وفحوى ذلك كله أن ما قاله وما قيل فيه لا ينجلي بعد الغربلة والمضاهاة عن شخص مستحيل، ولا عن أجزاء مفرقة لجملة شخوص كأنها الأشلاء التي لا تكمل لها صورة، وقد تتعدد فيها الجوارح والأعضاء فوق ما يراد للبنية الواحدة.
ونعتقد أن شعراء العشق جميعا في عصر جميل يصدق عليهم من هذه السمات ما يصدق عليه، مع اختلاف يسير في الوضوح والتحقيق.
فهم جميعا ثمرة عهد لا بد أن يثمرهم. وإنما وجه الغرابة أن تتهيأ أسباب ظهورهم ولا يظهروا، وليس وجه الغرابة أنهم ظهروا في تلك البيئة وفي ذلك الزمان.
وقد تهيأت تلك الأسباب كل التهيؤ، كما لخصناها في بعض فصول هذا الكتاب، فهم إذن شخوص طبيعيون، تحيط بهم أحوالهم الطبيعية، ومن هذه الأحوال الطبيعية أن يتعرضوا للخلط والتناقض أو للروايات المتشابهات عن هذا وذاك.
فمن الطبيعي أن تختلط أخبار بعضهم ببعض؛ لأنهم جميعا عشاق، وجميعا من أهل الحجاز وما حوله، وجميعا من أبناء عصر واحد، ينظمون بلغة عصر واحد، وينسجون على طريقة واحدة، فإذا تشابهت أقوالهم وأخبارهم حتى جاز الاختلاط بينها، فلا غرابة في ذلك؛ بل لعل الغريب ألا يقع الاختلاط مع هذا التشابه الكثير.
ومن الطبيعي أن تحتمل أخبارهم المبالغة إلى أقصاها؛ لأن المبالغة مقرونة بشهرة كل «بطل» في باب من الأبواب، فلا يشتهر أحد بالشجاعة أو بالكرم أو بالمجون، إلا أضاف إليه الناس كل ما يتصل بهذه الشهرة، وتنافسوا في التزيد عليها والتهويل فيها، وما من بطل خرافي أضيف إليه من المبالغات فوق ما أضيف لعلي بن أبي طالب حتى حارب الجن، ولحاتم الطائي حتى جاوز السفه، ولأبي نواس حتى استنفد موبقات الناس وأفرغ جعبة الظرفاء أصحاب الملح والنوادر، وكلهم مع هذا شخوص طبيعيون، لا تمنعنا المبالغة أن نردهم إلى قرار.
ومن الطبيعي أن تتناقض أخبار أولئك الشعراء والعشاق؛ لأنهم شخوص حقيقيون، يتعدد الرواة عنهم والمتحدثون بأخبارهم، وليسوا من اختراع مخترع واحد، يصوغهم كلهم في قالب واحد، ويعرضهم كلهم في مخيلة واحدة؛ فهم شخوص طبيعيون.
ولن يكونوا طبيعيين حتى يتعرضوا لمثل ما تعرضوا له من التناقض والتشابه والمبالغة والإحالة.
وأقربهم إلى الطبيعة - فيما نرى - جميل صاحبنا في هذا الكتاب؛ فهو لا يتفق له وجود - حيث وجد - إلا على الصورة التي تجملها لنا قصائده وأنباء رواته، وعلاقته بمعشوقته بثينة مستقيمة على النهج الذي ينبغي أن تستقيم عليه، وإخلاصه لها أو إخلاصها له هو الإخلاص الذي ينطوي عليه كل عاشقين مثلهما، لا هو في السماء، ولا هو في الخيال، ولا هو فوق طاقة الناس، ولكنه الإنسان حيث كان، واحد في كل مكان وزمان.
وقد عنانا في هذا الكتاب أن نوفق بين البواعث النفسية والعوامل الطبيعية في سيرة هذين العاشقين، وأن نفهم الأدب على مصباح من علم النفس ومن حقائق الطبيعة، فلا نرجع به إلى لفظ تلوكه الأفواه، بل نرجع به إلى وشائج طبع تمتزج بالأبدان والأذهان.
Shafi da ba'a sani ba