ثم جعلت الأحوال تحول، والأمور تتغير، وتتابعت المحن على مصر، وكان الطبيعي حين تمتحن مصر في آمالها وأمانيها، وفي حريتها الداخلية والخارجية أن يتطرف المعتدل، ويجدد المحافظ إن كان صادقا في اعتداله ومحافظته، لا يتأثر فيهما بالمنفعة، ولا يتقي بهما الخوف.
ولكن صاحبنا لم يتطرف، وقد تطرف المعتدلون من حوله، ولم يجدد، وقد جدد المحافظون من حوله، وإنما ظل كعهده دائما مشرق الوجه باسم الثغر خفيف الحركة عذب اللفظ حلو الحديث.
وربما أحس المحافظون المصرون على المحافظة منه ميلا إليهم، وحرصا على أن تتصل أسبابه بأسبابهم، ولكن على شرط ألا تنقطع أسباب المودة والإخاء بينه وبين المتطرفين. من الحقائق المقررة أن صلات الود والإخاء يجب أن ترتفع عن اختلاف الرأي في السياسة والنظم الاجتماعية. وقد تلقاه المحافظون حفيين به مستبشرين بقربه منهم، واتصاله بهم، وأغضى عنه المتطرفون؛ لأنه صاحب وفاء يرتفع بالصداقة عن أغراض السياسة وأمراضها، ثم أصبحت المحافظة في بعض الأوقات لونا من ألوان الحفاظ والغيرة على مصالح الوطن وكرامته، وأصبح من البدع المحبوب أن يتحدث الناس بأنهم محافظون، وأن يسرفوا في النعي على المتطرفين، فأظهر صاحبنا أنه محافظ يذكر مجد الوطن، ويحرص على تقاليده، وينكر الخروج على النظام المألوف والسنة الموروثة، ولكنه في الوقت نفسه لم يقصر في ذات أصدقائه المتطرفين، وإنما جاملهم حين كانت تحسن المجاملة، وواساهم حين كانت تحسن المواساة، وضمن بذلك رضاهم عنه، وإغضاءهم عن غلوه في المحافظة، وفي أثناء هذا كله مضت أموره على خير ما يجب. شجعه المحافظون حين كان السلطان يصير إليهم، وأغضى عنه المتطرفون حين كان السلطان يستقر فيهم، وعرف عامة الناس وخاصتهم أنه رجل لا يحب الأحزاب، ولا يشارك في سياستها ، وإن كان محافظ الميل قديم الهوى معتدل السيرة والرأي جميعا.
قلت لصاحبي: أتستطيع أن تحدثني بما تريد إليه من هذه القصة التي لا تنتهي، قال صاحبي: لا أريد إلا إلى شيء يسير جدا، وهو أن الذين يريدون العافية، وقضاء المأرب، وتحقيق المصالح، وتجنب الأذى في أنفسهم وأموالهم وأعمالهم، يحسن أن يسيروا سيرة هذا الرجل البارع. قلت لصاحبي: ليس كل الناس يقدر على أن يكون ثعبانا، وليس من الخير أن تكثر في مصر الثعابين.
حديث الأوز
وأنا أعتذر إلى القراء من هذا العنوان الظريف الطريف الذي لم أكن أحب أن أصطنعه على ما فيه من طرافة وظرف؛ لأنه أشبه بأحاديث الفكاهة والمزاح، لا بأحاديث الجد المر الذي يجب أن نحرص عليه حين نأخذ في شئون التعليم.
ولكن صديقا أديبا من أصدقائنا الأدباء أراد أن يتحدث عن نشر التعليم فضرب الأوز له مثلا، يذهب في ذلك مذهب الفكاهة الساخرة، وإن كانت شئون التعليم في هذه الأيام لا تحتمل فكاهة، ولا سمرا.
تحدث الصديق الأديب أن صاحبه جحا زعم لقاضي المدينة أنه يستطيع أن يأتي بتسع عشرة أوزة فيحبسهن في حجرة من الحجرات، ثم يدخل عليهن عشرين رجلا، فلا يخرج واحد من هؤلاء الرجال إلا ومعه واحدة من هؤلاء الأوز، وقد أنكر القاضي هذا الحديث لما بين هذين العددين من الاختلاف، ولكن جحا ألح فيه وأصر عليه، فاضطر القاضي إلى أن يستجيب له، وأقبل جحا بأوزه التسع عشرة، وأدخل القاضي عليهن عشرين رجلا كان بينهم صراع وقراع سالت له الدماء، وشاهت له الوجوه، ثم جعل الرجال يخرجون رجلا في أثر رجل، ومع كل واحد منهم أوزته حتى خرج آخرهم، وليس له شيء، فلما سأل القاضي جحا عن معجزته، أنبأه بأنه لم يرد إلا عبثا ليبين له وللناس أن الديموقراطية الصحيحة لا تحدث المعجزات، ولا تخلق المستحيلات.
والمغزى الذي قصد إليه الصديق الأديب هو أن الذين يريدون أن ينشروا التعليم بغير حساب، وأن يحشروا الأعداد الضخمة في الأماكن الضيقة، إنما يذهبون مذهب جحا حين أراد أن يقسم التسع عشرة أوزة قسمة سواء على عشرين رجلا فلم يبلغ من ذلك ما أراد.
والمثل كما ترى رائع، بارع وقاصم، فاصم لا تقوم له حجة، ولا يثبت له دليل، فليست الديمقراطية إذن كلاما يقال، ولا هي دعوة تنشر وتذاع، وإنما هي أعمال يقدم عليها أصحابها عن بصيرة، ويحققونها عن روية، وليس يكفي أن يقال للناس كلوا ليأكلوا، ويأمنوا شر الجوع، وليس يكفي أن يقال للناس تعلموا ليتعلموا، ويأمنوا شر الجهل، وإنما ينبغي أن يهيأ الطعام على قدر الطاعمين، وأن يهيأ العلم على قدر المتعلمين، فإن لم نفعل كانت دعوتنا إلى الطعام والعلم أشبه بعبث جحا حين أراد أن يقسم تسع عشرة أوزة على عشرين رجلا قسمة سواء.
ومن قبل الصديق الأديب ضربت للتعليم أمثال أخرى تتصل بالطعام؛ فقال قائلون: إن الذين ينشرون العلم بغير حساب، ويحشرون الأعداد الضخمة في الأماكن الضيقة كالذين يلقون الطعام القليل إلى الجماعة الكثيرة، فما هي إلا أن يلقى هذا الطعام حتى يكون الزحام والخصام والاصطدام، ثم يفترق الناس، وقد آذى بعضهم بعضا، ولم يظفر بالطعام منهم إلا قليل.
والغريب أن يقال مثل هذا الكلام في هذه الأيام التي تواجه الحكومات مشكلة التموين، ومعضلة الطعام القليل يلقى إلى الجماعات الضخمة من الناس ... ولا يفكر الذين يقولون هذا الكلام ويكتبونه في أن حوادث حياتهم اليومية تنقض ما يقولون نقضا. فإن الحكومة إنما قامت لتجري الأمور بين الناس بالقسط، وتقضي بينهم بالحق، وتمكن كل واحد منهم من أن يأخذ نصيبه الضئيل من الطعام القليل، لا يعدو في ذلك بعضهم على بعض، ولا يظلم القوي منهم في ذلك الضعيف، وليس المهم أن تنجح الحكومة في ذلك أو تخفق، وأن تعدل الحكومة في ذلك أو تجور، وإنما المهم أنها أنشئت لتجري أمور الناس بينهم بالقسط، ولتطعم عشرين رجلا من تسع عشرة أوزة، والخطأ الذي انحرف فيه جحا عن الصواب، ولم يكن للقاضي أن يجاريه فيه: هو أنه أراد أن يقسم التسع عشرة أوزة على العشرين قسمة سواء ، ولو أنه أصلح الأوز، وهيأه للطعام؛ لجاز أن يغذي بهن مائة أو مئات من الناس دون أن يقع بين هؤلاء الناس صراع أو قراع، ولكن جحا لم يكن مصريا، ولا عربيا، وربما كان له حظ من دعابة، ولكنها دعابة غير عاقلة، ولو قد كان جحا مصريا عربيا لعرف أن في مصر أمة تمتاز بخصلتين؛ إحداهما: القناعة والرضى بالقليل، والأخرى: الإيمان بالمعجزات، والكرامات، وخوارق العادات.
وليس كل مصري حريصا على أن يأخذ أوزة صحيحة حية يفرح بها في بيته، وينظر إليها تذهب وتجيء، تبسط جناحيها وتقبضها، وترسل في الهواء صوتها الذي يطرد الملائكة، ويدعو الشياطين، كما يقول أهل الريف. ليس كل مصري حريصا على أن يظفر بين حين وحين بجزء أوزة عظيم أو ضئيل، بل ليس كل مصري حريصا على أن يذوق طعم الأوز أو يشم ريحه، وإنما المصريون قوم قانعون أكثرهم يرى الأوز ويسمع عنه، ولكنه لا يبلو طعمه، ولا يعرف له مذاقا.
وهو على ذلك لا ينكر الحياة، ولا يضيق بها، ولا يسخط عليها فإن أتيح له قليل من لحم الأوز أو من مرقه أو من ريحه حمد الله، وأثنى عليه، وشكر له هذه النعمة التي لم يكن ينتظرها، ولا يرجوها.
وقد أراد الله بالمصريين خيرا فلم يجعل العلم أوزا، ولم يجعل الأوز علما، وإنما جعل العلم شيئا كهذا الهواء الذي يمتلئ به الجو، ويستطيع الناس جميعا أن يتنفسوه، وجعل العلم شيئا كهذا الماء الذي يفيض به النيل، ويستطيع الناس جميعا أن يشربوه، وقد يكون الهواء نقيا، وقد تكدره رمال الصحراء؛ فالناس يتنفسونه على كل حال ... وقد يكون الماء صفوا، وقد تشوبه الجراثيم؛ فالناس يشربونه على كل حال، وقد يكون الطعام كثيرا، وقد يكون قليلا، وقد يكون صالحا، وقد يكون رديئا؛ فالناس يأكلونه على كل حال؛ لأنهم لا يريدون أن يموتوا مختنقين، ولا أن يموتوا ظامئين، ولا أن يموتوا جائعين، وقد تكون المدرسة واسعة، وقد تكون ضيقة، وقد يكون الأستاذ ممتازا، وقد يكون معتدل الحظ من الامتياز، وقد يكون الكتاب ميسرا، وقد يكون معسرا، ولكن الناس يتعلمون على كل حال؛ لأنهم لا يريدون أن يعيشوا جاهلين، ومكان وزارة المعارف في مصر كمكان وزارة التموين. فما رأي جحا التركي إن قيل له: إن في مصر طعاما يكفي لتغذية نصف المصريين، وأن نصفهم الآخر يموت جوعا.
وما رأي جحا التركي إن قيل لوزارة التموين إن في مصر كساء يكفي لنصف المصريين، فيجب أن يكتسي نصفهم، وأن يظل نصفهم الآخر ضاحيا عاريا. وما رأي وزير التموين إن قيل له مثل هذا الكلام؟ وما رأي البرلمان إن قال له وزير التموين مثل هذا الكلام، وأي النصفين من المصريين يستطيع أن يأكل، وأن يكتسي فيعيش، وأي النصفين من المصريين يحب أن يجوع، وأن يعرى فيموت. أما جحا التركي: فلن يرى بأسا في أن يأكل القادر على أن يشتري الطعام، ويكتسي القادر على أن يشتري الثياب، ويموت الذين لا يقدرون على أن يشتروا طعاما ولا ثيابا، وليس على أحد من ذلك بأس؛ فالله قد قسم الحظوظ بين الناس فجعل بعضهم غنيا يستطيع أن يشتري الغذاء والكساء، وجعل بعضهم معدما لا يستطيع أن يجد غذاء ولا كساء.
ولكن وزارة التموين لا تذهب لحسن الحظ هذا المذهب الآثم، وإنما تفعل ما تستطيع؛ ليجد الفقراء والأغنياء ما يقيم الأود، ويستر الجسم، وهي تغذو الأعداد الضخمة بالقليل من الطعام، وتكسو الأعداد الضخمة بالقليل من الثياب؛ توفق أحيانا، ويخطئها التوفيق أحيانا أخرى، والفرق بين جحا المصري وجحا التركي بسيط جدا، فجحا المصري لا يفرق بين العلم والطعام، وجحا التركي يرى أن من حق الناس أن يأكلوا ويشربوا ويعيشوا، وألا بأس عليهم من أن يجهلوا، ويخضعوا لآفات الجهل فيمتاز بعضهم من بعض، ويتفوق بعضهم بعضا، ويصبح بعضهم لبعض عبيدا وتبعا.
وقد نشأ المصريون على ألوان من العقائد يحدثهم بها جحا المصري مصبحا وممسيا؛ فهو يحدثهم بأن النبي
صلى الله عليه وسلم
قد أطعم الأعداد الضخمة من أصحابه حتى أشبعهم بالقليل الضئيل من الطعام الذي لم يكن يكفي إلا لتغذية الرجلين أو الثلاثة، وهو يحدثهم بأن الله قد أنزل على عيسى مائدة من السماء كانت عيدا لأولهم وآخرهم، وهو يحدثهم بأن في ألف ليلة وليلة أوزا لا كالأوز، ودجاجا لا كالدجاج تؤكل الواحدة منها حتى لا يبقى إلا عظمها، قد جرد من كل ما كان عليه من اللحم، ثم يجمع هذا العظم في طبق من الأطباق، ويقال له كلام فينتفض بقدرة الله، ويعود كهيأته قبل أن يؤكل أوزا ودجاجا يستطيع أن يجد فيه الجائع شبعا ولذة، فمصدر هذا كله أن جحا المصري يؤمن بالبركة من جهة، ويؤمن بالعدل من جهة أخرى، ويرى من أجل ذلك أن القليل يجب أن يكفي الكثير، وأن الناس كلهم لآدم، وأن آدم من تراب، وأنهم جميعا من أجل ذلك سواء في الحقوق والواجبات يجب أن يأكلوا ويشربوا ويتنفسوا ويتعلموا، لا يمتاز بعضهم من بعض إلا بالتقوى، والأعمال الصالحات التي هي خير عند ربك ثوابا، وخير مردا.
فأنت ترى فرقا بين التعليم الذي يعلمه جحا المصري للمصريين، والتعليم الذي يلقيه إليهم جحا التركي من مدرسته تلك في جمبولاد، وقد أراد الله أن يفهم المصريون لغة المصريين، وألا يفهم لغة التركي منهم إلا أفراد قليلون، وهم من أجل ذلك لا يشبهون التعليم بأوز جحا التركي، وإنما يشبهونه بهذه المائدة التي أنزلها الله من السماء فكانت عيدا للناس أولهم وآخرهم، وبهذا الطعام القليل الضئيل الذي أشبع منه النبي
صلى الله عليه وسلم
مئات من صحابه ثم تركه كاملا موفورا، وبهذا الأوز الذي تحدثني عنه ألف ليلة وليلة بأنه ينفد ليتجدد، ويفني ليبقى، ويموت ليحيا.
وهم يريدون من علمائهم، وأدبائهم، ووزرائهم، وشيوخهم، ونوابهم، وقادة الرأي فيهم أن يؤمنوا مثلهم بهذه الآيات، وألا ييأسوا من روح الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
وهم يريدون من علمائهم، وأدبائهم، وقادة الرأي فيهم أن يعرضوا عن هذا الهزل إلى الجد، وعن الباطل إلى الحق، وأن يعلموا المصريين ما وجدوا إلى تعليمهم سبيلا في المدارس الواسعة، وفي المدارس الضيقة، وفي الهواء الطلق على الكراسي الوثيرة، وعلى الكراسي الخشنة، وعلى الحصر، وعلى الأرض العراء؛ لأنهم يرون الجهل حريقا يلتهم النفوس والقلوب، ويجب أن يطفأ مهما تكن الوسائل التي تتخذ لإطفائه.
وهم يريدون من علمائهم، وأدبائهم، وقادة الرأي فيهم أن يقولوا للدولة: أنفقي، وأنفقي عن سعة، فإن لم تتح لك الميزانية ما تريدينه فافرضي الضرائب في غير تردد، وفي غير مهل، وعلمي حتى لا يبقى في مصر جاهل ولا غافل، ولا معرض للاستغلال مهما يكن المستغل، والاستذلال مهما يكن المستذل، والتسلط مهما يكن المتسلطون، وإنه لمن المؤلم المؤذي حقا أن يحتاج المصريون إلى أن يقولوا هذا للعلماء، والأدباء، وقادة الرأي.
وقد مرت على المصريين أيام كانوا يساقون إلى المدارس بقوة السلطان، ويدفعون إليها دفعا بالإكراه، ويفرون بأبنائهم من التعليم. فقد انعكست الآية، وتغيرت الأيام، وأصبح الجاهلون يطلبون العلم فيردهم عنه العلماء، فإذا ألحوا في ذلك سيقت إليهم أحاديث الأوز، وقصت عليهم قصص جحا، وعبثه في جمبولاد.
كلا أيها السادة، يجب أن يخلص العلماء للعلم، وأول مراتب الإخلاص له أن ينشروه بكل وسيلة، وأن يذيعوه من كل سبيل، وألا يكونوا كهذا البخيل الذي يقول فيه بشار:
وللبخيل على أمواله علل
زرق العيون عليها أوجه سود
قسوة
في مصر ظاهرة غريبة لست أدري أتوجد في غيرها من البلاد أم لا توجد؟ وأكبر الظن أنها ظاهرة طبيعية في البلاد التي لم يتم تطورها بعد، ولم تتحضر قلوب فريق من أبنائها تحضرا صحيحا، وإنما اتخذت من الحضارة غشاء رقيقا يخفي وراءه جاهلية جهلاء، وقسوة قاسية منكرة، وهذه الظاهرة هي قسوة الذين لهم باللين عهد حديث، وغلظة الذين أدركتهم النعمة بعد أن ذاقوا ألم الشقاء، وبلوا مرارة البؤس والحرمان.
ينشأ أحدهم كما تنشأ الكثرة الضخمة من الشعب المصري في أسرة شقية بائسة أو في أسرة متوسطة متواضعة، فيتكلف أهله ما يتكلفون من الجهد، ويحتمل أبواه ما يحتملان من المشقة والعناء؛ ليرفعاه إلى حال خير من حالهما، ولينزلاه منزلة أرقى من منزلتهما، وفيه هو ما في الكثرة الضخمة من الشعب المصري من هذا الذكاء الحاد، والعقل الخصب، والطموح إلى الخير، والقدرة على الجد، فما يزال الأبوان يكدحان ويشقيان، وما يزال هو يكد ويجد، وما يزال التعاون بين كدح الأسرة وجد الفتى الناشئ يؤتي ثمره قليلا قليلا، حتى يبلغ الفتى بعض ما أرادت له الأسرة أو كل ما أرادت له الأسرة، وبعض ما أراد لنفسه أو كل ما أراد لنفسه، وإن كانت حاجة من عاش لا تنقضي كما يقول الشاعر القديم، وإذا صاحبنا فتى موفق موفور قد بلغ من لين الحياة وخفض العيش ما لم تبلغ أسرته؛ فعلم وكانت أسرته جاهلة، ونعم وكانت أسرته بائسة، وابتسم وكانت أسرته عابسة، واستقبل الحياة في رجاء كثير وأمل واسع، فجعل لا يرقى إلى درجة إلا طمع في أن يرقى إلى درجة أعلى منها، وجعل لا يظفر بخير إلا حرص على أن يبلغ خيرا أكثر منه، وأصبحت الحياة بالقياس إليه ميدان سباق إلى التفوق لا ميدان جهاد لكسب القوت.
هنالك يتنكر لماضيه القريب، وينسى تلك الدموع التي سكبتها الأمهات في كثير من مواطن البؤس والشقاء، وذلك العرق الذي سكبه في كثير من مواطن الجد والعمل، وتلك المواقف الحرجة التي وقفتها الأسرة في كثير من مواطن الأزمة والضيق، والتي كانت ترده عن المدرسة؛ لأن الأسرة لم تكن تملك المصروفات، وكادت تضطره إلى الجهل والخمول؛ لأن الأسرة لم تكن تجد ما تنفق على نفسها فضلا عن أن تجد ما تنفق عليه، ولكن الأم نزلت عن آخر ما بقي لها من الحلي أو استغنت عن بعض ما في بيتها من المتاع، ولكن الأب ضاعف الجهد، ووصل الليل بالنهار في العمل، وأراق ماء وجهه عند فلان أو فلان يقترض منه مقدارا ضئيلا أو ضخما من المال، واستطاعت الأسرة بفضل هذا الشقاء المتصل، والعذاب الأليم أن تحل الأزمة، وتخرج من الحرج، وتؤدي المصروفات، وتقوم له بما يحتاج إليه ليمضي في درسه وادعا مطمئنا ناعم العين رضي البال، ولعل الأسرة لم تتعرض لهذا الحرج مرة واحدة ولا مرتين، وإنما تعرضت له مرات ومرات حتى أتم الفتى درسه، وبلغ ما أرادت له الأسرة، وما أراده هو لنفسه.
ينسى هذا كله نسيانا يسيرا سهلا؛ ينساه بالقياس إلى نفسه فيحسب أنه قد نشأ في النعمة والرخاء، وأن ليس له بالضنك والضيق عهد، وينساه بالقياس إلى أسرته فيحسب أنها لم تقدم إليه شيئا؛ لم تشق ليسعد، ولم تكد ليستريح بالنعيم. ثم هو ينساه بالقياس إلى الجيل الناشئ؛ فلا يفكر في أن بين هؤلاء الأطفال والصبية الذين يبسمون فتبتسم الحياة، والذين يمرحون فيشيع من حولهم الرضى والغبطة مئات ومئات، إنما يشتقون ابتساماتهم هذه الحلوة من عبوس الآباء والأمهات، وإنما يشتقون ضحكهم هذا المرح من حزن الآباء والأمهات كما كان هو يشتق ابتسامه ومرحه من عبوس أبويه، وحزنهما في العهد القديم.
ينسى هذا كله نسيانا، ويجهله جهلا، وتمحوه الحياة من قلبه محوا قاسيا؛ فإذا هو يرى الناس كلهم ناعمين كما ينعم، راضين كما يرضى، قادرين على الإنفاق كما هو يقدر على الإنفاق، ليس عليهم إلا أن يريدوا ليظفروا، وليس عليهم إلا أن يضعوا أيديهم في جيوبهم ليجدوا ما يحتاج إليه أبناؤهم من هذه النفقات التي تزداد كلما تقدمت الأيام. يرى نفسه موفورا فيحسب الناس كلهم موفورين، ويجد نفسه سعيدا فيحسب الناس كلهم سعداء.
وهو من هنا قاس أشد القسوة، عنيف أشد العنف، ينظر إلى الرحمة على أنها خور في الطبيعة كما كان يراها وزير عربي قديم، وينظر إلى العدل على أنه قوة في يد الدولة ترفع بها من تشاء إلى حيث تشاء، وتخفض بها من تشاء إلى حيث تشاء.
ثم ينظر إلى الحياة على أنها جهاد لا ينال خيرها إلا بالكد والجد والعناء كما يتصور هو الكد والجد والعناء، وهو على ذلك صورة عابسة لدولة عابسة لا شر فيها ولا رضى، ولا رفق فيها ولا ابتسام، إنما هي القسوة المنكرة، والعنف المسلط على الرءوس والنفوس، وعلى كل شيء من حوله حتى تستحيل الحياة جحيما أو شيئا يشبه الجحيم.
وأنت تستطيع أن تنظر في حياتنا العامة على اختلاف فروعها فسترى كبارا يقسون على صغار؛ لأنهم نسوا أنفسهم أو قل نسوا ماضيهم، ولم يذكروا أنهم كانوا صغارا، وأنهم شقوا بهذه القسوة من كبار الجيل الماضي، وأن الحق عليهم لأنفسهم وللناس أن يمحوا هذا الشقاء، ويجنبوا الناشئ ما شقي به الجيل الماضي لا أن يثأروا لأنفسهم من الأبرياء؛ فكثير من هؤلاء الكبار القساة إنما يصطنعون القسوة متأثرين بشعور عميق خفي هو شعور الحاجة إلى التشفي والانتقام؛ لكثرة ما ذاقوا من الشدة والجهد حين كانوا صغارا.
وشر من هؤلاء قوم قست عليهم الحياة، ورفقت بهم الدولة؛ فأعانت أسرهم على تربيتهم وتعليمهم، ومكنتهم من أن يتموا الدرس على أحسن وجه، ويتقلبوا في المناصب حتى تصير إليهم الأمور، وإذا هم ينسون في وقت واحد قسوة الحياة عليهم فيقسون على الناس، ورفق الدولة بهم فلا يرفقون بأحد. أخذوا لأنفسهم ما استطاعوا من لين الحياة، وهم يأخذون لأنفسهم وسيأخذون لأنفسهم ما يستطيعون من لين الحياة، ولكنهم لا يعطون شيئا، لا من ذات أيديهم، ولا مما في يد الدولة؛ لأنهم إنما نعموا بالحياة، وينعمون بها من حيث إنهم ممتازون قد اشتقوا من عناصر ممتازة، وهم ليسوا كغيرهم من الناس، ولا ينبغي أن يشبه بهم الناس من قريب أو بعيد، وصدق الله العظيم في قوله الكريم:
ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين .
كل هذه الخواطر الحزينة الشاحبة التي تملأ النفس بؤسا وحزنا ومرارة، وإنما تخطر لي في هذه الأيام حين تنتهي إجازة الصيف، ويستقبل الناس العام الدراسي الجديد. من شأن هذه الأيام أن تكون أيام ابتهاج حلو، واكتئاب هادئ لا مرارة فيه. من شأنها أن تكون أيام ابتهاج؛ لأن الأطفال، والصبية، والفتيان يستقبلون عامهم الدراسي الجديد الذي سيملؤه النشاط الخصب فتنمو عقولهم وأخلاقهم وأجسامهم، ويخطون إلى الرجولة خطوات مباركة ترقبها الأسر سعيدة مبتهجة.
ومن شأن هذه الأيام أن تكون أيام اكتئاب هادئ لا مرارة فيه؛ لأن الأطفال، والصبية ، والفتيان سيفارقون الأسر إلى حيث معاهدهم العلمية، فتحزن الأسر شيئا، ولكنه حزن باسم إن صح أن يبتسم الحزن، ويحزن التلاميذ والطلاب شيئا، ولكنه حزن قصير رقيق لا يلبث أن تمحوه حياة الدرس، ولكن هذه الأيام عندنا ليست أيام ابتهاج باسم، واكتئاب هادئ، وإنما هي أيام الحزن الممض والشقاء الملح، والعذاب الأليم، والصراع بين القدرة والعجز وبين الأمل واليأس وبين القوة والضعف، وهي الأيام التي يجب أن يشقى فيها الآباء والأمهات ليجدوا لأبنائهم ما ينفقون، وليؤدوا عنهم أجور التعليم، وأجور التعليم في مصر ليست سهلة ولا يسيرة، وإنما هي أجور ثقيلة عسيرة قد فرضت على أساس أن الأمة غنية أو أن التعليم حق للأغنياء دون غيرهم من الناس، وأين يجد الآباء ما يحتاج إليه أبناؤهم من نفقة يعيشون بها في عاصمة الدولة أو في عواصم الأقاليم، وأين يجد الآباء ما يؤدون إلى وزارة المعارف أو إلى الجامعة ليتعلم أبناؤهم. يجب إذن أن تنزل الأمهات عما بقي لهن من حلي، وعن بعض ما في بيوتهن من متاع، ويجب أن يريق الآباء بعض ما في وجوههم من ماء؛ ليقترضوا من هنا وهناك ما يعينهم على تعليم أبنائهم.
ما أروع نظامنا الاجتماعي في تكدير الحياة، ومن حقها أن تصفو، وفي تنغيص العيش، ومن حقه أن يكون حلوا رقيقا.
إن الطالب الأوروبي ينفق أكثر أيام الطلب لا يكلف أهله شيئا من نفقات التعليم؛ لأن الدولة تعلمه بلا أجر، فإذا أتم تعليمه الثانوي، وأراد الاتصال بالجامعة فهو في بعض البلاد لا يكلف أهله شيئا؛ لأن الدولة تعلمه في الجامعة بغير أجر، وهو في بعض البلاد الأخرى لا يكلف أهله شيئا يذكر؛ لأن الجامعة تأخذ منه أجرا صوريا. فليعلم المصريون أن مصروفات التعليم في كليات الآداب والعلوم في فرنسا مثلا لا تزيد على سبعين قرشا مصريا في العام، أي أنها لا تبلغ ما يدفعه الطلاب عندنا رسما للمكتبة والاتحاد، فأما مصروفات التعليم عندنا فيعرفها الآباء الذين يسعون، ويعرفها الأمهات اللائي ينزلن عما لهن من حلي أو عن بعض ما في بيوتهن من متاع، ويعرفها رجال وزارة المعارف ورجال الجامعتين الذين تعلمت كثرتهم الكثيرة على حساب الدولة بالمجانية في مصر وفي أوروبا؛ لأن الدولة كانت محتاجة إلى المتعلمين ثم هم الآن يقاومون المجانية ما وجدوا إلى مقاومتها سبيلا، ويحتالون في التخلص منها، يسلكون إلى ذلك الطرق الملتوية إذا لم يستطيعوا أن يسلكوا إليها الطرق المستقيمة. يرفعون نفقات الطعام والكتاب، ويحسبون أنهم يحتفظون بالمجانية.
ويحكم أيها الناس، ومن أين لغير الأغنياء بأثمان الطعام والكتاب التي تطلبونها، لا تنظروا إلى أنفسكم الآن، ولكن انظروا إلى أنفسكم حين كنتم صبية وأطفالا وفتيانا، واذكروا كيف كانت أسركم تشقى بدفع المصروفات، وكيف كانت أسركم تسعد أن أتيحت لكم المجانية، واجتهدوا في أن تجنبوا أسر هذا الجيل ما احتملت أسركم من شقاء، واجتهدوا في أن تتيحوا لأسر هذا الجيل ما أتيح لأسركم من السعادة حين ظفرتم بالمجانية، واحذروا أن تكونوا من الذين قال الله فيهم:
ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون .
اللهم اشهد أني ما ذهبت قط إلى الجامعة أو إلى وزارة المعارف إلا كانت هذه القصة ملء قلبي، وإلا ذكرت أني كنت سعيدا حين تعلمت على حساب الدولة، فمن الحق علي أن أتيح بعض هذه السعادة لأكبر عدد ممكن من شباب مصر، ولو استطعت لأتحتها لهم جميعا.
ومن يدري فما لم نستطعه أمس قد نستطيعه غدا، ولا بد من أن يبلغ الكتاب أجله، ولا بد لمصر من أن تظفر بحقها من العدل في يوم من الأيام.
ثعلب
لو رأيته قبل عشرين سنة يا سيدتي لما أنكرت منظره هذا الغريب، حين رأيته يقبل متدحرجا كأنه البرمة الهائلة، لم ترتفع في الجو كثيرا، ولكنها اتسعت عن يمين وشمال، وامتدت من خلف وأمام، وهي تسعى مع ذلك خفيفة لا تكاد الأرض تحس لها ثقلا؛ لأنها اتخذت من لحم وعظم، ولم تتخذ من حجر وصخر.
لو رأيته قبل عشرين سنة يا سيدتي لما أنكرت منظره هذا الغريب حين أقبل فحيا ، ثم تقدم يسعى حتى إذا بلغ مكانه جلس، وكأنه الكثيب المنهال، فكان الناظر إليه يسأل نفسه لأول وهلة أيرى إنسانا جالسا أم يرى كومة من الرمل، قد استخفى فيها شخص ضئيل لا يكاد يظهر منه إلا تقاطيع وجهه ضئيلة غائرة خليقة ألا ترى. لولا هذا الصوت الذي يخرج منها ضئيلا نحيلا، ولولا هذا الشرر الذي يتطاير من عينين صغيرتين لا تفتح عنهما الجفون إلا في بطء بطئ وثقل ثقيل كأنما تشد بخيط قد ركب في قفاه، وقام شخص من ورائه يجذبه متكلفا بين حين وحين.
فلم تكن هذه حاله قبل 20 سنة، وإنما كان فتى نحيفا ضعيفا ونحيلا ضئيلا رشيق الحركة كثير الاضطراب لا يعرف السعي الهادئ، ولا المشي المطمئن، وإنما كان يجري على الأرض أو كان يجري فوق الأرض، كأنه شيء من هذه الحيوانات الصغيرة الخفيفة التي ملئت نشاطا وقوة وحياة، والتي تريد أن تطير في الجو لولا أن الله لم يرزقها جناحين.
ولم تكن هذه حاله إذا انتقل من حيز إلى حيز فحسب، وإنما كانت هذه حاله أيضا إذا استقر في مكان، وأقبل على عمل من الأعمال. فقد كان متحركا دائما مضطربا دائما، لا تكاد العين تلحظه إلا رأت شيئا من شخصه يتحرك فوجهه ملتفت مرة إلى يمين ومرة إلى شمال، ورأسه يرتفع حينا أو ينخفض حينا آخر، ويداه تذهبان وتجيئان، ورجلاه تداعبان الأرض مداعبة متصلة، ولسانه لا يكاد يستقر في فمه، وإنما هو متحرك دائما ببعض القول، ولم يكن شخصه المعنوي أقل حركة واضطرابا من شخصه المادي؛ فقد كان عقله مفكرا دائما، وكان قلبه متوثبا دائما، وكان انطلاق لسانه في فمه مصورا دائما لهذا العقل الذي لا يني في التفكير، ولهذا القلب الذي لا يفتر عن الشعور، وكان على هذا كله، ولهذا كله، ومع هذا كله لا أدري، متوقد الذهن حاد الذكاء، لا تعرض له مسألة من المسائل إلا سبق أترابه إلى تعمقها، والنفوذ إلى دقائقها، واستخراج ما كان يمكن أن يستخرج منها، وكان على ذلك أو لذلك أو مع ذلك لا أدري، ماكرا شديد المكر عابثا غاليا في العبث، حتى أحبه أترابه أشد الحب، وخافوه أعظم الخوف، أحبوه لذكائه وخفته، وخافوه لتفوقه ولحيلته هذه الواسعة، وعبثه هذا المتصل، ودعابته هذه التي لا تنقضي.
وكانوا يسمونه فيما بينهم الثعلب، وربما بهرهم مكره، وتعاظمتهم حيلته الواسعة فسموه الثعلبان. يرون في هذه الصيغة خطأ أو صوابا مبالغة فيما يريدون أن يخلعوا عليه من صفات الثعلب من الخفة والرشاقة، ومن المكر والدهاء.
