Istishraq
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
Nau'ikan
وبعبارة موجزة، فإن أسهل شيء هو أن يخدع الإنسان العربي نفسه، ويستنكر بشدة عملية كشف عيوبه، ويمتشق حسام الكرامة والشرف دفاعا عما يعتقد أنه هويته، فيرفض كل صفة سلبية يكشف عنها الاستشراق بوصفها تزييفا متعمدا. ولكن الطريق الأصعب، الذي هو طريق الشجاعة الحقيقية والتحرر الأصيل، هو أن نقول: نعم، إن فينا كثيرا من هذه العيوب، ولكن هذه لا ترجع إلى طبيعة متأصلة فينا، وإنما هي نتاج ظروف سيئة ينبغي علينا أن نغيرها بأيدينا حتى نستطيع أن نتحرر.
ولكي يدرك القارئ الفرق بين الموقف الناضج من الاستشراق، وبين الموقف المتشنج الذي يعبر عن رضا مفرط عن النفس، ويؤدي في واقع الأمر إلى إلحاق أكبر الضرر بأنفسنا، دعونا نتأمل العبارات التالية لواحد من كبار أساتذة العلوم السياسية. فالحركة الاستشراقية قد نجحت، في نظر هذا الأستاذ، في أمور من بينها: «أن تخلق القناعة في القيادات العربية بأن التراث الإسلامي إن هو إلا تعبير عن التخلف. استطاعت بوعي وحنكة أن تربط التخلف الذي تعيشه الأمة العربية والذي عاشته خلال القرنين 19 و20 بالثقافة الإسلامية لتخلق القناعة بأن هذه الثقافة هي مصدر تخلف ولا سبيل للتخلص من ذلك التخلف إلا بالتخلص من ذلك الانتماء للثقافة الإسلامية ... ولعل أكثر التعبيرات وضوحا في تأكيد نجاح الحركة الاستشراقية هي أنها استطاعت أن تطوع قياداتنا المفكرة لتصير بوقا للنيل من التراث القومي. هل يستطيع أي مؤرخ محايد أن يغفل الدور المخرب الذي قام به أعمدة الثقافة العربية في القرنين 19 و20 من أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم دون ذكر لتلك الأسماء الأخرى التي تنتمي إلى الأقليات العربية في سوريا ولبنان. عندما كتب أحد المؤرخين العرب قولته المشهورة: أعداؤنا من الداخل ، إنما عبر عن هذه الحقيقة.»
5
هكذا يؤدي بنا الرضا الزائد عن النفس إلى أن نلحق بأنفسنا أشد الأضرار. فعندما يتحدث الكاتب عن دور مخرب تقوم به «أعمدة الثقافة العربية»، ويؤكد أن أي «مؤرخ محايد» لا بد أن ينسب هذا الدور التخريبي إلى كبار ممثلي تلك الثقافة، ويجعل من الكتاب الكبار «أعداءنا من الداخل» - كل ذلك لأنهم يحاولون إدخال دم جديد إلى جسد الثقافة العربية - فعندئذ نستطيع أن نتبين عمق المأساة التي يؤدي إليها تضخيم الذات والاكتفاء بها والارتياب في كل ما يأتيها من مصدر خارج عنها، والاعتقاد بأن العالم كله متربص بهذه الذات المتضخمة، الخالية من العيوب، وأن الأعداء قد تسللوا إلى صفوفنا وجندوا لصالحهم «أعمدة ثقافتنا» حتى أصبحت الأعمدة تهدم بدلا من أن تدعم! (5)
وهناك عامل أساسي يكمن وراء الحملة على الاستشراق، وإن لم يكن معترفا به صراحة لدى أصحاب هذه الحملة، بل ربما لم يكن يصعد إلى مستوى الحضور الواعي لدى الكثيرين ممن يتأثرون به. هذا العامل هو أن الاستشراق ينبني على صبغ التاريخ والحضارة الإسلامية (والشرقية عامة) بصبغة إنسانية. فالتاريخ يصبح في معالجات المستشرقين تاريخا دنيويا صنعه بشر معرضون للخطأ، ومسار الحضارة الإسلامية ونموها يخضع للعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تخضع لها سائر الحضارات. وهذه الطريقة في المعالجة تؤدي ضمنا إلى زعزعة أركان تلك النظرة اللاهوتية أو الميتافيزيقية إلى وقائع التاريخ والمجتمع الإسلامي، وهي النظرة التي أصبحت راسخة في أذهاننا لأنها هي التي سادت على مر الزمن.
