وقد وصل القطار إلى القاهرة، ونهضنا يريد كل منا أن يروح إلى أهله، ولم يقل أحد منا لصاحبه شيئا بلسانه؛ لأن لسانه لم يكن يقول إلا كذبا، وقال كل واحد منا لصاحبه كل شيء بقلبه؛ لأن قلبه لم يكن يقول عنه إلا صدقا، وراح كل واحد منا إلى داره، وإن قلبه ليتقطع حسرات؛ لأنه لا يستطيع أن يبين عما فيه من حب دفين.
أبلغ الأمر بنا أن نخافت بالمودة ونجهر بالنفاق؟
أضغاث أحلام
رأى فيما يرى النائم كأنه يسعى متروضا على شط دجلة حين أخذ الأصيل يحسر عن الأرض والسماء في أناة، وريث ضوئه الشاحب الحزين، وكان يسعى في جنة فسيحة بعيدة الأرجاء، رائعة الحسن، قد اختلفت مناظر ما فيها من شجر وثمر وزهر وعشب، فهو ينتقل بين هذا كله مستأنيا متمهلا يقف عند هذا اللون من ألوان الزينة التي اتخذتها هذه الجنة فيطيل الوقوف، وينظر إليه فيطيل النظر، ولا ينتقل عنه إلا حين يستيقن أنه قد رسمه في قلبه رسما صادقا، وصوره في ضميره تصويرا دقيقا، وكأنه كان يحس إحساسا خفيا لا يكاد يعلمه أنه حالم لا عالم، فكان يريد أن يستبقي في نفسه هذا الحسن البارع الذي يراه في هذا الجمال الرائع الذي يتمتع به؛ لينعم بهما إذا ردته اليقظة إلى هذه الحياة البغيضة التي كان يضيق بها أشد الضيق؛ لأنها كانت تصور له آماله عراضا، وتقعد به عن بلوغ هذه الآمال. فكان يجد الألم الممض، والعناء الثقيل في هذا الرجاء الذي ينفسح له، وهذا اليأس الذي يقعد به، وكان ألمه يزداد شدة، وحزنه يزداد لذعا حين يرى مواكب هؤلاء الأمراء والوزراء والكتاب وأصحاب المكانة في قصر الأمين والمأمون، فتنازعه نفسه إلى أن يكون واحدا منهم يشاركهم فيما يستأثرون به من الغنى والسلطان والجاه، ولكنه ينظر فإذا الأسباب بينه وبين ذلك مقطوعة لا تريد أن تتصل، ومن أين لفتى من أوساط الناس وعامة أصحاب التجارة فيهم أن يرقى إلى الكتابة أو الوزارة أو قيادة الجند.
فكانت حياته منغصة بهذا الأمل البعيد واليأس القريب. فلا غرابة حين رأى ما رأى في أحلام الليل، أن يحرص على من يستبقي هذه المناظر الجميلة، وهذه المحاسن الفاتنة؛ ليتسلى بها إذا استيقظ عن يأس لا يريم، وأمل لا ينال.
وإنه ليتنقل في حلمه بين هذه المناظر الخلابة الساحرة، إذا هو يرى جارية حسناء، فاتنة الحسن تنتقل مثله بطيئة متمهلة في هذه الجنة الرائعة، ولا يكاد يرى هذه الفتاة حتى تقع من قلبه موقع الحب، فتملأه حتى كأنه لا يستطيع أن يشتمل غيرها شيئا آخر، ثم يحاول أن يدنو منها ليتحدث إليها، ولكنها تنأى عنه مسرعة، وهي تقول في صوت عذب، ولفظ حلو: هيهات هيهات، لم يؤذن لنا بعد في أن نلتقي، ثم ينظر فإذا هي قد غيبت عنه، وإذا قلبه قد خلا منها، ولم يستبق إلا صورة ضئيلة جدا إن امتازت بشيء فإنما تمتاز بالفتنة المغرية، والقسوة الموئسة.
ويمضي في طريقه هادئا ينحدر نحو النهر في بطء فلا يكاد يخطو خطوات حتى يرى جارية أخرى ليست أقل من صاحبته الأولى رواء ولا بهاء، ولكنها أكثر منها زينة، وأحسن منها شارة، وإذا هي تلقي إليه نظرة تضرم في قلبه نارا أي نار فيرنو إليها من بعيد، ويريد أن يدنو منها لينظر إليها من قريب، ولكنها تنأى عنه مسرعة، وهي تقول: هيهات هيهات! لم يؤذن لنا بعد في أن نلتقي، ثم تغيب عنه كما غيبت عنه صاحبته الأولى، ولكنها قد تركت في قلبه صورة ضئيلة جدا، واضحة جدا، يرى فيها سحر الجمال، وآية النعمة والثراء، ويمضي في طريقه منحدرا إلى النهر، وإذا جارية ثالثة ليست أقل من صاحبتيها فتونا وإغراء، ولكن فيها استعلاء وتكبرا وشيئا من غلظة لو كان في رجل لبغضه الناس، ولكنه يدعو إليها أشد الدعاء، ويرغب فيها أعظم الترغيب، ولا يكاد يراها حتى يجن بها جنونه.
وإذا هو يحاول أن يدنو منها ليجثو بين يديها، وليرفع إليها الطاعة، والعبادة كما تقدم الطاعة والعبادة إلى الأصنام، ولكنها تنأى عنه مسرعة، وتأبى حتى أن تقول له مثل ما قالت صاحبتاها من قبل، إنما تشير إليه إشارة فيها كثير من الكبرياء أن قف، فلم يؤذن لنا بعد في أن نلتقي.
وقد أخذ الفتى ينكر هذا الحلم العجيب، وهو مغرق فيه لم يفق منه، وكاد إنكاره لهذا الحلم أن يرده إلى اليقظة، لولا أن صورة تتراءى له فيثوب إليها، وإذا جارية رابعة ليست أقل من صاحباتها دعاء للقلب، واستهواء للنفس لولا أنها لا تنظر إلا شذرا، ولولا أن كل ما يظهر على وجهها من هذه الآيات التي تصور دخيلة النفس، وأعماق الضمير، لا يدل إلا على الغلظة والغطرسة، وسوء الخلق، وهي مع ذلك تفتن كل الفتون، وتملأ قلبه هياما وشوقا، وهو يريد أن يستعطفها، ولكنها عنه مسرعة، وهي تشير في إباء وجفاء، أن قف فلم يؤذن لنا بعد في أن نلتقي.
وقد أحس الفتى حسرة مؤذية ولوعة حرقت قلبه تحريقا، وجعل يتحدث إلى نفسه في هذا الحلم الغريب؛ لأنه شقي بائس قد كتب عليه الحرمان في حياته اليقظة، وفي حياته النائمة.
Shafi da ba'a sani ba