ولم يكن أترابه من التلاميذ وحدهم هم الذين يعجبون به، ويعجبون منه، وإنما كان أساتذته كذلك يكبرون ذكاءه، ويقدرون نشاطه، ويرضون عن جده في الدرس، واجتهاده في التحصيل وإسراعه إلى الإجابة كلما ألقي سؤال، وتفوقه في الامتحان مهما يكن عسيرا، وهم من أجل ذلك كانوا يرعونه، ويتعهدونه بالسؤال عنه، والتشجيع له، والتتبع لتقدمه في الدرس حتى كأنه كان ابنا لكل واحد منهم، وكان إعجاب رفاقه به، ورعاية أساتذته له يشعرانه الرضى عن نفسه، والثقة بها، ويملآن قلبه أملا حلوا في مستقبل باسم سعيد، وكان مع ذلك من أسرة متواضعة أشد التواضع، ضيقة الحال أشد الضيق، تجد الجهد كل الجهد في كسب القوت فضلا عما تحتاج إليه من مرافق الحياة، وكان الصبي يرى ذلك، ويشقى بآثاره، ولكنه لم يكن يحفل به كثيرا؛ لأنه كان راضيا عن نفسه وأثقالها، مطمئنا إلى أمله الباسم الحلو، ومستقبله الرضي السعيد، وقد أتم الدرس الابتدائي، وهم أهله أن يصرفوه عن التعليم؛ ليوجهوه إلى بعض العمل لعله يعينهم على بعض ما يلقونه من البؤس، ويشقون به من الضيق، ولكن الصبي بكى، وأغرق في البكاء حتى رقت له أمه، ورثي له أبواه، وتكلفت الأسرة ما تكلفت فجد الأب في الكسب، وخرجت الأم عما بقي لها من حلية، وتوسط بعض أساتذته في إعفائه من أجر التعليم فظفر بالمجانية، ومرق من التعليم الثانوي كما يمرق السهم من الرمية لم تعرض له عقبة إلا ذللها، ولا صعوبة إلا قهرها، لم يعرف الرسوب في الامتحان، ولم يعرف التخلف عن الأقران، وإنما كان السابق المتفوق دائما حتى إذا انقضت تلك الأعوام الثلاثة التي كان التلاميذ ينفقونها في التعليم الثانوي كان الفتى قد جمع شهادتين من شهادات الحكومة كما كان أبوه يقول لأمه إذا خلا إليها، وكما كانت أمه تقول لصاحباتها إذا تحدثت إليهن.
وكان أبوه حريصا أشد الحرص على أن يضاعف الجد والكد، وكانت أمه شديدة الحرص على أن تلتمس عملا كريما في أسرة كريمة ليستطيع الفتى أن يمضى في درسه حتى يظفر بالشهادة الثالثة، وإنما هي أعوام تنفق في هذه المدرسة أو تلك من المدارس العليا؛ ليصبح الفتى رجلا متفوقا ممتازا يستطيع أن يطمح إلى مناصب المتفوقين الممتازين بين رجال الدولة الذين يحلون ويعقدون، وينقضون ويبرمون، ولكن لله في خلقه حكمة بالغة لا يعرف كنهها، ولا تدرك أسرارها، فلم يكد يتقدم الصيف في ذلك العام حتى اعتل أبو الفتى أياما، ثم تقطعت به أسباب الحياة وأسباب الأمل جميعا ففارق هذه الدار، ولم ينعم بما كان يتمنى به من ظفر ابنه بالشهادة الثالثة، واشتغاله بخدمة الحكومة في منصب من هذه المناصب الممتازة التي لا يظفر بها إلا المتفوقون الممتازون، ولم ير الفتى بدا من أن يتلمس العمل ليحيا، ولتحيا أمه، وفي الشهادة الثانوية مقنع للشاب الذي يريد عملا متوسطا، بل في الشهادة الابتدائية مقنع في ذلك الوقت للصبي الذي يريد عملا متواضعا، وما هي إلا أن يسعى الفتى، ويعينه بعض أساتذته في هذا السعي، وإذا هو يظفر بمنصب متوسط في بعض الدواوين، وقد ضمن لأمه ولنفسه الغذاء والكساء كما يقال في هذه الأيام، ولكن الفتى حول يحسن مقارعة الدهر لا يسد عليه مسلك من مسالك الحياة إلا فتح له مسلك آخر من مسالكها كما يقول الشاعر القديم، والتعليم في ذلك الوقت ميسر أكثر مما هو في هذه الأيام لقلة المتعلمين، وشدة الحاجة إليهم. فما يمنع صاحبنا أن يختلف إلى الديوان وجه النهار، وإلى مدرسة المعلمين آخره، وقد فعل، وما هي إلا أعوام حتى يبشر أمه أنه قد نال الشهادة الثالثة، وإذا علمه يتغير، وأجره يرتفع، وإذا هو لا يقنع لأمه ونفسه بالغذاء والكساء، وإنما يضيف إليهما شيئا من طيبات الحياة، وقد جعل رضى الفتى عن نفسه يشتد، وجعلت ثقة الفتى بنفسه تزداد، وجعل الأمل يهدي إليه ابتسامات فيها شيء من سعة، وجعل المستقبل يدعوه بإشارات فيها شيء من إلحاح، وقد سأل الفتى نفسه ما الذي يمنعه من أن يختلف إلى عمله وجه النهار، وإلى مدرسة الحقوق آخره، وما الذي يرغبه عن ذلك، وليس له أرب في هذه الحياة الفارغة التي يحياها أترابه من الشبان إذا تقدم النهار، وقد فعل، وما هي إلا أعوام حتى يقبل الفتى سعيدا محبورا فينبئ أمه بأنه قد ظفر بالشهادة الرابعة، والشيخة راضية؛ لأن ابنها يرقى ويرقى، ويكدس الشهادات لنفسه تكديسا، والشيخة محزونة؛ لأن زوجها لا يشاركها في هذا الرضى، ولا يشاطرها هذا النعيم، والفتى مقبل على أيامه ينتهبها انتهابا، وقد زاد رضاه عن نفسه، وثقته بها، وقد زاد ابتسام الأمل له سعة، واشتد دعاء المستقبل عليه إلحاحا، وهو يسأل نفسه لم لا يظفر بشهادة خامسة، وبشر أمه ذات يوم بأنه قد ظفر بهذه الشهادة الخامسة، ولكنه أنبأها في الوقت نفسه بنبأ مزق قلبها تمزيقا، وأجرى دموعها على خديها غزارا. فقد عرفت له الدولة نبوغه، وقدرت تفوقه، ورأت أن الشهادة السادسة يجب أن تضاف إلى الشهادات الخمس، وأن هذه الشهادة السادسة لا تطلب من مصر، وإنما هي بعيدة، بعيدة، يعبر لها البحر، وتطلب من بلاد الإنجليز، ولم يكن الفتى أقل من الدولة اعترافا بنبوغه، ولا إقرارا بحقه في الظفر بالشهادة السادسة، والعلم يطلب ولو في الصين، والشهادات تطلب ولو في بلاد الإنجليز، ولا يتقدم الصيف حتى يكون الثعلب قد هيأ نفسه للرحلة البعيدة، والغياب الطويل، وقد غاب ما غاب، ثم آب ومعه الشهادة السادسة والشهادة السابعة، وإذا هو رجل مرموق لا يذكر إلا أكبره ذاكروه، ولا يرى إلا أشير إليه بالبنان؛ هذا فلان، أترى إلى فلان، إنه ذو الشهادات السبع.
وقد أكبرته الدولة، وعرفت له حقه وحق شهاداته هذه الكثيرة التي يمكن أن تبسط على جدار من جدران مكتبه فتكسوه كله بهذا الورق الجميل يملأ الثناء الجميل، وقد رضي الفتى عن نفسه كل الرضى، ووثق بها كل الثقة، ولكنه زهد في الشهادات كل الزهد، وأدركه شيء يشبه التخمة، فاتجه نشاطه اتجاها آخر ملائما كل الملائمة لطبيعة الحياة المصرية في ذلك الوقت.
فقد كانت الثورة المصرية قد غيرت أشياء كثيرة من أمور الناس، ومن أمور الحكم، ومن أمور المستقبل الذي يطمع فيه الشباب. نشأ نظام الأحزاب، ونشأ الصراع بين هذه الأحزاب.
ونشأت الفرص الكثيرة التي ينتهزها الأذكياء؛ ليستفيدوا من صراع الأحزاب، ونظر الثعلب ذات يوم فإذا الحياة المصرية كلها تلقي في نفسه أنه قد خلق للفوز، وأن الفوز قد خلق له؛ لأن الحياة المصرية لم تكن في وقت من الأوقات ملائمة لخفة الثعالب ورشاقتها وذكائها ونهمها منها في هذه الأيام، وما ينبغي لمن يريد الفوز في هذه العواصف العاصفة، وفي هذه المصالح المشتبكة، والخصومات المتصلة، والمنافع المعقدة إلا أن يكون فطنا، وصاحبنا شديد الفطنة، لبقا، وصاحبنا عظيم الحظ من اللباقة، خفيفا، وصاحبنا أخف من النسيم، ماكرا، وصاحبنا أمكر من المرأة، صامتا، وصاحبنا أشد صمتا من الصخرة الصماء.
وقد ينبغي أن يضيف المرء إلى هذه الخصال ليبلغ ما يجب من الفوز، خصلة أخرى تشتق من هذه الخصال جميعا، فيتلطف حتى يشعر الأحزاب جميعا بأنها جميعا محتاجة إليه، وحتى يشعر المرافق العامة جميعا بأنها كلها تستطيع أن تنتفع به، وحتى يشعر الساسة جميعا بأنه رجل فن لا رجل سياسة، وقد استطاع صاحبنا أن يبلغ من هذه الخصال كلها ما أراد.
فقد كان ثعلبا في المدرسة الابتدائية، وكان ثعلبا في المدرسة الثانوية، وكان ثعلبا في الدواوين التي اختلف إليها وجه النهار، وفي المدارس التي اختلف إليها آخره، وكان ثعلبا في بلاد الإنجليز، وعاد منها أشد إغراقا في خصال الثعلب، ومكنته شهاداته السبع من أن يتثعلب في فروع مختلفة من فروع العلم والمعرفة.
وإذا الأحزاب كلها عنه راضية، وبه معجبة، وإليه محتاجة، ولكنه فقد من خصال الثعلب خصلة واحدة هي التي حملتك يا سيدتي على أن تضحكي منه حين رأيته يقبل كأنه البرمة الضخمة، وحين رأيته يجلس فينهال كما ينهال الكثيب.
ذلك أن الأيام أحبته حبا شديدا، فأخذت لا يمر به يوم منها إلا خلع عليه قميصا من الشحم قد فصل على قده تفصيلا، وجعلت هذه الثياب الشحيمة تتراكم وتتراكب حتى مدته إلى يمين وإلى شمال، وزادته بسطة في الجسم من خلف ومن أمام، وجعلته كما ترين جبلا يتحرك في خفة، ويعمل في ذكاء.
قالت السيدة، وكانت أدبية أريبة، أرجو ألا يكون ثعلبك هذا الغليظ من ثعالب المتنبي التي يقول فيها:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمنا، وما تفنى العناقيد
شياطين البيان
صدقني يا سيدي أو لا تصدقني لن يغني هذا عن الحق شيئا، والحق الواقع، وهو أن هذه القصة ليست مخترعة، ولا مصطنعة، وليس للخيال فيها أثر قليل أو كثير، وإنما هي شيء وقع، كما أن من الأشياء الواقعة أني قد خرجت من داري حين ارتفع الضحى، فسعيت إليك متثاقلا أستمتع بهذا الجو الرائق، وبهذه الشمس الفاترة، وبهذا النسيم البارد الرقراق، وأدير في نفسي ما وقع لي من الأمر، واستعرض بعض الصور التي أريد أن أصطنعها لأقصه عليك، وأجيل في نفسي أيضا ما سيكون بينك وبيني من أخذ ورد مستنكرا علي حديثي، وسأحاول إقناعك بأنه صحيح، وسيشتد بينك وبيني خصام لا بد من أن يثور بيننا كلما حدثتك ببعض الأمر؛ لأنك رجل لا تؤمن إلا بما ترى وتحس، ولا تصدق من أنباء الناس إلا قليلا.
ولست أخفي عليك أني أعذرك ولا ألومك، فقصتي لا تخلو من غرابة، وآية ذلك أني أنا نفسي أنكرتها أشد الإنكار، وكنت واثقا كل الثقة بأني رأيتها فيما يرى النائم، وكنت أتحدث إلى نفسي بأنها حلم غريب، طريف، وكنت ألتمس العلة لهذا الحلم، وكنت أجدها في غير مشقة، وكنت أستمتع بحلمي، وأستمتع بما بذلت في تعليله من جهد، وأستمتع كذلك بما سأتحمل في تأويله من عناء، ولكن رأيتني حين تقدم الليل، وكاد ينهزم أمام النهار، واقفا أمام داري ألتمس المفتاح لأديره، فيفتح لي الباب، وأنسل إلى غرفتي في هدوء وخفة حتى لا يحس أهلي عودتي في آخر الليل، فلا أجد المفتاح، وقد تعودت ألا أخرج مع الليل إلا أخذت معي هذا المفتاح أوفر بذلك على أهلي حريتهم وراحتهم ونومهم، وأجنبهم بذلك أن يسهروا منتظرين عودتي أو أن يهبوا من نومهم حين أعود ليفتحوا لي الباب، ولكن المقادير أرادت أمس أن تجري الأمور على غير ما تعودت أن تجري عليه، فأنسيت المفتاح، وما أنسانيه إلا الشيطان، وسترى أن هذا لم يكن غريبا، فقد كانت المقادير قد قدرت أن تكون ليلتي هذه من قسمة الشياطين، والشيء الذي ليس فيه شك هو أني التمست المفتاح حيث تعودت أن أحفظه فلم أجده، فجعلت أفتش في جيوبي كلها وما أكثرها فلم أجده، وقد ضقت بذلك أشد الضيق، حسبت أول الأمر أني قد أضعته، ثم لم ألبث أن ذكرت أني خرجت مسرعا مع بعض الأصدقاء، وأعجلني الحديث فلم آت هذه الحركة اليسيرة التي انتزع بها المفتاح من مكانه، وأضعه في الجيب الذي تعودت أن أضعه فيه.
فلما تبينت ذلك غشيني من الهم ما غشيني، ووقفت واجما أول الأمر مترددا بعد ذلك. أأطرق الباب فأزعج من في الدار، أم أقوم مكاني حتى يسفر الصبح، ويهب النوام، أم أعود أدراجي فأطوف في شوارع الحي أتلهى بهذا التطواف عن الانتظار، وقد طال علي هذا التردد فتحولت عن مكاني، ولكني لم أخرج من الحديقة، وإنما جعلت أطوف حول الدار، وأردد في نفسي قول الشاعر القديم:
أدور ولولا أن أرى أم جعفر
بأبياتكم ما درت حيث أدور
ولم أكن أدور لأرى أم جعفر، وإنما كنت أدور مخافة أن أوقظ أم جعفر أو أزعجها، فيكون شر في هذه الدار التي لم تعرف الشر إلا قليلا.
ولست أحدثك بما كان حين انجلى الصبح، وأشرقت الشمس، وفتحت الأبواب، واندفعت إلى غرفتي، وأسرعت إلى مضجعي، والتمست الراحة فلم أظفر منها بشيء ثم نهضت مكدودا مجدودا، وأقبلت أسعى إليك، ولم أذق للنوم طعما في هذه الليلة الطويلة القصيرة التي امتلأت من الأمر بأشده غرابة، وأعظمه سخفا، ولولا قصة المفتاح هذه، لما شككت في أني رأيت حلما من هذه الأحلام الكثيرة التي تعبث بنفوس الناس حين يجن عليهم الليل، ولكنك ترى أني مستيقظ منذ أشرق الصباح أمس، ولعلك تذكر وما أظنك نسيت أننا قد قضينا شطرا من الليل عند صديقنا فلان نسمر حول أحاديث الجن والشياطين، وما تزعم العرب من الصلة التي تكون بينهم وبين الشعراء، والخطباء، والكتاب، والذين يتعرضون لألوان البيان، وقد قال قائل منا: إن العرب في جاهليتهم وإسلامهم لم يتحدثوا بما يكون بين الشياطين والخطباء والكتاب من صلات، وإنما زعموا أن الشياطين قد وكلوا بالشعراء خاصة حتى إذا كان ابن شهيد في الأندلس زعم لنا في قصته المشهورة التوابع والزوابع أن للخطباء والكتاب شياطين كما أن للشعراء شياطين، وقد قص علينا في رسالته تلك زيارته لوادي الجن، وما كان من حوار بينه وبين خطباء الجن وكتابهم أولئك الذين كانوا يلهمون خطباء الإنس وكتابهم، وسمى لنا شيطان عبد الحميد الكاتب، وشياطين غيره من أعلام البيان، وسمى لنا شياطين جماعة من خصومه ومنافسيه في الفن، وزعم لنا أنه خاصمهم فخصمهم، وناظرهم فتفوق عليهم، وقد أخذت بحظي من هذا السمر كما أخذتم بحظوظكم منه، فلما تفرقنا بقيت في نفسي هذه الأبيات التي ألقاها زهير بن نمير. ذلك الدليل الجني لابن شهيد في زياراته المتصلة لتلك الأندية التي كان يجتمع فيها شياطين البيان، ولعلك تذكر أن زهيرا ألقى أبياته هذه إلى صاحبه ابن شهيد، وجعلها آية بينه وبينه، فكلما احتاج ابن شهيد إلى صاحبه أنشد هذه الأبيات، فيسرع إليه زهير، ويجيبه من الأمر إلى ما يريد.
وقد جعلت أردد هذه الأبيات في نفسي، وأنا أمضي متباطئا إلى الدار، ثم لست أدري لماذا لم أكتف بإدارة هذه الأبيات في نفسي، وإنما جعلت أنشدها في صوت خافت لا يكاد يسمعه غيري:
وإلى زهير الحب يا عز إنه
إذا ذكرته الذاكرات أتاها
إذا جرت الأفواه يوما بذكرها
يخيل لي أني أقبل فاها
فأغشى ديار الذاكرين وإن نأت
أجارع من داري هوى لهواها
ولكني لم أكد أفرغ من إنشاد البيت الثالث حتى أحسست الرعدة تأخذني أخذا عنيفا كدت أهوى له إلى الأرض لولا أني تماسكت، ولولا أن ذراعا قوية عصمتني من السقوط. فقد سمعت صوتا غريبا نحيلا يأخذني من جميع أقطاري، وهو يقول لبيك لبيك هأنذا زهير بن نمير خليل شاعرك الأندلسي ابن شهيد في الزمان الأول، والدهر القديم. ولست أخفي عليك أني قد أنكرت من هذا الأمر مثل ما تنكر، ولم ترتسم على وجهي هذه الابتسامة الساخرة التي ترتسم على وجهك الآن، وإنما تقبض وجهي تقبضا شديدا، وجعل العرق البارد يبل جبهتي، وهم لساني أن يدور في فمي صائحا مستغيثا، ولكني أسمع الصوت النحيل يسعى إلي، وكلما دنا مني زال عنه نحوله، وجعل يمتلئ شيئا فشيئا، وجرت فيه نغمات عذبة، وهو يقول: لا بأس عليك لا ترع، واتل معي قول الله عز وجل:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، فقد تلا هذه الآية من قبلك جماعة من أمثالك العرب حين روعوا بمثل ما تروع به الآن من لقاء أصدقائهم من الجن.
وقد سمعني أتلو هذه الآية الكريمة مع صاحبي، ثم رأيتني أثوب إلى نفسي أو رأيت نفسي تثوب إلي، وإذا قلبي آمن كله، وإذا أنا هادئ هدوءا لا أكاد أعرفه من نفسي حين يفاجئها ما لا تنتظر، وإذا أنا أسعى مع صاحبي كما تعودت أن أسعى معك في غير وحشة ولا تكلف، كأنما كان بيني وبينه ود قديم قد بعد به العهد، وطال عليه الزمان، ويجب أن أعترف لك بأني أحسست في ذلك الوقت أن لي شخصين مختلفين؛ أحدهما: يساير صاحبي فيسمع منه، ويتحدث إليه، والآخر: عاكف على نفسه في ناحية من نواحي الضمير يرقب ويسمع ويرى، ويحاول التحليل والتعليل، ويزعم لي أن ما أنا فيه إنما هو لون من ألوان الحلم لا عرض من أعراض اليقظة، ولكني شغلت عن هذا الشخص الذي انتبذ ناحية من نواحي الضمير بهذا الرفيق الذي جعل يتحدث إلي بالأعاجيب.
فقد كان يقول لي: صدقني إن هذا العلم الذي أخذه قدماؤكم عن اليونان، وأخذه محدثوكم عن الأوروبيين قد أفسد عليكم شيئا كثيرا، وأشاع في نفوسكم فنا من الكبرياء والغرور حرمكم متاعا لا حد له. فأنتم تنكرون ما كان يعرفه قدماؤكم من معاشرة الجن، ومخالفة شياطين الفن، فإذا تحدث إليكم أبو العلاء بشيء من ذلك في رسالة الغفران، أو إذا تحدث إليكم ابن شهيد بشيء من ذلك في رسالة التوابع والزوابع لم تصدقوه، ولم تطمئنوا إليه، وإنما استمتعتم به في شيء من السخرية والتكذيب على أنه من آثار الخيال، وفن من فنون الصنعة، وما أبعد الفرق بين من يستمتع بالخيال المخترع، ومن يستمتع بالحق الواقع الذي لا شك فيه، وإنكم تنكرون المصادفة، وتردون كل شيء إلى ما تسمونه الأصول والقوانين، فردوا الأشياء إلى ما تريدون، ولكن اعترف بأن المصادفة وحدها هي التي أنطقتك بهذه الأبيات، فإذا أنا أستجيب لك مسرعا لأجدد معك ذلك العهد القديم الذي كان بيني وبين ابن شهيد شاعر الأندلس وخطيبها وكاتبها، وأنت من غير شك حريص كما حرص ابن شهيد على أن تفر من حياة الناس لحظات طوالا أو قصارا دون أن تقطع الصلة بينك وبينهم، وإنما تراهم في شياطينهم، أو ترى شياطينهم وهم يزينون ما سيملئون به قلوبهم، ويحركون به ألسنتهم، ويجرون به أقلامهم من ألوان القول.
وقد زرت ابن شهيد على ظهر جواد أصيل، أما أنت فقد ظهرت لك فجأة لم تدر أنجمت لك من الأرض أم هبطت عليك من السماء، وما أظنك تنكر من ذلك شيئا، فأنتم لا تتخذون الخيل الآن أداة للانتقال، وإنما تنتقلون في سياراتكم وطياراتكم وقطاراتكم هذه التي تخيلون إلى أنفسكم أنكم قد أحدثتم بها المعجزات، وابتكرتم بها الأعاجيب، وأظنك توافقني على أننا معشر الجن أقدر منكم على اختراع الطرائف، وابتكار الأعاجيب، وأين تقع طرائفكم وأعاجيبكم مما كنا نأتي به من الطرائف والأعاجيب في عهد سليمان عليه السلام، وإذا كنتم قد بلغتم ما بلغتم من المهارة والبراعة في عشرين قرنا فأحرى أن نبلغ نحن من المهارة والبراعة في هذا الأمد الطويل بالقياس إليكم، القصير بالقياس إلينا ما لا يخطر لكم على بال.
وما أريد أن أشق عليك، ولا أن أكلفك من الأمر ما لا تحب، وإنما أريد أن أزور معك ناديا من أنديتنا هذه التي يجتمع فيها شياطين البيان، وأن أظهرك عليهم حين يخلو بعضهم إلى بعض، وقد فارقوا قرناءهم من كتاب الإنس حين تقدم الليل، وآوى كتاب الإنس إلى مضاجعهم، وأقبل شياطينهم إلى ناديهم يجدون حينا، ويعبثون في أكثر الأحيان. وهممت أن أرد على صاحبي رجع حديثه، ولكني أراني في قصر فخم لا أدري أنقلت أنا إليه أم نقل هو إلي، ولكني أجد نفسي فيه دون أن أتكلف لذلك سعيا أو حركة، وأسمع صاحبي زهيرا يقول متضاحكا: قد يخيل إليك أن هذا النادي في ضاحية من ضواحي القاهرة كهذه الأندية التي تنبث حول مدينتكم هذه الصغيرة، ولكن لا تجزع نفسك فإن بينك وبين القاهرة آمادا لا تقطعها السيارات ولا الطيارات ولا القطارات، ولولا أني رفيق بك وفي لك لأظهرتك على بعض ما بينك وبين القاهرة من أمد، ولكن أخشى أن أروعك فأعد معي تلاوة الآية الكريمة:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب . وأنا أتلو معه الآية الكريمة، وأجد الطمأنينة والأمن، وأهم أن أتحدث إلى صاحبي، ولكنه يبتدرني بالحديث فيقول: تعلم أن هذا النادي الذي أنت فيه مقصور على شياطين البيان الذين يلوذون بأدبائكم أنتم المصريين دون غيرهم من الأدباء. فلن ترى في هذا القصر إلا قرينا لكاتب أو شاعر أو خطيب من هؤلاء الذين يملئون الجو في بلدكم فصاحة، وبلاغة، وبيانا.
فأي شيطان من هؤلاء الشياطين تحب أن ترى؟ ولأيهم تحب أن تسمع؟ ومع أيهم تحب أن تأخذ في الحديث؟ قلت: لا أدري فإني أعرف كتابنا وشعراءنا وخطباءنا؛ لكثرة ما أقرأ وأسمع من آثارهم، ولو خيرتني لاقترحت عليك أن تزور معي ناديا من أندية الشياطين الذين يوحون إلى جيل آخر من أجيال الأدباء، قال زهير: سبحان الله ما زلت بعد غارقا فيما يغرق أمثالك فيه من الوهم. إنك لا تعرف كاتبا، ولا شاعرا، ولا خطيبا حق المعرفة حتى ترى شيطانه، وتسمع منه؛ لأن ما يلقى إليكم من آثار الأدباء ليس إلا صدى ضئيلا لهذا الصوت الخصب الذي ينفث في القلوب، ويطلق الألسنة، ويجري الأقلام، وسترى بعد لحظات أنك لا تعرف من أمر أدبائكم إلا أيسره وأهونه شأنا فامض معي.
ولم نكد نخطو خطوات حتى دفعنا إلى بهو رحب بعيد الأرجاء تضطرب فيه ظلال غريبة ضئيلة، وهي تتصايح وتتصاخب، ويكاد بعضها يمزق بعضا لو أن الظلال يمكن أن تتمزق أو يدركها البلى.
وقد انفرد من بين هذه الظلال شخص غريب مرتفع في السماء ممتد في الفضاء كثير حركات الوجه كثير اضطراب الأعضاء لا يستقر في مكان، ولا يستقر لسانه في فمه، ولا تكاد أعضاؤه تستقر في مواضعها من جسمه، وإنما هو حركة متصلة، وصياح لا ينقطع، وقد حرص على ألا يدنو من الظلال الأخرى التي تضطرب في البهو فتملؤه دويا كدوي النحل، وإنما هو ممتاز منها دائما لا تكاد تدنو منه إلا نأى عنها، ولا تكاد تسعى إليه إلا ارتد في أنفة وكبرياء، وتجافى في غلظة منكرة.
قلت لصاحبي: زهير ما هذه الظلال؟ قال ضاحكا: هي جماعة من الشياطين لم تأخذ من الفن بحظ، ولكنها خدعت عن أنفسها، وملأها الغرور، فقامت في هذا البهو مضطربة صاخبة تريد أن تقتحم على شياطين الفن ناديهم فلا تبلغ من ذلك شيئا؛ لأنها ترد عن نادي الفن ردا عنيفا: وليس اضطرابها هذا الذي ترى، وليس عجيجها هذا الذي تسمع إلا مظهرا من مظاهر الغيظ، وفنا من فنون الحنق، وضربا من ضروب الإلحاح في قرع الأبواب لعلها أن تفتح لها. قلت: وما هذا الشخص الذي يمتاز من هذه الظلال فيأبى أن يدنو منها أو أن يخلط نفسه بها، ولا يؤذن له مع ذلك في أن يتجاوز هذا البهو، فهو يتحرك وكأنه ساكن، ويسعى وكأنه واقف، وينطق وكأنه صامت، ويصخب وكأنه لا يقول شيئا؟ قال: هذا مسيلمة الشياطين، أراد أن يكون شيطانا من شياطين الفن فلم يستطع إلا أن يكون ثرثارا مكثارا مهزارا لا حظ لقلبه من غناء، ولا حظ لعقله من علم، ولا حظ لضميره من حكمة، وإنما أتيح له حظ من قدرة على الاضطراب والصخب لم يتح لغيره من هذه الظلال، فهو ينأى عنها، ولا يستطيع أن يقطع ما بينه وبينها من الأسباب، وليس من شك في أنه يمتاز منها بعض الامتياز، ولكن ليس من شك في أن ما يراه لنفسه فنا، وما يحاول أن يلقيه إلى بعض من يتكثرون عندكم بالقول لا يعدو أن يكون كما يروى من قول مسيلمة الإنس: يا ضفدع بنت ضفدع، نقي ما تنقين أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين.
وهممت أن أتعجل صاحبي زيارة شياطين البيان، ولكن أراني في مكاني ذاك من الطريق إلى داري، وأسمع صاحبي زهيرا يقول لي في صوته النحيل الذي جعل ينأى عني شيئا فشيئا: حسبك من ليلتك هذه ما رأيت، فإن راقتك صحبتي، وشاقتك زيارة شياطين البيان، فأنشد ما كان ينشد شاعر الأندلس وكاتبها وخطيبها ابن شهيد:
وإلى زهير الحب يا عز إنه
إذا ذكرته الذاكرات أتاها
إذا جرت الأفواه يوما بذكرها
يخيل لي أني أقبل فاها
فأغشى ديار الذاكرين وإن نأت
أجارع من داري هوى لهواها
ثم أطرق صاحبي لحظة، ورفع إلي رأسه، وهو يقول في صوت هادئ منكسر: صدقني يا سيدي أو لا تصدقني فإن ذلك لا يغني عن الحق شيئا، والحق الواقع الذي لا شك فيه هو أني قد رأيت وسمعت كل ما أحدثك به الآن.
قلت متضاحكا: فلا تنشد هذا الشعر مرة أخرى وأنا معك، فإني لست في حاجة إلى أن أرى شيطانك الأندلسي. قال وهو يضحك ضحكا فيه كثير من السخرية: لا بأس عليك، فقد أنسيت أن أنبئك بأنه زعم لي أنه لن يستجيب لإنشاد هذا الشعر إلا إذا كان هذا الإنشاد بعد أن يتقدم الليل.
الطفل
لا تقولي إنه رد إلى الطفولة بعد أن قطع مراحل الصبا والشباب والكهولة، ولم يكد يخطو في مرحلة الشيخوخة إلا خطى قصارا، ولكن قولي يا سيدتي: إنه لم يخرج قط من طور الطفولة، ولم يكد يعرف من الأطوار الأخرى التي يعرفها الناس، والتي ذكرتها آنفا شيئا ما. فإنك إن قلت ذلك كان قولك أدنى إلى الحق، وكان رأيك أدنى إلى الصواب، واضحكي ما شئت أن تضحكي فلست أكره لك الجذل والابتهاج، ولكن الإنكار برفع الرأس وهز الكتفين لا يغير من الحق شيئا كما أن الإغراق في الضحك حتى تنهل الدموع من عينيك الجميلتين على خديك الأسيلين لن يحول الخطأ إلى صواب.
فأنت مخطئة يا سيدتي حين تظنين أنه رد إلى الطفولة قبل أن يبلغ الستين أو قبل أن يبلغ أرذل العمر، وصاحبنا بعيد كل البعد عن أرذل العمر. فالذين يغلون في تقدير سنه يقولون إنه قد قارب الستين، والذين يقتصدون في ذلك يقولون إنه لم يكد يتجاوز نصف القرن. أما هو فيخفي سنه، ولعله لا يعرف من أمرها شيئا فقليل من الأطفال، ومن أطفالنا المصريين خاصة، من يعرفون أسنانهم.
وأنا أعلم أن الجيل الجديد قد أخذ يقلد أجيال الغرب في الاحتفال بأعياد الميلاد، وأخذ الأطفال والصبية يعرفون أسنانهم في هذه الأيام بحكم هذا التقليد، ولكن صاحبنا ليس من صبية الجيل الجديد، وإنما هو من صبية جيل آخر قد مضى، ولم يكن الناس يعرفون فيه إلا مولد النبي
صلى الله عليه وسلم ، وموالد الأولياء والصالحين، وميلاد الخديو السابق. فأما عامة الناس فكانوا يجهلون الأيام التي ولدوا فيها فضلا عن أن يذكروها ذكرا منظما، وأن يحتفلوا بها في كل عام. وصاحبنا لم يولد في القاهرة، ولا في الإسكندرية، ولا في مدينة من هذه المدن التي يشتد فيها الاتصال بالأوروبيين، ويسهل فيها تبادل السنن والعادات، بل هو لم يولد في مدينة من مدن الأقاليم التي كان يكثر فيها اليونان الذين يشتغلون بالتجارة، ويلم بها الموظفون من الإنجليز أيام كان الموظفون من الإنجليز يطوفون في المدن؛ ليتعهدوا شئون الإدارة والري والتعليم، وإنما ولد صاحبنا في قرية صغيرة يسيرة من قرى الريف لا يكاد سكانها يتجاوزون بضع عشرة مائة، ولا تكاد هي تمتاز عن أمثالها من قرى الريف المصري في أواخر القرن الماضي، حين كان الحديث عن القاهرة والإسكندرية يملأ النفوس روعة وإعجابا كأنه الحديث عن الأساطير، وحين كانت المدن في الأقاليم لا تبلغ إلا على ظهور الإبل أو على ظهور الحمير، وحين كان الناس في القرى لا يحفلون بتسجيل أبنائهم وبناتهم حين يولدون، وإنما كانوا يتركون ذلك للداية تبلغه أو لا تبلغه إلى الحكومة، تذكره مرة وتنساه مرة أخرى، تهتم له مرة وتعرض عنه مرة أخرى، فليس غريبا أن يجهل صاحبنا سنه، وليس غريبا أن يجهل الناس معه هذه السن.
وأنت تنكرين أن يجتمع على الرجل الواحد هذان الشيئان المتناقضان، فيكون له جسم الشيخ، وتكون له كل الخصائص الظاهرة التي يمتاز بها الشيوخ، ثم يكون مع ذلك طفلا لم يمر بأطوار الصبا والشباب والكهولة، وهذا غريب من غير شك، ولكن من الذي قال: إن الغرائب لا توجد في هذه الحياة، ومن الذي يستطيع أن ينكر أن من الناس من تنمو أجسامهم نموا مطردا مألوفا، وتختلف عليها الأطوار المعروفة التي يمر الناس بها في حياتهم، ولكن نفوسهم تبقى مع ذلك محتفظة بطورها الأول قد انتهت إلى حد من النمو لم تستطع أن تتجاوزه إلى غيره من الأطوار.