إن الاستشراق ينزل التاريخ الإسلامي من السماء إلى الأرض، وهذه في نظر الكثيرين جريمة كبرى يستحيل السكوت عليها؛ لأنها تؤدي ببساطة إلى نزع هالة القداسة عن تاريخ يفترض أن إشعاع النبوة «والخلافة» (وهو في ذاته لفظ مقدس) ظل يضيئه من بدايته إلى نهايته. ولكننا لو تركنا جانبا مسألة الصواب والخطأ، بل حتى لو سلمنا بأن المستشرقين كانوا يبيتون نية الكيد للإسلام عندما جعلوا تاريخه بشريا، فلا بد أن نعترف بأن هذه النظرة تفيد في إحداث «صدمة» يحتاج إليها المسلمون الذين أخرجوا تاريخهم عن نطاق الزمن والتغير وقابلية الفناء. فهي تقدم نموذجا «مختلفا» لم نعتده من قبل، وتتيح لنا أن نتأمل تاريخنا بصورة أعمق لأنها تضيف إليه بعدا جديدا لم نعمل له حسابا من قبل. ولو افترضنا أن المستشرقين أفرطوا في صبغ فترات مقدسة معينة من التاريخ الإسلامي بصبغة بشرية، فنزعوا هالة القداسة مثلا عن فترة صدر الإسلام، وتوسعوا في الحديث عن المنازعات والمناورات والمؤامرات التي كانت تدور فيها، أو فسروا منازعات نتصور أنها دينية أو فكرية بحتة، بأسباب اجتماعية أو اقتصادية، وهو أمر تأباه النظرة التقليدية وتبتعد عنه قدر إمكانها، فإن هذا يظل أمرا مفيدا لأنه يفتح أبواب منظور جديد، حتى لو كان يبدو بعيدا عن الصحة في نظر أولئك الذين يجعلون من فترة صدر الإسلام عصرا ذهبيا سادته القداسة وتنزه عن أطماع البشر ودسائسهم الدنيوية.
وهنا أود أن أؤكد أن مناهج المستشرقين قد لا تكون في جميع الأحيان دقيقة كل الدقة، وقد لا تتابع أحدث التطورات المنهجية في ميدان العلوم الإنسانية. ومع ذلك فإن هذه المناهج الحديثة، حتى في أبسط أشكالها العلمية وأقدمها، كما هي الحال في المنهج التاريخي، تظل شيئا جديدا وغريبا ومخيفا بالنسبة إلى الباحثين الشرقيين الذين يرفعون مفهوم «القداسة» فوق مستوى التشريح والتفسير العلمي، ويظل من يطبق منهجا كهذا - حتى لو كانت التطورات قد تجاوزته - معرضا للاتهام بالكيد للإسلام والتآمر عليه.
وهكذا، فإن جانبا هاما من جوانب الحملة على الاستشراق يمكن تفسيره بالحرص على المقدسات والخوف من أن تؤدي الرؤية الخاضعة لمناهج عقلانية دقيقة إلى إنزالها من عليائها وجعلها كما يقول نيتشه «أمورا إنسانية، إنسانية تماما.»
تحليل لنقاد الاستشراق
إذا تركنا جانبا الفئة التي تنقد الاستشراق من منطلق ديني، وهي فئة تنتمي جذورها إلى التراث التعليمي التقليدي، ويندر أن نجد بينها من ألم بالثقافة الحديثة إلماما كافيا (هناك استثناءات واضحة مثل العقاد، ولكنها قليلة جدا). فسوف يلفت نظرنا أن الأغلبية الساحقة ممن ينقدون الاستشراق من منطلق سياسي وحضاري قد تشبعوا بالثقافة الغربية، وأهم الشخصيات فيهم من العرب الذين يعيشون في الغرب بصورة دائمة (أنور عبد الملك وإدوارد سعيد) ومعظم الباقين قضوا في الغرب سنوات طويلة أو توزعت حياتهم بين بلد غربي وبلدهم الأصلي.
Shafi da ba'a sani ba