ألا ترى أن الشعراء المتقدمين من جاهلي أو مخضرمي أو إسلامي ، كان قبل الخليل لم يعرف شيئا من ذلك ، ثم من جاء بعدهم لم يلحق شأوهم من حيث عرف ذلك ، بل أن ينشأ بعدهم من ضرب في جنس الشعر بسهم ، فلطبع أوتي ، لا لمعرفة بهذه الأمور ، فبان بجميع ما بينا أن المتأخر الذي تكلف العلم باللغة ، وتعلم المحاسن والمساوئ بالتعمل ، لا يجب أن يوفى في هذا الباب المقصود على المتقدمين من فصحاء العرب ، الذين جروا على طريقة الفصاحة في منظوم كلامهم ومنثوره طبعا وسجية ، ولهذا تجد فيمن يعد في الشعر مفلقا من إذا ترسل اختل اختلالا ظاهرا ، وفي المتقدم في الرسائل من إذا حاول النظم بعد بعدا متفاوتا ، وهذا يكشف أن التكلف والتعمل لا يبلغان المرء طبقة الفصحاء ، ولا يلحقانه شأو البلغاء ، ولهذا تجد المكثر في اللغة ، والعلم بأقسام الفصاحة ، والمعرفة بمحاسن النظم والنثر ومساوئهما ، إذا لم يكن له طبع في الشعر والترسل ، يسقط إذا حاول الشعر أو الترسل - عن درجة المطبوع فيهما ، وإن كان مقلا في جميع ذلك ، وبضاعته منها مزجاة - سقوطا ظاهرا ، أو يهبط عن رتبته هبوطا بينا ، كالخليل بن أحمد,ومن نحا نحوه من العلماء ، الذين لم يكونوا أولي طبع .
فإن قيل: لوكان القرءان معجزا لأنه لم يعارض ولم يؤت بمثله ، لوجب أن يكون المجسطي وأقليدس والعروض (¬1) كل واحد منه معجزا يدل على نبوة من أتى به . وإذ قد ثبت بطلان كون هذه الكتب معجزا ، فيجب أن يبطل كون القرءان معجزا على ما ادعيتموه !!!
قيل له: هذا كلام من لم يعرف وجه استدلالنا فحرفه (¬2) ، ولم يذكره على جهته ، وألزم عليه ما لا يلزم ، ونحن نبين ذلك بعون الله عز وجل وجل ، ونكشف عن سقوط هذا السؤال .
اعلم أنا لم نقل: إن القرءان معجز لأنه لم يؤت بمثله قط ، بل لأنه تحدى به ، ولم يؤت بمثله ، مع سائر الشروط التي ذكرناها ، وكتاب المجسطي وأقليدس ، وما جرى مجراهما من الكتب ، لا يصح أن يقع التحدي به ، لأنه إن تعذر على غير من أتى به يكون تعذره لأحد وجهين:
Shafi 133