وليس من شك في أن جسم صاحبنا قد نما وتطور كما ترين؛ فعليه من مظاهر الشيخوخة هذا الشعر الذي وخطه شيب، وهذه التجاعيد التي تظهر في جبهته، وهذه التجاعيد الأخرى التي تمتد حول أنفه من يمين ومن شمال، وهاتان العينان اللتان لا تنفرج عنهما الجفون إلا في شيء من الجهد، حتى يخيل إلى من يراه، وقد أغمض جفنيه وتحدث أو تحرك، أنه إنسان يحيا من وراء ستار ، وهاتان الشفتان المنفرجتان اللتان لا تجتمعان إلا في شيء من العناء، سواء تكلم صاحبنا أو لبث صامتا، وهذا التهدل والترهل في وجهه الضخم، وجسمه الذي يريد الشحم أن يكسوه فلا يستطيع، وهذه الحركات البطيئة المتكسرة والمتعسرة التي تخيل إلى من يراها أنها تصدر عن مجموعة عصبية قد شملها الفتور، وأخذ يشيع فيها الفناء، وهذا الصوت المحطم الذي لا يكاد السامع يسمعه حتى يستحضر إناء من الزجاج وإناء من الفخار قد أصابه شق يسير فهو لا يرسل الصوت إذا مس إلا حدثنا بهذا الانحطام، وهذا التنفس السريع الذي يتبع بعضه بعضا في غير أناة، كأنه تنفس المكدود المجهود، والذي يسمعه القريب من مصدره، والبعيد عنه كأنه يخرج من أنف قد كثرت فيه الأعشاب فهو لا ينفذ من بينها إلا نفوذا عسيرا.
كل هذه مظاهر تدل على أن صاحبنا قد كان طفلا وصبيا، وقد كان شابا وكهلا، وهو الآن شيخ يخضع لما يخضع له الشيوخ من أعراض الضعف والفناء، ولكن التحدث إليه والاستماع منه، والأخذ معه في فنون الحوار، كل ذلك يصور لنا صبيا كسلا لم يتجاوز طور الصبا، فهذا هو الذي قد خيل إليك يا سيدتي أنه رد إلى الطفولة قبل الأوان، ومصدر هذا أنك لم تعرفيه إلا منذ قت قصير، فأما أنا فقد عرفته منذ أعوام طوال لا أعدها لك؛ لأني لست في حاجة إلى أن تعرفي عددها، ولكني عرفته حين كنت شابا، وحين كان جسمه في طور الشباب، ثم عرفته حين تقدمت بنا السن، وحين اختلفت علينا ظروف الحياة وتجاربها، وحين عرضت لنا المشكلات والخطوب، وأنا أراه الآن فلا أنكر منه شيئا؛ لأني عرفته دائما في هذه الحال التي ترينها، ولأني ضحكت منه دائما مع أترابنا كما تضحكين أنت منه الآن، ولأني قلت فيه دائما لأترابنا، وسمعت فيه دائما من أترابنا هذه الجملة: ما زال فلان طفلا، ويظهر أنه سيظل طفلا مهما تقدم به السن، ومهما تختلف عليه أطوار الحياة.
وربما كان من الحق علينا أن نسجل الواقع؛ فصاحبنا قد نشأ كما نشأ أترابه، واختلف إلى الكتاب، وأوجعت فيه عصا سيدنا أحيانا، واختلف إلى المدارس المدنية، وبلى فيها من حياة التلاميذ والطلاب حلوها ومرها فأخفق حينا ونجح أحيانا، حتى أتم الدرس العالي كما أتمه كثير من أترابه، ثم عبر البحر إلى أوروبا، فدرس في بعض أقطارها أعواما، ثم عاد إلى قريته فائزا مظفرا، وسعيدا موفورا، وكل هذا من غير شك لا يدل على طفولة، ولا يدل على أن نمو قواه العقلية قد كان محدودا، ولكن الغريب أنه إلى جانب هذا النمو المطرد قد احتفظ بشيء من خصال الأطفال لم يفارقه في لحظة من لحظات حياته، ولم يستطع أترابه الذين رافقوه في المدارس المصرية، وفي الجامعات الأوروبية، وفي الحياة العملية بعد ذلك أن يجهلوه أو يتجاهلوه، فقد كان دائما سريع التأثر جدا بما يسر، وسريع التأثر جدا بما يسوء، وكان دائما ينتقل من الرضى إلى السخط، ومن السخط إلى الرضى في غير تمهل ولا أناة، ولا شيء يشبه الروية أو التفكير، وإنما كان أيسر الأشياء يدفعه إلى الرضى فإذا هو فرح مرح، وإذا ضحكه يملأ الجو من حوله، وإذا حركاته العنيفة تضحك منه أصحابه، وتلفت إليه غيرهم من الناس، وكان أيسر الأشياء يسخطه فإذا هو مغضب قد خرج عن طوره، وإذا عيناه تقدحان شررا، وإذا فمه ينفجر عن أشنع اللفظ وأبشعه، وإذا جسمه يدفع إلى حركات مضطربة تدعو إلى الإشفاق عليه حينا، وإلى الإشفاق منه حينا، وإلى الضحك منه في أكثر الأحيان.
وكان حكمه على الأشياء قاصرا أو واهيا منحلا، لا يعتمد على تفكير صحيح، ولا على منطق دقيق، ولا على شعور صادق بحقائق الأشياء، وإنما كان له وما زال له منطق خاص لا يكاد الناس يفهمونه عنه، ولا يكاد الناس يقبلونه منه، وإنما يسمعونه إذا تكلم فيدهشون، ويأخذهم شيء من العجب، فإذا ردوا عليه منكرين أخرجه إنكارهم عن طوره، ودفعه إلى الغضب الثائر والسخط العنيف. فهم بين اثنتين؛ إما أن يجاوره فيرضى وتغضب عقولهم، وإما أن يخاصموه فيغضب وترضى عقولهم، وقد هموا بالثانية فوجدوا منه شططا، وأرهقوه من أمرهم عسرا، وانتهت طفولته الجامحة إلى أن تنتصر على عقولهم الراجحة.
وأكبر الظن أنه قد تعود هذه المجاراة والمداراة منذ طفولته الأولى، فاستجاب أبواه إلى كل ما كان يريد، وحققا له كل ما كان يبتغي، فنشأ واثقا بأن العالم قد خلق له يدعو فيجاب، ويأمر فيطاع، وبأن كلمة لا لم تخلق لتسمعها أذناه، وإنما خلقت لينطق بها لسانه، وأكبر الظن أيضا أن هذا الحظ قد رافقه في دراساته الأولى، وآية ذلك أن سيدنا لم يكد يغضب عليه ويؤذيه بعصاه مرة حتى حوله أبواه من الكتاب إلى المدارس النظامية التي لا يضرب فيها التلاميذ. وليس من شك في أن حب أبيه له ورعايته لهذا المزاج المدلل الرقيق، وحرصه على ألا يتعرض لما يكره أو أن يرد عما يريد كل ذلك قد رافقه من قريب أو بعيد فلم تصدمه التجارب القاسية، ولم تعلمه المصاعب أن ظروف الحياة يجب أن تتسلط على الناس أكثر مما يتسلط الناس عليها، وأن تؤثر في الناس أكثر مما يؤثر الناس فيها.
فأدرك الشباب على هذه الحال مؤمنا بنفسه كما يؤمن الطفل بنفسه، مغامرا كما يغامر الطفل، لا يفكر ولا يقدر، ولا يرجو لشيء وقارا، وإنما يريد فيقدم على ما يريد، والغريب أنه كان يبلغ كل ما يريد. كان يبلغ كل ما يريد؛ لأنه نشأ في أسرة موفورة لها حظ من ثراء، ونصيب من الاتصال بالأغنياء وأصحاب الجاه، فكان ثراء الأسرة، وحبها له، وعطفها عليه كل ذلك يذلل له المصاعب الخاصة، وكان اتصال الأسرة بأصحاب الجاه والغنى يذلل له المصاعب الاجتماعية التي كان يمكن أن تعترض طريقه في الحياة، وليس أدل على ذلك من أنه رأى الناس يكتبون فحاول أن يكتب، ثم أظهر أسرته على ما كتب، فأثنت عليه عن علم أو جهل، ثم أظهر من تتصل بهم أسرته على ما كتب فأثنوا عليه عن علم أو جهل. ثم رأى الناس ينشرون فهم أن ينشر كغيره من الناس، ولكن الصحف امتنعت عليه فوجد من ذوي الغنى والجاه من يتوسط له عند هذه الصحيفة أو تلك، وإذا هو يرى اسمه مطبوعا في مجلة شهرية أو أسبوعية، ثم في صحيفة سيارة متواضعة، ثم في صحيفة سيارة واسعة الانتشار، وإذا هو كاتب كغيره من الكتاب يقرأ نفسه ولا يقرؤه الناس بعد ذلك، فأما الذين يرونه ويعرفونه فيرضون ويثنون ويشجعون، وأما الذين لا يرونه ولا يعرفونه فقد يرضون وقد يسخطون، وقد يعرفون وقد ينكرون، ولكن صاحبنا لا يعلم من ذلك شيئا، ولا يعنيه أن يعلم من ذلك شيئا.
والمهم أنه لم يكد يتم الدرس حتى كان في رأي نفسه، ورأي ذوي معرفته كاتبا ممتازا، ولم يكد يعود من أوروبا حتى هجم على التأليف كما هجم من قبل على التحرير، وإذا له كتب تذاع وتباع، وإذا أيسر الثناء على فصل يحرره أو كتاب ينشره، يثير في نفسه من الرضى ما يخرجه عن طوره، وإذا أيسر النقد لفصل يحرره أو كتاب ينشره يثير في نفسه من السخط ما يخرجه عن طوره، وإذا ثقته بنفسه على نحو ما يثق الأطفال بأنفسهم تفرضه على قراء الصحف والكتب والمجلات، ثم لا تكاد الأيام تتقدم حتى تضيف الحياة إلى هذه الثقة ثقة أخرى، وإذا الأمر يستحيل في نفسه إلى الغرور الذي لا حد له في طول أو عرض أو عمق إن صح أن تكون للغرور أبعاد، فقد اتصل صاحبنا بوجوه الناس وسراتهم، واختلف إلى أنديتهم ومجالسهم، وفرض نفسه عليهم بحكم المودة والقرابة والصلات المختلفة، فأصبح واحدا منهم يشارك فيما يشاركون فيه من شئون الحياة العامة والخاصة، ويسرف على نفسه وعلى الناس في هذه المشاركة، والأيام تبسم له في أكثر الأحيان، ولا تعبس له إلا قليلا، وهي لا تعبس له مع ذلك إلا بمقدار.
وفي أحداث التطور السياسي، والاضطراب الخلقي، والانتقال الاجتماعي، وما كان من تغير القيم، واختلاف المقاييس ما يتم القصة إن كانت في حاجة إلى إتمام، ويكمل الصورة إن كانت في حاجة إلى إكمال، ولكن الشيء المحقق هو أن الحياة المستقرة الثابتة، التي تجري الأمور فيها على إذلالها، تعلم الناس أن ذكاء القلب، ونفاذ البصيرة، ومضاء العزيمة، والصبر على المكاره، والاحتمال للخطوب، وأخذ النفس بما يشق عليها، وتجنبها الطرق الممهدة، والأمور الميسرة هي الخصال التي تبلغ بالناس ما يسمون إليه من نجح وفوز، ولكن الحياة المنتقلة المتطورة التي لا تهدأ إلا لتثور، ولا تسكن إلا لتضطرب تعلم الناس أن الطفولة المتصلة قد ترفع أصحابها إلى مكان الأفذاذ.
قالت السيدة، وكانت أدبية أريبة: لقد أخطأ علماء البيان حين لم يرضوا عن هذا البيت الصادق الجميل من قول الشاعر:
والعيش خير في ظلا
ل النوك ممن عاش كدا
الظلال الهائمة
لم يشعر بطرق الباب حين طرق، ولا بفتحه حين فتح، ولم يحس مكان الخادم حين أقبلت تحمل الشاي، فوضعته على المائدة عن يمينه، وألقت إليه نظرة سريعة فيها شيء من عجب، وكادت ترفع كتفيها ساخرة، لولا أملكت نفسها واستحضرت ما يجب عليها من توقير سيدها، فانصرفت متباطئة متثاقلة حتى إذا بلغت الباب فتحته في شيء قليل من العنف، وأغلقته من ورائها في شيء قليل من العنف أيضا تريد أن تنبه هذا الذي لا يتنبه لشيء؛ لأنه مغرق في قراءته. على أنها لم تكد تغلق الباب من ورائها حتى أحست شيئا من راحة الضمير، فقد أدت الواجب كاملا، حملت إلى سيدها الشاي في إبانه، وطرقت الباب، وخيل إليها أنها سمعت الإذن لها بالدخول، فدخلت وخرجت، وأتت من الحركات ما يوقظ النائم، فكيف بتنبيه الغافل أو الذاهل أو المغرق في القراءة؟ لقد أدت الواجب كاملا، فلا عليها أن يتنبه سيدها أو لا يتنبه، ولا عليها أن يشرب الشاي، وهو ساخن كما يحب أو أن يشربه، وقد أدركه الفتور أو البرد أو ألا يشربه أصلا، والواقع أن سيدها لم يتنبه لمقدمها، ولا لانصرافها، ولا للشاي الذي كان يدعوه عن يمينه، ولكنه لم يكن يسمع دعاء، ولا يجد الظمأ كما تعود أن يجده كل يوم في هذا الموعد الذي كان يقدم إليه فيه الشاي .
كان مغرقا في القراءة، ثم انتهى من الكتاب الذي كان يقرأ فيه إلى فصل لم يتجاوزه، وإنما عاد إليه فقرأه مرة ومرة، ثم كف عن القراءة، ولكنه وصل بصره في هذا الفصل الذي أعاد قراءته، وظل مطرقا ممعنا في الإطراق والتفكير، ثم رفع رأسه، وعلى ثغره ابتسامة يسيرة، ثم نظر أمامه لا يريد أن يرى شيئا، وإنما هو واجم باسم ينظر ولا يرى، ويفكر ولا يحقق شيئا، ثم تتسع ابتسامته قليلا، ثم ينفرج فمه عن ضحك يريد أن يعلو، ويملأ الغرفة لولا أنه يمسكه، ويوشك أن يرده إلى جوفه ردا؛ لأنه قد ثاب إلى نفسه فجأة، وأشفق أن يسمع ضحكه من وراء الباب، فتظن به الظنون، هنالك التفت فرأى إبريق الشاي كئيبا مستخذيا؛ لكثرة ما دعا إلى نفسه، وألح في الدعاء فلم يستجب له أحد؛ لأن دعاءه لم يبلغ أحدا.
فأقبل صاحبنا على الإبريق يمسه بيده مسا خفيفا، ثم يمسحه بيده مسحا متصلا كأنما يترضاه ويعزيه، وقد أحس برد هذا الإبريق، وعرف أن الشاي الذي يحتويه لم يعد ملائما لذوقه وإلفه، وهم أن يدق الجرس، ويدعو الخادم لتأتيه بشاي جديد، ولكنه استحيا، وأشفق أن تسخر منه الخادم إذا رأت شايها لم يمس، وأن تعيد القصة على امرأته وبنيه فلا يفرغ منهم، ولا من عبثهم إذا كان العشاء. فلم ير بدا من أن يشرب الشاي كما هو، وقد ملأ قدحه، وجعل يدير فيه الملعقة يريد أن يذيب هذا السكر الذي يستعصي ولا يريد أن يذوب في هذا السائل البارد.
ولكن صاحبنا نسي الشاي مرة أخرى، وجعلت يده تدير هذه الملعقة في هذا القدح إدارة آلية غير شاعرة بنفسها؛ لأنه عاد إلى التفكير في هذا الفصل الذي كان يردد قراءته آنفا. ثم عاد إلى التفكير في هذا الفصل، ثم لم يطل الوقوف عنده هذه المرة، وإنما ذهب به الخيال مذاهب مختلفة لم تلبث أن ردته إلى الابتسام، ثم إلى الضحك المكظوم.
وكان هذا الفصل من كتاب الفصول والغايات لأبي العلاء، ويجب أن أروي لك بعضه لتعذر صاحبنا في إطالة الوقوف عنده، والتفكير فيه، ثم في اتخاذه معراجا يرقى فيه إلى سماء بعيدة جدا من سماوات الخيال: «يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعام بأذنه، ويشم الروائح بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته ...»
فقد وقفه هذا الكلام الغريب، أضحكته الصور الظاهرة منه أول الأمر، ثم جعل يستعرض طائفة من أصدقائه وذوي معرفته، فيتخيل بعضهم ماشيا على رأسه قد اتخذ الطربوش أو العمامة أو القلنسوة غطاء لرجليه، ويتخيل بعضهم باكيا بإحدى أصابعه أو آكلا بإحدى أذنيه. فتدفعه هذه الصور مطبقة - على ما يعرف من أصحابه - إلى الإغراق في الضحك، ثم تثوب إليه نفسه شيئا فشيئا، ويقدم عقله على الجد قليلا قليلا، وإذا هو ينظر إلى الأمر نظرة فلسفية حازمة، فيرى أن صاحب هذه الخواطر لم يخطئ، فقد خلق هذا العالم على هذا النحو الذي نعرفه، وكان من الجائز أن يخلق على نحو آخر، بل من الجائز أن يحوله خالقه من هذا النحو الذي خلقه عليه إلى نحو آخر يمشي فيه الناس على رءوسهم، وينظرون بأقدامهم، ويذوقون بآذانهم ... إلى آخر ما زعم أبو العلاء.
وما دامت قدرة الله شاملة فلن يعجزها شيء ثم يتلو في نفسه الآية الكريمة:
وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم
قدرة الله إذن شاملة لا يعجزها شيء مهما يكن، وقد جعل هذا الخاطر يتردد في نفسه ملحا عليها إلحاحا شديدا، وجعل خياله يتصور ألوانا من الأشياء لم يرها الناس، ولم يتعودوا أن يروها أو يتحدثوا عنها، ويقول لنفسه: إن الله قادر على أن يخلق هذه الأشياء كما أتخيلها، وأشياء أخرى لا أتخيلها أنا، وإنما يتخيلها غيري من الناس أو لا تخطر للناس على بال، ثم تعرض لخياله صور يقف عندها وقوفا طويلا، فالله قادر على أن يصور ما يمتاز الناس به من الفضائل في شكل فتيات حسان يوسعن أصحابها ثناء وتشجيعا، والله قادر على أن يصور ما يتصف به الناس من الرذائل في شكل فتيات قباح يشبعن من يتصف بهن ذما ولوما وتقريعا.
ثم يأخذ في استقصاء ما يعرف من أخلاق نفسه، فيرى وفاءه للأصدقاء، وبره بهم، وإيثاره لهم بالمعروف، وقد تصور أمامه فتاة حسناء تهدي إليه ابتسامات حلوة من بعد، ثم تدنو منه قليلا قليلا، ثم تلحظه لحظا فيه كثير من الحب والعطف والحنان، ثم تدنو منه قليلا قليلا، ثم ترسل إليه صوتا عذبا كأنه صوت الملائكة لو أنه سمع للملائكة غناء أو حديثا، وهذا الصوت يحمل إليه دعابة حلوة، وتحية كريمة، وهو يجد اللذة كل اللذة فيما يرى، والمتعة كل المتعة فيما يسمع، ولكن هذا الوجه الرائع الجميل الذي يدنو منه شيئا فشيئا لا يلبث أن تغشاه سحابة رقيقة من الكآبة والحزن، ثم تزداد هذه السحابة كثافة وثقلا وبشاعة كلما دنا منه ذلك الوجه الذي كان يراه رائعا جميلا، وقد خطر له في أثناء ذلك أنه لم يكن وفيا كل الوفاء، ولا برا كل البر، وأنه في ذات يوم قد خان العهد، وجحد المودة، وأنكر الجميل، وعق الصديق، وأنه قد أقدم طائعا أو كارها على بعض الغدر الذي يحاول أن ينساه فلا يستطيع، ولا يكاد يفرغ من هذا التفكير حتى يحس شخصا منكرا بشعا قد وقف عن يمينه، وجعلت أصابعه الغلاظ السمجة تعبث في شعره ذاهبة جائية، وجعل صوته خافتا أشد الخفوت، ولكنه منكر أشنع النكر يقول له: يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدميه، ويمشي على رأسه، ويقدر ربنا أن يحيي الموتى، ويقدر ربنا أن يصور ما في نفوس الناس من الفضائل فتيات حسانا، ويقدر ربنا أن يرد هؤلاء الفتيات الحسان قبيحات بشعات منكرات اللفظ واللحظ والصورة، ويقدر ربنا أن يخرج هؤلاء الفتيات من القبح إلى الحسن، ومن البشاعة إلى الجمال، فالنفس الإنسانية واحدة تحسن مرة ، وتسيء مرات، والله قادر على أن يصور لها عملها فتاة يسبغ عليها الجمال والحسن مرة، ويصب عليها القبح والبشاعة مرة أخرى. انظر ويفتح عينيه، فيرى فتاته تلك قد عادت إلى جمالها وروعتها، وقد أخذت ابتساماتها تمتلئ سحرا، ولحظاتها تمتلئ فتونا، وصوتها يمتلئ موسيقى تخلب القلوب، وتعبث بالألباب، وهي تتلو
خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ، وقد تنبه صاحبنا مذعورا أشد الذعر، وظن أن قد أخذته غفوة فنام، وعبثت به خواطر أبي العلاء فصور له في غفوته هذا الحلم الغريب، وقد أخذ يسترد نفسه النافرة، ويدعو خواطره الشاردة يستعين على ذلك بهذا القدح من الشاي عن يمينه فهو يرفعه إلى فمه فيفرغه في لحظة، ثم يرده إلى مكانه في شيء من عنف مقصود يريد أن يحدث صوتا يعيد إليه صوابه كله، ويطرد من هذه الغرفة ما رددت فيها الأحلام من تلك الأصوات، ولكنه ينظر فإذا أشخاص قائمة في أقصى الغرفة منها الحسن الرائع، ومنها القبيح البشع، وكلها تنطق بصوت يوشك أن يكون صوتا واحدا، يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدميه ويمشي على رأسه. ويقدر ربنا أن يحيي الموتى، ويميت الأحياء، ويقدر ربنا أن يصور الفضائل والرذائل فتيات حسانا أو قباحا، ويقدر ربنا أن يملأ الأرض بهؤلاء الفتيات تصور كل واحدة منهن ما يحدث الناس من أعمال فيها الخير والشر، وفيها العرف والنكر، ويقدر ربنا أن يخفي هذه الظلال عن أعين الناس ما شغلتهم الحياة، وأن يظهر هذه الظلال لأعين الناس إذا خلوا إلى أنفسهم، وحاسبوها حسابا عسيرا أو يسيرا.
وقد امتلأ قلب صاحبنا رعبا، وهم أن ينهض بنفسه من هذه الغرفة المشئومة الموبوءة، وليجد عند أهله وبنيه أنسب من هذه الوحشة، ولكنه لا يجد قوة على النهوض كأنما اتصل بكرسيه اتصالا، وكأن كرسيه قد سمر في الأرض، وإذا صيحة هائلة تملأ الغرفة، ويفتح لها الباب، وتدخل منه امرأته مروعة تسأله: ما خطبك؟ فيجيب في صوت غريب يمتزج فيه الخوف بالهدوء، والضحك بالخجل: ما أدري لعلي غفوت فأخذني ما يشبه الكابوس، ولكن صوتا خافتا جدا يسمعه هو، ولا تسمعه امرأته، وهذا الصوت يهمس في أذنه، كلا لم تغف ولم تروعك الأحلام والكابوس، وإنما رأيت الظلال الهائمة، ولن تأمن منذ اليوم أن تراها.
قلت لمحدثي، وكان طبيبا بالأعصاب: أتريد أن تقول: إن من الخير أن يحسن الناس اختيار ما يقرءون من الكتب، فإن القراءة التي يمضي فيها أصحابها على غير اختيار سابق لما يلائم أعصابهم وأمزجتهم، قد تنهي بهم إلى شر عظيم. قال محدثي: هيهات، وكيف السبيل إلى تنظيم القراءة للرجال العاقلين، وكيف السبيل إلى أن يعرف الناس ما يلائمهم وما لا يلائمهم مما يقرءون؟ هيهات لم أرد إلى هذا، ولا يمكن أن أريد إنما أحببت أن أبين لك أن قلب الإنسان غريب يقسو أحيانا فإذا هو كالحجارة أو أشد قسوة، ويلين أحيانا فإذا هو كهذه الأرض الرخوة التي امتلأت ماء لا تكاد تمس حتى تنفجر منها العيون والينابيع، وقلب صاحبنا هذا قد قسا فكان كالحجارة أو أشد قسوة، فأتى ما أتى من الشر، ولان فكان كهذه الأرض التي امتلأت ماء، مسها أبو العلاء بخاطره هذا الغريب، فتفجر منها هذا الينبوع الذي نستطيع أن نسميه: ينبوع الندم.
وأطرق محدثي الطبيب ساعة، ثم رفع رأسه إلي ضاحكا، وهو يقول: نعم، إن قلب الإنسان لغريب، أتذكر ما قال فيه جوته؛ إنه كبير جدا لا يملؤه شيء، وهش جدا يحطمه أيسر شيء.
غلظة
كان محمد بن عبد الملك الزيات قاسي القلب غليظ الكبد جافي الطبع بليد المزاج، وكان على هذا كله أديبا مرهف الحس نافذ البصيرة رقيق الشعور، صافي الذوق مترف العقل ممتازا فيما يكتب من نثر، وفيما يقرض من شعر، وكانت السياسة وحدها هي التي أتاحت لهذين الشخصين المتناقضين أن يعيشا في جسم واحد، وأن يتسميا باسم واحد، وأن يصدر عنهما مع ذلك من الأعمال والأقوال ما ليس إلى التوفيق بينه سبيل.
فقد كان محمد بن عبد الملك الزيات أقسى الناس في القول والعمل ما تولى أمور الحكم، وكان أرق الناس قولا وعملا ما فرغ لحياته الخاصة، وقد ذهبت حياته الخاصة مع ما يذهب من حياة الناس، وبقيت من حياته العامة آثار تصور نفسه البشعة، وقلبه القاسي، وطبعه الجافي، وعنفه الذي لم يكد تاريخ المسلمين يعرف له نظيرا.
وكان محمد بن عبد الملك الزيات يقول فيما كان يقول: إن الرحمة خور في الطبيعة، وكان محمد بن عبد الملك الزيات يقترف فيما كان يقترف من الآثام. أذاق الناس ألوانا من العذاب لم يعرفها قبله عرب ولا عجم، والله عز وجل يعجل الانتقام حينا، ويملي للقساة الجفاة الظالمين أحيانا، وقد عجل الانتقام من محمد بن عبد الملك الزيات، فذاق العذاب الذي أذاقه الناس أيام حكمه، وكان معذبه يقول له:
ذق إنك أنت العزيز الكريم .
ولست أدري لم ذكرت محمد بن عبد الملك الزيات، وقصته هذه البشعة، وسيرته هذه المنكرة، وحكمه هذا البغيض، وقد تغيرت حياة الناس فرقت طباعهم بعد جفوة، ولانت قلوبهم بعد قسوة، ولم يبق بينهم في مصر على الأقل من يقول إن الرحمة خور في الطبيعة، ومن يعذب الناس في تنور قد فرشت أرضه بالمسامير المدببة، وقد امتدت هذه المسامير المدببة في سقفه وجنباته فما يقيم فيه المعذب البائس إلا على هذه المسامير تأخذ لحمه من كل ناحية إن أقام ساكنا أو تحرك في تنوره هذا المنكر البشع.
ليس في مصر شيء من هذا؛ لأننا قد تحضرنا فرقت طباعنا، وصفت أذواقنا، ولانت قلوبنا، وتهذبت نفوسنا، وإذن فما الذي يذكرني بمحمد بن عبد الملك الزيات في القرن الرابع عشر للهجرة، وفي مدينة القاهرة التي هي عاصمة مصر التي قال عنها إسماعيل العظيم رحمه الله: «إنها جزء من أوروبا.»
ذكرني بمحمد بن عبد الملك الزيات في قسوته الغليظة الجافية ما ألاحظه من أن الترف لم يغير من غرائزنا شيئا، وإنما علمها القسوة المترفة، وعلمها الافتنان في العذاب، وعلمها الترف في ألوان الانتقام، فنحن لا نعذب الأجسام، وإنما نعذب النفوس، ونحن لا نلقي الناس في تنور أشرعت فيه المسامير من جميع أقطاره، وإنما نلقي الناس في ألوان من العذاب ليست أقل بشاعة ولا نكرا من هذا التنور الذي ابتكره ذلك الوزير العباسي في القرن الثالث للهجرة، وفي مدينة السلام.
وليس في هذا شيء من الغرابة، فإن تقدم الحضارة الإنسانية لم يرق العقل وحده، ولا الذوق وحده، وإنما رقى الغرائز أيضا، وعلمها فنونا من القسوة ما كانت لتخطر لمحمد بن عبد الملك الزيات وأضرابه على بال، وللفرنسيين تعبير يصور هذا الترف في القسوة، وهذا الافتنان في الانتقام، فهم يقولون فيمن يصب على الناس عذابا هادئا، ولكنه متصل منته إلى أبشع الغايات، إنه ينضج من يعذبه على نار هادئة، ونحن والحمد لله بارعون كل البراعة في الإنضاج على النار الهادئة، نجد في هذا لذة آثمة خبيثة توشك أن تكون مسخا لما كان الإنسان يظن أنه يمتاز به من ذكاء القلب، ونفاذ البصيرة، وصفاء الذوق، ودقة الطبع.
وأي شيء أبغض وأبشع وأشد في النفوس نكرا من أن تصب على خصمك هذا العذاب الهين اللين الرقيق، الذي لا يكاد يرى ولا تكاد آثاره تحس، ولكنه يتصل ويمضي مع الدقائق والساعات، ومع الأيام والليالي، ومع الأسابيع والأشهر والأعوام، حتى يبلغ ببطئه هذا الفظيع أضعاف ما كان يبلغه محمد بن عبد الملك الزيات بعذابه المنكر السريع.
وأبشع من هذا كله، وأشد من هذا كله نكرا أن يصطبغ هذا العذاب الهادئ المتصل البطيء بصبغة من العدل أو مما اتفقنا على أن نسميه عدلا، فلا يجوز إنكاره، ولا يباح نقده، ولا يصح أن يلام فيه الذين يقترفونه؛ لأنهم ينفذون القانون، وينفذونه في دقة حازمة صارمة، وهم يحمدون لذلك ولا يلامون فيه، وكيف يلام الناس حين ينفذون القانون؟ وكيف يعاب الناس حين ينشرون هذا العدل الذي يصنعونه صناعة، ويتكلفونه تكلفا، ويناقضون به طبائع الأشياء، ويناقضون به هذه القوانين العليا التي لم يضعها برلمان، ولم يشرعها ملك ولا حاكم، وإنما ركبت في نفوس الناس تركيبا، وجعلت جزءا من فطرتهم.
وما أشد حاجة الناس إلى أن يفرغوا لأنفسهم بين حين وحين، ويتدبروا أعمالهم وأقوالهم بين وقت ووقت، ويضعوا أنفسهم حين يضعون ضحاياهم، ويسألون أنفسهم أيصبرون لما يصبون على الناس من هذا العذاب الهادئ البطيء المتصل لو أن غيرهم صبه عليهم في هدوء وبطء واتصال، هذا الموظف في وزارة المعارف الذي أراد أن يلحق طفلا من أطفاله بروضة من رياض الوزارة؛ لينشأ مع أخويه فلم تكتف الوزارة بأن ردت طفله الجديد، ولكنها ألحقت به في البيت أخويه اللذين أقاما في الروضة عامين أو أكثر من عامين، ثم حولتهما بعد ذلك إلى روضة خيالية قد أنشئت في عقول الموظفين في وزارة المعارف، ولم تر الشمس إلا بعد وقت غير قصير، وقد ذهب هذا الموظف بأطفاله إلى روضتهم الجديدة البعيدة فلم يجد شيئا، ثم ذهب بهم فلم يجد شيئا، ثم فتش واستقصى، وسأل القاصي والداني، وسأل مكتب البريد فلم يجد شيئا، ثم ذهب بعد ذلك فوجد دارا مهدمة ليس فيها مرفق، ولا أداة من أدوات التعليم والتربية واللعب، ليس فيها طعام يؤكل، ولا ماء يشرب، فعاد بأطفاله إلى داره كئيبا محزونا كاسف البال، وكان قد شكا للوزير فلم يسمع الوزير له أو لم يعلم الوزير بأنه قد شكا إليه.
وقد جعل كل ما أصبح رأى أطفاله يبكون؛ لأن سيارة الوزارة التي كانت تحملهم إلى الروضة في الأعوام الماضية تمر بهم مصبحة ممسية فلا تغدو بهم على الروضة، ولا تروح بهم منها، وإنما تمر بهم ساخرة منهم مزدرية لهم، تحمل أترابهم فرحين مرحين، يبتسمون للصبح المشرق الذي يسوقهم إلى المدرسة، ويبتسمون للنهار المبصر الذي يردهم إلى دورهم، وهؤلاء الأطفال البائسون يرون سيارتهم، ويرون أترابهم دون أن يستطيعوا ركوب السيارة أو مشاركة الأتراب في ابتسامات الغدو أو ابتسامات الرواح.
رأى هذا الموظف أطفاله على هذه الحال، وذاق هذا الموظف مع أطفاله مرارة الحرمان، وقسوة هذا العذاب، وقد أراد سوء حظه وسوء حظهم أن يكون هؤلاء الأطفال اليتامى قد فقدوا أمهم كما كان هو مترملا قد فقد زوجه، وكان هذا الموظف يجد في تربية أطفاله وتنشئتهم من العزاء عن فقد زوجه، وكان معتقدا أنه يرضي نفس امرأته كلما نجح في العناية بأطفاله وفي تربيتهم؛ لأنه يؤدي لهم ما كانت خليقة أن تؤديه لو أتيح لها البقاء. فلما أوذي الأطفال في تعليمهم وفي لعبهم، ولما أوذي الأب في تربية أطفاله وتنشئتهم، ولما رأى الأب دموع أطفاله مع الصبح، ودموع أطفاله مع المساء، وضجر أطفاله أثناء النهار لم يستطع على ذلك صبرا، ولم يملك نفسه، فشكا في الصحف لعل الوزير يقرأ شكاته فيمسه بشيء من الإنصاف، ويمس أطفاله بشيء من العطف، ويرد إليهم وإليه حقهم من العدل الذي كلف أن يشيعه بين الناس.
شكا، ولكن الوزير لم ينصفه، ولم يعطف على أطفاله، ولم يرد إليهم ولا إليه قليلا من العدل ولا كثير، لم يفكر في الأب الأرمل، ولا في الأم الميتة، ولا في الأطفال الصغار اليتامى، وإنما فكر في الموظف الذي نقد الوزارة في الصحف، ورأى أن هذا النقد إثم في ذات الحكومة، وأن القانون المالي يعاقب عليه.
يا للعقول الواسعة، يا للقلوب الرحيمة، يا للطباع المهذبة، يا للأذواق المصفاة. أما الأبوة البائسة، وأما الطفولة التعسة فلا يحفل بها الوزراء، ولا يلتفتون إليها، ولا يقفون عندها؛ لأنهم إن فعلوا ذلك كانوا رحماء، والرحمة خور في الطبيعة كما كان يقول محمد بن عبد الملك الزيات.
وأما أن يلفت موظف وزارة المعارف إلى واجبها، ويدلها على خطئها، ويدعوها إلى إصلاح هذا الخطأ، فهذا هو الإثم كل الإثم، والإجرام كل الإجرام، وهو التقصير في ذات القانون، وهو الخروج على النظام، والسكوت على هذا كله ضعف أي ضعف، والعقاب على هذا كله عدل أي عدل وحزم أي حزم. ألا بعدا للعدالة والحزم إن كانت غايتها إهدار أبوة الآباء وبنوة الأبناء، وتضييع ما للناس على الدولة من حق، وإلغاء ما على الدولة للناس من واجبات.
