لقد زعمت لك
1
أيها القارئ الكريم أننا عيال على العالم المنتج ، لا نكاد نخلق شيئا واحدا جديدا في الأدب أو العلم أو الفلسفة أو الفن، لا أقول اليوم، ولا أقول أمس، ولكني أقول إننا لم نكد نخلق جديدا من أول الزمان إلى يومنا هذا؛ لقد كنت أتحدث منذ أيام إلى إمام من أئمة الأدب في الشرق العربي، فقال: إن مصر في كذا ألفا من السنين لم تنجب أديبا عظيما. فرددت عليه في ابتسامة الخجل: بل إن مصر يا سيدي في كذا ألفا من السنين لم تنجب عظيما، لا في الأدب، ولا في غيره من شتى نواحي الفكر والحياة.
زعمت لك ذلك وعللته بما «نتحلى» به من أخلاق العبيد، لأن الخلق عندي لا يكون إلا بعد عزة وسيادة وطموح؛ فلاحظت لك أننا عبيد في فلسفتنا الأخلاقية، لأننا نصدر فيما نفعل عن طاعة لأمر سلطان خارج عن نفوسنا، ولاحظت لك أننا عبيد في فلسفتنا الاجتماعية، لأننا نقيم نظام الأسرة ونظام المجتمع على أساس من سيد ومسود، ثم لاحظت لك أننا عبيد في بطانتنا الثقافية، لأننا ننصاع في يسر يشبه الانزلاق نحو الإيمان والإعجاب بما قاله الأولون.
ولو كنا عبيدا ناقمين ساخطين على ما نحن فيه، جاهدين ساعين نحو إعزاز النفس وتحريرها، لهان الخطب وخف البلاء، لأن أول مدارج الإصلاح نقمة وسخط على الحاضر، ورغبة في التغيير وسعي نحو تحقيقه؛ لكن الخطب - فيما أرى - فادح، والبلاء جسيم، لأننا نجد من العبودية مرتعا خصيبا نسرح فيه ونمرح، مغتبطين أشد الغبطة، راضين أكمل الرضا؛ وقد عبرت عن ذلك في مقال «الكبش الجريح»، إذ عجبت لهذا «الخروف» - وقد وثب عليه الذئب فمزق منه وانتهش - عجبت له كيف استمرأ ضرب المخالب، واستلذ وقع الأنياب؛ دماؤه تسيل وعلى شفتيه ابتسامة، ويلغ الذئب فيه ويلعق وفي عينيه نظرة استسلام ورضا!
لكن لما زعمت أننا عبيد، عجب فريق مما زعمت، وأخذ كل يتلفت حوله لعله يرى في جاره مصداق ما أقول؛ وا عجبا! كيف نكون عبيدا وليس في أرجلنا أصفاد ولا في أيدينا أغلال؟ بل كيف نكون عبيدا وقد حفظنا في المدارس أن أمهاتنا قد ولدتنا أحرارا، ولا يجوز لأحد أن يستعبد أحدا؟ كلا! أنت أنت العبد لا تتلفت، والأغلال والأصفاد في طوية فؤادك ودخيلة نفسك، ولو كانت في يديك أو قدميك، لكان الخطب أيسر، لأن تحطيمها عندئذ يهون؛ أنت أنت العبد لا تتلفت، فلست تستطيب لنفسك عيشا بغير سيد، إن لم تجده في الأرض التمسته في السماء.
لقد رأيت بعيني رأسي - إذ كنت في لندن - وزيرا في الوزارة الإنجليزية الحاضرة (مستر نويل بيكر) كان يمثل حكومته في جمعية الأمم المتحدة، رأيته بعيني رأسي ذات يوم، حين آن أوان الشاي في العصر، ينزل إلى طابق البناء الأسفل ليقف في صف كان بين أفراده صغار الكتبة والخدم! وقف هناك ينتظر دوره ليشتري فنجانا من الشاي وقطعة من الكعك؛ وما فكر هو، ولا فكر أحد ممن وقفوا أمامه أن تكون له أسبقية بحكم منصبه، فسألت نفسي: هل يمكن أن يحدث ذلك في مصر؟ وأجبت نفسي: إن حدوث ذلك في بلادنا مستحيل لسببين:
الأول:
وهو أخف السببين شرا وأقلهما وبالا، هو أن الوزير المصري لا يرضى لنفسه أن يكون في جمهرة من الناس تضم بين أفرادها عددا من صغار الكتبة والخدم، لأنه - كغيره من البشر - يريد لنفسه سطوة وسيادة، وهاتان شرطهما «الترفع» و«التعالي».
الثاني:
Shafi da ba'a sani ba