ولكن الوزير لم يفكر في الأبوة البائسة، ولا في الطفولة اليائسة، ولا في الأمومة التي ذهبت بها الأقدار، وإنما فكر في أن وزارة المعارف قد أسيء إليها، فيجب أن تنتقم من المسيء.
ولذلك أبى الوزير أن يقبل عذر هذا الأب البائس، وحدد له موعدا يصل فيه إلى الصعيد الأعلى، ونظر الموظف فإذا هو مخير بين أمرين أحلاهما مر، وأيسرهما نكر: فإما أن يرضى الوزير فيجحد حق أبنائه عليه، ويجحد حق امرأته عليه أيضا، حق امرأته الميتة التي لا يمكن استرضاؤها، ولا الاعتذار إليها، وإما أن ينهض بحق أبنائه، وحق زوجه، وحق أبوته فيغضب الوزير، وفي غضب الوزير ضياع المنصب، وانقطاع المرتب، وتعرض الأطفال الصغار للجوع والحرمان.
وقد اختار الموظف فأرضى حق الأبوة والبنوة والأمومة، واختار الوزير أيضا بين الرحمة التي أودعها الله في النفوس، والعدل الذي صنعه الناس صناعة، فترك الرحمة التي نشرها الله، وآثر العدل الذي صنعه الناس، وأحال الموظف إلى مجلس التأديب، ووقفه عن العمل، وقطع مرتبه.
وقد قلت لك إننا بلغنا من الترف في الانتقام، والافتنان في حب العذاب الهادئ المتصل البطيء ما لم يبلغه محمد بن عبد الملك الزيات. ففي اليوم الثلاثين من شهر أكتوبر أرسلت الوزارة إلى البنك كتابا تأمره فيه ألا يصرف لهذا الموظف مرتبه عن شهر أكتوبر، وعلم الموظف ذلك من البنك نفسه لا من الوزارة، وذهب إلى الوزارة في اليوم الأخير من شهر أكتوبر يسأل عن هذا القرار، فقيل له: إنه صدر ولكنه لم يطبع بعد. ومعنى ذلك: أن البنك قد عرف القرار قبل أن يعرفه الموظف، ومعنى ذلك: أن هذا الموظف ذهب في آخر الشهر ليتقاضى مرتبه فلم يجد شيئا، ولم يكن قد عرف من أمر القرار شيئا، ومعنى ذلك: أن هذا الموظف عاد إلى بيته في ذلك اليوم صفر اليد مما تعود أن يوسع به عليهم، وأن يرزقهم منه رزقهم حين يصبحون وحين يمسون، ومعنى ذلك: أن هذا الموظف لم يعاقب في نفسه وحدها، وإنما عوقب في أطفاله الصغار، ومعنى ذلك: أن هذا الموظف لم يعاقب وحده، وإنما عوقب معه أطفال أبرياء أكبرهم في السادسة وأصغرهم في الثالثة؛ لأن هذا الموظف نقد الوزارة في الصحف، ومعنى ذلك: أن الوزارة أكرم على نفسها من أبوة الآباء، وبنوة الأبناء، وحق اليتامى لا في أن يتعلموا بل في أن يعيشوا.
هذا هو العدل الذي صنعه الناس، والذي تقوم عليه قوة الحكومات، فأما الرحمة التي خلقها الله، فأما العدل الذي أراد الله أن ينشر في الأرض، فأمران لا يثبتان لما ينبغي لوزارة المعارف من كرامة في نفوس الموظفين، والغريب أن وزير المعارف أب، وأن ما أجراه على هذا الموظف يمكن أن يجريه عليه طاغية من الطغاة في يوم من الأيام، والغريب أن لوزير المعارف أعوانا كلهم أب، وكلهم يعرف حق الأبوة، وحق البنوة، وما ينبغي للأطفال الصغار اليتامى من رعاية وعناية وحماية من الآفات.
كل هذا غريب حقا؛ لأن التسلط يعمي البصائر والأبصار عن حقوق الأبوة والبنوة، ولأن التسلط يملأ النفوس غرورا وفتونا وتكبرا وتجبرا، ويرتفع بها عن الرحمة التي هي خور في الطبيعة كما كان يقول محمد بن عبد الملك الزيات.
أي العذابين أشد نكرا! عذاب التنور الذي أشرعت فيه المسامير المدببة، والذي يألم فيه المعذب أياما ثم يموت، أم هذا العذاب الرقيق الرفيق الرشيق الهادئ المتصل البطيء الذي لا يرى ولا تحس آثاره، ولكنه يفني النفوس شيئا فشيئا، ويعلم الأطفال أن الحرمان قد يؤذي، وأن الظلم قد يملأ النفوس بأسا، وأن الجوع قد يكون كريه المذاق.
أي العذابين أشد نكرا! هذا العذاب الذي كان يصبه محمد بن عبد الملك الزيات على الأجسام حتى تهلك، أم هذا العذاب الذي يصب في هذه الأيام على النفوس فيعرضها لفقدان الكرامة، وللشعور بالذلة وللاستخذاء أمام المتسلطين. إلى هذا انتهت بنا الحضارة المترفة، ويقال بعد ذلك: إن أخص ما يمتاز به العصر الحديث أنه علم الناس أن لهم ضمائر تحب الخير وتكره الشر، وتندم حين تصيب الناس بما تكره أن يصيبها الناس به.
ربما كان هذا حقا، ولكن هذه الضمائر التي استكشفها الإنسان في العصر الحديث تمتاز أيضا بالمرونة، فهي قادرة على أن تتشكل بما يقدم إليها من الأشكال، وهي قادرة على أن تستدير مع الشمس، وهي قادرة على أن تستقبل الريح من حيث تهب، وهي قادرة على أن تلغي أبوة الآباء، وبنوة الأبناء، وأمومة الأمهات، وإن تكن في غيابات القبور، وهي قادرة على أن تعرض الأطفال الصغار اليتامى للجهل والفقر والمرض والجوع، لا لشيء إلا لأن وزارة المعارف قد نقدت في الصحف، وهي أكرم من أن تنقد في الصحف، وإن كان الناقدون آباء لا يعرفون كيف يعلمون أبناءهم.
معذرة أيها القارئ الكريم إني لأشعر أن في هذا الحديث مرارة قد تؤذي نفسك، وتؤلم قلبك، ولكنك توافقني فيما أظن على أن في حياتنا أشياء إن رضيها ضمير الوزراء وأعوان الوزراء فلا ينبغي أن ترضاها ضمائر الشعوب.
Shafi da ba'a sani ba