أساء الموظف إذن إلى الدولة في رأي الوزير فيجب أن يعاقب، فأما إساءة الوزير إلى الأمة في أشخاص هؤلاء الأطفال الصغار، فيجب أن تذهب هدرا، كذلك يريد العدل المصنوع. وقد حقق مع هذا الموظف فألقيت عليه أسئلة صريحة أجاب عليها إجابة صريحة، وكان من الممكن أن يقرأ الوزير، وأن يقدر أبوة هذا الأب البائس، وبنوة هؤلاء الأبناء البائسين، ولكن الوزير لم يقدر أبوة ولا بنوة، وإنما قدر أن الحكومة قد أسيء إليها، فيجب أن تنتقم من المسيء، فأصدر أمره بنقل هذا الموظف إلى الصعيد الأعلى، هناك حيث لا توجد رياض الأطفال، وحيث لا يجد هؤلاء الأطفال الذين نشئوا في القاهرة ما يلائم حياتهم الهانئة المتواضعة، ولو أن لهؤلاء الأطفال أما ترعاهم لسافر أبوهم إلى الصعيد الأعلى جادا كادا ملتمسا له ولهم أسباب الرزق، ولكن الأطفال يتامى لا يعولهم إلا أبوهم، ولا يستطيع أن يعولهم في الصعيد الأعلى، فطلب الموظف إلى الوزير أن يعفيه من هذا النقل؛ ليرعى أطفاله، ويقوم منهم مقام الأب والأم جميعا.
ولكن الوزير لم يفكر في الأبوة البائسة، ولا في الطفولة اليائسة، ولا في الأمومة التي ذهبت بها الأقدار، وإنما فكر في أن وزارة المعارف قد أسيء إليها، فيجب أن تنتقم من المسيء.
ولذلك أبى الوزير أن يقبل عذر هذا الأب البائس، وحدد له موعدا يصل فيه إلى الصعيد الأعلى، ونظر الموظف فإذا هو مخير بين أمرين أحلاهما مر، وأيسرهما نكر: فإما أن يرضى الوزير فيجحد حق أبنائه عليه، ويجحد حق امرأته عليه أيضا، حق امرأته الميتة التي لا يمكن استرضاؤها، ولا الاعتذار إليها، وإما أن ينهض بحق أبنائه، وحق زوجه، وحق أبوته فيغضب الوزير، وفي غضب الوزير ضياع المنصب، وانقطاع المرتب، وتعرض الأطفال الصغار للجوع والحرمان.
وقد اختار الموظف فأرضى حق الأبوة والبنوة والأمومة، واختار الوزير أيضا بين الرحمة التي أودعها الله في النفوس، والعدل الذي صنعه الناس صناعة، فترك الرحمة التي نشرها الله، وآثر العدل الذي صنعه الناس، وأحال الموظف إلى مجلس التأديب، ووقفه عن العمل، وقطع مرتبه.
وقد قلت لك إننا بلغنا من الترف في الانتقام، والافتنان في حب العذاب الهادئ المتصل البطيء ما لم يبلغه محمد بن عبد الملك الزيات. ففي اليوم الثلاثين من شهر أكتوبر أرسلت الوزارة إلى البنك كتابا تأمره فيه ألا يصرف لهذا الموظف مرتبه عن شهر أكتوبر، وعلم الموظف ذلك من البنك نفسه لا من الوزارة، وذهب إلى الوزارة في اليوم الأخير من شهر أكتوبر يسأل عن هذا القرار، فقيل له: إنه صدر ولكنه لم يطبع بعد. ومعنى ذلك: أن البنك قد عرف القرار قبل أن يعرفه الموظف، ومعنى ذلك: أن هذا الموظف ذهب في آخر الشهر ليتقاضى مرتبه فلم يجد شيئا، ولم يكن قد عرف من أمر القرار شيئا، ومعنى ذلك: أن هذا الموظف عاد إلى بيته في ذلك اليوم صفر اليد مما تعود أن يوسع به عليهم، وأن يرزقهم منه رزقهم حين يصبحون وحين يمسون، ومعنى ذلك: أن هذا الموظف لم يعاقب في نفسه وحدها، وإنما عوقب في أطفاله الصغار، ومعنى ذلك: أن هذا الموظف لم يعاقب وحده، وإنما عوقب معه أطفال أبرياء أكبرهم في السادسة وأصغرهم في الثالثة؛ لأن هذا الموظف نقد الوزارة في الصحف، ومعنى ذلك: أن الوزارة أكرم على نفسها من أبوة الآباء، وبنوة الأبناء، وحق اليتامى لا في أن يتعلموا بل في أن يعيشوا.
هذا هو العدل الذي صنعه الناس، والذي تقوم عليه قوة الحكومات، فأما الرحمة التي خلقها الله، فأما العدل الذي أراد الله أن ينشر في الأرض، فأمران لا يثبتان لما ينبغي لوزارة المعارف من كرامة في نفوس الموظفين، والغريب أن وزير المعارف أب، وأن ما أجراه على هذا الموظف يمكن أن يجريه عليه طاغية من الطغاة في يوم من الأيام، والغريب أن لوزير المعارف أعوانا كلهم أب، وكلهم يعرف حق الأبوة، وحق البنوة، وما ينبغي للأطفال الصغار اليتامى من رعاية وعناية وحماية من الآفات.
كل هذا غريب حقا؛ لأن التسلط يعمي البصائر والأبصار عن حقوق الأبوة والبنوة، ولأن التسلط يملأ النفوس غرورا وفتونا وتكبرا وتجبرا، ويرتفع بها عن الرحمة التي هي خور في الطبيعة كما كان يقول محمد بن عبد الملك الزيات.
أي العذابين أشد نكرا! عذاب التنور الذي أشرعت فيه المسامير المدببة، والذي يألم فيه المعذب أياما ثم يموت، أم هذا العذاب الرقيق الرفيق الرشيق الهادئ المتصل البطيء الذي لا يرى ولا تحس آثاره، ولكنه يفني النفوس شيئا فشيئا، ويعلم الأطفال أن الحرمان قد يؤذي، وأن الظلم قد يملأ النفوس بأسا، وأن الجوع قد يكون كريه المذاق.
أي العذابين أشد نكرا! هذا العذاب الذي كان يصبه محمد بن عبد الملك الزيات على الأجسام حتى تهلك، أم هذا العذاب الذي يصب في هذه الأيام على النفوس فيعرضها لفقدان الكرامة، وللشعور بالذلة وللاستخذاء أمام المتسلطين. إلى هذا انتهت بنا الحضارة المترفة، ويقال بعد ذلك: إن أخص ما يمتاز به العصر الحديث أنه علم الناس أن لهم ضمائر تحب الخير وتكره الشر، وتندم حين تصيب الناس بما تكره أن يصيبها الناس به.
ربما كان هذا حقا، ولكن هذه الضمائر التي استكشفها الإنسان في العصر الحديث تمتاز أيضا بالمرونة، فهي قادرة على أن تتشكل بما يقدم إليها من الأشكال، وهي قادرة على أن تستدير مع الشمس، وهي قادرة على أن تستقبل الريح من حيث تهب، وهي قادرة على أن تلغي أبوة الآباء، وبنوة الأبناء، وأمومة الأمهات، وإن تكن في غيابات القبور، وهي قادرة على أن تعرض الأطفال الصغار اليتامى للجهل والفقر والمرض والجوع، لا لشيء إلا لأن وزارة المعارف قد نقدت في الصحف، وهي أكرم من أن تنقد في الصحف، وإن كان الناقدون آباء لا يعرفون كيف يعلمون أبناءهم.
معذرة أيها القارئ الكريم إني لأشعر أن في هذا الحديث مرارة قد تؤذي نفسك، وتؤلم قلبك، ولكنك توافقني فيما أظن على أن في حياتنا أشياء إن رضيها ضمير الوزراء وأعوان الوزراء فلا ينبغي أن ترضاها ضمائر الشعوب.
الشجاع
لم تخطئي وصفه يا سيدتي، فهو شجاع بأدق معاني هذه الكلمة، وأكملها وأشملها، ولكن بشرط أن تفهمي من الشجاع معنى غير هذا المعنى المألوف الذي ابتذله الناس في أدبهم القديم والحديث، فليس في صاحبنا من شجاعة الناس شيء، ولعله أن يكون أبعدهم عنها، وأبرأهم منها، وأدناهم إلى الخوف الذي يخلع القلوب، والهلع الذي يفسد المروءة، والجزع الذي تطير له النفوس شعاعا، وآية ذلك أنه حريص أشد الحرص على أن يرضي كل إنسان مشفق أشد الإشفاق من أن يغضب أي إنسان، لا يحرص على أن يرضي الجماعات أيضا.
ولعل حرصه على إرضاء الجماعات أن يكون أشد من حرصه على إرضاء الأفراد، ولا سيما حين يكون لهذه الجماعات من القوة حظ قليل أو كثير، وحين يكون بينها وبين السلطان سبب طويل أو قصير، والأمر عنده في إرضاء الأفراد والجماعات يدور على ما يرجو من منفعة، وما يخشى من مضرة فهو حيثما رجا المنفعة، عظيمة كانت أو يسيرة، حلو الشمائل سمح الأخلاق سهل المراس، لين العريكة، مهذب الطبع، مثقف الذوق عذب الحديث، وهو على نقائض هذه الخصال كلها إذا لم يرج نفعا ولم يخش ضرا؛ فيه ما شاء الله من شراسة الطبع، وجفوة الخلق، وغلظة الذوق، وانحراف المزاج، وسوء العشرة، وصعوبة المراس، وخشونة الحديث.
وأظنك توافقينني يا سيدتي على أن شيئا من هذه الخصال لا يلائم أخلاق الرجل الشجاع، فالشجاع لا يقيم أمره على الرياء، ولا يجري حياته على المصانعة، ولا يلين حين تجب الشدة، ولا يشتد حين يحسن اللين.
والشجاع بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة لا يسرف في إيثار نفسه بالخير، ولا يضحي في سبيل هذا الإيثار بما يجعل الرجل الكريم رجلا كريما، ومع ذلك فصاحبنا شجاع بشرط أن تفهمي الشجاع كما أراد أن يفهمه الشاعر القديم حين قال:
وأطرقت إطراق الشجاع ولو يرى
مساغا لنابيه الشجاع لصمما
فالشجاع هنا اسم لا وصف، وهو لا يدل على الرجل الذي يصبر نفسه على المكروه، ويجشمها الهول في سبيل ما يتم مروءته، ويكمل رجولته، ويرفع منزلته، ويجعله ممتازا بين الممتازين الذين يستحقون الامتياز، ولا يغضبونه غضبا، وإنما يدل على الحية التي تستخفي في حجرها، لا تكاد تظهر منه إلا رأسها الدقيق، وتظل على حالها هذه مستخفية مطرقة، حتى إذا مكنتها الفرصة، ووجدت مساغا لنابيها لم تضيعها، وإنما عضت فصممت كما يقول الشاعر، وبلغت من عضتها وتصميمها ما تريد.
وهذه الحية أو هذا الشجاع لا يستخفي في الحجر دائما، ولكنه يستخفي في رمال الصحراء، ويستخفي بين الصخور الغلاظ، ويندس في الفراش الوثيرة، وهو سارب بالليل، وسارب بالنهار، يحسبه من يراه هادئا كل الهدوء مطمئنا كل الاطمئنان، ولا يكاد يقدر أن على أحد منه بأسا لولا أن الإنسان قد عرف أخلاقه منذ أقدم العصور، ولكن هدوء الهادئ لا يفر الناس عنه، واطمئنان المطمئن لا ينسي الناس ما بلوا من أخلاقه، وهذا هو الفرق الوحيد بين الشجاع الذي نتحدث عنه، والشجاع الذي ذكره الشاعر القديم. معروف الأذى منتظر الشر قد تواصى الناس ببغضه وخوفه واجتنابه منذ عرفوه، وأما الشجاع الذي نتحدث عنه فإنه رجل مثلنا يشاركنا في كثير من صفات الناس، ويضطرب معنا في كثير مما نضطرب فيه من شئون الحياة، وهو من أجل ذلك يخدعنا عن نفسه، وأمله أن يخدع نفسه عن نفسه أيضا، ولست أدري أيهما شر؛ شجاع الحيات الذي لا يراه الناس إلا فزعوا منه واتقوا شره، أو شجاع الناس الذي نراه فنطمئن إليه، ونصل أسبابنا بأسبابه، ونقدم إليه المعروف، وننتظر أن يقدم إلينا المعروف أو ألا يصيبنا منه مكروه على أقل تقدير.
وقد زعم بعض الناس للجاحظ أن من الحيات ما له رأسان، وزعم بعض الأعراب للجاحظ أنه رأى هذا الصنف من أصناف الشجعان، فلما سأله الجاحظ بأي الرأسين يسعى، وبأيهما يطعم؟ قال: إنه يفطر بأحد رأسيه، ويتغذى بأحدهما الآخر، ويسعى بهما جميعا.
قال الجاحظ: وهذا من أكذب الكذب، ومن الجائز أن يكون الأعرابي قد كذب على الجاحظ في وصفه لشجاع الحيات، ولكن من المحقق أن لشجاعنا الإنسي رأسين، وأنه يفطر بأحدهما، ويتغذى بأحدهما الآخر، أو قولي إن شئت يا سيدتي: إن له لونين من ألوان الغذاء، وقد خصص لكل لون منهما رأسا من رأسيه هذين فله غذاء مادي يأتلف من هذا المال الذي يجمعه شيئا فشيئا، ويحصله قليلا قليلا، ويضم بعضه إلى بعض في أناة ورفق وانتهاز للفرص، وله غذاء معنوي يمازجه شيء من المادة هو هذه الدرجات التي سعى لها منذ اتصلت أسبابه بأسباب العمل في الدواوين، فهو يلتمسها في أناة ورفق وانتهاز للفرص، كما يلتمس غذاءه المادي ذاك، وما أكثر الذين يتاح لهم أن يعملوا في دواوين الحكومة أو غيرها من مكاتب الأعمال العامة، ويعنون مع ذلك بجمع المال، وتدبير الثروة، والاستكثار مما يتيح لهم الغنى، ويملأ أيديهم من حطام الدنيا، ولكن المهم الذي يمتاز به صاحبنا، ويشبه به الشجاع شبها قويا، والشجاع ذا الرأسين، هو طريقته في جمع المال، وتدبير الثروة، وطريقته في التماس المناصب، وابتغاء الوسائل إلى الرقي في درجاتها المختلفة، فهو لا يسعى في ذلك كما يسعى الناس، وإنما يتأتى له كما يتأتى الشجاع للفريسة التي يعمل فيها نابيه، وينفث فيها سمه الناقع.
وقد زعم بعض الصقالبة للجاحظ أيضا أن من الحيات ما يلتف على البقرة الحلوب التفافا حتى يبلغ ضرعها فيرتضعه في شره، وما يزال يشرب ما فيه من لبن حتى يمتلئ وينتفخ ويتراخى، وإذا هو يترك البقرة، ويستلقي سكران من كثرة ما شرب، ولكنه قد اضطر فريسته إلى الهلاك.
وكذلك يفعل صاحبنا في جمعه للمال حين يجمعه، وفي التماسه للمنصب حين يلتمسه، يرى الفريسة أمامه فينظر إليها، ويصل بها نفسه وقلبه وعقله، ثم يثب إليها حين تمكنه الفرصة ثم يلتف عليها، وما يزال يمتصها امتصاصا، ويرتضعها ارتضاعا حتى يأتي على آخر ما عندها. أورثته أسرته ثروة متواضعة ليست بذات غناء، ولكنه لم يقنع بها، ومتى قنع الناس بما يتاح لهم من أعراض الدنيا، لم يقنع بها وإنما طمع في تنميتها، وفي تنميتها على حساب جيرانه، وخلانه، وذوي مودته، والذين كانت بينهم وبين أسرته صلات المحبة والألفة وحسن الجوار، فأطرق إطراق الشجاع، وجعل ينتهز الفرصة حين تسنح، ويتربص الدائرة حين تدور، ويرقب النائبة حين تنوب، فلا تزال عينه ناظرة إلى ما حوله من أرض جيرانه، ولا تزال نفسه متصلة بها حتى تعرض حاجة جار من جيرانه إلى بعض المعونة إلى ما يحتاج إليه صاحب الأرض من هذا القرض الذي يؤدي به الحق حين يلزم، ويدفع به الخطب حين يلم. هنالك يرفع الشجاع رأسه من إطراقه، وهنالك يكون الأطماع ويكون الامتناع، وهنالك يكون الدنو ويكون النأي، وهنالك يكون القرب، ويكون الهجر، والحاجة ملحة على جاره، ولعله أن يشارك في جعل هذه الحاجة ملحة مشتدة في الإلحاح، وما يزال بجاره يبدي له المال ويخفيه عنه، حتى إذا وجد مساغا لنابيه أدى المال، وأخذ مكانه رهنا مقبوضا.
وكذلك أنفق حياة طويلة يداعب جيرانه هذه المداعبة المرة، ويلاعبهم هذه الملاعبة البغيضة، حتى ضم أرضهم إلى أرضه، ومالهم إلى ماله، وحتى ردهم فقراء بعد غنى، وأشقياء بعد سعادة، ومحتاجين إلى الرفق والعطف بعد أن كانوا يبذلون الرفق والعطف، وإذا هو سيدهم، وقد كان واحدا منهم، وإذا هم يدينون له بالطاعة، ويلجئون إليه عند الملمات، ويعملون في أرض كانت لهم فأصبحت له، وأصبحوا هم لها وله في وقت واحد.
وإذا هو يستكبر ويستعلي ويطغى ويبغى ويشق على من كانوا له أكفاء فأصبحوا له أجراء، وكذلك عمل أحد هذين الرأسين في الازدراد والالتهام لكل ما كان حوله من المال والثراء، ينتهز الفرصة كلما سنحت، ويخلقها إذا لم تسنح، ويبذل الحيلة كل الحيلة في خلقها وابتكارها إن امتنعت عليه، وهو على هذا كله هادئ وادع مطمئن، يشيع في قلوب الذين يرونه أمنا وأنسا ودعة ورفقا، حتى إذ عضهم بنابيه عرفوا كيف تكون مساورة الحيات، ولو كان لهم حظ من ثقافة أو أدب لأنشد كل واحد منهم قول النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة
من الرقش في أنيابها السم ناقع
وأما رأسه الثاني: فيعمل في القاهرة، يستقر في مكتب من المكاتب وفي ديوان من الدواوين، كما يستقر الشجاع في جحره، أو يطرق كما يطرق الشجاع في كثيب من رمال الصحراء، يسعى هادئا كما يسعى النسيم، وينساب رفيقا كما ينساب ماء الينبوع، وهو على ذلك حذر ماكر يرقب الفرصة، ويسعى بالكيد، ويفرق بين الصديق، ويغري بالزميل حتى إذا أمكنت الفرصة، ووجد مساغا لنابيه صمم وأحسن التصميم ، ووثب إلى فريسته فانطوى عليها كما ينطوي شجاع الجاحظ على البقرة الحلوب، وما يزال يمتص فريسته حتى يأتي على آخر ما عنده، وإذا هو ارتقى من منصب إلى منصب، ووثب من درجة إلى درجة، وقفز من مرتبة إلى مرتبة، وإذا الذين كانوا له رفاقا وزملاء قد أصبحوا له مرءوسين يجدون في طاعته، ويصدرون عن أمره، وقد ملأ الجو من حوله مكرا وكيدا وخبثا ودهاء، ونفث السم في البيئة كلها كما ينفث الشجاع سمه في الفريسة حين يظفر بها.
وأخص ما يمتاز به الشجاع أنه على ما يظهر من لينه ورخاوته وتهالكه ومرونة جسمه شديد الأيد لا يعيا بشيء، وأقوى ما فيه أنيابه ومعدته، فأنيابه لا يعييها شيء، ومعدته لا يعجزها قضم، وهو من أجل ذلك لا يتعب، ولا يبلغه الجهد مهما يحاول من أمر، ومهما يتكلف من مشقة، وهو من أجل ذلك لا يرضى مهما حقق من أمل، ولا يقنع مهما يبلغ من أرب، وهو لا يمضغ دائما، ولكنه يمضغ حينا ويزدرد أحيانا، ويهضم على كل حال، وأمر صاحبنا كأمر الشجاع في هذا كله، فرأسه العامل في القرية لا يطرق إلا ليثب، ورأسه العامل في القاهرة لا يطمئن إلا ليثور، ومعدته مضطربة دائما بهذا الهضم المتصل الذي لا يذر شيئا أتى عليه إلا جعله كالرميم.
وللشجاع صفير يؤذي، وفحيح يخيف، ولو قد سمعت صاحبنا يا سيدتي حين يعبث به الطمع، ويحركه الإغراء، وتدعوه الفريسة إلى القضم والهضم، لسمعت صياحا منكرا وجئيرا بشعا، ليس أقل نكرا ولا بشاعة مما يبعثه الشجاع حين يتهيأ للوثوب من صفير وفحيح.
وليس لشجاع الحيات منزل يختاره ويؤسسه، ويؤثر المقام فيه، وإنما هو ساع دائما يأوي إلى حيث يحب أن يأوي، ويغير حيث يحب أن يغير، وهو من أجل ذلك شائع الأذى متصل الشر منتشر العدوان، وصاحبنا يشارك الشجاع في هذه الخصلة كما يشاركه في غيرها من الخصال، فهو لا يؤثر مالا بعينه، ولا يؤثر عملا بعينه، ولا يؤثر صديقا بعينه، ولا يؤثر عدوا بعينه، وإنما المال كله صالح للجمع، وتوفير الثراء، والعمل كله صالح لنيل المناصب، وارتقاء الدرجات، والناس كلهم له صديق، والناس كلهم له عدو، وهو قادر على أن يندس في كل مكان، ويحصل في كل مجلس، وينساب في كل ناد، ويقول في كل شيء، ويكتب في كل موضوع، وينفث السم حيث يتاح له أن ينفث السم، أي حيث يتاح له أن يتنفس، فالهواء كله قد سخر له يودعه سمه فينقله حيث يسعى النسيم، وحيث تجري الريح عاصفة أو رخاء.
ولشجاع الحيات المصرية شهرة ذائعة، وأحاديث شائعة، وذكر قديم، وصوت بعيد، وعهد مصر كما تعرفين بالحيات قديم، ذكرت مع فرعون في الكتب المنزلة، وظهرت مع فرعون في النقوش والآثار، ولكن عهد مصر بالشجعان الإنسية قريب فيما يظهر، وهو على قربه خصب بعيد الأثر، فقد كثرت شجعان الناس في مصر منذ اضطربت السياسة، وتلاحقت الخطوب، ومكر بعض الناس ببعض، وكاد بعض الناس لبعض، وتوشك مصر أن تعرف بشجعان الناس كما عرفت بشجعان الحيات.
قالت السيدة متضاحكة، وكانت أريبة: حسبك فقد روعتني، وأخشى أن تكون قد روعت نفسك، فاذكر أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يعوذ بالله من أن يتخبطه الشيطان عند الموت، ومن أن يموت في سبيله مدبرا، ومن أن يموت لديغا.
سمير الليل
لا تكلف نفسك مشقة ولا جهدا، فلن يتاح لك حل هذا اللغز بالمشقة والجهد، ولا بالروية المتصلة والتفكير الطويل، وليس مصدر ذلك أن هذا اللغز عسير الحل، ولا أن الطريق إلى حله ملتوية متشعبة يوشك سالكها أن يجور فيها عن قصد السبيل، بل مصدر ذلك أن هذا اللغز يسير جدا أيسر مما تقدر، وأقرب إلى الحل مما تظن، وإن الطريق إلى فهمه قصيرة مستقيمة لا طول فيها ولا التواء، فأنت ترى صاحبنا أعجوبة من أعاجيب الدهر، وغريبة من غرائب الزمان. تجلس إليه فلا تكاد تسمع منه صوابا ولا تكاد تفهم عنه شيئا، وتتحدث إليه فلا يفهم عنك إلا أيسر ما تقول، ولا يكاد يرد عليك رجع الحديث حتى يأخذك شيء من العجب؛ لأنك لا تدري أتتحدث إلى عاقل أم تتحدث إلى مجنون.
وأنت تنظر إلى جسمه هذا الذي يمتد عن يمين وشمال، ومن وراء وأمام، ولا يكاد يرتفع في الجو إلا قليلا، ولا يكاد يجد من الناس وكراسيهم ما يسمعه كما يسمع غيره من الناس، فيخيل إليك أن هذا اللحم المتراكب والشحم المتراكم قد ألقى بين نفسه وبين العالم حجبا صفاقا، وأستارا كثافا ... فهي لا تكاد تحس من العالم شيئا، والعالم لا يكاد يبلغها إلا بعد عناء شديد، وأنت تنظر إلى وجهه الضخم الجهم فترى على شفتيه الغليظتين ابتسامة تدل على البلة والغفلة أكثر مما تصور الفطنة والذكاء، وترى أنفا ضئيلا قد كاد يغرق فيما يكتنفه من لحم خديه، وجعل النفس يتردد فيه محتبسا مختنقا يسمع له صوت ثقيل بغيض، وترى جبهة ضيقة بارزة قد انبسط فوقها رأس مفرطح عريض قل فيه الشعر، وأخذ فيه الصلع، وجعلت تبدو من خلاله رقع ضيقة جرداء حتى أنكره، وكره أن يكشف رأسه إلا قليلا.
وترى عينين مغمضتين كأن صاحبهما نائم مغرق في النوم، فإذا أراد أن ينظر إلى شيء أمامه، أو إلى إنسان بين يديه، رفع جفنين متكسرين، ورفعهما في شيء من الجهد، فبدت من دونهما عينان صغيرتان منطفئتان لا تصوران يقظة ولا نشاطا ولا ذكاء، وإنما تصوران نوما وخمولا وغباء شديدا، فإذا استمعت له وهو يتحدث اضطررت أن تجهد أذنيك لينقل عنه الصوت إليك؛ لأنه يتكلم في صوت ليس بالنحيل ولا بالضئيل، ولكنه مع ذلك ليس بالقوي ولا بالمرتفع، وإنما هو صوت وسط بين ذلك مطرد منكسر أشبه شيء بالماء الفاتر يريد أن يجري جريانا سواء، فتعترضه عقبات يسيرة جدا يتغلب عليها، وينشأ عن ذلك فيه تهدج وانحطام بين حين وحين، فمنظره يؤذيك والاستماع له يضنيك، والفهم عنه يشق عليك، والوصول إلى نفسه يرهقك من أمرك عسرا، والحكم الذي تكونه في نفسك حين تقبل عليه أو تنصرف عنه هو أنه غلطة من غلطات الطبيعة، وفلتة من فلتات الدهر، ووهم من أوهام الظروف . كأنما أريد به إلى أن يكون حيوانا من هذه الحيوانات الضخمة ذات الخلق المرتبك، والشكل الذي لا يروق، ثم عدل به في اللحظة الأخيرة إلى شكل الإنسان فلم يحسن تقويمه، ولم يعتدل قده، ولم يتسق شكله، ولم ينفخ فيه من الروح الإنساني العاقل إلا جزء ضئيل.
كذلك تحكم عليه حين تلقاه، وكذلك تحكم عليه حين تفارقه لولا أنك مضطر إلى أن تنكر هذا الحكم إنكارا، وترفضه رفضا، وتعترف كما اعترف بأن له حظا عظيما من الذكاء والفطنة، وبأنه يدبر أمره في حياته الخاصة والعامة تدبير المستبصرين أولى الذكاء النافذ، والذهن المتوقد، والعقل الذي لا يعبأ بالمشكلات، ولا يرتد عن معضلات الأمور، وأنت حائر كل الحيرة في هذا التناقض بين ما يظهر من شكله ومن عقله، وبين ما يصدر عنه من الأعمال والأقوال التي لا تصدر عن غفلة ولا عن غباء.
ومصدر هذا التناقض الذي تضيق به، وتراه لغزا معضلا، وتريد أن تلتمس له الحل فلا تجد إلى حله سبيلا، أنك لم تعرفه كما أعرفه، ولم تظهر من أمره على ما أظهر عليه. فصاحبنا أعجوبة من غير شك، ولكنها أعجوبة لا تكاد تثبت لمن يعرفه حق معرفته، وسبيل ذلك أن تصحبه يوما كاملا، يوما يأتلف من النهار والليل، فالنهار وحده لا يفسره، والليل وحده لا يجلوه، ولا بد من أن يتعاون هذان الفرسان اللذان يستبقان دائما، ولا يستطيعان أن يجتمعا في مستقر واحد، لا بد من أن يتعاون هذان الفرسان على تفسير غامضه، وتجلية أمره؛ لأنهما قد اقتسما نفسه اقتساما كاملا.
فللنهار منه نصيب لا يعرفه الليل، ولليل منه نصيب لا يبلوه النهار، وآية ذلك أن عين الفجر لم تره قط إلا مغرقا في نوم ثقيل أو غارقا في سكر عميق، وأن عين الضحى المشرق لم تره قط إلا يقظان الجسم نائم النفس، وأن صدر الليل لم يره قط إلا مرحا فرحا خفيفا رشيقا كأنه لا يحمل هذا الجسم الضخم الثقيل، وإنما يحمل جسما قد صور من الهواء، فهو لا يسكن إلا ليتحرك، ولا يستقر إلا ليضطرب، ولا يسكت إلا ليتكلم، وهو لا يتكلم بهذا الصوت الفاتر المتكسر، وإنما يتكلم بصوت مرتفع عريض يملأ الفضاء، ويسمع من بعيد، وهو لا يجد مشقة ولا جهدا في رفع جفنيه، ولا في التنفس من أنفه الدقيق الضئيل، وابتسامته تلك الغافلة البلهاء تستحيل إلى ابتسامة أخرى فيها كثير جدا من الفطنة، وفيها كثير جدا من الذكاء.
وهو على كل حال ليس نائما إذا جنه الليل، وإنما هو أبعد الناس عن النوم، وأعظمهم حظا من اليقظة، بل قل إنه يقظة كله يقظة لا تنام ولا تنيم، وإنما توقظ الناس من حوله، ولعلها تزعجهم إزعاجا فهو حياة ثائرة فائرة، وهو حركة هائجة مائجة، وهو تفكير متصل لا يعرف الانقطاع، وكلام مسترسل لا يعرف الوقوف.
فله نفسان؛ نفس قد صحبت النهار تنام فيه، وتؤذن الناس بأنها مستيقظة، ونفس قد صحبت الليل، تسهد فيه، وتخيل إلى الذين لا يألفونه أنها نائمة، وكل ما يصدر عنه من الأعمال التي تصور الذكاء، ومن هذه الأقوال التي تصور الفطنة إنما هو من وحي نفسه المستيقظة في الليل، تقدره وتدبره، ثم تهينه وتدخره لنفسه النهارية النائمة، فيصدر عنها كما تصدر الأحلام عن النائمين.
ولم يكن هذا حاله منذ مارس حياة الرجال، وإنما طرأ عليه قليلا قليلا كما تطرأ بعض العلل على بعض المرضى، فقد كان في المدرسة الثانوية وأثناء الدراسة الجامعية في مصر وفي أوروبا فتى كغيره من الفتيان يشارك أترابه في الدرس، ويشاركهم في العبث والمرح، ولكنه يمعن في الدرس أكثر مما كانوا يمعنون، ويبلغ من النجح أكثر مما كانوا يبلغون، فإذا أقبلوا على مرحهم استوفى منه حظا أعظم من حظوظهم، وألح فيه إلحاحا كثيرا ما كانوا ينكرونه عليه، ويلومونه فيه، فلم يكن يلقى لومهم إلا بالسخرية، ولم يكن يستقبل إعراضهم إلا بالازدراء.
وما له لا يفعل ذلك، وإسرافه على نفسه في اللهو لا يقصر به عن إتقان الدرس، والتفوق على أترابه فيه، وما الذي يمنعه أن يعطي نفسه من لذة العقل أعظم حظ ممكن، وأن يعطي جسمه من لذة الحس أكبر قسط مستطاع، ولماذا ينصف نفسه بما يتيح لها من لذة العلم والمعرفة، ويظلم جسمه بحرمانه لذة العبث والمجون، وكذلك أنشأ لنفسه فلسفة خاصة لاءمت حياته في أوروبا ملاءمة ما، ولكنها لم تلائم حياته في مصر، فللأوضاع الاجتماعية في مصر خصائصها التي تفرض على الناس، ولا سيما حين يشغلون المناصب، ويرضون الرؤساء، ويرقون رقيا سريعا، ألوانا من الوقار، وضروبا من الاحتشام تضطرهم إلى شيء من الجد والحرمان إن كانوا أصحاب عبث ومجون.
ومن أجل ذلك ضاق صاحبنا بالحياة أول الأمر ضيقا شديدا انتهى به إلى سأم شديد، وكاد ينتهي به إلى يأس مظلم، فقد رأى أبواب العلم والمعرفة والدرس والبحث مفتحة له على مصاريعها، ورأى فرص اللهو والعبث نادرة، ووسائلها محدودة، وأبوابهما لا تكاد تفتح إلا قليلا، ولا تكاد تفتح إلا لتغلق، فإذا هم أن يلج منها إلى ما يريد اضطر إلى كثير من الحذر والاحتياط؛ لأن الأوضاع الاجتماعية في ذلك الوقت كانت تفرض الحذر والاحتياط، وقد هم أن يرضي نفسه، ويهمل حسه، وأن يمعن في لذة العلم، ويزهد في لذة الإثم، ولكنه لم يلبث أن آنس من نفسه زهدا في المعرفة، وانصرافا عن الدرس، وفتورا عن البحث والدرس، ونظر فإذا هو يوشك أن يكون موظفا كغيره من الموظفين الذين يضطربون من حوله خاملين لا يضيقون بالخمود والخمول، بل لا يشعرون بالخمود والخمول، وإنما هم راضون عن أنفسهم، وعن حظوظهم، قد اطمأنوا إلى الحياة، واطمأنت إليهم الحياة.
وكان صاحبنا أبعد الناس عن الرضى، وأبغضهم للاطمئنان، وأشدهم طموحا إلى الرقي، وطمعا في الامتياز، فلم يكد يفكر ويقدر حتى استيقن أن فلسفته تلك قد خلقت له، وأنه خلق لها، وأنها وحدها هي التي تستطيع أن تبلغه ما يريد من علو المنزلة، وارتفاع المكانة، وما دام لا يرضى بالقليل، ولا يقنع بما يقنع به عامة الموظفين، ولا يكفيه أن يخطو إلى الامتياز خطوات متئدة معتدلة، وإنما يريد أن يخطف الطريق خطفا، وينهبها نهبا، ويأتي بما لم تستطعه الأوائل كما يقول أبو العلاء، فلا بد من أن يلجأ إلى فلسفته فيحيا بها، ويحيا لها.
وقد فعل فاعتزل الناس إلا قليلا، جعل يلقاهم في الديوان حين يغدو على عمله في الديوان، وجعل يلقاهم آخر النهار إن اضطرته الظروف إلى أن يلقاهم آخر النهار، ولكنه جعل لا يكاد يستقبل الليل حتى يبتسم لظلمته المظلمة ابتساما مشرقا، ويمد إليه يد الصديق، ويفتح له قلب الخليل، ويتحدث إليه كما يتحدث الحبيب إلى الحبيب.
