أهديها إلى من ضل سواء السبيل
أمسكت السماء عن المطر بعد شهر كاد أن يكون المطر فيه موصولا في لندن، فذهبت أستنشق الهواء في «هايد بارك».
وهايد بارك متنزه فسيح يقع في قلب هذه العاصمة الكبرى، له خصائص يتميز بها في أذهان عارفيه؛ منها هؤلاء الخطباء عند مدخله، خمسة منهم أو ستة يرتقون المنابر ليخطبوا في الدين أو السياسة أو الاجتماع من شاء أن يستمع إليهم من رواد الحديقة، فهؤلاء يتحلقون حول الخطباء تفريجا عن أنفسهم وإزجاء لأوقات فراغهم، وما أقل في هذه الدنيا من يفرج عنك لوجه الله لا يريد منك جزاء ولا شكورا؛ فإن أردت لنفسك لهوا وفكاهة فاقصد سوق الخطباء في هايد بارك؛ لتقرن حماسة الخطيب باستخفاف المستمع.
قصدت الحديقة أريد الهواء النقي، ولا أريد حديث الخطباء، فقد كانت غايتي غذاء الرئتين لا غذاء الرأس؛ فالرأس عندئذ كان في تخمة مما يحمل من غذاء؛ لكن ما أكثر ما ترغمك الظروف على غير ما تريد؛ فقد استوقفني بين الخطباء منظر عجيب؛ خطيب من هؤلاء رأيته قائما على منبره يخطب ولا من سميع! لم يقف أمام الرجل إنسان واحد يستمع إليه، ومع ذلك مضى المسكين في خطابه يرفع صوته ويخفضه، ويشير بيمناه تارة وبيسراه طورا، وينحني ويستقيم، ويضرب النضد الصغير الذي أمامه بيده، مقبوضة مرة مبسوطة أخرى! دنوت منه ووقفت إزاءه أنظر إليه، وما هو إلا أن طاف برأسي خاطر عجيب، إذ خيل إلي أني أنظر إلى نفسي في مرآة، وإنها لفرصة نادرة الوقوع أن تجد لنفسك مرآة تصورها لك فتهديك بعد ضلال؛ فما أهون أن تنظر إلى وجهك في مرآتك لتصلح ما اختلط من شعرات رأسك وتشذب ما هاش من شاربيك؛ لكن أنى لك مرآة تجلو أمام ناظريك ما خفي من شعاب نفسك لتصلح منها ما اعوج إن كانت بذات عوج، أو لتزهى بها إن كانت قمينة بالإعجاب؟ رأيت في ذلك الخطيب مرآة لنفسي، وأخذت دقة الصورة تزداد في عيني جلاء ووضوحا، فابتسمت ثم ضحكت في نبرة مسموعة.
قال الخطيب: ما يضحكك يا صاحبي؟
قلت: يضحكني أننا شبيهان.
قال: شبيهان؟
قلت: نعم وليس الشبه في هيئة الجسم؛ فأنت إنجليزي أصفر الشعر أزرق العينين أحمر البشرة، وأنا مصري أسود الشعر والعينين أسمر اللون؛ لكننا شبيهان، فكلانا يبعثر في الهواء طاقة وهبه الله إياها لينفقها في الجري والقفز واللهو واللعب؛ أما هواؤك فطلق نقي، وأما هوائي فحبيس تحده الجدران؛ كلانا يبذل الجهد أدراج الرياح.
عجيب هذا الضوء الذي تلقيه تجارب الأيام على القول المكرر المعاد! فقد تردد العبارة الواحدة ألف مرة وتحسبك قد فهمت معناها لأنك عرفت معاني ألفاظها كما تشرحها القواميس، فإذا بك تنطق بها مرة أخرى فتلمس فيها حياة نابضة لم تعهدها من قبل، فكأنما أشرق عليك منها معنى جديد؛ لأنها في هذه المرة كانت قطعة من حياتك، وقبسا من روحك، ولم تكن ألفاظا مرصوصة يقولها الناس فيرن صداها بين شفتيك؛ فكم رددت مع الناس قولهم: «لا في العير ولا في النفير» ولم أكن أدري أنني إنما كنت أرددها ترديد الببغاوات عن غير فهم حي صحيح، حتى قلتها منذ قريب فأحسست لها هزة تشيع في وجودي، وأدركت أنها لم تعد مثلا يقال؛ بل أصبحت جزءا من صميم الحياة؛ وحدث مثل ذلك حين قلت لصاحبي الخطيب: إننا نبذل الجهد فيذهب الجهد أدراج الرياح!
رحمك الله يا «سيرفانتيز» ترى من ذا كنت تعني إذ صورت لنا «دون كيشوت» يمتطي جواده الهزيل الكسيح، ويحمل سيفه المحطم المثلوم، ويجوب الأرض محاربا ليعده الناس فارسا من الفرسان؟ فيأتي «دون كيشوت» إزاء طواحين الهواء ويخيل له الوهم أنها جماعة من الأعداء، ويسل سيفه ويظل يضرب في الهواء، ثم يغمد السيف منتفخ الأوداج من كبرياء؛ لأنه فتك بالعدو وصرعه وأرداه! من ذا كنت تعني حين صورت لنا هذا الفارس الحالم الذي يحارب في وهمه، وينتصر في وهمه، والناس من حوله لا يرون حربا ولا نصرا؟
Shafi da ba'a sani ba