اتخذ الليل سميرا ونديما، واتخذ الشراب سميرا ونديما، واتخذ الكتاب سميرا ونديما أيضا، فجعل كلما أقبل الليل خلا إليه وإلى كتابه وشرابه ففكر وقرأ وكتب، واحتسى بين ذلك الكأس إثر الكأس، حتى إذا تولى الليل إلا أقله، وكادت توالي نجمه تتغور كما يقول ابن أبي ربيعة، أعرض عن الشراب كارها، وانصرف عن الكتاب محرجا يضطره إلى هذا الانصراف، وذلك الإعراض أنه لا يستطيع أن يمسك الليل، ولا أن يرد النهار، وأن للقراءة والتفكير والشراب أثرا في العقل والجسم جميعا، فلا بد من الراحة بعد التعب، ومن النوم بعد السهاد الطويل، فهو إذن يسعى سعي المقيد في الوحل كما يقول مسلم بن الوليد، حتى يبلغ سريره فيلقي نفسه عليه إلقاء، ويستسلم للنوم استسلاما، وما أكثر ما كان يقبل على السرير والنوم، وهو يبغضهما أشد البغض، ويمقتهما أقبح المقت، ولكن لا بد مما ليس منه بد، على أن النوم لا يلبث أن يطبق عليه إطباقا، ويضمه ضما عنيفا ثقيلا قصيرا أيضا.
فهو يستيقظ قبل أن يرتفع الضحى، ويغدو على عمله كما تعرفه نائما أو كالنائم ممضا في هذا الذهول الغريب، وقد طالت تجربته لهذا النوع من الحياة أو لهذين النوعين المختلفين من الحياة حتى ألفهما إلفا متصلا، وأصبح لا يستطيع أن يحيا إلا كما نراه نحن في النهار، كما يراه الله وقليل من الأخلاء في الليل.
على أن حياته هذه المختلفة لم تلبث إلا قليلا حتى ظهرت آثارها في رأيه، وعمله، وسيرته مع الناس. فهو أذكى من أن يأمن السكر على آرائه وأعماله وأقواله، فهو من أجل ذلك قد أساء الظن بنفسه فجعل لا يرى رأيا إلا أطال التفكير فيه، والتقليب له قبل أن يعلنه، يتهم فيه ليله هذا السكران، ويخشى أن يدفعه إلى غير الصواب، وهو لا يقدم على عمل إلا بعد التردد المتصل، وبعد الإحجام الطويل، وهو لا يقول قولا إلا بعد أن يزنه كما يزن الصيرفي دنانيره بميزانه الحساس الدقيق، ثم جعل سوء ظنه بنفسه يقوى ويشتد، ويمتد حتى تناول الناس جميعا، وإذا هو لا يصدقك إذا استمع إليك كما أنه لا يطمئن إلى ما تهدي إليه من قول أو عمل؛ لأنه يتهم الناس جميعا فيما يقولون ويعملون، كما يتهم نفسه في كل ما يعمل ويقول، ويريد سوء حظه أو حسن حظه لا أدري أن تبتسم له الأيام، ويستجيب له الحظ فيرقى ويرقى ويسرع إليه الثراء، وإذا هو يشعر كما يشعر غيره من الناس بأنه في حاجة إلى أن يكون لنفسه أسرة، ويؤسس لنفسه بيتا فيتخذ الزوج، ولكنه لا ينعم بالزواج إلا أياما، فقد صرفته زوجه عن ندمائه؛ الليل والشراب والكتاب، صرفته فانصرف أول الأمر، ثم لم يلبث أن أدركه السأم فجعل يرد نفسه إلى ندمائه هؤلاء شيئا فشيئا، وهو كلما رد من نفسه جزءا إلى ندمائه حرم زوجه هذا الجزء من نفسه؛ فسعد هو وشقيت هي، حتى إذا عادت نفسه كلها إلى ندمائه نعم بسعادته الكاملة، وشقيت بحرمانها الكامل، وعاش الزوجان في دار واحدة، ولكن كلا منهما أصبح لصاحبه عدوا يظهر الحب ويضمر البغض.
قلت لصاحبي حين بلغ هذا الموضع من حديثه: أو تظن الأمور تستقيم لهذا الكائن الغريب على هذا النحو الغريب من أنحاء الحياة؟ قال صاحبي: هيهات! وكيف تستقيم الأمور لرجل يسامر ظلمة الليل التي تغشى الأبصار، وظلمة الخمر التي تغشى البصائر، ألم أنبئك بأن حبه لهذه الظلمات قد أفسد عليه حياته الروحية، ودفعه إلى الإسراف في سوء الظن بنفسه وبالناس، ومتى استقامت الأمور لمن يقيم حياته على الإسراف في سوء الظن بنفسه وبالناس.
طيف
ألقى كل واحد منهما إلى صاحبه نظرة دهشة واجمة، فيها كثير من هذه الغفلة الحائرة التي تنشأ من المفاجأة، والتي تلم بالآمن المطمئن حين يفجأه من الأمر ما لم يكن ينتظر، بل ما لم يكن يخطر له ببال، وكانت النظرة التي ألقاها كل منهما إلى صاحبه خاطفة أول الأمر، ولكنها عادت فطالت واستقرت شيئا ما، ولزمت مع ذلك صمتا، إن صور شيئا فإنما يصور انعقاد اللسان حين تسيطر الحيرة على العقل فلا يفكر، وعلى القلب فلا يشعر، وعلى اللسان فلا يقول.
وقد لبث كل منهما بإزاء صاحبه ذاهلا غافلا لا يعرف ماذا يصنع، ولا يدري كيف يقول، ولو قد عرض لهما هذا اللقاء المفاجئ لأصابتهما الحيرة وقتا طويلا أو قصيرا، ولتهيأ آخر الأمر إلى مخرج من هذه الحيرة بكلمة تنفرج عنها الشفاه، أو ضحكة تنفغر لها الأفواه، ولكنهما في موقفهما هذا لم يكونا يستطيعان أن يخرجا من حيرتهما الصامتة إلى الضحك أو إلى الكلام، فقد كان بينهما هذا القبر القائم يضطرهما إلى شيء من الوقار لا يملكان معه ضحكا أن أرادا الضحك، ولا كلاما إن أرادا الكلام.
وهما من أجل ذلك قد لبثا صامتين واجمين، يلتمسان مخرجا من هذا الصمت، ومنصرفا عن هذا الوجوم، فلا يجدان إلى شيء من ذلك سبيلا، وقد أخذ كل واحد منهما يحدث نفسه بالانصراف عن هذا القبر، يرى في هذا الانصراف فرجا من هذا الحرج، ومخرجا من هذا الضيق، ولكن كل واحد منهما كان يسأل نفسه أيبدأ هو بالانصراف أم ينتظر حتى يضطر صاحبه إلى أن ينصرف؟ وإنهما لفي هذه الحيرة المتصلة، وإذا خطو يسمع وقعه من بعيد، فيرفعان رأسيهما وينظران من حيث يسمعان، فإذا شخص يقبل بطيئا رزينا متكلفا للوقار، ولا يكاد يدنو منهما حتى يعرفاه كما يعرف كل واحد منهما نفسه، فهو صديقهما الثالث الذي تعود أن يلقاهما حين يقبل المساء من كل يوم، وأن يسمر معهما حيث تعودوا أن يسمروا في ناد من أندية القاهرة أول الليل، وأن ينصرف معهما إلى حيث تعودوا أن ينصرفوا حين يوشك الليل أن ينتصف، فيلقون في بعض الأندية الخاصة من يلقون من رفاق اللهو، وخلان العبث والمجون، حتى إذا كاد الليل يبلغ ثلثيه أوى ثلاثتهم إلى تلك الدار التي تعودوا أن يأووا إليها في آخر الليل، وقد خلصت نفوسهم حظ اللهو، وصفت ضمائرهم للعبث، وحسن استعدادهم للمجون، أو قل إن شئت: لاستيفاء حظهم من المجون.
هنالك يكون شرب الكئوس الأخيرة، وهنالك تنطلق الألسنة بما تشاء في غير تكلف ولا تحرج، وهنالك ترسل النفوس على سجيتها في غير احتياط ولا تحفظ، وهنالك يخلع الإنسان عن نفسه هذه الخصال المصطنعة التي فرضتها الحضارة على المتحضرين، ويصير إلى حال من الإنسانية المترفة الفاجرة التي تنحط بصاحبها، أو ترتقي بصاحبها لا أدري، إلى حيوانية مترفة لا أدب فيها ولا وقار، حتى إذا انهزم الليل وولى مدبرا، وانتصر الصبح وأقبل ظافرا، انسلوا من هذه الدار لا تكاد أقدامهم تحملهم، ولا تكاد أجسامهم تسع نفوسهم، ولا تكاد ألسنتهم تنطق، ولا تكاد عقولهم تفكر، ولا تكاد قلوبهم تشعر؛ لأنهم قد أسرفوا على أنفسهم في الاستمتاع بإنسانيتهم المهذبة، التي نعمت حتى أفسدها النعيم، وأثرت حتى أطغاها الثراء، وارتقت حتى انحدر بها الارتقاء إلى الدرك الأسفل من الانحطاط، ولا يكادون يبلغون باب الدار متثاقلين متهالكين يسندهم الخدم مكبرين لهم ساخرين منهم حتى يتلقى كل واحد منهم سائق سيارته فيقره على شيء من الجهد في السيارة. يظهر الإكبار له ويضمر الاستهزاء به، ثم يمضي بهذا المتاع الغالي الرخيص حتى ينتهي به إلى داره، وحتى يرد منه إلى أهل الدار شيئا عظيما جدا في أعين الناس حقيرا جدا في عين نفسه، وفي عين أهله، وهو هذه البقية التي تركها الصبا واللهو والخلاعة والمجون.
فإذا تقدم النهار وارتفع الضحى، وزالت الشمس أو كادت تزول، أفاقت هذه البقية البالية من نومها الثقيل الغليظ، وتلقاها عمال الترف أولئك الذين يجددون البالي، ويحسنون القبيح، ويقيمون المتهدم، ويردون الشباب إلى من فارقهم الشباب، وما هي إلا ساعات حتى تستأنف هذه البقايا البالية حياة جديدة فيها نشاط وقوة، وفيها جمال ونضرة، وفيها شوق مجدد إلى اللهو، وفيها نزوع مستأنف إلى المجون، ولا يكاد النهار يبلغ آخره حتى يخرج من هذه الدور أشخاص فيهم كثير من المرح، وكثير من الفتون، وكثير جدا من الجهل والغرور.
وإذا هؤلاء الأشخاص يلتقون في ناديهم الذي تعودوا أن يلتقوا فيه فتكون الدعابة الفاترة، وتكون الفكاهة الباردة، ويكون المزاح السخيف، ويكون الإقبال الفاتر على العبث الفاتر، وكلما تقدم الليل ازداد النشاط، واشتد المرح، وعظم الخطر من العربدة، وأخذ كل جسم من هذه الأجسام يصير ثوبا قد دخلت فيه نفس جنية طغى عليها الهوى، وجمحت بها الشهوة، واندفع بها حب الإثم إلى غير حد، وإذا هم يستأنفون ليلا كليلهم الماضي، ويستقبلون حياة ناعمة يائسة كحياتهم الماضية، ويعودون إلى دورهم مع الصبح بقايا محطمة لا تريد شيئا، ولا تقدر على شيء، ولا تصلح لشيء حتى يشتمل عليها النوم فيرد إليها شيئا من قوة، ثم يتناولها عمال الترف الذين يرفعون البالي، ويجددون القديم حتى يردوا هذه البقايا البالية أشخاصا قادرة مريدة، ولكنها لا تقدر إلا على الفساد، ولا تريد إلا الإثم والمجون.
ولكنهم في هذه المرة لم يلتقوا في ناديهم ذاك الذي تعودوا أن يلتقوا فيه حين يقبل الليل، وإنما التقوا في مكان لم يكن ينتظر أن يلتقوا فيه، ولا أن يذهب إليه واحد منهم، فليس فيه لهو، وليس هو مظنة للهو، وليس فيه سمر، ولا هو مظنة للسمر، ومتى لها الناس بين القبور، ومتى سمر الناس حول قبر لم تمض على إقامته إلا أسابيع قليلة؟ كيف ذهب هؤلاء النفر إلى هذا المكان الموحش في قلب الصحراء؟ وكيف التقى هؤلاء النفر حول هذا القبر الذي لم تستقر فيه صاحبته إلا منذ أمد قريب؟ هذه هي المسألة التي ألقاها كل واحد منهم على نفسه فوجد الجواب عليها سهلا يسيرا، وهم أن يفكر فيها، ويستقصي التفكير ويتعمقه، لولا أنه لم يخلق للتفكير، ولا للاستقصاء، ولا للتعمق، وإنما خلق للعبث والمجون الذي يفسد المروءة، ويذهب بنضرة الأجسام والنفوس.
فلم يكد ثالث القوم يرى صاحبيه حتى أخذه ما أخذهما من الدهش، وعراه ما عراهما من الذهول، وغشيه ما غشيهما من الوجوم، ولكنه لم يملك نفسه طويلا، وإنما هم أن يضحك، ثم استحى من الغير فولى مدبرا، وتبعه صاحباه، حتى إذا بعدوا عن هؤلاء القوم اللذين لا تزاور بينهم ولا وصل إلا أن يكون نشور كما يقول أبو نواس، تساءلوا كيف كان سعيهم إلى هذا المكان، ووقوفهم عند هذا القبر، والتقاؤهم على غير ميعاد.
وقد جعل بعضهم يكذب بعضا في شيء من الحيرة المتبلدة أو من التبلد الخائر، ولكنهم تواصفوا ما رأوا، ووازنوا بين ما سمعوا فلم يروا بدا من أن يصدق بعضهم بعضا، ولم يروا بدا من أن يعترفوا بهذا الأمر الغريب العجيب الذي كان خليقا أن يملأ قلوبهم روعا، ونفوسهم هولا، لولا أنهم تعودوا أن يجدوا في الكأس ما يغسل قلوبهم من كل روع، وينفي عن نفوسهم كل هول.
ولست أدري إلام صارت أمورهم جميعا، ولكن أعلم أن أحدهم على أقل تقدير قد أدركه ذهول يشبه الجنون، وغفلة تشبه الخبل، وألمت به علة لست أدري أيثبت لها أم يعجز عن أن يقاومها، ويجد إلى البرء منها سبيلا.
وقد تسألني أنت عن سعيهم إلى هذا المكان الموحش في الصحراء، ووقوفهم عند هذا القبر الذي لم يقم إلا منذ أمد قريب، والتقائهم على غير ميعاد بين هذه القبور حين أخذت الشمس تنحدر إلى مغربها، وتجرر على هذه القبور أشعة شاحبة، إن صورت شيئا فإنما تصور حزنا كأنه كان صدى يردده الجو لهذا البلى الذي كان يعمل جاهدا فيما احتوته هذه القبور.
ولست أكره أن أقص عليك مصدر هذا كله، ولكني أعتقد أنك ستدهش لما أقص إليك من حديث، فأنت وما شئت من الشك، وأنت وما أحببت من الثقة، وإنما الشيء الذي أطمئن إليه أنا كل الاطمئنان، هو أني إنما أحدثك بشيء قد وقع، وأصور لك في هذا الحديث أمرا قد كان، وكل ما أتمنى هو ألا يعرض لك مثل ما عرض لهؤلاء النفر الثلاثة الذين أفسد عليهم أمرهم ما أغرقوا فيه من عبث ولهو، وما تهالكوا عليه من إثم ومجون.
كان هذا القبر الذي التقوا عنده مستقرا لغانية حسناء رائعة الحسن، بارعة الجمال، فاتنة الظرف، ساحرة الطرف، تعودوا أن يلقوها في تلك الدار التي كانوا يأوون إليها من آخر الليل، ويستنفدون فيها ما بقي لهم من قدرة على المجون والعبث، وكانت تلقاهم لقاء سواء تعدل بينهم فيما تهدي إليهم من ظرفها وخفتها، ومن رشاقتها وأناقتها ولباقتها، ومن هذا التودد الذي يغري ويطمع حتى يخيل إلى المرء أنه مشرف على الغاية، ومنته إلى الأمد، وبالغ ما يريد، ثم هو لا ينتهي به مع ذلك إلا إلى اليأس المهلك، والقنوط الذي يملأ القلوب لوعة وعذابا؛ فكان كل واحد من خلانها يستطيع أن يتمثل قول جميل:
ومنيتي حتى إذا ما ملكتني
بقول يحل العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حيلة
وغادرت ما غادرت بين الجوانح
ولكنهم كانوا أجهل جهلا، وأحمق حمقا، وأفرغ أفئدة، وأسخف عقولا، من أن يتمثلوا الشعر أو شيئا يشبه الشعر. إنما كانوا أصحاب لذة غليظة جافية يشقون ليتنعموا، وينعمون ليشقوا، ويألمون ليلذوا، ويلذون ليألموا، دون أن يوازنوا بين شقاء ونعيم، أو بين لذة وألم، قد دفعوا إلى الحياة وما فيها من نعيم وبؤس، فهم مندفعون إلى الحياة لا يفكرون في نعيم ولا بؤس، دفعهم إلى هذه الحياة المنكرة ثراء لم يجدوا في كسبه عناء، وتربية لم تمنحهم أحلاما راجحة، ولا بصائر نافذة، ولا قلوبا قادرة على أن ترتفع عن اللذات المادية الآثمة، والشهوات المندفعة الجامحة.
فكانوا إذا يلقون صاحبتهم تلك فيمن يلقون من خليلات اللهو، ورفيقات العبث والمجون، يجدون في هذا اللقاء حبا وبغضا، ورضى وسخطا، وإنجاحا وإخفاقا، ولكنهم قد اتصلت نفوسهم جميعا بهذه الفتاة اتصالا شديدا، وتعلقت قلوبهم بها تعلقا عنيفا، واشتدت آمالهم فيها، وعظم يأسهم منها حتى أخذ بعضهم ينفس على بعض ما يصدر عنها من لفظ ولحظ وإشارة، وحتى كاد بعضهم يصبح فيها لبعض عدوا، وهم على ذلك كانوا يجتمعون ويفترقون، لا يزيدهم الاجتماع إلا تنافسا وتباعدا، ولا يزيدهم الافتراق إلا حرصا على التداني وتكلفا باللقاء.
وقد أخذ كل منهم يظن بصاحبه الظنون، يزعم أنها تؤثر فلانا من دونه، ويشتد حقده على فلان، ومكره به، وكيده له، حتى كاد الأمر ينتهي بهم إلى أعظم الشر، ولكن الأيام أراحتهم من هذا العناء المهلك، فردت عنهم هذا الشر المستطير؛ لأنها اختطفت من بينهم هذه الغادة الحسناء في حادثة من هذه الحوادث التي تنقل الناس من الدار الأولى إلى الدار الآخرة في طرفة عين، فاجتمعت قلوبهم على الحزن والثكل، وحزن هؤلاء وأمثالهم لا يتصل ولا يطول، فما هي إلا أيام حتى يستأنفوا حياتهم كما ألفوها عابثة ماجنة، وسخيفة فارغة.
ولكن أحدهم يفيق من نومه مروعا، مفزعا، شديد الذهول فقد رأى طيف هذه الغادة الحسناء يلم به في أثناء نومه الثقيل فيذود عنه النوم، ويرده إلى يقظة شديدة، وإذا هو ينظر فيرى صاحبته كما تعود أن يراها فاتنة ساحرة تدنو منه، وتتلطف له، وتتودد إليه، وتقول له في صوتها العذب الذي يسحر القلوب: ما كنت أحسب أنك ستتركني حيث أنا وحيدة مستوحشة لا تهدي إلى زيارة، ولا تحدث بي عهدا، ما أسرع ما نسيتني، وإني على ذلك لم أنسك، ولا يمكن أن أنساك، ألمم بداري قبل أن يقبل الليل، ثم تنصرف عنه، وينظر فلا يرى شيئا، ويتسمع فلا يسمع شيئا، وينهض فيستأنف حياته كما تعود أن يستأنفها كل يوم لا يلقي بالا إلى ما رأى، ولا يلقي بالا إلى ما سمع، فإذا كان الغد جاء الطيف كما جاء أمس، وتحدث إليه بمثل ما تحدث به أمس.
وقد تكررت هذه الزيارة مرة ومرة حتى لم يشك في أن من الحق عليه أن يلم بهذا القبر، وأن يهدي إليه تحيته في طاقة من الزهر، وقد فعل، فلم يكد يبلغ القبر حتى رأى صاحبه، ولم يكد يقوم على القبر مع صاحبه حتى أقبل صاحبهما الثالث. فلما انصرفوا عن القبر قص أحدهم على صاحبه ما رأى وما سمع، فإذا كل واحد منهما قد رأى مثل ما رأى، وسمع مثل ما سمع، وأبطأ مثل ما أبطأ، ثم أقبل على القبر كما أقبل عليه يحمل إليه التحية وطاقة من الزهر.
أتراها أرادت أن تستبقي بينهم المنافسة والخصام بعد موتها، وأن تضطرهم إلى أن يحفظوا لها من الود مثل ما كانوا يظهرون لها قبل أن يموت؟ أم تراها أضغاث أحلام قد عبثت بنفوس هؤلاء النفر الثلاثة، ولكن كيف يتفق أن يلم الطيف بهم في يوم واحد، ويتراءى لهم في صورة واحدة، ويلقي إليهم حديثا واحدا أو يضرب لهم موعدا واحدا.
قلت لصاحبي حين انتهى من حديثه إلى هذه الأسئلة لا أدري، ولا أستطيع أن أفتح عليك، فسل من شئت من الجامعيين الذين يدرسون دقائق علم النفس فلعلك تجد عندهم غناء.
أم خفيف
لا تخدعي عنه يا سيدتي أنك ترينه مكينا ركينا، ورزينا رصينا يسعى هادئا إذا سعى، ويمشي مطمئنا إذا مشى، ولكنك لم تريه حين يأخذه المرح، ويستخفه النشاط إذا خرج للرياضة في الصحراء مصبحا أو ممسيا، ولو قد رأيته إذ ذاك لعلمت أنه يحسن الجري، ويجيد العدو، ويتقن الوثوب في الهواء، والتلوي في الفضاء. ولخيل إليك أن جسمه الضخم العريض القوي المتين لم يركب كما ركبت أجسام الناس، وإنما وصلت أجزاؤه بلوالب تمتد إن أراد لها امتدادا، أو تنقبض إن أراد لها انقباضا، وأنك ترينه معتدل الحركة مقتصدا فيها، إن حرك رأسه كأنما شد عنقه من بين كتفيه بأمراس الكتان إلى صم الجندل كما يقول الشاعر القديم؛ بل هو أقدر على أكثر من ذلك فهو مالك لأجزاء وجهه، يحرك منها ما يشاء حين يشاء، ويسكن منها ما يشاء حين يشاء، ويحركها كلها أحيانا، إذا أراد أن يسحر ويبهر أو أن يرهب ويخيف، ولو رأيته حين يستخفه الطرب ويستهويه نعيم الحياة لرأيت رجلا لا يملك من أمر نفسه شيئا، وإنما هو حركة متصلة مضطربة، لا حظ لها من وقار، ولا نصيب لها من اعتدال، كأنما فقدت هذه القوة الإرادية التي تحرك الأجسام بمقدار، وتسكنها بمقدار، وتلائم بين عواطف القلب، وحركات الجسم ملاءمة الذين لا تتسلط عليهم الغرائز، وإنما تدبر أمرهم العقول.
وإنك تسمعينه يتحدث فإذا صوت هادئ متزن، ولفظ مطمئن متئد، وحكم يظهر فيه القصد، وتشيع فيه الاستقامة، ويأخذه الاعتدال من جميع أقطاره، ولو قد سمعته حين يثيره الغضب، أو حين يزدهيه الخوف، أو حين يغلبه الرضى على أمره، لعرفت كيف يرتفع الصوت حتى يصم الآذان، وكيف يضطرب اللفظ حتى لا يستقيم تأليفه على نحو من أنحاء الكلام المألوف، وكيف يختلط الحكم حتى لا تدركه العقول، ولا تسيغه القلوب، وإنك ترين عليه زينة تأخذ الأبصار، وشارة تستهوي العقول.
ولو رأيته حين يتخفف ولا يتكلف، لرأيت الإهمال الذي تقتحمه العيون، والابتذال الذي تزور عنه النفوس، وإنما هي حياة الناس يا سيدتي تقوم على التكلف أكثر مما تقوم على الإسماح، وتجري على الرياء أكثر مما تجري على الإخلاص، وتمضي على الكذب أكثر مما تمضي على الصدق، وتعطي من الناس صورا ليس بينها وبين حقائقهم سبب، وتردد من أصوات الناس أصداء ليس بينها وبين حقائقهم سبب، وتردد من أصوات أصداء ليس بينها وبين نفوسهم صلة، قد جرى فيها الخداع كما يجري الماء في الغصن الرطب، وسرى فيها النفاق كما تسري النار في الحطب الجزل، إنك ترينه يا سيدتي يذهب ويجيء فترضين؛ لأنه إنما يذهب ويجيء في ثوبين خلع أحدهما على نفسه، وخلع الآخر منهما على جسمه، وهو كغيره من الناس يلبس هذين الثوبين حين يريد أن يفارق نفسه للقاء نظرائه، ويخلع هذين الثوبين حين يريد أن يفارق نظراءه ليخلو لنفسه، وصدقيني يا سيدتي إني لم أخطئ حين شبهته منذ حين بالأوزة التي تعبث في مجتمع من الماء، إنك ترينها من بعيد فيعجبك منظرها تطفو على الماء وقد بسطت جناحيها في الماء مقبلة مدبرة، وخافية ظاهرة، وارتفاعها في الجو طائرة مقاربة في الطيران تخفق بجناحيها خفقا لا يخلو من ظرف، وتبعث صيحات تؤذي الأذن ، ولكنها لا تخلو من فرح ومرح، وقد يروقك شكلها حين تطفو على الماء، وقد بسطت جناحيها، ورفعت عنقها الطويل برأسها الخفيف، وعرضت للضوء والهواء صدرها الجميل. كل هذا يعجبك ويخلبك، وقد يروعك ويروقك فتسعين إلى مجتمع الماء هادئة مطمئنة، تودين لو استطعت أن تبلغي الشاطئ، وتقفي من الأوزة غير بعيد، وتديري بينك وبينها بعض الحديث، ولكنك لا تلبثين أن تذكري أن حماقة الأوز قد ضربت بها الأمثال منذ العصور القديمة في غير أمة من الأمم، وفي غير لغة من اللغات، وإذا أنت تلقين على الأوزة الجميلة نظرة طويلة فيها كثير من حزن، وفيها كثير من إشفاق، وفيها كثير من ازدراء؛ لأن طبيعتنا تنبو عن هذا التناقض بين الظواهر التي تخيل أشياء كثيرة والدخائل التي لا تحقق شيئا، وليس على صاحبنا بأس من أن يشبه الأوزة في شكله وعقله؛ لأنه لم يخلق نفسه، ولم يلائم بين هذا الجسم الثقيل، والعقل الخفيف، وإنما هي حكمة الله التي نفهم أيسرها أحيانا، ونعجز عن فهم أعظمها في أكثر الأحيان.
وقد عرفت صاحبنا معرفة دقيقة متصلة منذ أيام الطفولة والصبى، وفي أيام الشباب والكهولة، واستطعت أن أقطع بأن كل شيء من حوله كان يهيئه ليكون أوزة ناطقة؛ فقد نشأ في أسرة موسرة من أسر الريف، وكان عطف أبويه عليه شديدا، فقد كانا يرفقان به مصبحا وممسيا، ويتعهدانه بالعطف واللطف آناء النهار، وزلفا من الليل، وكانت أمه ترأمه، وتعطف عليه عطفا خاصا كما تعرف الأم الجاهلة الغافلة كيف ترأم ابنها وتعطف عليه.
وكان أخص مظاهر حبها له وبرها به عنايتها بطعامه؛ فقد كانت تصبحه بخير ما يصبح به أبناء الموسرين في القرى من هذه الألوان التي تلذ الأفواه، وتملأ البطلون، وتشيع في الأجسام ضخامة وغلظا، ثم كان لا يعود إليها من لعبه أو من كتابه أو من مدرسته إلا وجد عندها طعاما تلقيه في فمه أو تدسه في جيبه أو تضعه في يده، فنشأ شرها متهالكا على الطعام، وأنفق صباه وشبابه يعلف في أسرته كما يعلف الأوز في تلك البيئات التي تتخذ تنمية الأوز تجارة ومكسبا.
وبمقدار ما كانت أسرته تعني بجسمه فتسرف عليه في المطعم، وتتأنق له في الملبس كانت هذه الأسرة ترفق به أشد الرفق فيما يتصل بالدرس من قريب أو بعيد فلم تكن تشق عليه في الملاحظة إذا عاد من المدرسة، ولعلها كانت تضطره إلى الإعراض عن القراءة والمذاكرة؛ فقد كانت تخاف عليه من أيسر الجهد، وتكره له الانحناء على الكتاب، وتشفق على عينيه من ضوء المصباح، وكثيرا ما تقدم أبوه إلى معلمه في الكتاب وإلى أساتذته في المدرسة في ألا يكلفوه من الدرس شططا؛ فهو لا يهيأ ليتخذ من العلم صناعة، ولا من المدرسة وسيلة إلى كسب الحياة، وإنما هو يذهب إلى المدرسة كما يذهب إليها أترابه من أبناء الأسر؛ ليتعلم فيها ما يرتفع به عن الجهل، وما يميزه من أهل القرية التي يعيش فيها، ولكن الصبي كان يحب أن يتعلم لا رغبة في العلم أو حرصا عليه، ولكن عنادا لأبويه هذين اللذين كانا يقتران عليه في الدرس، ويسرفان عليه في الطعام والشراب؛ فقد سار الصبي في درسه سيرا قصيرا فلم يكن متفوقا، ولم يكن شديد الغباء، وإنما كان شيئا بين ذلك حتى إذا أتم دراسته الثانوية رأى الحكومة تختار المتفوقين من أترابه فترسلهم إلى أوروبا ليتموا الدرس، ويعودوا بعد ذلك ليشغلوا مناصب الدولة، ويختلفوا إلى المكاتب في الدواوين، ورأى بعض الأسر الغنية ترسل المقصرين من أبنائها عن نيل الشهادات المصرية إلى أوروبا؛ لينالوا الشهادات الأوروبية، ونظر فإذا أترابه الذين كانوا يتفوقون عليه، والذين كانوا لا يبلغون منزلته يسافرون إلى أوروبا. فلم لا يسافر كما يسافرون، ولم لا يعبر البحر كما يعبرونه؟ وليسوا أكثر منه مالا، ولا أبرع منه جمالا، ولا أحسن منه شارة، ولا أجمل منه زيا، ولا أرقى منه ذوقا في اختيار أدوات الزينة التي يتجمل بها الشبان المترفون، ثم هو يلوي لسانه بالرطانة الأجنبية كما يلوون بها ألسنتهم، ثم هو يحسن التصرف في أشياء لا يحسنون التصرف فيها، وإذن فلم يتاح لهم السفر ويقضى عليه أن يكون من المتخلفين؟
ولم يجد مشقة في أن يظفر من أسرته بالإذن له في هذا السفر الطويل. فقد مانعت الأم وبكت وشكت، ولكن الأب أجاب ابنه إلى ما أراد راضيا عنه، مغتبطا به، فقد كان يحب ابنه أشد الحب، ويعجب به أشد الإعجاب، ويرى في سفره إلى بلاد الإنجليز فخرا أي فخر وامتيازا أي امتياز، وقد ذهب الفتى إلى بلاد الإنجليز، وأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، وعاد منها لم يتعلم شيئا إلا التأنق والتحذق والبراعة في لي اللسان حين يتكلم الإنجليزية والعربية جميعا، والافتنان في ارتضاع البيبة كما يرتضع الطفل ثدي أمه.
عاد من بلاد الإنجليز لم يتعلم غير هذا شيئا، وهو واثق مع ذلك أنه قد تعلم كل شيء، وقد أتيح له من ظروف الحياة المصرية، ومن جاه أبيه ما وصل أسبابه بأسباب الحكومة. فعمل في ديوانه مترفا أشد الترف، فارغا أشد الفراغ، مشغولا بصغائر الأمور مصروفا عن عظائمها.
ثم كانت الحركة الوطنية، واضطراب السياسة، واختصام الأحزاب، وانقسام الناس بين هذه الأحزاب مؤيدين ومعارضين ومنتفعين من المعارضة والتأييد، ومنذ ذلك الوقت تولت الظروف الارتقاء بصاحبنا من منصب إلى منصب، ومن منزلة إلى منزلة، حتى هيئ له من المكانة ما تعلمين، وأغرب شيء فيه ما ترين من اجترائه على التحدث في كل شيء والعجز عن أن يقول شيئا، ومن براعته في النزول بعظائم الأمور وجسام الشئون إلى حيث تصبح ضئيلة يسيرة مبتذلة، يرتفع عن الحديث فيها من أتاح الله له حظا من معرفة أو نصيبا من امتياز، وهو على ذلك منتفخ منتفش، يرى نفسه عظيما، ويراه كثير من الناس عظيما، فإذا حققناه لم نجد وراء هذه العظمة شيئا؛ لأنها عظمة منحولة مدخولة لا تعتمد على شيء من شخص صاحبها بقدر ما تعتمد على الباطل والغرور، وقد تسألين كيف ارتقت به هذه العظمة الكاذبة من درجة إلى درجة، ومن مكانة إلى مكانة، ولكني أرجو أن تكوني أقل سذاجة من هذا يا سيدتي ، فليس ينبغي أن تسألي عن الضعفاء والعاجزين كيف يرتفعون، فذلك ملائم لطبيعة الأشياء، وإنما ينبغي أن تسألي عن الأكفاء كيف يثبتون في مواضعهم، وكيف يتاح لبعضهم أن يرقى إلى شيء من امتياز المنصب وارتفاع المكانة، فذلك هو المخالف لطبيعة الأشياء، المباين لمنطق الدنيا، كما يقول كاتب أديب من أصدقائنا.
والشيء المحقق هو أني لم أر صاحبنا قط مقدما على شيء أو محجبا عن شيء، أو مجادلا لخصم أو مناظرا لصديق إلا هممت أن أقول له ما قال ابن شهيد لأوزته تلك الأندلسية في تلك القصة الظريفة التي جرت بينه وبين حمير الجن وبغالها:
يا أم خفيف، بالذي جعل غذاءك ماء، وحشا رأسك هواء، ألا أيما أفضل: الأدب أم العقل؟ قالت: بل العقل، قال ابن شهيد: هل تعرفين في الخلائق أحمق من أوزة، ودعيني من مثلهم في الحبارى؟ قالت: لا، قال ابن شهيد: فتطلبي عقل التجربة؛ إذ لا سبيل لك إلى عقل الطبيعة، فإذا أحرزت منه نصيبا، وبؤت منه بحظ، فحينئذ ناظري في الأدب.
قالت السيدة متضاحكة: ليكن صاحبنا أوزة أو دجاجة أو ما شئت من ذوات الأجنحة والريش، ولكن حدثني عن هذا البدع الذي أخذت فيه منذ حين، فقد جعلت لا أسألك عن أحد إلا ضربت له من الحيوان مثلا. قلت: وأي بدع في ذلك يا سيدتي؟ إنما هو فن قديم من فنون الأدب، أليس العرب قد شبهوا الإنسان بالحيوان منذ أول الدهر! أليس الله - عز وجل - قد شبه بعض الناس بالكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث؟ أليس الله - عز وجل - قد ضرب الحمار الذي تحمل عليه الأسفار مثلا للذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها؟ أولست قد حدثتك آنفا بقصة ابن شهيد مع أوزته تلك الأندلسية حين حاورها في روضة من رياض الجن بمحضر من زهير بن نمير، وبمشهد من الحمير والبغال التي كانت تنشده أشعارها؟ فما تنكرين من ذلك، والله لم يخلق الأشياء عبثا، وإنما جعل فيها لنا منافع، ودعانا إلى أن نعتبر بكل ما خلق من الحي والميت، وأن نلتمس فيه الموعظة التي تبصر القلوب، والحكمة التي تهدي العقول.
قالت السيدة، وقد ثابت إلى الجد، وكانت أدبية أريبة تحفظ الحديث، وتقرأ القرآن: هذا حق، واقرأ إن شئت قول الله - عز وجل - في سورة النحل:
والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم * والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون * وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين .
الغانيات
- من أين أقبلت يا ابنتي؟ - من حيث لا تبلغ الظنون ... - ماذا تريدين يا ابنتي؟ - أريد ما لا تقدرون ... - كيف تقولين يا ابنتي ... - أقول ما لا تصدقون! - أسرفت في الرمز يا ابنتي. - بل ما لكم كيف تحكمون!
وينظر الشيخ حوله فلا يرى من يحاوره، وينكر الشيخ نفسه لولا شكوك تساوره، فقد رأى شخصها الجميل، تظله هذه الغصون، ولم يزل صوتها الضئيل، يثير في نفسه الشجون، وكانت الشمس قد تولت كالأمل الخائب الكذوب، وظلمة الليل قد أظلت، كاليأس إذ يغمر القلوب.
وقد لبث الشيخ مكانه قائما واجما، يرفع رأسه إلى السماء حينا، ويخفض رأسه إلى الأرض حينا آخر، ويقلب طرفه في الفضاء بين ذلك، يلتمس هذه الفتاة الأنيقة الرشيقة ذات الوجه النضر والقد المعتدل، هذه التي بدت له رائعة بارعة على أنها لم تتخذ زينة ولا حليا، ولم تتخذ من الثياب ما تعودت الفتيات الحسان اتخاذه، وإنما بدت له ساحرة باهرة تحيط بها هالة من الفتنة الفاتنة، على ما كان يستر جسمها الغض البض من ثوب هو إلى السذاجة القروية أدنى منه إلى تكلف المدن، وهو إلى البلى أدنى منه إلى الجدة.
فلما رآها أنكرها، ثم دار بينه وبينها هذا الحوار الذي ابتدئ به هذا الحديث، والذي لم يفهم منه شيئا، والذي كان يريد أن يمضي فيه حتى يعلم من الفتاة علمها، ويظهر على جلية أمرها، ولكنه ينظر فلا يراها، ويدعو فلا يسمعها، ويبحث فلا يجدها، فيلبث في مكانه حائرا مرتاعا يكاد يكذب عينه فيما رأت، وأذنه فيما سمعت لولا أن صورتها تلح على نفسه فتملؤها جمالا وسحرا، ولولا أن صوتها يلح على قلبه فيشيع فيه طربا حزينا.
وقد طال وقوف الشيخ، وطالت حيرته، وأخذت الظلمة تغمر الأشياء من حوله، وكان خليقا أن ينسى نفسه في موقفه هذا الغريب، لولا أنه سمع ذلك الصوت الضئيل العذب يقول له: أسرع أيها الشيخ إلى صلاتك فقد أوشكت أن تفوتك، وأوشك المؤذن أن يدعو إلى العشاء الثانية. لا تبحث عني فلن تراني من ليلتك هذه.
ولم يكد الشيخ يسمع هذا الصوت حتى ثاب إلى نفسه، وثابت نفسه إليه، وذكر أنه قطع حديثه مع الباشا فجأة، وانصرف عنه عجلا؛ ليشهد صلاة المغرب والعشاء مع جماعة الناس كما تعود أن يشهدها في مسجد القرية الذي يقوم في طرف من أطرافها غير بعيد من القصر، وإنه ليسعى في طريقه إلى المسجد، وإذا هذه الفتاة تتراءى له من بين هذه الشجرات التي تقوم عند آخر الحديقة، وتمد أغصانها متكاثفة مختلطة، كأنها تريد أن تتخذ منها للقصر ستارا جميلا صفيقا، وقد أسرع الشيخ إلى صلاته، وهو يحدث نفسه بأنه سيؤديها منفردا، وسيؤدي العشاء الثانية مع جماعة الناس، ولكن الصوت الجميل الضئيل كان يتبعه قائلا له لا تذكرني لأحد، ولا تتحدث عني إلى أحد، فإنك إن فعلت لم تجن من ذلك إلا شرا، ولا يستطيع الشيخ أن ينكر أن ظهور هذه الفتاة له، واحتجابها عنه، وتحدثها إليه، وتشييعها له، كل ذلك قد ملأ قلبه فرقا، لم يسكت عنه إلا حين دخل المسجد، واستقبل القبلة مقيما للصلاة، ولو أطاع الشيخ نفسه لتحدث إلى أصحابه بعد أن فرغوا من صلاة العشاء الآخرة بما رأى وما سمع، ولكنه كان كلما هم بذلك أو بشيء منه رد نفسه عنه ردا عنيفا مخافة أن يظن الناس به الظنون من جهة، ومخافة هذا النذير الذي ألقته الفتاة إليه من جهة أخرى.
وقد راح الشيخ إلى أهله حين تقدم الليل ، وكانت نفسه تنازعه أن يتحدث إليهم ببعض ما رأى وما سمع، ولكنه ردها إلى الحزم، وحملها على الصمت، مخافة أن يظن أهله به الظنون، وأن يتحقق هذا النذير الذي ألقته إليه الفتاة فاستقبل الليل كارها لهدوئه، وطلب النوم جاهدا فلم يظفر به إلا بعد انتظار طويل، ولم ينعم به بريئا من الأحلام المزعجة والأطياف المروعة، ولم يعرف الهدوء إلا حين استقبل النهار المشرق، واضطرب مع أهل القرية فيما تعود أن يضطرب معهم فيه من شئون الحياة.
ولم يزر الباشا من يومه ذاك، كأنه قدر أن هذه الفتاة ستعرض له بين تلك الشجرات مستظلة بتلك الغصون المتكاثفة في طرف الحديقة مما يلي القرية، وقد شهد صلاة العشاءين مع أصحابه، واستقبل ليلة هادئة، واستقبل نهارا مشرقا هادئا، حتى إذا ارتفع الضحى، سعى إلى القصر يريد أن يزور الباشا في النهار الواضح المبصر، لا في الأصيل الشاحب الذي يسعى إلى الإظلام أو يسعى إليه الإظلام، والذي تعرض فيه الفتيات الحسان في ظل الأغصان، ولكنه رأى الباشا مكتئبا مفرق النفس، كأن أمرا ذا بال يهمه، ويصرفه عن إدارة الحديث مع جلسائه كما تعود أن يدير الأحاديث في لباقته ورشاقته وذكائه الحاد، وكان الشيخ أثيرا عند الباشا، محببا إلى نفسه، مشيرا عليه فيما يعرض له من الأمر، فلما رأى اكتئابه وابتئاس نفسه، أطال المقام ولم ينصرف مع الناس حين انصرفوا، وإنما استأنى وتريث، حتى إذا خلا له وجه الباشا سأله مترفقا به عن هذا الأمر العارض الذي أهمه، واضطره إلى ما هو فيه من هذا الحزن الكئيب.
قال الباشا، وعلى ثغره ابتسامة شاحبة، وفي صوته تكسر حزين: ما أدري أأحدثك بهذا الحديث أم أطويه عنك، فإني أنكره أشد الإنكار، وأكاد أخفيه على نفسي أشد الإخفاء، وقد هممت أن أسافر إلى القاهرة لأرى الطبيب، ثم بدا لي فدعوت الطبيب إلى زيارتي، وإلى أن ينفق معي يومه إذا كان الغد، والأمد بيننا وبين القاهرة غير بعيد، واليوم يوم الخميس، فليس على الطبيب بأس أن ينفق معنا يومه غدا.
قال الشيخ: فإني لم أفهم عنك، ولم أتبين هذه الصلة الغريبة بين ما يظهر عليك من حزن، وبين دعوتك للطبيب إلى أن ينفق معك ساعات من نهار.
قال الباشا: ألم أقل لك إني أنكر نفسي، وأخشى أن يكون قد ألم بي بعض العلة، فقد رأيت أمس ما روعني، وسمعت أمس ما أخافني، وإني لأستحيي من نفسي حين أفكر فيما سمعت وما رأيت، وإني لأستحيي منك أن أحدثك بما سمعت وما رأيت.
قال الشيخ، وهو مهتم يتكلف الابتسام، وصوته مضطرب يتكلف الثبات: ماذا سمعت، وماذا رأيت؟ قال الباشا في صوت يكاد يبين عن الجزع: سمعت صوتا لم أسمع قط أعذب منه ... ورأيت شخصا لم أر قط أجمل منه، ثم انقطع عني الصوت، واحتجب عني الشخص، وترك في نفسي ما ترى من حزن واكتئاب، وقد ذكر الشيخ ما رأى، وذكر ما سمع، وهم أن يتحدث إلى الباشا بمثل ما تحدث به الباشا إليه، ولكنه خاف النذير فآثر الصمت، ومضى الباشا في حديثه فقال: كان ذلك حين آذنت الشمس بالغروب، وحين أخذت ظلمة الليل تغزو الفضاء، وقد كنت أسعى في هذه الحديقة فما راعني إلا فتاة بارعة الجمال، رائعة القوام، تنظر إلي بطرف نافذ كأنه السهم ... فأسألها من هي، ومن أين أقبلت! وإلى أين تريد، وماذا تبتغي! فلا أسمع منها إلا أجوبة غامضة لا أفهم منها شيئا، فهي مقبلة من حيث لا أظن، وقاصدة إلى حيث لا أقدر، ومريدة ما لا أستطيع، وقائلة ما لا أفهم، وأريد أن أستوضحها، وإذا شخصها يستخفي مني، وإذا صوتها ينأى عني شيئا فشيئا، وهو يقول لا بد مما ليس منه بد، خير لك أن تقدم على الأمر طائعا راضيا من أن تقدم عليه كارها مضطرا، وقد سمعت هذه الكلمات الأخيرة يلقيها إلي صوت غريب كأنه الصدى.
ولم يشك الشيخ حين سمع حديث الباشا في أن صاحبته تلك التي عرضت له في طرف من أطراف الحديقة هي التي عرضت لصاحب القصر، وهي التي تحدثت إليه، ولكنه على ذلك لم يفض إلى الباشا بذات نفسه، وإنما قال له متضاحكا: لو علمت أنك تسمع لي لطلبت إليك أن تفعل كما أفعل، وأن تقرأ أجزاء من القرآن في كل يوم تذكر الله بتلاوتها، فإن ذكر الله يملأ القلوب أمنا واطمئنانا، ويرد عن النفوس ما يروعها ويؤذيها من الخوف والريب، وقد أحسنت إذ دعوت الطبيب، وما أرى إلا أن مقدمه سينفعني فسأستشيره في بعض ما أجد من الضعف، وإن كنت لا أنتظر منه خيرا كثيرا، فإن هذا الضعف الذي أجده لا دواء له؛ لأنه ضعف الشيخوخة والهرم.
وتنقل الرجلان في أحاديث كثيرة مختلفة أشد الاختلاف يسلي كل منهما بهذا التنقل نفسه وصاحبه عن هذه الصورة الملحة، وهذا الصوت المتصل، وهذا النذير الغامض الغريب.
وقد حرص الشيخ على أن ينصرف عن القصر قبل أن تصلى العصر حتى لا يرى ذلك الشخص، ولا يسمع ذلك الصوت، ولكنه يقبل إلى المسجد حين يدعو المؤذن إلى صلاة المغرب، ولا يكاد يبلغ الباب حتى رأى شخصين غريبين قد قام كل واحد منهما على جانب من جانبيه، وينظر الشيخ في شيء من الروع إلى أحد هذين الشخصين، فلا يشك في أنه يرى الفتاة التي رآها في طرف من أطراف الحديقة، وينظر إلى الشخص الآخر فإذا هو صورة مطابقة للشخص الأول كأنما كل واحد من هذين الشخصين تمثال لصاحبه يطابقه أشد المطابقة، ويصوره أدق التصوير، ويرى الشيخ على ثغر كل من هذين الشخصين ابتسامة حازمة صارمة، ولكن فيها عذوبة تنفذ إلى قلبه فتملؤه أمنا وروحا، وقد رفع الشيخ صوته حين رأى هذين الشخصين بتلاوة ما تيسر من القرآن، ولكنه يسمع الصوتين يتلوان معه ما كان يتلو، ويجد تلك العذوبة التي وجدها حين كانت الفتاة تتحدث إليه، وتحاوره في ظل تلك الغصون، فيسرع إلى المسجد مخافة الفتنة، وينغمس في جماعة الناس، وقد أشفق على نفسه من شر عظيم.
ولست في حاجة إلى أن أصور ما ملأ قلب الشيخ من روع وروعة، ومن خوف وأمن، ومن يأس ورجاء؛ فقد كان يحب أن يرى هذه الصورة، ويشفق من رؤيتها، وقد كان يرجو أن يسمع هذا الصوت ويخاف من سماعه، وقد جعل يحيا حياة مضطربة بين هذه العواطف المتناقضة.
وأقبل الطبيب فسمع من الباشا، وتحدث إليه، وامتحنه، ولكنه لم يغن عنه شيئا، وما كان الطبيب ليغني عنهما ولا عن غيرهما شيئا، فما هي إلا أيام حتى كثر هذا الشخص أو كثرت صور هذا الشخص في القرية، وجعل كل واحد من أهل القرية يراه حين يغدو إلى عمله مع الفجر، وحين يروح إلى أهله مع الأصيل، وجعل كل واحد من أهل القرية يسمع منه، ويتحدث إليه مصبحا، وممسيا. يرتاع لمنظره وصوته أول الأمر، ثم يألف منظره ويطمئن إلى صوته، ويشتاق إلى أن يراه بين الفجر والأصيل، ويشتاق إلى أن يسمعه في كل ساعة من ساعات الليل والنهار.
وقد جعل أهل القرية يتحدثون إذا التقوا عن هؤلاء الفتيات الحسان اللاتي يعرضن لهم في الغلس حين يطلق النهار سهمه المضيء فيشق به ظلمات الليل، وفي الأصيل حين يطلق الليل سهمه المظلم فيبدد به ضوء النهار، وجعل أهل القرية يتحدثون عن هؤلاء الفتيات الحسان المطمعات المغريات اللاتي يبدون لهم، ويدنون منهم، ويدعونهم إليهن في شيء من الفتنة، ولكنها فتنة نقية لا إثم فيها ولا حرج، ولا لوم فيها ولا تثريب.
وجعل أهل القرية يسألون الشيخ عن هذا الحديث الغريب الذي ألم بقريتهم منذ حين، فغير حياة الناس فيها تغيرا شديدا، وأثار في قلوبهم آمالا لا حد لها، ويأسا لا حد له، وغير رأي بعضهم في بعض، وغير رأيهم جميعا في الباشا هذا الذي كانوا يؤمنون له، ويذعنون لسلطانه، ويرون طاعته عليهم حقا، ويرون أنهم ملك له كما أن أرضه ملك له ... إلا أنهم يحيون والأرض لا تحيا، ويرون أنهم ملك له كما أن ماشيته ملك له، إلا أنهم يعقلون وينطقون والماشية لا تعقل ولا تنطق، تغير رأيهم هذا في الباشا فأصبحوا يرونه واحدا منهم، لا يمتاز من بينهم بشيء، فهو رجل من الرجال يذهب ويجيء، ويأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويتكلم بالصواب حينا وبالخطأ أحيانا، وإذن فلم يستأثر من دونهم بهذا النعيم! ولم يستطيل عليهم بهذا السلطان، ولم يسعد حتى تبطره السعادة، ويشقون هم حتى يضطرهم الشقاء إلى اليأس والقنوط! ولم تبسم الحياة له حتى يضيق بهذا الابتسام وتعبس الحياة لهم حتى يهلكهم هذا العبوس، ولم يكسل هو حتى يضطره الكسل إلى المرض، ويعملون هم حتى يضطرهم العمل إلى الموت.
شاعت هذه الأحاديث بين أهل القرية فامتلأت بها مجالسهم حين يجتمع بعضهم إلى بعض، وامتلأت بها بيوتهم حين يخلو كل منهم إلى أهله وذوي قرابته، وارتقت إلى الباشا فصادفته قلقا قد ملأ قلبه الخوف والاضطراب، وإذا هو يؤثر أن يترك القرية إلى القاهرة؛ ليتحدث عن محنته هذه في قريته إلى بعض أولي الرأي من أصحابه، ولا يكاد يبلغ القاهرة ويفضي بذات نفسه إلى بعض نظرائه حتى يسمع منه حديثا ليس أقل من حديثه خطرا، ولا أيسر منه شيئا، فأهل القرى كلهم يتحدث هذا الحديث، وأهل المصانع كلهم يتحدث هذا الحديث، والعاملون في الدواوين والمصارف والشركات، والعاملون في الشوارع والطرق والمواصلات كلهم يتحدث هذا الحديث. قد اختلط الأمر، وعظم الشك، وشاع في النفوس أمل لا حد له، وشاع في النفوس يأس لا حد له، وشاع في الجو كله سحاب لا يدري عما ينجلي، أعن أمن ورخاء، أم عن بؤس وشقاء، وكان عدد السكان في مصر ثمانية عشر من الملايين فأصبح عددهم ستة وثلاثين مليونا؛ لأن كل فرد من أفراد هؤلاء المصريين قد وكلت به فتاة حسناء حازمة صارمة باسمة تبعث ابتساماتها في القلوب أملا مخيفا، وكره الباشا أن يعود إلى قريته؛ لأنه كره فتاته تلك الحسناء في حديقته تلك الغناء، ولكنه خلا إلى نفسه ذات يوم في مكتبه المطل على النيل، وأراد أن يأخذ في بعض عمله، وإذا هو يحس حركة فإذا التفت رأى فتاته الحسناء، وعلى ثغرها ابتسامة ساحرة، وهي تقول في صوتها ذاك الضئيل الجميل: لا بد مما ليس منه بد، أقدم طائعا راضيا، فذلك خير من أن تقدم كارها مضطرا!
وقد كتب الباشا إلى الشيخ يدعوه إلى القاهرة؛ ليشاوره في بعض ما يمكن أن يصنع ليرضى الساخط، ويأمل القانط، ويأمن الخائف، ويعمل الكسل، محبا للعمل لا زاهدا فيه، قال الباشا للشيخ حين خلا إليه: ألا تنبئني عن هذا البلاء العظيم الذي نمتحن به في هذه الأيام الشداد؟ قال الشيخ مبتسما: لا تسلني أنا عن هذا البلاء، وسل عنه فتاة من هؤلاء الفتيات اللاتي ملأن علينا أرض مصر جمالا وأملا وخوفا وإشفاقا، قال الباشا: ومن عسى أن تكون هؤلاء الفتيات! قال الشيخ: لا أدري، ولكني كلما سألت واحدة منهن عن اسمها رفعت كتفيها وابتسمت عن ثغر جميل، وقالت ساخرة: تريد أن تعرف اسمي فاسمي هو «العدالة الاجتماعية».
البرق الخاطف
أنكريه يا سيدتي إن شئت أو اعرفيه. فكلا الأمرين منك سائغ، وكلا الأمرين منك مقبول، وإن تنكريه فقد أنكرت نعم شاعرها وشاعر الحجاز عمر بن أبي ربيعة، وإن تعرفيه فقد عرفت أسماء شاعرها وشاعر الحجاز عمر بن أبي ربيعة، وأنت يا سيدتي أدبية أربية تذكرين من غير شك ما تحدث به فتى قريش عن صاحبتيه حيث يقول:
قفي فانظري أسماء هل تعرفينه
أهذا المغيري الذي كان يذكر
أهذا الذي أطريت نعتا فلم أكن
وعيشك أنساه إلى يوم أقبر
فقالت نعم لا شك غير لونه
سرى الليل يحيي نصه والتهجر
لئن كان إياه فقد حال بعدنا
عن العهد والإنسان قد يتغير
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيضحى وأما بالعشي فيخصر
أخا سفر جواب أرض تقاذفت
به فلوات فهو أشعث أغبر
قليل على ظهر المطية ظله
سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
وأعجبها من عيشها ظل غرفة
وريان ملتف الحدائق أخضر
فأي المذهبين تختارين؟ مذهب نعم هذه التي أنكرت الشاعر، وجعلت تسأل عنه في سخرية يمازجها العطف، أم مذهب أسماء التي عرفته وجعلت تحدث عنه في عطف يمازجه الإعجاب؟ وإني لمسرف حين ألقي عليك هذه الأسئلة، وأخيرك بين هذين المذهبين؛ فإني لم أسمع منك منذ ساعة إلا إنكارا لصاحبنا هذا المسكين، ونعيا عليه، ترينه كثير الكلام وقد كان كثير الصمت، وترينه كثير الحركة وقد كان صاحب رزانة ووقار، وترينه مقصرا في ذات الصديق وقد كان من أشد الناس وفاء للصديق، وترينه مستكبرا مستعليا وقد كان متواضعا غاليا في التواضع، وترينه يقول غير الحق وقد كان لا يؤثر على الحق شيئا، وترينه مداورا مناورا وقد كان أبغض الناس للمداورة، وأزهدهم في المناورة، وأحرصهم على أن يسلك إلى ما يريد طريقا مستقيمة غير منحرفة، ومستوية غير ملتوية، وواضحة لا يحتاج سالكها إلى الهدى والإعلام، وترينه حذرا هيابا ومتحفظا محتاطا وقد كان جريئا مقداما، لا يخاف شيئا ولا يخاف أحدا، ولا يعدل عن الصراحة الجلية إلى الإشارة الغامضة أو التلميح الذي يلبس فيه الحق بالباطل، والصواب بالخطأ، والصحيح بالمحال.
وقد كنت تعرفين وجهه مشرقا صافي الإشراق مبتهجا نقي الابتهاج مبتسما حلو الابتسام، فأصبحت ترين وجهه مظلما تمام الإظلام تغشاه بين حين وحين سحابة رقيقة ضئيلة من إشراق طارئ لا يثبت أن تتمحى آيته، ويعفي الإظلام على آثاره، وأصبحت ترين في عينيه حزنا ملحا حالكا يصور نفسا مكلومة حزينة كأنما يغمرها ندم متصل لا تكاد تخلص منه إلا لتعود إليه.
وأصبحت ترين على ثغره ابتسامة تمر سريعة بين حين وحين تحاول أن تثبت فلا تستطيع، كأنما وكل بها من أعماق الضمير حرس يأبون عليها أن تثبت أو تستقر، وقد ترين على ثغره ابتسامة تقيم فتطيل الإقامة، ولكنها ابتسامة شفافة لا تشف عن نفس مبتهجة أو قلب مطمئن أو ضمير راض، وإنما تشف عن كآبة وسأم وقلق، هي ابتسامة مجلوبة قد تعلم صاحبنا أن يضعها على ثغره، وأن ينزعها عنه كما يضع صاحب العمامة أو الطربوش عمامته أو طربوشه على رأسه، متى شاء وينزعهما متى شاء، ترين أشياء كثيرة تنكريها؛ لأنك لم تعهديها من قبل، وتلتمسين أشياء كثيرة فلا تجدينها، وقد كنت لا ترين غيرها من قبل، وأنت من أجل ذلك تنكرين فتسرفين في الإنكار، وتلومين فتغرقين في اللوم، وليست إلى جانبك أسماء توضح لك الغامض، وتجلو لك الخفي، وتقص عليك من أمر صاحبنا ما تجهلين، والإنسان قد يتغير كما يقول عمر بن أبي ربيعة.
وما أكثر الأشياء التي تغير الناس فتحولهم عن العهد، وتنقلهم من طور إلى طور، وتمحو منهم خصالا كان الأصدقاء يعرفونها ويألفونها ويكلفون بها، وتمحو مكانها خصالا أخرى ليس للأصدقاء بها عهد، وليس من شأنها أن تحسن في نفس الصديق، وقد نبت عين نعم عن عمر؛ لأنها:
رأت رجلا جواب أرض تقاذفت
به فلوات فهو أشعث أغبر
قد أكثر السفر وألح فيه، يسري في الليل ويهجر في النهار، فأدركه ما يدرك أمثاله من الجهد والشعث، وجعلت أسماء تبين ذلك لصاحبتها في عطف وإعجاب، أما صاحبنا فلم يسر في الليل، ولم يهجر في النهار، ولم يدركه ما يدرك المسافرين من الجهد والشعث، وإنما أدركه شيء آخر هو الذي تسألين عنه فلا تهتدين إليه، وكيف تعرفينه أو تهتدين إليه وأنت مشغولة بحياته هذه الناعمة في قصرك هذا الأنيق، ومن حوله جنته هذه ذات الأشجار الباسقة، والأغصان المتكاثفة، وذات الزهر النضر، والعشب الجميل، ومع ذلك فلصاحبنا قصة رائعة شائقة لو عرفتها لرحمته وعطفت عليه، وله حديث رائع لو سمعته لمنحته شيئا غير قليل من الرثاء والإشفاق، وستسألينني من غير شك أن أقص عليك قصته، وأنبئك بحديثه، فأنت كغيرك من السيدات تمتازين بهذه الخصال التي تملأ القلوب لكن حبا، ومنكن خوفا، وبكن إعجابا. فيك رحمة لا حد لها، وفيك قسوة لا حد لها، وفيك رغبة في الاستطلاع لا تعرف لنفسها حدا تنتهي إليه، ولست أرى بأسا من أن أقص عليك القصص، وأنبئك بالحديث، ولكني أخشى ألا تصدقي ما سألقي إليك من قول.
فقصة صاحبنا غريبة حقا لو أنها قصت على الناس في الدهر القديم لصدقوها، ولاطمأنوا إليها؛ لأن عقول الناس في الدهر القديم كانت نقية لم تكدرها الحضارة، وكانت قوية لم يصفعها العلم، فأما في هذا العصر الذي نعيش فيه فقد كثرت الأعاجيب التي ترى وتسمع وتحس، حتى أصبح الناس لا يصدقون الأعاجيب التي تقص عليهم إلا إذا رأوها أو سمعوها أو أحسوها، وقد حاولت أن أرى أعجوبة صاحبي بنفسي فلم أفلح، وقد كررت المحاولة مرة ومرة منذ حدثني بقصته فلم أبلغ من ذلك شيئا. حاولت ذلك معه، وحاولت ذلك منفردا فلم أظفر إلا بالإخفاق إن كان الإخفاق شيئا يمكن أن يظفر به الناس، وأنا مع ذلك أصدق القصة ولا أنكرها؛ لأن صاحبي هو الذي قصها علي، ولأنه لم يعودني أن يحدثني بغير الحق، ولأنه قص علي قصته إثر خروجه منها، وقبل أن تظهر عليه هذه الخصال التي تنكرينها، ولأن عقلي بعد هذا كله مستعد لتصديق مثل هذه القصص؛ لأني عاشرت القدماء حتى أصبحت واحدا منهم. فعقلي نقي لم تكدره الحضارة التي لا آخذ منها كما تعلمين إلا بمقدار، وعقلي قوي لم يضعفه العلم الذي ليس لي منه كما تعلمين حظ قليل أو كثير.
وكان بدء ما ألم بصاحبي من الخطب أنه خرج ذات يوم مع الصبح يلتمس الرياضة، ويسلي عن نفسه بعض الهم. فترك المدينة، وأمعن في الصحراء يمضي أمامه هادئا مطمئنا، مستمتعا بهذا الحر الهادئ الذي تشعه الشمس حين تصحو، وتصفو في فصل الشتاء ... ولصاحبي عهد بالأدب القديم، فقد جعل يدير في نفسه بعض ما حفظ من شعر القدماء ذاك الذي يصور الصحراء، وما فيها من وهاد ونجاد، وما يضطرب فيها من حيوان، وما يترقرق في جوها من سراب، وقد مضى في رياضته تلك وقتا لا يعرف أطال أم قصر؛ لأنه نسي نفسه، وامتزج بما حوله، ولكنه تنبه فجأة وقد فقد حر الشمس، وينظر فإذا سحب متكاثفة تأتي من الشمال بطيئة ثقيلة يزحم بعضها بعضا، وقد هم أن يرجع، ولكنه يرى برقا يخطف، ويسمع رعدا يقصف، ثم لا يعرف من أمر نفسه شيئا، وإنما هو شعور غريب غامض أشبه شيء بشعور النائم حين يداعبه حلم لذيذ، فهو يرى كأن هذا البرق الذي كان يخطف قد خطفه هو، فرفعه في الجو رفعا سريعا رشيقا حتى انتهى به إلى شيء يشبه أن يكون فراشا موطأ وثيرا، وهو يحس كأن هذا الفراش يسعى به سعيا رقيقا، ولكنه سريع يذكره بعض ما كان يجد حين كان النوم يداعبه، وهو في مضجعه من السفينة، والجو صفو، والبحر هادئ، والسفينة تجري في يسر تعينها عليه ريح رخاء، ثم يحس كأن سريره ذاك الساعي في الجو قد استقر على مكان ثابت مطمئن، وكأن صورا غريبة تشبه الناس ولا تشبههم قد حفت به فأجلسته، وجعلت تتحدث إليه بلغة غريبة يفهم معانيها، ولا يحقق ألفاظها، ولكنه يؤكد أنها ليست اللغة العربية التي يتكلمها عامة وقته، وليست اللغة الفرنسية التي يتكلمها بين حين وحين.
وليست لغة من هذه من هذه اللغات التي يسمع الناس يتحدثونها من حوله فيفهمها قليلا أو كثيرا، وإنما هي لغة غريبة حقا إن أمكن أن تشبه بشيء فقد تشبه بما يأتلف من هفيف النسيم، وحفيف الأغصان، وخرير الماء، وغناء الطير، وهو مع ذلك يفهم هذه اللغة حق الفهم لا يجد في ذلك مشقة ولا عناء كأنما تبلغ ألفاظها الغريبة قلبه وعقله، فتستقر فيهما واضحة جلية دون أن تمر بأذنيه، ودون أن يحتاج لفهمها إلى قليل أو كثير من التفكير، وقد حفظ صاحبي بعض ما استقر في نفسه من معاني هذه الألفاظ التي كانت تساق إليه أو تلقى في نفسه إلقاء، فقد ألقي في نفسه أنه قد اختطف من وطنه اختطافا، ونقل إلى الوطن السعيد الذي لا يبلغه الناس؛ لأنهم لا يجدون سبيلا إليه، والذي لا يستطيع الناس أن يحتملوا الحياة الطويلة فيه؛ لأنهم أضعف من أن يثبتوا لما فيه من حقائق الأشياء، وأول حقيقة عرضت عليه من حقائق الأشياء هذه فرآها رأى العين، ولو أراد لتحدث إليها، وسمع منها، ولكنه لم يحتج إلى ذلك؛ لأنها سعت إليه في خفة ورشاقة فقبلت بين عينيه، ولم تكد تفرغ من قبلتها حتى ملأت قلبه حبا لها، وإيمانا بها، واطمئنانا إليها. أقول أول حقيقة من حقائق الأشياء هذه هي النجح؛ النجح الذي يبلغ الآمال، ويقضي الآراب، ويرضي الحاجة إلى ارتفاع المنزلة، وعلو المكانة، ويرضي الحاجة إلى بسطة اليد، وامتداد السلطان، ويرضي الحاجة إلى الامتياز والتفوق، وإلى الاستعلاء والتغلب، والنجح الذي يعيش الناس له، ويجدون في طلبه، ويكدون في التماسه، ولكنهم لا يبلغونه إلا ليردوا عنه، ولا يظفرون به إلا ليصد عنهم؛ لأنهم لا يعرفون له حقه، ولا يلتمسونه من مظانه، ولا يسلكون إليه الطرق التي تمكنهم منه، وتسلطهم عليه. النجح الذي يطلبه الناس بما ورثوا من أخلاق، وبما ألفوا من عادات، وبما حفظوا من تقاليد. يطلبونه من طريق الصدق والوفاء، ويطلبونه من طريق النصح والإخلاص، ويطلبونه من طريق العلم والمعرفة، ويطلبونه من طريق الجهد والمشقة، ويطلبونه من طريق العمل المتصل والاجتهاد المنهك للقوى المقصر للأعمار، ويطلبونه من هذه الطرق فلا يصلون إليه؛ لأنها طرق قديمة قد ذهبت معالمها، وأصبح سلوكها حمقا، والسعي فيها جورا عن القصد، وانحرافا عن الجادة، وتكلفا لما لا يفيد.
ولو أنهم سلكوا إليه طرقه الطبيعية التي لا تؤدي إلا إليه، والتي لا يستطيع سالكها أن يرجع أدراجه، وإنما هو يمضي من فوز إلى فوز ومن ظفر إلى ظفر، ولو أنهم سلكوا إليه هذه الطرق لبلغوه في غير جهد، ولأخذوا بحظهم منه في غير عناء، وهم صاحبي أن يسأل عن هذه الطرق الطبيعية، ولكنه لم يحتج إلى السؤال، فقد ألقي في نفسه أنها نقائص الطرق المألوفة، فهي لا تحب صدقا ولا وفاء، وهي لا ترضى عن النصح ولا الإخلاص، وهي لا تستقيم للعلم والمعرفة، وهي لا تحتمل الجد والكد، وهي لا تطيق العمل والاجتهاد، وإنما هي تحب نقائص هذه الخصال جميعا، وهم صاحبي أن يسأل: وكيف التخلص من الأخلاق المألوفة، والعادات الموروثة، والتقاليد المحفوظة؟ ولكنه لم يحتج إلى أن يسأل هذا السؤال، فقد ألقي في نفسه أن شقاء الناس لا يأتيهم من أنهم لا يقدرون على الاحتفاظ بخصال الخير أو ما يسمى خصال الخير، وإنما يأتيهم من أنهم لا يقدرون على أن يتخلصوا من خصال الخير هذه، وإنما هم دائما أشبه بالكرات تتقاذفها الفضائل والرذائل، أو ما يسمى الفضائل والرذائل، ولو أنهم خلصوا للفضائل لسعدوا؛ لأنهم يستريحون إلى اليأس، ولو أنهم خلصوا للرذائل لسعدوا؛ لأنهم يبلغون من الحياة الدنيا كل ما يريدون، وشك صاحبي غير طويل. ثم هم أن يسأل كيف السبيل إلى أن يخلص الإنسان من الفضائل، ويبيع نفسه للشيطان، ولكنه لم يحتج إلى أن يسأل هذا السؤال، فقد قدمت إليه كأس صغيرة جميلة فيها شراب كدر اللون، وقيل له: احس هذه الكأس حسوا، فإنك إن أتيت على آخرها انسللت من الخير كما تنسل الشعرة من العجين، وانحطت عنك أثقاله كما تنحط أثقال النهار عمن يشمله نوم الليل. قال صاحبي، وقد شربت هذه الكأس في مهل: فكنت كأنما أشرب نارا تحرق جوفي تحريقا، ولكني كنت أجد لهذه النار المحرقة لذة لا أستطيع أن أصورها، وروحا لا أدري كيف أصفه، فلما فرغت من شرب الكأس سمعت غناء لم أسمع أجمل منه قط، ولم أسمع أبشع منه قط.
ولست أدري، وما أظن أحدا يدري، كيف يجتمع الجمال الرائع والقبح المروع في صوت واحد، ولكنني سمعت هذا الصوت ثم أنسيت نفسي، ثم أفيق وإذا أنا في مكاني ذاك من الصحراء، ولكن لا أرى الشمس، ولا أحس حرها، ولا أرى السحب المتكاثفة تسعى من الشمال بطيئة متثاقلة، ولا أرى برقا خاطفا، ولا أسمع رعدا قاصفا، وإنما أرى ليلا مظلما قد أطبق على الصحراء إطباقا، واضطربت فيه أشعة ضئيلة تأتي من هذه المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا، وقد عدت إلى المدينة بعد جهد.
والحمد لله على أن أهلي لم يكونوا في المدينة، وإنما كانوا في الريف، ولو قد رحت إليهم آخر الليل مجهودا مكدودا أشعث أغبر، طائر اللب مغرق النفس، لأنكروني أشد الإنكار، ولكان بينهم وبيني حساب عسير لست أدري كيف أخلص منه.
ثم أطرق صاحبي إطراقة طويلة عميقة رفع رأسه بعدها إلي، وهو يقول: «وصدقني إني أنكر نفسي أشد الإنكار منذ تلك الرحلة الغريبة، ويخيل إلي أني لا أحيا مع الناس، وإنما أنا في حلم متصل، والغريب أني لم أكد أستقبل النهار وأتقدم فيه حتى دعيت إلى شيء أرجو أن يكون وراءه النجح.»
وأنت بعد ذلك يا سيدتي تعرفين من أمر صاحبنا مثل ما أعرف، قالت السيدة، وكانت أديبة أريبة: «فاحذر أن تتعرض لهذا البرق الخاطف، فإني أحب أن أراك دائما كما أنت»، قال محدثها: «هيهات يا سيدتي، أنا أثقل وزنا من أن تخطفني البروق.»
حديث القلوب
لا أريد أن أسميه؛ لأني لا أريد أن يعرفه الناس، وحسبي أنه سيعرف نفسه، ولو استطعت أن أخفيه على نفسي لفعلت فأنا أحبه أشد الحب، وأوثره أعظم الإيثار، وأكره أن يأتيه من نحوي أيسر الجهد، وأهون العناء، وأقل الأذى، وأرى أني لا أتكلف له ذلك، ولا أتصنعه، وإنما هو حق الصديق على الصديق، ودين الخليل عند الخليل، وما لي لا أرى له هذا الحق، ولا أعترف له بهذا الدين، وقد استقبلنا الصبا رفيقين، واستقبلنا الشباب زميلين، واستقبلنا الكهولة صديقين ... لم تستطيع حوادث الأيام على كثرتها واختلافها أن تثير بيننا أيسر الخلاف فضلا عن أن تفرق بيننا في الآراء والأهواء.
نعم، لقد استقبلنا الصبا رفيقين، فجلسنا معا على حصير الكتاب، واختلفنا معا بين يدي سيدنا لا يكاد أحدنا يفرغ من تلاوة ما حفظ من القرآن حتى يقوم الآخر مقامه، ويتلو مثل ما تلا، ثم نلتقي بعد ذلك في مجلسنا ذاك في ركن من أركان الكتاب، فنتذاكر ما سمعنا من ألفاظ اللوم والتشجيع التي كان يسوقها إلينا سيدنا في صوت يغلظ حينا حتى كأنه الرعد، ويرق حينا حتى كأنه النسيم، وقلدنا هذه الحركات الطريفة التي كان يأتيها بإحدى يديه ليحدث بها صوتا متلاحقا سريعا يحثنا به على أن نكر التلاوة كرا؛ ليتبين مقدار حفظنا للقرآن حتى إذا صليت العصر تركنا الكتاب غير ضيقين به ولا آسفين على تركه، وإنما نحن نتركه مفكرين في العودة إليه إذا كان الغد، ونتركه مبتهجين بانصرافنا عنه إلى هذا اللعب الذي سنستأنفه في زاوية من زوايا الدار أو في ناحية ما على شاطئ القناة.
نعم، واستقبلنا الشباب زميلين نختلف إلى مجالس العلم في الأزهر الشريف نجد حين نستعد للدرس، وحين نسمعه، وحين نجادل كل الأساتذة فيه، ونلهو حين نفرغ من ذلك، وحين نأخذ في العبث بأساتذتنا وزملائنا، وما كنا نرى ونسمع مما كانوا يعملون ويقولون، لا أذكر ولا أراه يذكر أننا اختلفنا يوما ما في أمر ذي خطر، وإنما كنا متفقين دائما مؤتلفين دائما، لا نتكلف اتفاقا ولا ائتلافا، وإنما تجري أمورنا هينة لينة، وتمضي الحياة بنا على رسلها رفيقة رقيقة، حتى لقد كنا نرى ما يثور بين الأصدقاء والزملاء من هذا الخلاف العارض الذي يباعد بينهم من حين إلى حين، فنتكلف الضيق بحياتنا هذه التي لا تعرف خلافا ولا افتراقا في الرأي، ثم لا نلبث أن نثوب إلى الضحك والابتهاج والرضى بحياتنا هذه الراضية المطمئنة.
وقد فرقت حوادث الأيام بين شخصينا أعواما طوالا أو قصارا، ولكنها لم تستطع أن تفرق بين نفوسنا وضمائرنا، ولا أن تخالف بين أهوائنا وآرائنا، وإنما لبثنا متفقين على البعد كما كنا متفقين على القرب، واتصلت بيننا رسائل ما زلنا نعود إليها بين حين وحين كلما كلفتنا الأيام من أمرنا شططا، ثم التقينا بعد الفرقة، وتدانينا بعد التنائي، واستأنفنا في حياة الرجال ما مضت عليه أمورنا في حياة الصبية والشباب من هذا الود النقي، والإخاء الرضي، والتعاون على البر والمعروف.
وليس حياة الناس تخلو مما يؤذي، ولا هي تبرأ مما يسوء، وليست حياة الناس تخلو من هذه الخصومات التي تفسد عليهم أمرهم أحيانا، وتمنحهم القوة والأيد وحب الجهاد والكفاح أحيانا، وقد عرض لكل واحد منا حظه من هذا كله، ولكن الغريب أن شيئا من ذلك لم ينل أحدنا من قبل صاحبه، وإنما كان هذا ينالنا من قبل قوم آخرين، فكنا نتعاون على احتمال الشر ودفع المكروه، وكان كل واحد منا يجد عند صاحبه ما يجده الصديق عند صديقه من المواساة والعون، والتسلية والعزاء.
ثم مضت الأيام على ما تعودت أن تمضي عليه مستأنية متشابهة حينا، ومتعجلة مختلفة حينا آخر، وجرت فيها الحوادث تباعد بيننا بعض الشيء، ثم لا تزال تلح في المباعدة بيننا حتى جعلنا ننفق الأسابيع والأشهر لا نلتقي، وننفق الأسابيع والأشهر لا يكتب أحدنا إلى صاحبه شيئا، ولكنا كنا على ذلك نلتقي بين الحين والحين فلا يكاد أحدنا يلقى صاحبه حتى ينشد ضاحكا قول الشاعر القديم:
نلبث حولا كاملا كله
لا نلتقي إلا على منهج
في موسم الحج، وماذا منى
وأهله إن هي لم تحجج
ثم نستأنف حديثنا كأصفى ما يكون الحديث بين الصديقين الصفيين: وكانت أكثر أحاديثنا لا تكاد تتصل بحاضرنا، ولا بحاضر الناس، ولا تكاد تتصل بمستقبلنا ولا بمستقبل الناس، وإنما كانت تتصل بهذه الذكرى التي نسجت منها صداقتنا نسجا، وصورت منها مودتنا تصويرا، وكانت هذه الذكرى الحلوة تكاد تشغلنا دائما عن حاضرنا وحاضر الناس، وعن مستقبلنا ومستقبل الناس، ولكننا نلتقي ذات مساء في هذا القطار الذي ينقل الناس من الإسكندرية إلى القاهرة. يأخذ أحدنا القطار في الإسكندرية، ويأخذه الآخر في سيدي جابر، وقد مضى القطار في طريقه، ولم يفطن أحد منا لمكان صاحبه، ثم تكون لفتة منه فيراني فيسرع إلي مستبشرا مبتهجا، وهو يقول ماذا؟ أنت هنا! وألقاه مغتبطا محبورا، وأنا أقول: ماذا! أنت هنا! ثم يجلس كل منا إلى صاحبه، وما نكاد نفرغ من التحية التي تعودنا أن نتهاداها حين نلتقي حتى نأخذ في حديث الجو، ثم في حديث السفر، ثم في حديث القطر التي تحسن الإبطاء أكثر مما تحسن الإسراع، وتحسن التأخير عن مواعيدها أكثر مما تحسن الوفاء بهذه المواعيد، ثم عن الإسكندرية التي تزدحم بالقاصدين إليها، والنازحين عنها، وتموج بالمقيمين فيها، ثم عن جو الإسكندرية وجو القاهرة، والموازنة بين ما يكون بينهما من اختلاف في الصيف، ومن اختلاف في الشتاء، ومن توافق فيما يكون بين ذلك من الفصول، ثم نأخذ في حديث الصحف الجادة والهازلة، وفي حديث الأدب القديم والأدب الجديد، وننفق هذه الساعات التي ينفقها المسافرون بين القاهرة والإسكندرية متحدثين عن كل شيء إلا عن أنفسنا، ملمين بكل شيء إلا بأحداث السياسة، وما كان أكثر ما نلتقي فلا نتحدث إلا عن أنفسنا، وما كان أكثر ما نتحدث عن أنفسنا فنعبث أثناء الحديث بالسياسة وأصحابها، ونتخذ من هذا العبث ألوانا من المتاع الرفيع.
أما اليوم فقد ألقي بيننا وبين أنفسنا حجاب صفيق، وألقي بيننا وبين السياسة والسياسيين ستار كثيف، وجعلنا نتحدث كما يتحدث الناس حين يلتقون على غير معرفة موثقة أو مودة متينة قد برئت من التكلف، وألقيت عنها الحجب والأستار، فهم حراص على ألا يقول بعضهم لبعض ما يؤذي أو يسوء، لماذا تعمدنا أن نجتنب الحديث عن ذات أنفسنا، ولماذا تعمدنا أن نجتنب الحديث حتى عن حاضرنا وحاضر الناس، وحتى عن مستقبلنا ومستقبل الناس، ولماذا أنفقنا هذه الساعات الطوال لا نتحدث إلا في هذه الموضوعات التي لا تحطم شيئا كما يقول الفرنسيون، ولماذا نسي كل واحد منا أن ينشد حين رأى صاحبه قول الشاعر القديم:
نلبث حولا كاملا كله
لا نلتقي إلا على منهج
في موسم الحج وماذا منى
وأهله إن هي لم تحجج
سل السياسة عن هذا فهي التي تستطيع أن تخبرك الخبر اليقين، وسل السياسة عن هذا فهي التي تحسن التفريق بين الأصدقاء، والتقريب بين الأعداء، وهي التي تحسن أن تنسي الناس أنهم كانوا رفاقا في الصبا، وزملاء في الشباب، وأخلاء في الكهولة. وسل السياسة فهي التي تحسن أن تقيم المنافع العاجلة مقام المودة الباقية، وأن تشغل الناس بساعتهم التي هم فيها عن ماضيهم ذاك الطويل، وأن تشغل الناس بما يقضون من منافع، وما يرضون من مآرب، وما يحققون من آمال عما وثقت الأسر بينها من عرى متينة، وصلات كان يظن أنها أبقى على الزمن الباقي من الزمن.
وهل من الحق أننا لم نتحدث في هذه الساعات الطوال عن ذات أنفسنا، وهل من الحق أننا لم نذكر في هذه الساعات الطوال تلك الأيام الحلوة التي امتلأت لذات الصبا والشباب، وهل من الحق أننا لم نعبث بالسياسة والسياسيين، وأننا لم نعبث بأنفسنا؛ لأنها اتصلت بالسياسة والسياسيين، وهل من الحق أننا أنفقنا هذه الساعات الطوال في هذه الأحاديث التي كنا نكره أن نخوض فيها، والتي يستعين الناس بها على أن يحتمل بعضهم بعضا، وهل من الحق أن هذه الأحاديث التي أنفقنا فيها الساعات الطوال لم تعن أحدنا على أن يحتمل صاحبه، فكنا نستنجد بالسجائر التي نكثر من تحريقها، وكنا نستنجد بما عند صاحب البولمان من القهوة والليمون والبرتقال، وكنا نستنجد بتكلف الفكاهة، واختراع الدعابة نجذبها من شعورها جذبا كما يقول الفرنسيون، وهل من الحق أن أحدنا لو عرف أنه سيلقى صاحبه في القطار لقدم سفره أو آخره حتى لا يكون هذا اللقاء، وحتى لا يكون الاضطرار إلى هذه الأحاديث الفارغة التي لا تغني عن أصحابها شيئا إلا أنها تعينهم على قطع الوقت، وتمكنهم من أن يحتمل بعضهم بعضا.
نعم كل هذا حق، ولكن هناك حقا آخر لم أشكك فيه، ولم يشك فيه صاحبي لحظة، وهو أن ألسنتنا كانت تهذي بما لا يغني، وأن آذاننا كانت تتجرع هذا الهذيان، وأن قلوبنا في أثناء ذلك كانت تتحدث بما لم تكن تتحدث به ألسنتنا، وأن نفوسنا في أثناء ذلك كانت تستمتع بما لم تكن تستمتع به آذاننا، فقد كان كل واحد منا يكذب على صاحبه أشنع الكذب بما يلقي إليه من هذا الكلام الذي لا طائل فيه، والذي لا يدل على شيء، وكان كل واحد منا يصدق صاحبه أعذب الصدق بهذا الحديث الذي لم تكن تجري به الألسنة، ولم تكن تتلقاه الآذان، وإنما كانت تخفق به القلوب، وتستمتع به النفوس، وتجد فيه العقول راحة وروحا، وتجد فيه الضمائر رضى وأمنا.
أما أنا فقد كنت أراني وما أشك في أن صاحبي قد كان يرى نفسه معي في ذلك المكان الضيق أمام تلك الدار الصغيرة على شاطئ القناة، وقد أظلتنا شجرات بسطت أغصانها إلى ماء القناة من ناحية أخرى، وقامت عليها الطير تملأ الجو بغنائها المتصل الرفيع، وخفق أجنحتها المتقطع، ونحن نأخذ فيما تعودنا أن نأخذ فيه من حديث، وقد رفعنا أصواتنا ليسمع كل منا صاحبه، فقد كان غناء الطير، وحفيف الورق، وهفيف النسيم، وتصايح الصبية من حولنا، وتنادي الرجال والنساء هنا وهناك، كان هذا كله يوشك أن يحول بيننا وبين الحديث.
نعم، كنت أراني مع صاحبي في هذا المكان، وكنت أسمع قلبي يلقي إلى قلب صاحبي حديث المودة والإخاء صفوا عفوا، وعذبا نقيا، وكنت أتلقى من قلب صاحبي مثل ما كنت ألقي إليه على حين كانت ألسنتنا تهذي بسخيف القول؛ لأن ظروف الحياة قد أخذت تعلم الناس أن يخفوا المودة، ويظهروا النفاق، وأن يسروا الحب، ويعلنوا البغض، وأن يكذب بعضهم على بعض حتى في ذات أنفسهم، وأن يخيل بعضهم إلى بعض أن الأسباب بينهم مقطعة، وإن الأسباب بينهم لموصولة، ولكن مهلا. إن إخفاء المودة يوشك أن يمحوها، وإن إسرار الإخاء يوشك أن يقتله، وإن التصريح بالكذب والنفاق وإعلان التباعد والخصومة يوشك أن يجعل الكذب والنفاق والتباعد والخصومة أصولا لما نستأنف من حياة.
وقد وصل القطار إلى القاهرة، ونهضنا يريد كل منا أن يروح إلى أهله، ولم يقل أحد منا لصاحبه شيئا بلسانه؛ لأن لسانه لم يكن يقول إلا كذبا، وقال كل واحد منا لصاحبه كل شيء بقلبه؛ لأن قلبه لم يكن يقول عنه إلا صدقا، وراح كل واحد منا إلى داره، وإن قلبه ليتقطع حسرات؛ لأنه لا يستطيع أن يبين عما فيه من حب دفين.
أبلغ الأمر بنا أن نخافت بالمودة ونجهر بالنفاق؟
أضغاث أحلام
رأى فيما يرى النائم كأنه يسعى متروضا على شط دجلة حين أخذ الأصيل يحسر عن الأرض والسماء في أناة، وريث ضوئه الشاحب الحزين، وكان يسعى في جنة فسيحة بعيدة الأرجاء، رائعة الحسن، قد اختلفت مناظر ما فيها من شجر وثمر وزهر وعشب، فهو ينتقل بين هذا كله مستأنيا متمهلا يقف عند هذا اللون من ألوان الزينة التي اتخذتها هذه الجنة فيطيل الوقوف، وينظر إليه فيطيل النظر، ولا ينتقل عنه إلا حين يستيقن أنه قد رسمه في قلبه رسما صادقا، وصوره في ضميره تصويرا دقيقا، وكأنه كان يحس إحساسا خفيا لا يكاد يعلمه أنه حالم لا عالم، فكان يريد أن يستبقي في نفسه هذا الحسن البارع الذي يراه في هذا الجمال الرائع الذي يتمتع به؛ لينعم بهما إذا ردته اليقظة إلى هذه الحياة البغيضة التي كان يضيق بها أشد الضيق؛ لأنها كانت تصور له آماله عراضا، وتقعد به عن بلوغ هذه الآمال. فكان يجد الألم الممض، والعناء الثقيل في هذا الرجاء الذي ينفسح له، وهذا اليأس الذي يقعد به، وكان ألمه يزداد شدة، وحزنه يزداد لذعا حين يرى مواكب هؤلاء الأمراء والوزراء والكتاب وأصحاب المكانة في قصر الأمين والمأمون، فتنازعه نفسه إلى أن يكون واحدا منهم يشاركهم فيما يستأثرون به من الغنى والسلطان والجاه، ولكنه ينظر فإذا الأسباب بينه وبين ذلك مقطوعة لا تريد أن تتصل، ومن أين لفتى من أوساط الناس وعامة أصحاب التجارة فيهم أن يرقى إلى الكتابة أو الوزارة أو قيادة الجند.
فكانت حياته منغصة بهذا الأمل البعيد واليأس القريب. فلا غرابة حين رأى ما رأى في أحلام الليل، أن يحرص على من يستبقي هذه المناظر الجميلة، وهذه المحاسن الفاتنة؛ ليتسلى بها إذا استيقظ عن يأس لا يريم، وأمل لا ينال.
وإنه ليتنقل في حلمه بين هذه المناظر الخلابة الساحرة، إذا هو يرى جارية حسناء، فاتنة الحسن تنتقل مثله بطيئة متمهلة في هذه الجنة الرائعة، ولا يكاد يرى هذه الفتاة حتى تقع من قلبه موقع الحب، فتملأه حتى كأنه لا يستطيع أن يشتمل غيرها شيئا آخر، ثم يحاول أن يدنو منها ليتحدث إليها، ولكنها تنأى عنه مسرعة، وهي تقول في صوت عذب، ولفظ حلو: هيهات هيهات، لم يؤذن لنا بعد في أن نلتقي، ثم ينظر فإذا هي قد غيبت عنه، وإذا قلبه قد خلا منها، ولم يستبق إلا صورة ضئيلة جدا إن امتازت بشيء فإنما تمتاز بالفتنة المغرية، والقسوة الموئسة.
ويمضي في طريقه هادئا ينحدر نحو النهر في بطء فلا يكاد يخطو خطوات حتى يرى جارية أخرى ليست أقل من صاحبته الأولى رواء ولا بهاء، ولكنها أكثر منها زينة، وأحسن منها شارة، وإذا هي تلقي إليه نظرة تضرم في قلبه نارا أي نار فيرنو إليها من بعيد، ويريد أن يدنو منها لينظر إليها من قريب، ولكنها تنأى عنه مسرعة، وهي تقول: هيهات هيهات! لم يؤذن لنا بعد في أن نلتقي، ثم تغيب عنه كما غيبت عنه صاحبته الأولى، ولكنها قد تركت في قلبه صورة ضئيلة جدا، واضحة جدا، يرى فيها سحر الجمال، وآية النعمة والثراء، ويمضي في طريقه منحدرا إلى النهر، وإذا جارية ثالثة ليست أقل من صاحبتيها فتونا وإغراء، ولكن فيها استعلاء وتكبرا وشيئا من غلظة لو كان في رجل لبغضه الناس، ولكنه يدعو إليها أشد الدعاء، ويرغب فيها أعظم الترغيب، ولا يكاد يراها حتى يجن بها جنونه.
وإذا هو يحاول أن يدنو منها ليجثو بين يديها، وليرفع إليها الطاعة، والعبادة كما تقدم الطاعة والعبادة إلى الأصنام، ولكنها تنأى عنه مسرعة، وتأبى حتى أن تقول له مثل ما قالت صاحبتاها من قبل، إنما تشير إليه إشارة فيها كثير من الكبرياء أن قف، فلم يؤذن لنا بعد في أن نلتقي.
وقد أخذ الفتى ينكر هذا الحلم العجيب، وهو مغرق فيه لم يفق منه، وكاد إنكاره لهذا الحلم أن يرده إلى اليقظة، لولا أن صورة تتراءى له فيثوب إليها، وإذا جارية رابعة ليست أقل من صاحباتها دعاء للقلب، واستهواء للنفس لولا أنها لا تنظر إلا شذرا، ولولا أن كل ما يظهر على وجهها من هذه الآيات التي تصور دخيلة النفس، وأعماق الضمير، لا يدل إلا على الغلظة والغطرسة، وسوء الخلق، وهي مع ذلك تفتن كل الفتون، وتملأ قلبه هياما وشوقا، وهو يريد أن يستعطفها، ولكنها عنه مسرعة، وهي تشير في إباء وجفاء، أن قف فلم يؤذن لنا بعد في أن نلتقي.
وقد أحس الفتى حسرة مؤذية ولوعة حرقت قلبه تحريقا، وجعل يتحدث إلى نفسه في هذا الحلم الغريب؛ لأنه شقي بائس قد كتب عليه الحرمان في حياته اليقظة، وفي حياته النائمة.
ومن يدري لعل الحرمان أن يكون قد كتب عليه في حياته الدنيا، وفي حياته الآخرة، وإذن ففيم خلق؟ ولم قذفت به الأقدار في هذا العالم البغيض الذي لا تحلو فيه يقظة ولا نوم، ولكنه يرى امرأة نصفا ليست بالجميلة الرائعة، ولا الذميمة التي تنصرف عنها الأبصار، ولكنها شيء بين ذلك. في وجهها الحازم ما يدعو إلى الحب، وفيه ما يحمل على الإكبار، وفيه إشراق غريب يشيع في القلب رقة، وفي النفس عطفا وميلا إلى الحنان، وهذه المرأة قائمة مكانها لا تتحول عنه، ولا تظهر ميلا إلى التحول عنه، وقد أخذ الفتى يدنو منها شيئا، فلم تنفر منه ولم تغب عنه، وإنما أقامت مكانها هادئة يفيض من وجهها هذا البشر الحازم، وهذا الحنان الذي يملأ القلب طمأنينة ورضى، وهي تشير إلى الفتى في ظرف وعطف أن أقبل، كأنها شهدت ما لقي من أولئك الجواري الأربع فرقت له، وأشفقت عليه، وأحبت أن تسليه وتواسيه، ولكن الفتى يعرض عنها إعراضا، ويصد عنها صدودا، ويوليها ظهره، وهو يقول: هيهات لن يكون بيننا لقاء، فلست أحب العطف، ولا أريد الرفق، وليس أبغض إلي من هذا الأمل الذي لا أجد في تحقيقه الجهد المجهد، ولا في الظفر به العناء الثقيل.
وكأن إعراضه هذا قد ملأ قلبه غيظا فرده إلى اليقظة على أبغض ما كان يحب أن يستيقظ عليه من الحال. على هذا الأمل القريب الذي لا رغبة له فيه، ولا حاجة به إليه، بعد أن أفلتت منه هذه الآمال العسيرة التي كان عليها حريصا وبها كلفا، وقد أنفق نهاره مفكرا في هذا الحلم الغريب، مستحضرا هذه الصورة الجميلة التي تراءت له ثم نأت عنه، منكرا حظه من النوم واليقظة جميعا.
ويقبل أبوه مع المساء فإذا رآه في هذا الذهول، لامه أشد اللوم، وعنفه وأنبه أعظم التأنيب، وحثه على أن يترك حياة الأدب هذه، التي ترقى بأصحابها إلى السحاب، ثم لا تبلغهم من آمالهم شيئا، ورغبة في أن يسير سيرة أسرته فيعمل في التجارة المريحة التي لا تضيع على صاحبها وقتا ولا جهدا ولا تفكيرا.
ولكن الفتى يمتنع عن أبيه أشد الامتناع، ويظهر له الزهد في التجارة والازدراء لحياة التجار، ثم ينفق ليلة ساهرة لا يذوق فيها النوم، ولا يصاحب فيها إلا القلم والقرطاس، حتى أشرقت الأرض بنور ربها، وفرغت بغداد من مواكب الأمراء والوزراء والكتاب الذين استقروا في دواوينهم حين ارتفع الضحى. أقبل الفتى يسعى إلى ديوان الحسن بن سهل الوزير، فما زال يتلطف حتى أدخل عليه فأنشده مدحة أعجبته، وانصرف عنه بجائزة أرضته، وراح على أبيه آخر النهار بعشرة آلاف درهم نثرها بين يديه. قال الشيخ مبهورا مسحورا: لا ألومك بعد اليوم في ازدراء التجارة، والإقبال على حياة الأدباء.
ومنذ ذلك اليوم اتصلت أسباب الفتى محمد بن عبد الملك الزيات بأسباب الوزراء والكتاب، وما زال يرقى من درجة إلى درجة، ويسمو من منزلة إلى منزلة، حتى نظر ذات يوم، فإذا هو قد فوض الخليفة إليه أمور الدولة كلها؛ فله الأمر والنهي، وإليه المنح والمنع، وفي يده سلطان السيف والقلم جميعا، وإذا ثروته لا تحصى، ولا يقاس إليها إلا ثروة أمير المؤمنين، ومن يدري لعله أن يكون أقدر على ابتذال المال والتصرف فيه من أمير المؤمنين، فهو يأمر وينهى في المال غير مراجع ولا مدافع، وأمير المؤمنين لا يعطى ولا يمنع إلا عن رأيه ومشورته.
وقد فرغ من غذائه ذات يوم، وآوى إلى مضجعه يلتمس شيئا من راحة، فيغفي إغفاءة قصيرة، وإذا هو يرى نفسه في تلك الجنة الفسيحة ذات الأرجاء البعيدة، وجارية حسناء ترمقه من بعيد، وهو يدنو منها، محبا لها، معجبا بها، حتى إذا استطاع أن ينظر في وجهها من قريب، لم ينكر هذه الصورة، وإنما ذكر كأن عهده بها كان قريبا! فهي إذن تلك الفتاة الحسناء التي رآها في حلمه ذاك، والتي كانت تظهر عليها آيات الغنى والسعة، وهي تبسم له، وتدنو منه، وتقول له في صوتها العذب، ولفظها الحلو: ادن أبا جعفر فقد أذن لنا الآن أن نلتقي، قال أبو جعفر: جعلت فداك من تكونين؟ قالت في صوتها العذب، ولفظها الحلو: أنا الثروة .
وأفاق أبو جعفر باسم الثغر راضي النفس يعجب من حلمه القديم، وحلمه الجديد، ولكنه كان صاحب جد وحزم وفلسفة، فلم يلبث أن هز رأسه، وتلا قول الله عز وجل:
قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ، ومضى أبو جعفر يصرف أمور الدولة كما يهوى، وعلى ما يحب أمير المؤمنين، لا يسأل عن العدل أين هو! ولا يسأل عن الظلم أين هو، وإنما يسأل عن رضى نفسه، ورضى أمير المؤمنين، يسلك إليهما الطرق المستقيمة والمعوجة، ويركب إليهما الحزن والسهل، ويضحي في سبيلهما بالماضي والمستقبل، فيجفو الصديق، ويلقاهم بالغلظة حينا، والازدراء حينا آخر، لا يعرف لهم ودا، ولا يرعى لهم عهدا، حتى يقول له صديقه القديم إبراهيم بن العباس الصولي:
وكنت أذم إليك الزمان
فأصبحت منك أذم الزمانا
وكنت أعدك للنائبات
فها أنا أطلب منك الأمانا
ثم يغلو في الاستعلاء، ويمعن في الكبرياء حتى يلقى أخا أمير المؤمنين أشنع لقاء، ويتعمد إيذاءه في نفسه وجسمه بمحضر من أهل الديوان؛ لأن أمير المؤمنين كان مغاضبا لأخيه.
وفي مساء ذلك اليوم خلا إلى ندمائه، فأخذ من لهوه المادي والعقلي بحظ عظيم، وثقل عليه الشراب حين تقدم الليل فأغفى إغفاءة قصيرة، ثم أفاق وهو يتلو قول الله عز وجل:
قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين
فلما سأله بعض ندمائه عن ذلك، قال: رؤيا رأيتها في هذه الإغفاءة، وما أرى إلا أنها من أثر الشراب.
ولم تكن الرؤيا من أثر الشراب، وإنما كان حلما يعبر حلما، فقد رأى نفسه في جنته تلك، ورأى تلك الجارية الأبية المتغطرسة تبسم له، وتسعى إليه، وهي تقول: ادن أبا جعفر فقد أذن لنا الآن في أن نصطحب. ألا تذكرني؟ لقد التقينا ذات مساء في جنتنا هذه على شاطئ نهرنا هذا، وقد كنت تريد أن تستعطفني، قال أبو جعفر: نفسي فداؤك من تكونين؟ قالت: أنا الجفوة قد أجبتك منذ اليوم، فأنا صفاء لك وجفاء لأعدائك، وما أرى إلا أن الناس جميعا عدو لك.
ومضى أبو جعفر يستزيد من السلطان، ويستزيد من الثراء، ويستزيد من الكبرياء والبأس، حتى بلغ من العنف ما لم يبلغه وزير قبله، وسام المسلمين من ألوان العذاب ما لم يكن المسلمون يظنون أن من الممكن أن يساق إليهم، واتخذ تنوره ذاك الذي كان يستصفي به الأموال من العمال، وكان ضيقا شديد الضيق، قد أحيطت أنحاؤه كلها بالمسامير ذات الحدود المرهفة، يدخل فيها الرجل من الناس فتأخذ المسامير جسمه من جميع أقطاره، وقد جرب أداته تلك في أحد العمال ذات يوم، وجعل ينظر إلى هذا العذاب، ويجد فيه متاعا وراحة ورضى، فلما ذكرت له الرحمة قال: إنما الرحمة خور في الطبيعة، وضعف في المنة، وما رحمت شيئا قط.
وفي مساء هذا اليوم رأى فيما يرى النائم إحدى جواريه أولئك في جنته تلك، تسعى إليه باسمة ابتساما مرا، وهي تقول: أقبل أبا جعفر ألا تعرفني؟ أنا صديقتك، القسوة، لقد التقينا ذات أصيل في جنتنا هذه على شط نهرنا هذا، فقد آن لنا الآن أن نلتقي، ولن يفرق بيننا إلا الموت.
وأصبح أبو جعفر ضيقا بهذه الأحلام التي يعبر بعضها بعضا، وحدث نفسه بأن يسأل في ذلك بعض أصحاب الفلسفة لعلهم يجدون لهذا النحو من حياة الناس تفسيرا، ولكنه استكبر حتى عن السؤال، وخشي إن تحدث إلى الكندي الفيلسوف في ذلك أن يزدريه، ويستخف حلمه، ويتندر بقصته عند أمير المؤمنين. فلم يتحدث بشيء من أمره إلى أحد، وإنما تلا قول الله عز وجل:
قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين .
ومضى أبو جعفر يصرف أمور الدولة كما يشتهي هو لا كما تشتهي أمور الدولة حتى ملأ الأرض رعبا ورهبا، وحتى كان الخوف قوام الصلة بينه وبين القريب والبعيد.
وقد توفي أمير المؤمنين، وانتقلت الخلافة إلى أخيه، ولكن أبا جعفر مطمئن القلب رضي البال، قد امتلأت نفسه ثقة بنفسه، وأمن المكروه كل المكروه، فهو مستيقن أن قصور الخلفاء لم تعرف قط وزيرا يشبهه قوة وإيذاء وحسن تصريف للأمور، فلن يستغني عنه أمير المؤمنين. ولكنه يصبح ذات يوم وقد وجد الشك اليسير الخفي إلى قلبه العنيف الأبي سبيلا؛ لأنه رأى فيما يرى النائم جارية من جواريه تلك تبسم له ابتسامة حزينة، وتنأى عنه رويدا رويدا، وهي تقول في صوت تكاد تخنقه العبرات: وداعا أبا جعفر، لقد حمدت صحبتي لك، ومعاشرتي إياك، ولكن قضي علينا أن نفترق، قال أبو جعفر: ويحك من تكونين؟ قالت: أنا صديقتك، السطوة، أتنسى يوم التقينا في جنتنا هذه على شط نهرنا هذا، وقد أفاق أبو جعفر في ذلك اليوم مضطرب النفس بعض الشيء، وهم أن يتلو الآية الكريمة فلم ينطلق بها لسانه، وإنما ألح الشك على نفسه إلحاحا.
ولم يأت أصيل ذلك اليوم حتى كان أبو جعفر في سجن أمير المؤمنين المتوكل. قد جرد من سطوته وجفوته، وثروته وقسوته، ورد إلى حال الشقي البائس الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، والذي يدعو فلا يستجاب له، ويتمنى فلا يحفل أحد بتمنيه، ويشكو فلا يرق أحد لشكاته.
وقد صبر أبو جعفر على السجن ما كان السجن سهلا يسيرا، ولكنه لم يلبث أن استحال إلى العذاب يصب عليه في الليل، وقد وكل السلطان به من يسامره، حتى إذا أحس منه راحة أو شيئا يشبه الراحة نخسه بالمسلات ليرده إلى الألم، وليجدد عهده بطعم العذاب، وقد صبر أبو جعفر على هذا العذاب ما واتته قوته، واحتملت طبيعته شدة البأس، ولكنه يرى ذات يوم على باب الحجرة التي يعذب فيها من حجرات السجن صورة يعرفها ولا ينكرها، يراها يقظان، وقد كان يرى صاحباتها نائما، وهو ينظر في وجهها نظرة المشوق إليها المفتون بها، وكلما زاد إليها نظرا، ازداد إليها شوقا، وبها كلفا، وهو يدعو بقلبه كله ونفسه كلها، وهي تريد أن تستجيب له وتود لو تخطو هذه الخطوات القليلة التي تدنيها منه، وتقربها إليه، ولكنها ترد عن ذلك ردا رقيقا فترسل إلى أبي جعفر نظرات حلوة فيها حنان وعطف وإشفاق، وإذا لسان أبي جعفر ينطلق بهذه الكلمة في صوت هادئ يقطعه الألم: الرحمة.
قال الذين يعذبونه، وقد ظنوا أنه يسترحمهم: إنما الرحمة خور في الطبيعة، وضعف في المنة، وهل رحمت شيئا قط؟ ولم يطلب أبو جعفر إليهم رحمة، وإنما عرف صاحبته تلك التي رآها في جنته تلك على شاطئ دجلة فسماها باسمها.
ومنذ ذلك اليوم لم ينطق أبو جعفر إلا بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، حتى حين أدخل في التنور الذي كان يعذب به الناس، ولم ينطق لسانه بغير هذه الكلمة حتى مات.
ضمير حائر
آوى إلى سريره راضيا ناعم البال، وهب من سريره موفورا طيب النفس، ونام بين ذلك نوما هادئا هانئا لم تنغصه مروعات الأحلام، ولم يكد يخرج من غرفته حتى تلقاه الصبية من بنيه وبناته بوجوه مشرقة تتألق فيها نضرة النعيم، وثغور جميلة تبسم عن مثل اللؤلؤ المنضود، وحملت إليه أصواتهم الرخصة العذبة تحية الصباح فردها عليهم في صوت حلو يجري فيه الحزم الصارم، ويشيع فيه الحنان الرقيق، وأنفق معهم ساعة حلوة يداعب هذه ويلاعب ذاك، ثم خلص منهم بعد جهد، وفرغ لنفسه ليصلح من شأنه قبل أن يغدو إلى عمله، وكان عمله خطيرا، وكان اهتمامه لهذا العمل، وعنايته به أعظم منه خطرا؛ لأنه كان قوي الضمير حريصا أشد الحرص على أداء الواجب كاملا، وكان أبغض شيء إليه أن يتهمه أحد أو أن يتهم هو نفسه بأيسر التقصير.
ولم تكن عنايته بحسن زيه، وجمال شكله أقل من عنايته بالعمل والواجب، فقد استقر في نفسه منذ بلغ الشباب أن من كمال المروءة أن يكون الرجل حسن المنظر جميل الطلعة ما وسعه ذلك، وأن تقع عليه العين فلا تقتحمه، وتبلغه الأبصار فلا تزور عنه ولا تعدوه إلى سواه، ذلك أدنى أن يحببه إلى النفوس، ويحسن مكانه في القلوب، ويجعل محضره خفيفا، وعشرته شيئا يطلب، ويرغب فيه.
وكان الله قد منح صاحبنا حظا من جمال الخلقة، وخلقه في تقويم حسن، فزاده ذلك عناية بنفسه، واهتماما بمنظره، وشجعه الناس على ذلك بما كانوا يهدون إليه من ثناء، وشجعه النساء خاصة على ذلك بما كن يحمدن من صورته الرائعة، وزيه الأنيق، وحسن تلطفه في اللقاء والعشرة والحديث، كل ذلك فرض عليه العناية بجسمه وزيه وشارته أكثر مما تعود الناس أن يصنعوا، فكان يخلو في غرفته كل صباح، وكان يخلو في غرفته كل مساء وقتا غير قصير، ثم يخرج من غرفته ليغدو إلى عمله أو ليروح إلى ناديه، فلا يكاد أهله يرونه حتى يحدث منظره الرائع في نفوسهم فجاءة جديدة على كثرة معاشرتهم له، ومخالطتهم إياه.
وقد خلا في ذلك الصباح إلى نفسه في غرفته فأطال الخلوة، وغير وبدل من زيه ما استطاع التغيير والتبديل حتى إذا أعد نفسه للناس أو اعتقد أنه أعد نفسه للناس، وهم أن يخرج ألقى إلى المرآة هذه النظرة السريعة الخاطفة، التي كان يلقيها إليها دائما كأنما يسألها رأيها الأخير قبل أن يخرج للقاء الناس، وكان رأيها الأخير دائما حسنا مقنعا يشيع في نفسه شيئا من الرضى الهادئ، والثقة المنتظرة، ولكن رأي المرآة الأخير في ذلك الصباح لم يكن حسنا ولا مقنعا، ولا مشبعا للرضى والثقة، وإنما كان مزعجا مروعا فلم تكد عينه تبلغ المرآة حتى ارتدت عنها مذعورة، ثم عادت إليها مشفقة، وارتدت عنها، وقد نقلت إلى قلبه ذعرا يبلغ الهلع، وإذا هو يرتد عن مكانه، ويرجع أدراجه مسرعا، ويحول وجهه عن المرآة تحويلا تاما حتى لا تخطئ عينه فتمتد إليها مرة أخرى، وقد أخذ قلبه يخفق خفقانا شديدا سريعا متصلا، وأخذت جبهته تنضح بشيء من عرق بارد، وأخذت قطرات من هذا العرق تنطبع على وجهه، وجعل الدوار يعبث به، وبكل شيء من حوله حتى خيل إليه أن الغرفة كلها قد استدارت فأصبحت المرآة وراءه، وأصبحت هذه المائدة التي كان يجلس إليها ليصلح من شأنه أمامه، وإذا هو مضطر إلى أن يتماسك ويتمالك، وإذا هو عاجز عن ذلك فيجلس على أول كرسي يبلغه مضطربا ممعنا في الاضطراب حائرا لا يكاد يتبين حيرته، ولا يكاد يتبين مصدرها، ومع ذلك فقد كان مصدر هذه الحيرة يسيرا جدا غريبا جدا في وقت واحد. كان يسيرا؛ لأنه لم يكن إلا ما رأى في المرآة، وكان غريبا؛ لأنه لم ير في المرآة وجهه، وإنما رأى أقبح وجه يمكن أن يكون الله قد خلقه، وأبشع منظر يمكن أن يمتحن الله به الناس أو القرود، وقد طال جلوسه على كرسيه، وإطراقه إلى الأرض، وإغراقه في الحيرة، ثم أخذ جسمه يهدأ شيئا فشيئا، وجعل قلبه يستقر في صدره قليلا قليلا، وامتدت يده فاترة إلى منديل أمره على وجهه فجفف به العرق، وارتسمت على ثغره ابتسامة هادئة فيها شيء من غموض وشيء من رضى، فقد ثابت نفسه إليه، وجعل يسخر من هذا الروع الذي ألم به فأكبر الظن أن شيئا من علة قد ألم بمعدته فأفسد عليه مزاجه شيئا ما، ثم أنشأ يسأل نفسه عما طعم أمس وعما شرب، فلم ينكر من طعامه ولا من شرابه شيئا، فقد طعم أمس وشرب كما كان يطعم ويشرب في كل يوم، ولكن بمعدته شيئا من غير شك هو الذي خيل إليه ما خيل حين مد عينه إلى المرآة، ومن المحقق أنه لم يكن يحس ألما، ولا يشعر بشيء مما يشعر به المرضى حين يطرأ عليهم المرض، ولكن لا سبيل إلى تعليل هذه الظاهرة الطارئة إلا بشيء أصاب معدته أو كبده، وهو على كل حال قد استرد شيئا من طمأنينته، فعاد إلى شأنه يصلح منه ما أفسد هذا الاضطراب، فلما بلغ من ذلك ما أرضاه أزمع أن يخرج من غرفته دون أن يسأل هذه المرآة المشئومة عن شيء، ولكن الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس، ألقى في روعه مع كثير من اللباقة والمكر، أن من الحق عليه أن يسأل هذه المرآة التي تعود أن يسألها دائما، والتي تعودت أن تصدقه دائما، فمن يدري لعل شيئا ألم به فغير من وجهه وشكله، وهو لا يدري، وما ينبغي أن يظهر الناس منه على ما لا يحب أن يظهروا عليه، وقد ألقى نظرته إلى المرآة فارتدت عينه مذعورة، ثم عادت إلى المرآة مشفقة ، ثم ارتدت وقد حملت إلى قلبه جزعا وهلعا، وإذا هو يجاهد ليحبس صيحة قد همت أن تخرج من حلقه، فتملأ الغرفة من حوله، وتدعو إليه أهل الدار، ولكنه رد هذه الصيحة إلى مستقرها، ولم يتح لها أن تنفجر، واستأنف اضطرابه ذاك، ثم ثابت إليه نفسه بعد لأي، فيسرع إلى الجرس يدقه، فإذا دخلت عليه الخادم رفع إليها وجهه وظل صامتا حينا يريد أن يعرف أتنكر الخادم من أمره شيئا، فلما رأى الخادم كدأبها كلما دعاها إليه قائمة واجمة تنتظر أمره لا تنكر شيئا، ولا تعرف شيئا أو لا تظهر معرفة ولا إنكارا، قال لها في صوت يكاد يضطرب: أنبئي سيدتك أني أنتظرها. وأقبلت زوجه بعد حين فرأته قائما باسما ينتظر مقدمها، فلما رأته أخذها منظره كما تعود أن يأخذها كل صباح وكل مساء، وسألها هو أتنكرين من أمري شيئا، قالت متضاحكة: وماذا تريد أن أنكر من أمرك؟! إنما أنت كما تعودت دائما أن أراك، رائع الشكل، جميل المنظر، خلابا للنساء، إلى أين تريد أن تغدو اليوم، فإني أراك تكلفت عناية بزيك، قلما تتكلفها؟ قال: وإلى أين أغدو إلا إلى عملي؟!
قالت: فإن عملك لا يحتاج إلى كل هذا التأنق، ولكنه أعاد عليها قوله: أفي الحق أنك لا تنكرين مني شيئا؟ قالت: مغرقة في الضحك: في الحق إني أنكر منك هذا الإسراف في التجمل. قال في شيء يشبه الذهول: إن هذه المرآة تنبئني بغير ما تقولين، ثم ألقى على المرآة نظرته الخاطفة تلك، وارتد عنها، وجلا مذعورا يقول لامرأته: التمسي لي طبيبا.
وقد عاده طبيب وطبيب وطبيب، عادوه متفرقين، وعادوه مجتمعين، وفحصوا من جسمه كل ما يمكن أن يفحصوا، وامتحنوا كل ما يمكن أن يمتحنوا، فلم يروا به بأسا، ولم يشخصوا له علة، ولم يصفوا له دواء، وقال له قائلهم: ما نرى بجسمك من بأس، فالتمس دواء نفسك عند نفسك، فما نظن إلا أن في ضميرك شيئا يؤذيك على علم منك أو على غير علم، وقد غيرت المرآة في غرفته مرة ومرة، ولكن المرايا كلها جعلت كلما التمس نفسه فيها ردت إليه صورة غير صورته، وشكلا غير شكله، وملأت قلبه فرقا وروعا، وقد تسامع أعوانه وأصحابه بأنه مريض منذ لزم غرفته، وانقطع عن عمله فجعلوا يسعون إليه ليعودوه، يلقاه أقلهم، ويرد عنه أكثرهم، وينبئ أولئك وهؤلاء من أمره بغير الحق، تخترع لهم العلل، وتبتكر لهم الأدواء فيصدق منهم من يصدق، ويكذب منهم من يكذب، ويشك منهم من يشك، وكنت من هؤلاء الأصدقاء الذين سعوا إليه، وسألوا عنه، ثم أتيح لهم أن يروه، وكنت أثيرا عنده كما كان أثيرا عندي، لا أخفي عليه من ذات نفسي شيئا كما لا يخفي علي من ذات نفسه شيئا، ولقد لقيته فيمن لقيه من أصحابه ذات يوم فسمعنا منه، وقلنا له، وضربنا معه أخماسا لأسداس في أمر علته. نصدق نحن في حيرتنا، ويتكلف هو لنا الحيرة تكلفا لا يكاد يخفى علي، فلما هممنا أن ننصرف استبقاني في لباقة وظرف، فبقيت، ومضى الحديث بيننا ألوانا ساعة من نهار، ثم عدنا إلى علته، فإذا هو يتحدث إلي بأمره كله في وضوح وجلاء.
قلت ضاحكا: ألعلك قرأت هذه القصة الإنجليزية التي كتبها أوسكار ويلد، وسماها صورة دوريان جري، فإن فيها ما يشبه قصتك من بعض الوجوه. قال: فإنك تعلم أني لا أقرأ الإنجليزية، ولا أقرأ لغة أوروبية، ولا أعرف أن هذه القصة قد نقلت إلى العربية.
قلت: أولم يتحدث إليك قط متحدث عن هذا الكتاب وكاتبه، قال: سمعت أطرافا من الحديث عن أوسكار ويلد، ولكن لم أسمع عن هذا الكتاب من كتبه قليلا ولا كثيرا، فحدثني أنت عن هذا الكتاب. قلت: لقد قرأته منذ زمن بعيد، وأذكر أنه يعرض على قرائه قصة فتى حسن، رائع الحسن، جميل بارع الجمال، اتخذ له صديق مصور صورة تطابق شكله جمالا وروعة، وقد اقترف هذا الفتى في مستقبل أيامه سيئات كثيرة، واجترح آثاما مختلفة، فبغضت إليه نفسه أشد البغض، وقبحت صورته المصنوعة في عينه أشنع التقبيح، فنفاها من حجرات داره وغرفاته إلى حيث ينفي سقط المتاع، ولكنه كان يلم بها من حين إلى حين تزيدا من بغضه لها، وسخطه عليها، واستعذابا لهذا السخط وذلك البغض، ثم أصبح الناس ذات يوم فرأوه مقتولا إلى جانب صورته، أراد أن يمزق الصورة فمزق صدره، وقد أراد أوسكار ويلد فيما أظن أن يصور تأثير الندم على ما يقترف من الآثام في بعض الضمائر والنفوس، فلم تكن هذه إلا مرآة لضمير دوريان جري. رأى فيها ما كان يملأ ضميره من السيئات المنكرة، والجرائم البشعة.
قال صاحبي في صوت يأتي من بعيد: وما أنا، وهذه القصة. قلت في صوت يأتي من بعيد أيضا: خشيت أن تكون قد قرأتها أو سمعت عنها فأثرت في أعصابك تأثيرا سيئا، فما أكثر ما تؤثر الكتب قيمها وسخيفها في أعصاب الناس، فتحملهم على غير ما أراد المؤلفون أن يحملوهم عليه. قال صاحبي، وعلى ثغره ابتسامة حزينة: هون عليك! فإني لم أقرأ هذا الكتاب، ولم أسمع عنه، ولم أتأثر به قليلا ولا كثيرا، ومع ذلك فإن من حقه أن يقرأ، قلت - وقد ندمت بعد ذلك على ما قلت - فالتمس في أثناء نفسك، وأحناء قلبك خطأ، لعلك قد دفعت إليه، أو مساءة لعلك قد قدمتها إلي بريء. فإني أعلم أنا نجهل من أمر الضمير الإنساني أكثر مما نعلم، ومن يدري لعل في ضميرك الخفي ندما على شيء أتيته ثم أنسيته، ولعلك إن استكشفته أن تصلحه، وتستغفر الله منه فتقل هذا الندم الذي أخشى أن يكون هو الذي ينغص عليك الحياة، وتركت صاحبي حائرا مبهوتا، ثم أنبئت بعد أيام أنه يمرض في بعض المستشفيات، فلما سألت عن جلية ذلك قص على محدثي عجبا من الأمر، فقد كان صديقي هذا البائس من قوم كرام مات أكثرهم، وبقي أقلهم، وكان الذين ماتوا - رحمهم الله - يرتفعون عن الصغائر، ويمتنعون على الدنيات، وتأبى نفوسهم فيما تأبى جحود العارف، وإنكار الجميل، ورثوا ذلك عن آبائهم، وأحبوا أن يورثوه أبناءهم، فحال بينهم وبين ذلك هذا التطور الحديث الذي غير مقاييس الأشياء، وأدار أعمال الناس وأقوالهم على المنافع العاجلة، والمآرب القريبة لأعلى ما كان يألف آباؤنا من رعاية الحق وتقدير المعروف، وكان صديقي هذا البائس أحرص الناس على أن يشبه الذين سبقوه من قومه في كل ما كانوا يأتون ويدعون من الأمر، ولكن أحداث الدهر، وخطوب الأيام، وما تحمل من رغبة ورهبة، ومن إغراء وتنفير كانت أقوى من خلقه وإرادته، فلم يستطع أن يكون خليقا بالذين سبقوه من قومه، وإنما كان خليقا بالذين عاصروه من أترابه كان قومه يستحيون من أنفسهم قبل أن يستحيوا من الناس، وكان هو يستخفى من الناس، ولا يستخفي من ضميره ولا من الله وهما معه أينما كان، فلما قصصت عليه قصة أوسكار ويلد كنت كأنما كشفت عن نفسه الغطاء، فأصبح يتحدث إلى امرأته، وإلى خاصته بأن هذا الوجه القبيح الذي كان يراه في المرآة لم يكن وجهه، فوجهه ما زال جميلا رائعا، وإنما هو مرآة ضميره؛ لأن ضميره بشع دميم.
ثم يمضي في حديثه فيقول: لا تنكروا مما أقول لكم شيئا، فإني لا أرى هذا الوجه البشع إذا نظرت في المرآة فحسب، بل أنا أراه كلما خلوت إلى نفسي، أراه يحمله جسم كجسمي، وأراه يجلس إلى غير بعيد ينظر إلي شذرا أول الأمر، ثم لا يزل يرفق بي، ويظهر الرقة لي حتى أطمئن إليه فيحدثني في صوت هادئ رقيق عن سيئات تقدمت بها إلى الناس فيما مضى من الدهر، ثم يقول لي في صوت هادئ يخيفني أشد الخوف ليتك لم تفعل، فقد كنت أراني جميلا فجعلتني قبيحا بشعا، وكنت أراني سعيدا فجعلتني شقيا بائسا، فقد احتملت وحدي قبحي وبشاعتي وشقائي وبؤسي، ثم أعياني احتمال هذا الثقل، فرأيت أن تشاركني في النهوض به، فسألزمك منذ الآن كما يلزم الظل صاحبه، وأي غرابة في أن يلزم الضمير صاحبه، وكان صديقي البائس يقول ذلك لأهله وخاصته في صوت غريب يملأ قلوبهم خوفا وإشفاقا ورحمة وعطفا، ثم كان يلح عليهم في ألا يخلوا بينه وبين نفسه، فلزموه وأطالوا البقاء معه، ولكن بغضه لظله هذا أو لضميره هذا جعل يعظم ويشتد، كما أن حب ظله وضميره له جعل يعظم ويشتد أيضا، فقد رأى ضميره في المرآة أول الأمر، ثم جعل يراه في الخلوة بعد ذلك، ثم أصبح يراه حين يخلو إلى نفسه، وحين يحيط به أهله وخاصته، وإذا أمره ينتهي به إلى الجنون الثائر أو إلى ما يشبه، وإذا أهله مضطرون إلى أن يمرضوه في بعض المستشفيات التي تعالج فيها الأعصاب المريضة.
ليتني لم أكشف لصاحبي عن نفسه الغطاء، أستغفر الله ماذا أقول! وهل يزيد الكتاب على أن يكشفوا للناس عن نفوسهم الغطاء.
مدرسة الذباب
اضحكي يا سيدتي، واغرقي في الضحك، فذلك شيء يسرني ويرضيني؛ لأن الضحك خير من البكاء، ولأن النشاط خير من الفتور، ولأن ذلك بعد لا يغض من هذا التشبيه الذي تضحكين منه، ولا يرده إلى الضعف فضلا عن أن يرده إلى الفساد، فأنت تخدعين نفسك بهذا التناقض الذي ينخدع به أصحاب السذاجة، ترين الذبابة كائنا يسيرا ضئيلا لا يكاد يشغل من الجو إذا استقل في الجو حيزا ذا خطر، ولا يكاد يشغل من الجسم إن وقع على الجسم إلا مكانا لا يكاد يذكر، وترين صاحبنا ضخما فخما، طويلا عريضا، يسعى فيسبقه بطنه، كأنما يفسح له الطريق، وهو على ذلك أو من أجل ذلك يمشي ثقيلا بطيئا، كأنما يبذل أشق الجهد وأعنفه في كل خطوة يخطوها من خطواته هذه القصار التي لا تكاد تقدمه إذا سعى إلا في كثير من العناء، فإذا أراد أن يجلس التمس هو أو التمس الناس له ما يلائم جسمه الضخم الفخم من الكراسي العراض التي تستطيع أن تحتمل الأثقال دون أن تنحل أو تنهار، فإذا تكلم ارتج من حوله كل شيء، واحتاج الناس إلى أن يرغبوا إليه في أن يغض من صوته، ويخافت بحديثه إشفاقا على الأسماع أن تستك، وعلى الأسنان أن تصطك، وعلى القلوب أن تنخلع، وعلى الرءوس أن يأخذها الدوار، وأنا مع ذلك أشبه هذا الكائن الهائل المخيف بذلك الكائن الضئيل الخفيف، وأي غرابة في هذا، فإني لم أشبه جسما بجسم، ولا شكلا بشكل، وإنما شبهت خلقا بخلق، ومزاجا بمزاج.
والله يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وهو قادر إن شاء على أن يركب في الناس أخلاق الذباب، ويركب في الذباب أخلاق الناس، ومن يدري لعلنا لو فهمنا طنين الذباب، واستطعنا أن نترجم ما يدور بين أفراده، وجماعاته من الحديث، أن يتاح لنا أن نتبين أن الله قد ركب في الذباب أخلاق بعض الأفراد والجماعات من الناس، ولكنا لم نعلم منطق الذباب، ولم يتح لنا أن نفهم لغته، ولا أن نستقصي ما يدور بين أفراده من الأحاديث، ولا ما يكون بين جماعاته من الخطوب، فأما الإنسان فقد أتيح لنا أن نفهم لغته، ونبلو أخباره، ونستقصي أنباءه، وأتيح لنا من أجل ذلك أن نتبين بعض ما فيه من الخصال التي تقربه من كبار الحيوان حينا، ومن صغاره حينا آخر.
والذي أستطيع أن أحققه هو أن صاحبي هذا الفخم الضخم الطويل العريض قد فطر على شيء من أخلاق الذباب، وأظهر ما ركب فيه من ذلك، هذا التهالك الملح الذي يمنعه أن يعيش بنفسه، وأن يعيش لنفسه، وأن يستقل بشخصه لحظة من لحظات الحياة، فهو دائما تابع لشيء أو تابع لإنسان، وهو دائما ملح في التتبع للأشياء وللناس، وهو يحيا من هذا التتبع، ولا يستطيع أن يحيا بدونه، وهو من أجل هذا مدفوع إليه بالغريزة القاهرة التي لا يدبرها عقل، ولا تصرفها إرادة، وإنما هي مندفعة أمامها لا تردها الأحداث، ولا تصدها الخطوب.
وهنا يظهر الفرق الواضح بين صاحبنا وبين الذباب؛ فليس للذباب ما يحميه منا إن أردنا أن نرده أو نصده أو نخلص منه؛ بل كل شيء يغرينا بذلك، ويحثنا عليه، ولكن صاحبنا قد وجد من الحياة الاجتماعية، ومن نظم الحضارة وقوانينها، ومن الشرائع المنزلة، والشرائع المتكلفة ما يوفر له الحماية كل الحماية، ويبيح له أن يكلف الناس من أمرهم شططا، وأن يعذبهم عذابا أليما، فهم لا يستطيعون أن يصدوه في رفق دون أن يخرجوا على قوانين العرف المألوف، والأدب الموروث، وهم لا يستطيعون أن يصدوه في عنف دون أن يخرجوا على النظم والقوانين التي لا يستبيح الرجل المتحضر أن يخرج عليها، والتي لا تسمح لمتحضر أو غير متحضر بالخروج عليها.
فنحن مضطرون إلى أن نحتمله طائعين أو كارهين، وإلى أن نشقى به راضين بذلك أو ساخطين عليه، وهو يعلم ذلك حق العلم، ويشعر بذلك أقوى الشعور فيستغل ذلك أبشع الاستغلال، وينتفع به أقبح الانتفاع، وينمي في نفسه أخلاق الذباب ما وجد إلى تنميتها سبيلا، ولو أتيح لك يا سيدتي أن تجربي معاملة الذباب على نحو ما نعامل صاحبنا لرأيت الذباب يضخم ويعظم ويثقل، ويلح ويسرف في الإلحاح، ويستغل ما ييسر له من الأسباب حتى يبلغ من ضخامة الجسم وفخامته، ومن ارتفاع الطنين واتساعه ما يملأ الحياة هولا وروعا، ولكن الذباب لا يجد ما يحميه كما يجد صاحبنا وأمثاله ما يحميهم، فهم يسعدون بشقائنا، وينعمون ببأسائنا، ويحققون من الآمال والمآرب ما لا يستطيع الذباب المسكين أن يحقق، وانظري يا سيدتي لقد انتهى بي الأمر إلى أن أرحم الذباب، وأشفق عليه، وأرثي له حين أوازن بينه وبين هذا الذباب الناطق؛ لأنه لا يبلغ من حياته البائسة التعسة مثل ما يبلغ الذباب الناطق من حياته السعيدة الناعمة.
ولم يكن صاحبنا هذا دائما ضخما فخما كما ترينه الآن، وإنما كان نحيلا ضئيلا لا يكاد يملأ العين، وكان خفيف الحركة شديد النشاط لا يكاد يستقر في مكان، ولا يخيل إلى من رآه ساعيا مضطربا أنه يمشي على الأرض، وإنما يخيل إليه أنه يمشي في الهواء، وقد ظهرت فيه أخلاق الذباب هذه منذ طفولته الأولى في المدرسة فلم يكن كغيره من رفاقه يكتفي بهذه الحياة الاجتماعية الحلوة التي يحياها التلاميذ، فيلعب مع أترابه حين يلعبون، ويفرغ معهم للدرس حين يفرغون للدرس، ويستمع معهم للأساتذة حين يستمعون للأساتذة، إنما كان متهالكا على أترابه وأساتذته ما وجد إلى هذا التهالك سبيلا، فإن أعياه ذلك تهالك على خدم المدرسة والموظفين الذين يعملون فيها، وقد حسن الظن به أول الأمر، فقرر الذين كانوا يعيشون من حوله أنه عطوف ألوف يتودد إلى أمثاله من الناس سواء أوافقوه في السن أم خالفوه فيها، ولكنهم لم يلبثوا أن ضاقوا بهذا العطف واستثقلوا هذا الألف، وجعلوا يتدافعونه، ويلقي بعضهم حمله على بعض، ثم جعلوا يفرون منه جماعات وأفرادا، ولكنهم لم يستطيعوا أن يدفعوه، ولم تغن عنهم محاولة الفرار منه شيئا.
فهو لم يكن ذبابا غافلا، وإنما كان ذبابا عاقلا، والعقل يفتق الحيلة، ويحسن التماس الوسائل، ويمكن صاحبه من التلطف، وحسن التأتي للعسير من الأمر، وقد عرف صاحبنا كيف يحتال، وكيف يبتغي الوسيلة إلى الأتراب وإلى الأساتذة، وإذا هم يشقون به ويصبرون على احتماله، ويبذلون له من ذات أنفسهم، ومن ذات أبدانهم ما يستطيعون؛ ليتخففوا منه، وليخلصوا من إلحاحه البغيض، وقد أدرك بعقله النافذ، وحيلته الواسعة ضعف الأتراب والأساتذة، فلم يزده ذلك إلا تتبعا لهم، وإلحاحا عليهم حتى أخافهم من نفسه، وتسلط عليهم بهذا الخوف الذي أشاعه في النفوس والقلوب.
وكذلك أنفق حياته في المدرسة الابتدائية والثانوية متهالكا لا يكاد يستقل، منتفعا لا يكاد ينفع حتى إذا أتم الدراسة الثانوية، ووجد عملا في بعض الدواوين تتبع زملاءه ورؤساءه بمثل ما كان يتتبع به الرفاق والأساتذة من التهالك والإلحاح، والغريب أنه بلغ في الديوان مثل ما بلغ في المدرسة من إكراه الزملاء والرؤساء على أن يقبلوه ويحملوه وينفعوه، يريد بعضهم بذلك أن يتخفف من عبء ثقيل، ويريد بعضهم بذلك أن يخلص من هم متصل، وصاحبنا يرى هذا كله، ويقدر هذا كله، ولا يحفل من هذا كله إلا لشيء واحد هو أن يتهالك على الزملاء والرؤساء؛ لينتفع ويستفيد، وما يعنيه أن يحبه هذا أو يبغضه، وما يعنيه أن ينفعه هذا استجابة للخير أو اتقاء للشر، كل هذه أمور لا تشغله، ولا تؤثر في نفسه كل التأثير؛ هو أن ينتفع مهما يكن المصدر الذي يأتيه منه النفع، ومهما تكن البواعث التي تدفع الناس إلى أن ينفعوه.
وقد قلت إنه لم يكن ذبابا غافلا، وإنما كان ذبابا عاقلا، ويجب أن أقول إنه كان ذبابا ذكيا أيضا، فكان يحسن الانتهاز للفرص، والانتفاع من الظروف، ولم يكن - ولا سيما بعد أن تقدمت به السن - يهجم على فريسته كما يهجم الذباب في غير حيلة ولا تلطف ولا احتياط، وإنما كان يدبر أمره تدبيرا لطيفا خفيفا فيتواضع ويتضاءل حتى يخيل إلى الزميل، أو إلى الرئيس أنه الخادم المطيع الذي لا يحب إلا أن يكون عندما يريد منه، فهو يسبق الزميل أو الرئيس إلى ما يظن أنه يرضيه، وإلى ما يقدر أنه يسره، ولا تسألي عن تلطفه في القول، وتظرفه في الحديث، وحسن سعيه إلى القلوب، فإذا بلغ من رضى الزميل أو الرئيس ما يريد، لم يعرف كيف ينصرف عنه، وإنما تهالك وألح في التهالك، ثم طلب وألح في الطلب حتى يكره الزميل أو الرئيس على أن يبلغه من الأمر ما يريد؛ ليخلص من هذا التهالك، ويستريح من هذا الإلحاح.
وتستطيعين يا سيدتي أن تتبعي سيرته في الدواوين فسترينها رائعة حقا، وسترينها مؤذية حقا، وأي غرابة في أن تجمع سيرة الرجل الواحد بين الروعة والإيذاء، وليست الروعة مقصورة على ما يعجب ويروق، ولكنها أيضا تكون فيما يؤذي ويسوء.
وقد عرف صاحبنا من خصال الرؤساء في الدواوين أيام شبابه الأول ميلهم إلى أن يتتبعوا أخبار المرءوسين، ويستقصوا أسرارهم، ويستكشفوا سرائرهم، فأحسن انتهاز الفرصة السانحة، والانتفاع بالظروف المواتية، وأصبح لكل زميل صديقا حميما، وخليلا مداخلا يظهره من حياته على كل شيء، وليظهر هو من حياة صديقه وزميله على كل شيء، ولكن زميله كان يعرف من حياته ما يعرف، ثم يقف من هذه المعرفة، فأما هو فلم تكن هذه المعرفة عنده إلا الخطوة الأولى، فأما الخطوة الثانية: فهي التغيير والتبديل فيما عرف، ثم نقل ذلك إلى الرؤساء؛ ليتحفظوا، ويحتاطوا لأنفسهم ولأعمالهم، وكذلك بلغ صاحبنا من التهالك المتجسس أو من التجسس المتهالك ما كان يريد، فارتقى في المناصب والدرجات رقيا سريعا متصلا، وظفر في كل منصب شغله، وفي كل درجة ارتقى إليها بما أراد من ثقة الزملاء، وحب الرؤساء، والغريب أنه إلى تهالكه وتجسسه وإلى عقله وذكائه، قد أضاف خصلة عظيمة الخطر في حياة أمثاله، وهي قوة الذاكرة، وسعة الحافظة فلم يكن ينسى شيئا، ولم يكن ينسى أحدا، وهو بهذه الخصلة قد استطاع أن يستبقي عهده بجميع الذين عرفهم، وعمل معهم في الدواوين المختلفة التي مر بها، وفي المناصب المختلفة التي ارتقى إليها.
وقد عرف من سيرته هو ومن تجاربه الخاصة مقدار ما كان يؤدي إلى الرؤساء من خدمة بمداخلته للزملاء، وتعرفه أخبارهم وأسرارهم، وتجسسه عليهم، وعرف في الوقت نفسه مقدار ما انتفع به من هذه السيرة، وكان أذكى من رؤسائه، وأنفذ منهم بصيرة، فقرر فيما بينه وبين نفسه حين واتاه الحظ، وأتيح له التسلط أن يتخذ لنفسه الجواسيس الذين ينقلون إليه الأخبار، ويظهرونه على الأسرار كما كان هو جاسوسا، ولكن بشرط ألا ينفع جواسيسه كما نفعه الذين استخدموه، وربما كان مصدر هذه الخطة التي اتخذها لنفسه أنه كان أثرا يرى أن النفع يجب أن يكون مقصورا عليه لا يتجاوزه إلى غيره، وربما كان مصدر هذه الخطة أنه كان معتدا بنفسه يرى أن واحدا لن يحسن التجسس كما هو يحسن التجسس للرؤساء، وربما كان مصدر هذه الخطة أنه كان يرى أن التجسس خصلة وضيعة لا يستحق أصحابها مكافأة ولا حياة، لا أن تقترن ببراعة ممتازة كبراعته، وذكاء متفوق كذكائه، وشخصية نادرة كشخصيته، وإلا أن يكون الغرض منها هو تمكين هذه البراعة الممتازة والذكاء المتفوق، والشخصية النادرة من أن تؤتي ثمراتها، فترقى بهذا الإنسان الفذ إلى حيث ينبغي له من النجح والتفوق والامتياز، وليس هذا الإنسان الفذ إلا شخصه الذي عرف كيف يذلل العقاب، ويقهر الصعاب، وينفذ من الخطوب، ويعبث بهذه العقول الكثيرة التي عبث بها منذ كان تلميذا صبيا في المدرسة الابتدائية، إلى أن أصبح موظفا كبيرا يأمر فلا يخالف عن أمره أحد، وينهي فلا يتجاوز حدود نهيه أحد، وربما كان مصدر هذه الخطة كل هذه الأمور مجتمعة، والشيء الذي ليس فيه شك هو أن يزدري التجسس والمتجسسين أشد الازدراء، ويستغل التجسس والمتجسسين أشد الاستغلال، وينظر إلى الحياة والأحياء نظرة غامضة تدل على النبوغ الذي لا شك فيه؛ لأنها تصور خصلتين اثنتين لا توجدان إلا في نفوس النوابغ والأفذاذ؛ الأولى: إيمانه بنفسه إلى غير حد، والثانية: احتقاره لغيره إلى غير حد.
وإذا اجتمعت هاتان الخصلتان في نفس رجل واحد كان خليقا أن يرى نفسه غاية الغايات، وغرض الأغراض، وأن يقتنع بأن العالم لم يخلق إلا له، ولم يوقف إلا عليه، وأن ينتهي به الأمر إلى غرور بغيض.
قالت السيدة، وكانت أديبة أريبة: صدق الله العظيم
يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب .
Shafi da ba'a sani ba